نصوص أدبية

خيول جامحة...

محمد ايت علوتدور الدوامة، تدور سريعا، فيتسلل الآن إلى فراشه، مخفيا رأسه تحت الوسادة، ليواري أرقه المحموم، كما لو أنه سيظل صاحيا مرة أخرى حتى الصباح. تتعمق المجاري في دواخله، إنه حي فقط، لكنه كما لو كان في بطن أمه، هو الذي لم يأخذ من الأيام الجميلة زاداً لليأس الجليد، يتمنى دوما أن يغفو طويلا ولا يصحو، وأن ينام أكثر مما يصحو، وكأن المحال يريد! كانت الذات تتفتق بين الإنعراج والإنعتاق، والنكسات والإنخدال والإنكسار والأحلام، والقبض على نار الحرف، كلما اكتسح الظلام مساءاته، ثم هو يرى صوراً، وأشباحا تتراقصُ جميعاً في بضعة أسطر، لكن حينما يريد أن يقبض عليها بين اليقضة والحلم لا يجد غير قبض الريح، وكان أحيانا حين يستيقظ  ليقضي حاجة، ويعود إلى فراشه الدافء، تكون الأسطر والصور قد راحت، فقد حاول القبض عليها بالكتابة، لذلك وضع يوما قلما وورقا تحت وسادته، لكن في النهاية لم يظفر إلا على رموز وخطوط متداخلة مائلة، لاتكاد تؤلف معنى يستوعبه، مثل حياته تماما. عشى ذات ليلة حتى التُّخمة، وكان همه أن يقف على صور طويلة لها معنى، لكنه لم ير شيئا، ومع ذلك فمازال قادرا على التفاؤل والمكابرة!؟ كان كل همه البحث عن صور لم يقبض عليها قابض، فالكتابة عنده تصير اكتشاف حياة أفضــل منقحة بالإبداع، الصراع كان لديه مع تركيب الكلمات، واصطناع الصور، هو يدرك أنه كيف يعيش ليس مثل كيف يحكي،كان ينسى عرقه الذي يتصبب من الصباح إلى المساء، يرى ملامح الوجوه والأحلام المؤجلة، يتفرسها، فلا يجد سوى موتى بلا قبور، وأنهم لم يحصدوا غير قبض الريح، ويحسب أن إركام الأفكار والعلامات وتتبع الخيالات والترهات، واصطياد اللحظات الهاربة، سيفتح المغاليق، ويغير قبح العالم!؟ ومرة أخرى يصحُو من جديد ليقبض على شيء، فلا يجد سوى الريح، لكنه مازال قادراً على التفاؤل والمكابرة!

يقف ويتجه نحو النافذة، تبدو القطرات كحبات اللؤلؤ تجذب القلب إليها وتخلق إحساسا بالحياة في النفس من جديد، لاتسمع إلاهزات الأرض الخفيفة تحت ثقل قطرات المطر، لا أحد يعكر صفو هذا السكون سوى بعض صـــور وجـوه، وأشباح وملامح من هذا الإجتماع الأخير، تنغرز أشواكا في قلبه، وهو واقف يتأمل المطر العجيب، انهب الإحساس بالحياة فـي دواخله، فرك عينيه، ثم عاد إلى الغرفة العائمة في العتمة، ثم إلى المطبخ، تستبد به الآن نشوة غامضة، وهو يعد قهوته السوداء، وبين الغرفة والمطبخ، تحضر وجوه وتختفي أخرى، فاتحا أبواب قلبه المنكسر، باحثا عن وجوه أدمن قرفها وخبثها، الصور تتلاحق اتباعا كشريط لا ينتهي، صار يستحضر في لحظة خاطفة شريطا من فتنــة الوجـوه والأمكنة، مُتَلذِّذا بقضم أظافره، وكأنه يرعى قطيع يومياته الهاربة.

.... أخيراً رفعت نظارتها الشمسية إلى أعلى الرأس، ووضعت نظارتها الطبية، كانت كضبية برية تفيض بالحيوية والأنوثة أخذت تحملق فيه مليا، أوعلى الأقل، هذا ما شعربه، هو الذي كان يبدو كمتفرج على هذه الجعجعة، أو ربما لما رأته شاردا في وجهها، حينما كان يتساءل عن الفرق بين الباب والوجه !والوجه والباب؟ وبدا أن كلاهما عنده سيان! وما الفرق!؟

الجلد سيترهل في بضع سنين، والزمان سيفعل فعله، مثل الحائط المتهدم هناك،كانت تتحدث كثيرا حينما أخذت الكلمة، كما لو تريد أن يعلم الجميع بأنها مدمنة بحث حتى النخاع، لكن من عساه يبالي، وكأنها تخاطب مجرد أغبياء، يرون ولايفهمون، ثم أخيرا ظهر رأس رجل لما فتح الباب قليلا، رمق الحاضرين بنصفه العلوي،لم يظهر غير الرأس الأقرع، وقال للحاضرين:ـ الفطور جاهز، ولكن قبل ذلك هناك سيارة بالخارج، ركنها أحدكم، تسد على أحد المسؤولين الطريق، فهبت ناهضة نحوالباب، عابثة بنظاراتها الطبية والشمسية معا، ومرة أخرى الإجتماعات هي الإجتماعات، والجعجعة هي الجعجعة لا تنتهي، وها هو يستحضر ذاته بعد المحاضرات، فلا يجد لها معنى يذكر، وها هي دروسه في الفصل ولا أحد يتابعها بحماس أواهتمام، لامن سائل، ولا من مجيب، هو يقوم بكل شيء، الملل والإجترار ولاأحد، حتى صار يكره ذاته ومهنته، ويدرك أنه يملك قدرة هائلة على التأقلم مع الحياة، كل الصنائع في ذات اليد، ولا صنعة، صار يكره كل شيء، فإلى أين أيتها الخيول الجامحة...؟

***

محمد آيت علو

 

 

في نصوص اليوم