نصوص أدبية

صالح البياتي: وتر في دائرة الليل

صالح البياتيفي ظهيرة يوم صيفي، عبرت سيارة جسرا على نهر، تحمل نعشا على سطحها، أخذت تنهب طريقا بين حقول مفتوحة على جانبيه، متجهة شمالا؛ مارة بمدن وبلدات؛ وأراض تكسوها نباتات واشواك برية.

أثارت رتابة الطريق ودرجة الحرارة المرتفعة، الكآبة والضجر في نفس الشاب، وصدته عن التطلع الى جانبيه، وقبل ان تجتاز السيارة منتصف المسافة، ظهرت بعض الأشجار القليلة، التي خدشت وجه الطريق بظهورها المفاجئ، متناثرة على مسافات متباعدة، كسرت شيئا ضئيلا من رتابته القاتلة، وحيث انه سينتهي قبيل هبوط الظلام  بمقبرة وادي السلام، التي تمتد على ارض بمساحة مدينة كبيرة، إستحقت ان يطلق عليها مدينة الأموات، إلا انها في ساعات النهار تموج بحركة الأحياء، وتخمد عند حلول الظلام، فتدخل في حرمة الأرواح التي تسكنها.

إنطلقت السيارة في إتجاه معاكس للريح، التي كانت تهب بشدة رافعة أطراف الغطاء الذي يلف التابوت، فكأنه هو الآخر يطير فوقها.

نظر السائق للطريق الممتد امامه، الذي تآلف معه حتى صار بإمكانه إغماض عينيه؛ ورؤيته مرسوما بدقة في رأسه. إختلس النظر من خلال المرآة  للشاب الجالس في المقعد الخلفي، حاول مغافلته لأخذ رشفة سريعة من زجاجة الخمر التي بجانبه. لكن عيونهما التقت فعدل عن محاولته، اشعل سيجارة ورمى بصره في الفراغ؛ متشاغلا بمتابعة الطريق، متذكرا معاناته في شتاءات قديمة  في ماضي مهنته، عندما تتقطع  آنذاك أوصال الطريق الترابي؛ عند هطول الأمطار. آنذاك يُدفن الأموات في قبور وقتية، حتى يجف التراب وتدب الحركة عليه. يرى أن في ذلك جانب إيجابي، يتيح لأهل الفقيد الوقت الكافي حتى تحين زيارته يوم الأربعين، وبعدها ينقل لمثواه الأخير.

يقبع الشاب في المقعد الخلفي لائذا بصمت لا يحيد عنه، يفكر بأبيه الذي يرافقهما في رحلة دون إرادته، إثنان أعينهم تنظر الى الأمام بإتجاه الطريق، اما الراكب الثالث فعيناه  تنظران للسماء؛ في ما إذا انفتح الجفنان ورُفع غطاء التابوت.

فوجئ بالسائق يسأله عن سبب وفاة الأب، فكر ماذا يجيب هذا المتطفل، أيقول أنه سقط عن السرير ومات فورا؛ أيصدقه، ربما لا .. قد يفكر انه سقط بركلة قوية من زوجته، لا يدري هذا الغبي انه ارمل منذ سنوات، تظاهر بعدم السماع، لكن السائق كرر السؤال بصيغة آخرى.

- هل كان المرحوم يعاني من مرض ما.

- نعم كان مريضا جدا.

- وكبيرا في السن.

- لا لم يكن كبيرا جدا.

فتح السائق مسجلة السيارة، بعد ان شعر ان رفيق السفر لا يرغب بمواصلة الحديث، فغمرت سورة ياسين المكان بجو من الخشوع والرهبة.أحدثت صدمة في نفسه، ذكرته بجبروت الموت الذي طالما كان قريبا منه، فرغم أنه ينقل الأموات وذلك عمله منذ سنوات، وليس بينه وبينهم سوى سقف السيارة. لكنه تعجب؛ لماذا جثم  الموت الآن على انفاسه، وكأنه هو الذي يقوده ويسخره لهذا العمل، كان يريد ان يدحض هذه الفكرة، ويبدد تأثيرها السلبي، وأن يؤمن بأن عمله جزء من عملية متكاملة، يشترك فيها أيضا آخرون، فالذين يقومون بالتنظيف والغسل هم الحلقة الوسطى، وفي النهاية يأتي دورالذين يقومون بعملية الدفن، كل منهم يؤدي عمل في غاية الأهمية، ولولا ذلك لأنتصر الموت وأخرج لسانه ضاحكا على الجميع.

رأى الشاب فلاحين يرفعون ايديهم بالتحية عندما يشاهدون السيارة، فكان الشاب يرد التحية، رآه السائق عدة مرات من خلال المرآة التي امامه.

-  هم لا يحيوننا.

- فمن يحيون .

- لا أحد.

- يحيون الميت إذاً

- بل يحيون الموت.

ألقت الشمس في دقائق غروبها الأخيرة، آخر مشاعلها على السيارة، فبدا التابوت يشتعل في لهيبها، أثارت تلك اللحظات إحساسا صامتا بالضياع والخوف في نفس الشاب، شعورا بالأسى والرغبة في  التواري عن هذا العالم، لكنه تماسك حينما تذكر قول والده " الموت حقيقة هائلة، لكنها مع ذلك ليست  مخيفة، اذا نحن نظرنا اليها من دون مواربة، فهي حقيقة ملموسة، عرفها الإنسان في غمرة حياته اليومية،  قبل غيرها من الحقائق، فلماذا نتحاشاها ولا نتعامل معها بحياد، كما لو أنها لا تمت للواقع بصلة، أو أنها خارج إطار الزمن.

إنجرف الشاب في تأملاته فتذكر شيئا قرأه لشاعر روسي نسي اسمه، يقول فيه: لو اننا إعتدنا التنزه بين القبور، منشدين ترانيم بديعة، وسط بخور زكي الشذا، لإرتاحت قلوبنا وهدأت مخاوفنا، ولبتسم الموتى لنا تحت التراب، وقالوا لا تخافوا، الأمر على ما يرام..

لم يفكر يوما ان يطور علاقته بوالده خارج إطارها الأبوي، كم من الأسئلة كانت تدور في رأسه، لكن لم يجرؤ أن يسأله.. فكر ان يكتبها في رسالة، لكن لم تعد ذات اهمية الآن. في مرحلة مبكرة من حياته لم يكن يتصور ان بإمكان الآباء ان يهربوا من مسؤولياتم الى الموت، حين يكون الأبناء بحاجة اليهم.

كانت ثمة خيوط مائية تسللت من خشب التابوت، تذوب من الثلج الذي يغطي الجثمان، نزلت والتصقت بزجاج نافذة السيارة، تلوت على سطحها برهة، لكن الريح سرعان ما سحقتها، فتبعجت وفقدت شكلها الأفعواني، قطعت عليه مشقة الإستمرار في إقتناص الذكريات، واثارت في نفسه حكايات سمعها من امه عن الأطفال الذين يموتون صغارا، فيستقبلون أمهاتهم بكؤوس المياه المبردة يوم الحشر.

- الثلج بدأ يذوب وأخشى ان ... قاطعه السائق مطمئنا.

- لا تخف، سنصل قريبا للمغتسل، ولن نحتاج للثلج، فهناك يجهزونه بكل ما يحتاجه قبل الدفن.

مرة أخرى إقتسما الصمت، وعادا ينسحبان لعالميهما الداخليين، حاول الشاب ان يستعيد ذكرياته مع ابيه، وأن تكون في أروع صورها، فوجد انها ذات وجهين، أحدهما الأنسان والآخر الموت، وهو لا يستطيع ان يرى والده دون ان تكون الحرب جزءا من نسيج تلك الذكريات، لقد نحتت الحرب الوجه البارز والناتئ لشخصيته، تذكر قوله، لقد قدتني كصخرة صغيرة في جبل هائل من العذاب والقهر، وكان يقول ايضا، بالرغم من أنها لم تصبن حتى بخدش بسيط، لكنها مزقتني تمزيقا. فكيف إذاً تهشمت الصخرة لمجرد سقطة تافهة.. كان يرى الإنسان مهزوما في والده، عندما يتعلق الأمر بالموت، ولكنه كان منتصرا ايضا في مواقف كثيرة، وبهذا طوى الماضي كورقة في كتاب، ولم يعد اليها مطلقا،       عاد يولد افكاره دونما رقيب يوقفه عند حده، ماذا ابقت لنا الحرب، بعد ان خلطت الأشياء بعضها ببعض، وصار من الصعب جدا ان تعثر على حقيقة لا غبار عليها، يتفق عليها الناس جميعا، صرخ في داخله يسأل ابيه، عندما تذكر قوله ان هذه الحرب مقدمة لكتاب الجحيم الذي لم نقرأه بعد.. أبي اتسمعني، أكنت مغفلا  طوال سنوات الحرب الثمان، ولم تفهم انك في النهاية بيدقا مقتولا في رقعة الشطرنج.. وسمع رده، لا لم اكن مغفلا كما تعتقد، بل كنت افهم اللعبة منذ بدايتها، أعرف ان الشاه لن يموت ما لم تمت كل البيادق.

كانت السيارة قد توقفت، وهو لا يزال غارقا في لجة افكاره.

- ماذا حدث.

- لا ادري.. إنحرفنا عن الطريق، ولا أعلم اين نحن.

توقفت السيارة على ارض لا أثر فيها للحياة، كأنها مركبة فضائية حطت على كوكب مجهول، أو كأنها وتر في دائرة الليل الكبيرة، التي غطت المكان بظلام كثيف، وأستجمعت أرواحها الشريرة لتحيط بهم. إنتظرا شيئا ينقذهما من تلك المحنة التي وقعا فيها. تحفزا لأي شئ طارئ، فتسلحا بقضيبين حديدين، ورغم انهما شعرا بالحماية داخل السيارة، الأ انها كانت لهما سجنا لشجاعتمها في مواجهة الخطر، فجأة تخيلا مجموعة سيارات أضاءت مصابيحها وتقدمت نحوهم.

- أترى ما ارى

ساد صمت رهيب بدده عواء وحشي، أعاد اليهما صوابهما، فإستعدا للمعركة الوشيكة، أندفعت الضواري نحو السيارة.

- لو نبقى بالسيارة فلن تنال منا..

- ولكنها ستثب على التابوت وتنهش الجثة.

خرج السائق وقف امام السيارة واستعد للقتال، وتسلق الشاب واستقر على سطحها فوق التابوت، وبدأت معركة ضارية، اختلط فيها العواء بصرخاتهم اليائسة، لم يستطع السائق مواصلة القتال، فأنسحب وإحتمى بداخل السيارة، نزل الشاب اسند ظهره على مقدمتها، ومنع الضواري من الإقتراب، سمع من بعيد عيارات نارية، كلما إشتد الصوت وأقترب أكثر، تراجعت الضواري فخافت وهربت أخيرا، عاد الشاب للسيارة، سألها السائق.

- أرأيته كم كان شجاعا.

- من .. لم أر أحدا.

-  الذي دافع عنك بشراسة.. كان يرتدي كفنا..

لم يقل الشاب شئيا، كان راضيا انه لم  يره عاريا كآدم في الجنة.

هل رأى السائق إبتسامته.. لا لم يرها، لانها لم تُرى في حلكة ليل كالحبر الأسود.

***

صالح البياتي

 

 

في نصوص اليوم