نصوص أدبية

تماضر كريم: حبيبتي

أربع دقّاتٍ لا غير على حافة  قدر الرز بالملعقة، لم تزدها يوما، ولم تنقصها. الدقتان في البداية مرتفعتان بنغمة معينة، والثانيتان أقل ارتفاعا وبنغمة أخرى. هكذا اعتادت(سعاد) إيقاظي، وتنبيهي للإفطار.

من مكان وقوفها في المطبخ تصلني النغمة  إلى سريري في غرفة نومنا القريبة. أنا زوجها الذي اقترنت بها قبل شهر رمضان بأسبوع واحد فقط. فعلتُ ذلك بكتمان شديد وحرص على أن لا يعرف أحدا، لاسيما زوجتي الأولى وأبنائي الثلاث.

فاجأتني سهولة الأمر. حتى إني في لحظة ما لمتُ نفسي كثيرا كيف لم أتزوج، منذ ذلك الوقت الذى كففنا فيه أنا وزوجتي عن الضحك وتبادل الأحاديث، والتحايا في الصباح والمساء.

تلك الدقات أشبه بمعزوفة قصيرة. أهرع على أثرها من فراشي متلهفا لسكب الماء على وجهي، ثم التوجه للمطبخ. تغمرني بهجة كنت قد افتقدتها وأنا أشاهدها بثوبها الأنيق ذي الفتحة الواسعة من الظهر، وشعرها الفاحم المرفوع، وعنقها الرقيق، الذي تزينه قلادة ذهبية ناعمة اشتريتها لها مع بعض الحليّ بداية الزواج.

بمرح بالغ، أساعدها في وضع آخر اللمسات، على صحن السلطة، وصحن الفواكه التي تقوم بتقطيعها بشكلٍ فنيٍ حاذق، فيبدو الصحن كأنه لوحة مرسومة. تطلب مني وضع مكعبات الثلج في الأقداح، استعدادا لملئها باللبن والعصير. ثم بابتسامة كبيرة تناولني علبة السمسم وتخبرني أن أرش شيئا منها على التمر الذي قامت بترتيبه في طبق صغير.

‏نمارس يوميا كل تلك الطقوس، كما لو أننا معزولان عن العالم، حتى إني نسيت الإتصال بزوجتي التي قلت لها أني مضطر للسفر في عملٍ خارج البلاد. وكنت أتلقى اتصالاتها مساء، فأعتذر منها بطريقة ما. لم تعاتبني مرة، ربما وجدت في سفري فرصة أكبر لممارسة عبادتها، فهي امرأة متدينة تُكثِر من الصلاة والصيام والإستغفار. كلّما اتصلت بي، سارعت إلى طمأنتي أنها دعت الله لي بالمغفرة والرحمة.

‏بعد الإفطار آخذ بكف زوجتي التي تصغرني بخمسة عشر عاما بالتمام، حيث بلغتُ أنا الستين قبل زواجنا بيومين في حين أتمت هي الخامسة والأربعين في ذات الوقت، لكنها كانت تبدو في الثلاثين، بسبب بشرتها الصافية، وملامحها المنمنمة، وطولها المتوسط.

كنا نسير على غير هدىً، في شوارع لا نعرف لها أسماء.  أطلب منها أن تغني لي، حيث يأتيني صوتها ذي الطبقة المنخفضة، ناعما رخيما مشوبا بحزن شفيف، يدقّ على جدران قلبي، فيوقظ كل ما كان راكدا ومهملا من سنوات، فينبثق بداخلي خوف مجهول، كأنه صوت زوجتي التي تمقتُ الغناء، وتلومني على سماعه، ممّا جعلني أتجنب تشغيل الأغاني في المنزل لسنوات. أكاد أشعر بظل خفي من التأنيب ممتزجا بفرح طفولي غير مألوف.

لم يبق على نهاية إجازتي سوى بضعة أيام. سأعود ليلة العيد، إلى بيتي. سيصاحب ذلك صخب التهاني، والتحايا المملة، والقبلات الباردة من الأهل والأصدقاء، والحلويات ذات المذاقات الباهتة، وأفواج الضيوف، وضوضاء الأحفاد.

‏لن تكون سعاد هنا إلى جانبي، بضحكاتها الصغيرة، وهدوئها الحاني، وحركتها وهي تشبه فراشة من فراشات الربيع في أركان المنزل. لن يكون هنالك منزل من الأساس. كان يتوجبُ علينا ترك المنزل، ثم أخذها إلى بيت شقيقها حيث تقيم. كنا نعرف أن علينا الإنتظار وقتا آخر قبل أن نلتقي من جديد.

قبل أن تنزل من السيارة، قربت فمها من وجهي، وتركت قبلة لن أنساها، وهي تكابد دمعة لا تخفى عليّ.

‏إنها حركة العيد كما خطرتْ في ذهني، حتى طعم كعك التمر وجوز الهند، لم يكن مختلفا عن كلّ عيد آخر. لكن قلبي كان مثقلا بالأسى والحنين.

‏في تلك الليلة بدت زوجتي مستغرقة في نومها. ظهر عليها جليا إحساس الأمان. فقد مارست طقوسها التي تجنبها الخوف من عذاب جهنم الذي يؤرقها في كلّ حين. شاهدتها توغل في تقليب حبات المسبحة وهي تتمتم بالأذكار المحببة لديها، ثم تمعن في قراءة أدعيتها. ثم عندما تمددت على السرير بان الرضا على قسمات وجهها الآخذ بالذبول.

‏فكرت أن امرأة بهذه السكينة لن يزعجها خبر زواجي. قررتُ أن أصارحها، وأنا أستشعر ألما ما في صدري. في الحقيقة خفت أن أموت هنا بكلّ هذا البرود.

‏أنا لستُ في مأمن من سكتات القلب، فهذه الأوعية الدموية لم تعد تحتمل ضخ هذا الدم.

‏كنت أراقب تنفسها المنتظم، وأنا أرسم حواري معها. سأقول لها أنها ستظل حبيبتي الأولى. ربما قبل أعوام كانت لتجن، وتذكرني أن ثروتي لم تكن لولاها. وسوف تصرخ، وربما تكسر أثاث المنزل، هكذا تقذف بالكراسي في كلّ اتجاه، فتتهاوى الأشياء، كما يتهاوى قلبي الآن.

‏لطالما كانت تنسى فضائل الصبر التي تقرأ عنها في كتب الدين، عندما كنا نختلف، فتغدو امرأة أخرى. لكنها الآن أكثر سكينة.. أكثر دعة. وأنا أكثر وحدة وحزنا..حسنا لم يبق على موعد استيقاظها سوى ساعة أو ساعتين، حينها سوف أصارحها بكلّ شيء، وسنتكلم كما لو لم نتكلم من قبل. سأكون رفيقا بها كثيرا وأنا أخبرها عن حبيبتي سعاد.

***

تماضر كريم – العراق

في نصوص اليوم