نصوص أدبية

مفيدة البرغوثي: رحلة العطش

في مرج خصيب أبدح وقد أبشرت الأرض وأبل الشجر وتسامق. وقفت إمرأة متلع، تنظر إلى سماء إمتدت بالزرقة المشوبة سوادا. كانت الشمس تتهيأ للسفور ولما تجرؤ بعد. وقد أبدر الكون ما شاء له ثم هم بالإياب وقد تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود وحدث بينهما شبه تنافر، فلا الليل يريد المكوث ولا الشمس تسرع بالسفور. والمرأة تسري في جسدها رعشة المنتظر الواله تكاد عراه تنفصم من شدة ما به. جالت بعينين غائمتين في ما حولها ثم إنحنت بقوامها العسل على قبضة من الكلإ تجتذبها فتخضر يداها فهي النماء وهي الربيع يرمي بلحافه على الكون. كانت منذ زمن بعيد إمرأة عياطا أرضا صفصفا لا تنبت وها هي الآن ترغب أن تحمل الكون في أحشائها فتطل شمس الرغبة في عينيها. لقد كان يوجعها أن تلد الأرض كل عام وقد أتاها الربيع. ويأبى عليها الكون أن تأتي مثلها ولو مرة واحدة. ولقد أثارت....الخروج إلى الكون عارية تغوي الصخر والماء والنار عن أنفسهم فما إغتووا وآثرت لهم فما أثملهم ذلك. ولطالما أمسكت بالماء في جسدها يمرغها وتنحل فيه فإذا بهما بياض شفيف ثم ما يلبث أن يشيح عنها ويتراجع فإذا بها كغبار الصحراء في الحلق، وأحيانا أخرى يتهيج الكون فتسبق النار إليها فتتأجج بألسنتها فهي ذوب حتى كأن روحها صقر. ويمضي بها ذلك إلى حد التلاشي فما يسمع لها سوى فحيح. مضت عليها سنوات وقد أغم بها الكون وكرهت ما هي عليه من خواء فصارت تتجول بين الأشجار تأكل ثمرها فيسيل الماء مع لعابها على جسمها العقيم ثم تسبل هامها المتعب على الأرض وتنظر إلى بطنها الأبجر قائلة : " أيكون هكذا الإمتلاء؟ فلعلي أنبت شجرا وأثمر. " ثم تنام محتضنة أوراق الشجر كمسافر بالصحراء وقد شرب العطش. وفي يوم وليد تأججت فيه الحياة، خرجت فيه إلى الكون تستحم بالشمس والشمس معانقتها تنسج من خيوطها شفوفا تلفها لفا من شدة ما إعتراها، فإذا ما أصبحت كالجمر إرتدت متراجعة إلى الماء وقد أبرد ورق وسرى فيها سريانا وهي تلاطفه وهو يشفق عليها حتى لان ونحل وقعه إلى حد السكون. أما هي فقد هدأت وعلت وجهها إبتسامة كالفجر، ثم ما لبثت أن همت واقفة وقد شخصت في ما حولها ثم طأطأت رأسها كالمصيخ إلى قضاه ثم صاحت صيحة إنشق لها الصمت المطبق على المكان. إنها تحس بالحياة تسري في جسدها، إنها الأرض تنبت بعد بداد، إنها الغيمة تمطر أو هي الروح تخرج من روحها فهي روحان. ألقت بنظرة غائمة بعيدة الغور كأنما إثولت....وإستبد بها الجنون وطفقت ترمي التراب على رأسها وتختصب الكلأ وتضعه على رأسها المتعفر بالتراب وتجتزع أغصان الأشجار الممتدة بآستكانة ثم تجري في جميع الاتجاهات مجتابة...الفضاء المحيط بها دون وعي منها. بقيت ردها من الزمن على ذلك الحال ثم ما لبثت أن سكنت عن الحركة ووقفت متوسطة لفيفا من الأشجار مولية الشمس وجها أجذل، إنفرجت أساريره وعلته مسحة من الرهبة كمن حدث له خطب. ثم صاحت : " لأقصدن الأجادب تستوي فيها روحي." حملت قربة ماء وبعضا من الزاد وأجدت السير وقد أجدها العزم تأجيدا ، حثت الخطى وقد أجشت الأرض وثقلت بما عليها من ثمر وآحتفى الكون بنفسه فأزهرت ونما وأثمرت بحملها فناء بخورا. حثت الخطى وكانت عيناها غائرتين في الأفق الممتد أمامها وقد إشتد عزمها إليه. مضى وقت طويل وهي مستحثة عزمها تأكل الطريق أكلا حتى وصلت مكانا صخريا، أجفأت أرضه إجفاءا ولم يبق منها سوى منظر كئيب قاس وجبال ممتدة بحزم وقد عاطت قممها فهي الروح إذا إستوت وتطاولت وتاقت إلى الجوهر الفرد. كانت رجلاها إمتدادا للأرض المتحجرة تحتها، فهما لبعضهما يقوي أحدهما الآخر ويسنده ثم لكأنها قطعة من حجر صلد لا تني. إنسابت في صلاة لا نهاية لها. إرتفع غبار من شقوق الصخر غمر جسمها ووجهها فأجدها تأجيدا فهي كالطود تجتهف لحظتها إجتهافا وهي الأجة تخرج ألسنتها من شقوق الصخر. صاحت أينا الآن أقدر على الصبر هؤلاء أم أنا؟ من أجدر أن يكون؟ وأشارت إلى الجبال المحيطة بها في جلال. تتالت الأيام وهي على هذه الحال، تذهب إلى نفس المكان الموحش وقد إمتلأت وإستوى ما بها من عزم. وإستقام حالها وشعرت بالتعالي والخيلاء. كانت تسبح وهي جادة السير إلى الجبال وهي تقول : " أنا أنا وأنا إثنان تطاولا فهما واحد لا نهاية له أنا وهم ونحن جميعا والفراغ نشكل الكون والنماء، أنا أنا ما لي والصخر أنحته في جوفي فيخرج عني حياة. " أنهكها التعب فأصبحت خيالا من أوهام سوى من بطن ناتئ ينفلق عن الثياب فيظهر ناصعا مكورا وقد زادته نحافتها إستدارة وضخامة وعلا وجهها شحوب وإعياء وهي تجد الطلب إلى الأعالي تغتابها وتتنكر لها. وفي يوم بينما هي بالجبل تسبح كعادتها وقد تشققت شفتاها وإنفلقتا من شدة العطش وأنهكها المسير وحفيت قدماها فتورمتا وعلتهما حمرة مالت إلى السواد إذ غفت وإذا بها ترى فيما يرى النائم سربا من البجع في بحيرة ساكنة كأنها الدهر. كانت البجعات بيضاء اللون ناصعته تستوي الواحدة إلى جانب الأخرى في شكل دائري. كانت تتلوى وتنثني بأعناقها بإستكانة وخضوع فوق سطح الماء وقد أجهى فهو كالمرمر أو كوجه نبي. ومن حين إلى آخر يسمع لها أنين ثم تنتفخ أوداجها وكأن في جنباتها الأرض والسماء، ثم ما تلبث أن تضمر وتنحل إلا من بطن أخضر كالشباب ثم تحوم حول نفسها في حركة دائرية والماء حولها يغيم في طيات وثنايا لا قرار لها. وتستمر في ذلك دون توقف وفي نسق سريع فأسرع حتى أجشت إجهاشا فكأنها ملتف الأغصان متشابكه أو كأنها الإتي حول الهاوية. خرجت عينا المرأة من محجريهما وهي تتابع هذه الحركات المجنونة في ذهول ثم غابت البجعات في الماء مدة طويلة وكأنها سكنت في قلب الأرض، بقيت المرأة تحملق في المكان وكأن الأمر كان ضربا من الخيال.  وبعد وقت خالته لن ينتهي رأت البجعات تنطلق من جوف الماء إلى السماء ثم سمعت قهقهة إنشق لها سكون المكان ثم نظرت فإذا البحيرة أزهرت وتوردت وجنتاها وذهب ما علاهما من أخاديد كانت تكدر صفاءها. ثم سمعت عصافير تردد : " ولد سيد البحر ولد، قد إلاه قد، سعادتنا سعادة وخصبنا عادة. "

***

مفيدة البرغوثي

في نصوص اليوم