نصوص أدبية

جمال العتابي: برقية..

جابر، عامل يبيع الخضار في سوق الناصرية الكبير، يجد سلواه في الحلم بفتاة ترد ّعليه الوحشة، والفقد بموت أمّه الضريرة، أقصى أمل يتمناه، أن تكون له زوجة، تخفف عناء يومه، تنتشله من حياته الرتيبة القاسية، تزيّن له مستقبله، كان يبحث عن هذه المرأة بلا طائل، سرعان ما وافق على قبول مقترح زميله في العمل (مانع)، في الزواج من (چكيه)*، ابنة احد أقاربه في عشّار البصرة.

كانت چكيه على قدر من الجمال، متواضعة، قادرة على مبادلة جابر الحب، راضية وقانعة، أنارت حياته، وأعادت ثقته بالحياة، بعد عام من زواجهما، تشعر الزوجة أنها تحمل جنيناً في أحشائها، قبيل موعد الولادة يضطر جابر لقبول فكرة سفرها الى البصرة، هناك في رعاية أمها تضع مولودها.

ودّعها زوجها في محطة قطار أور بعد أن دسّ في جيبها خمسة دراهم، هي كل ما ادّخره من عمل اليوم، صعدت سلّم العربة بتثاقل شديد، متعثرة بأذيالها، كادت أن تهوي على رصيف المحطة الحجري، فأسند جابر ظهرها واندفعت الى أحد المقاعد القريبة وهي تلهث، تتبعثر مشاعرها بين الفرحة والقلق، تشعر بالإحباط تارة، والتعب تارة أخرى، تمسّكها بالجنين يدعوها الى تحمّل المعاناة، كان وجهها شاحباً أصفر الملامح، عيناها ذابلتان، وضعت كفّها الأيمن على بطنها، يبدو كمخلب انغرس في جسد صيد ثمين.

يقول جابر:

ابتسمت لي ووجها فيه الكثير من الايماءات، لقد تغير تماماً، وعلى الرغم من ارتجاف صوتها، عرفتُ انها ما تزال لم تستسلم للخوف:

جابر، أرجوك لا تنساني، اعذرني وأبرأ ذمتي.

كان القطار يصرخ، وهو يتحرك بخطوات ثقيلة، ثم انحدر بطيئاً نحو الجنوب، لم يترك سوى كتل من الدخان الأسود، ظلت متناثرة في السماء.

انتظر جابر، أسبوع، اسبوعان، ثلاثة، شهر ..شهران، كان في أشد حالات القلق، لم يعد الانتظار مجدياً، فاتّجه الى دائرة البريد، الوسيلة الوحيدة التي تسعف أسئلته، وتبدد حيرته، ليست من وسيلة اتصال زهيدة الكلفة سوى (البرقية)، اتجه الى المختص بتحرير البرقيات:

- رجاءً ممكن برقية الى البصرة؟

- ممكن طبعاً، اذكر لي العنوان ونص البرقية، بمعنى ماذا تريد أن تقول للمستلم.

- سجّل لديك:

بصرة.. عشار.. چكيه نصّار

وضع الموظف قلمه جانباً، محدّقاً بوجه جابر بدهشة:

- ما هذا أخي، شعر؟؟

- لا أستاذ، هذا الاسم والعنوان!

- طيب چكيه منو؟ هي ماري انطوانيت؟؟

ارجوك ساعدني بعنوان معرّف، رقم دار، محلة، مقهى، مختار، أو أي دكان لشخص معروف.

- والله لا أعرف أحداً في البصرة!

لا بأس،  ماذا تريد ان ترسل، بكلمات قليلة جدًا، يفهمها المستلم.

- حالاً أستاذ، ارجوك أن تكتب:

چكيّه نصار.. بصرة عشار

جابت، ما جابت، تتوجّه !!

ثم غادر دائرة البريد.

***

جمال العتابي

.................

* چكيّه: تسمية للميزان بكفتين صغيرتين

في نصوص اليوم