تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

نصوص أدبية

نضال البدري: تغريد

تجُربة لم تألفها من قبل ولمّ تفكر أَنها ستخّوضها في يومِ من الايام بعد ان طلّب منها أبناءُ السيدة (تغريد). هكذا كانت تحُب أن ينادوها دون مكّنى، بالعملِ عنٍدهم في المنزل تحت مُسمّى خادمة لوجودهم فترات طويلة خارجه. فما كان منها اِلا المواّفقة على عرِضهم الذيْ جاءَّ في الوقتِ المنُاسب، لتكَون بعيدةٍ عن منزلِ شقيّقتها وزوّجها، الذي أبدى تذمراً واضحاً من وجودهِا، بعد أن اِّفنت شبابها وأشتد عود ابنائهم وأنتفّت الحاجة اليها.

كاَن للسيدةِ (تغريد) عقلاً خوارّزميا في الحسابِ رغمَ كِبر سِنّها أضافة لمِا تقوم بهِ من كتابةً وتدّوين لْا حداِثها اليوميةَ في دفتٍر لا يفارًقها نهاراً، و يقبُع تحّت مخِدتها ليلًا. أول شئ فكرت فيه هو أن تنُسج علاقةٍ ودودةٍ بينها وبين العُجوز، بعد اْن ترّكت منزل شقيّقتها و شعرت بأنها امرأة كسيرة لا سَند لها. العجوز التي تبدأ صباُحاها بوضع أحمر الشفاه يوميا و بعنايهٍ فاّئقة، ليبدو شكلها أشبه بشكل الملكة اليزابيث، و بعدها تبدأ تروي لها و تقص عليها ايامِ شبابها وسفرها مع زوجها حول العاّلم في حديثِ قد يطول في كثير من الاحيان. بعد عدة ايام أصبّحت حياتها لا تقل عتمةً عما كانت علية فقد كان نومها متقِطعا مع طلبات العجّوز التي لا تنتهي حتى صياّح الديك، بالإضافةٍ للمنزل الكبير الذي كان يأخذ منها وقتاٍ و جهدٍا كبيرين لا يتنّاسب مع سنها، الذي لم تستطيع أن تخفُية بسببِ أخاديد الزمن التي لا يمكن رُدمها. وسلوك العجوز الذي تبدل فجأة نحّوها، حين بدأت بتوبيخها لأتفه الاسباب حتى انها في أحيان كثيرة كانت تُناديها يا خادمة، أصبحت تلُقي بالحججِ واللوم عليها، تاّرة بالطعامِ المالح، وتاِّرة أُخرى ا نها لا تلبي لها طلُباتها، مما دفعها لتقوم بكتابةِ وتدوين أشياء من نسجِ خيالها في دفترها واِتهامات باطّلةُ لا حقيقة لها، وتقوم بعرضها على أولادها كي يقوموا بطردها، وكأن عناّداً قد تمحض لديها ففي أحيانا كثيرة تسمعها تردد، أنا لست عجوزا انا فقط أكبرك ببضع سنين، يبدو أن غيره متأخرة قد أصابتها. أقسمت المرأة لأولادها بأنها تقوم بواجبها مع والدتهم على أتم وجه، حتى تحشرج صوتها ولم يعد هناك كلمات تخرج قسمًا اخر تقسمُهِ،

تقطعت بها السبل مما دفعها بأن تطلب من احد مكاّتب التشغيل ان يجدوا لها عملًا اخراً في احد المنازل، سألها الرُجل الذي كان يتحدث اليها  كم عمرك ؟ اربعون او اكثر بقليل. اعتذر لها بسبب سنها. قائلا : غالبية الناس تطلب نساء شابات للعمل من الصعب أن اجد لك عملٍا وأنتِ في مثل هذا السن ثم أردف قائلا هل تعانين أمراضا مزمنة ؟ لا أبدا أنا بصحة جيدة، فأنا طباخة وماهرة ولي خبرة كبيرة ايضا بالتمريض. بعد الحاح كبير منها حصلت على عملٍ جديدٍ في منزل لزوجين مسنين. وافقت على الفور وحملت صرة ثيابها كلاجئة تبحث عن وطنٍ، وانتقلت للمنزل الجديد. كان الزوجان يشغلان الطاّبق الارضي، اما الطابق العلوي كان يشغلُه أبناؤهم واحفادهم. الزوجة تعاني من الزهايمر و لا تعرف من حولها، والزوج يسير بقدم ثالث (عكاز خشبي)، وهكذا كانوا هم الثلاثة فقط يتواجدون معا، الزوج منشغل يتابع نشرة الاخبار ويعد حبات مسبحته وحين ينتهي منها، يتركها تنساب من جديد من بين اصابعه، وأحيانا أخرى يسير بخطواته نحو المطبخ، يتفقد و يفتح القدور منتشيا برائحة الطعام اللذيذ، قائلا لها : منذ ان اصاب زوجتي الزهايمر وأنا لم أشم مثل هذه الرائحة الزكية أنت طباخة ماهرة، وفي مرة وهي في غفله تقوم بشؤون المطبخ ! اقترب من اذنها كمن يخبرها بخطة حرب !قائلا لها لقد تركت لك قطعة من الدجاج من عشاءي في الثلاجة تناوليها انها لك، (قلب الاغراب ارحم من قلبي ذوي الارحام)، قالت في سرها.و في اليوم التالي كرر ما فعل وجلب علبة حلويات فاخرة قدمها كهدية لها،استغربت تصرفه وطفح قلبها بشتى صنوف الوجس، بعد ان لاحظت اهتمامه المبالغ بها و بهندامه، لكنها كذبت ظنونها ولعنت الشيطان الذي همس في اذنها، وفجأة تأكد حدسها حين اقترب منها مرة ثانية وهو يلوح لها بورقة نقدية قائلا، عندي منها الكثير انها لك، فقط لي طلبا واحدا منك لا غير ! نظرت اليه تفضل أنا تحت خدمتك سيدي من دون مقابل، اقترب منها اكثر وهمس في أذنها بصوت حذر مرتجف امنحيني قبلة واحدة فقط، واعدك أن يكون ذلك السر بيننا لا يعلمه سوى الله وكلانا أنا وأنت. نظرت اليه بذهول و تركته ملسوعة وكأنها تذكرت شيئا، الى غرفتها واغلّقت بابها بأحكامٍ وبكت بنفس الدموع التي الهبت وجنتيها حينما أغلقت ابوابُ السماء في وجهِها بعد ان طردتها تغريد .اتصلت على الفور بمكتب العمل طالبة منهم عملاً جديدا في منزلِ أخر، سألها الموظف كم عمُرك.. صمتت وأصبحت سادرة مع صمتها وصوت عكاز العجوز.

***

نضال البدري - عضو اتحاد الادباء

في نصوص اليوم