قضايا وآراء

إبراهيم كبّة: كلمة وفاء في ذمة الخلود / مصدق الحبيب

 واجتهدوا فاصبحوا ابرز المحترفين في مجال الممارسات التطبيقية على واقع الاقتصاد العراقي. وذلك من خلال مساهماتهم المبكرة المضيئة في صياغة الملامح الاساسية القويمة للسياسة الاقتصادية الوطنية الصائبة التي سُحقت بلا رحمة تحت بساطيل النظام التوتاليتاري المتهور طوال اربعين سنة عجاف. تلك الاضاءات التي لم يتبق منها شئ يذكر في زمن الفوضى والارهاب والنهب والفساد، وزمن التمشدق بالدستور الوطني والديمقراطية الفتية والضحك على الذقون. الزمن الذي كان من المفروض ان يكون زمن الخلاص والامل المرتجى الذي اعقب السقوط المخزي لذلك النظام العفلقي-الصدامي الهمجي. لكنه الزمن الذي تحطمت فيه الامال الكبار على صخرة الملايين من تضحيات الابرياء وعلى طوابير آلاف الجماجم المدفونة في المقابر الجماعية المجهولة وعلى الخراب التام للارض والانسان. هذا الزمن الجديد الذي تتوج بتسلط نفرهجين غريب من ادعياء السياسة والدين لايقل جهلا وتهورا وفجورا عما سبقهم من ازلام العوجة وحثالات البعث.

كان اولئك الاقتصاديون الرواد الرجال، اساتذتي الكرام، وهم ابراهيم كبة ومحمد حديد ومحمد سلمان حسن. 

تمر في السادس والعشرين من شهر اكتوبر الجاري الذكرى السادسة لرحيل الاستاذ الجليل ابراهيم كبة الذي غادر الارض التي احبها وكرس كل ماكان في حياته لخدمتها طوال الخمس والثمانين سنة التي عاشها مترعة بالعطاء ومصحوبة بالالم ومكللة بالغبن والظلم والاجحاف. لقد غادر هذه الدنيا والعراق يرزح تحت رحمة القوات متعددة الجنسية ويتفتت يوميا بالذبح والارهاب والفوضى الخلاقة التي ماتزال نارها تستعر حتى كتابة هذه السطور!! وياللخزي والعار لنا جميعا، فكأن كل الذي ناضل من اجله الاستاذ كبة وعمل جاهدا مع آلاف المبدعين العراقيين المخلصين لم يكن له اي معنى ولم تكن له اي فائدة! فقد راح هباءً منثورا ذرته الرياح وتبدد فتاتا جرفتها الامواج . أليس ذلك من عظائم سخريات القدر ومن كبريات مهازله؟ أهي لعنة القدر ان ينعم الله على العراق بثروات طائلة طبيعية وبشرية ولكن يبتليه ايضا بوحوش كاسرة ليس لها الا القسم على تقويض تلك الثروات وتبذيرها وحرقها بلا هوادة؟؟؟ أهي مشيئة الاقدار ان يضيّع العراق كل مبدعيه الافذاذ دون استثناء بينما تفخر الامم وتتباهى بمبدعيها وترفعهم الى مصاف النجوم في كبد السماء؟؟  تكاد الاجيال الحاضرة والسابقة ان لاتسمع حتى باسماء الاعلام المبدعين، ناهيك عن ان تعرف آثارهم وتمجد مساهماتهم!! وبالنسبة للاستاذ كبة فقد يعود الفضل الاكبرعلى تذكيرنا بمنزلته لنجله المهندس المبدع والكاتب السياسي اللامع النشيط الزميل سلام كبة والذي يحتفظ بتراث والده الفقيد كاملا مكتملا.، الامر الذي سيجعلنا من اكبر المحظوظين ويمنحنا افضل  حسنات الفرص الملائمة، اذا شاءت الاقدار ان يقرر العراق اعطاء الفقيد حقوقه المهضومة. هل هو بكثير ان يصار الى جمع ونشر آثار الفقيد في مجموعة كاملة من الكتب تليق بوزنه ودوره في مجال التدريس والبحث العلمي ودوره السياسي التنفيذي كوزير للتجارة والاصلاح الزراعي والنفط لتكون بمثابة الكنز الثمين من كنوز العراق الذي يضل خالدا تتعلمه وتحتفي به الاجيال كجزء من التراث العلمي والسياسي والتاريخي؟  هل هو بكثير ان تتولى وزارة التعليم العالي او جامعتا بغداد والمستنصرية جهود تكريم الفقيد والتعريف بآثاره كأن تنظم مؤتمرات علمية اوحلقات دراسية في ذكراه؟ أو تفتح بعثة او زمالة او منحة دراسية باسمه ؟ أوتطلق اسمه على بناية من بنايات الجامعات ؟ ليس ذلك بكثير !! ولوتعلمنا من الامم الاخرى لاصبحنا في ركب التقدم. أغلب الجامعات في انحاء العالم تكرم منتسبيها المبدعين حتى اولئك الذين تقل عطاءاتهم بكثيرعما اعطاه الاستاذ كبة.

كان الفقيد استاذا ملتزما صارما مبدئيا وحريصا. لم يعرف الالتفاف والمراوغة ولم يمارس ايا من اساليب تبذير الوقت وتضييع الفرص . ولم يتورط قط بالنقد غير الموضوعي او الكلام الرخيص رغم ماكان يتلقى من استفزازات . وكان موسوعيا شاملا بمعلوماته يحيط المواضيع من كل جوانبها ويشبعها نقاشا ويوثق مصادره اثناء المحاضرة الى حد ذكر تفاصيل وتواريخ النشر وارقام الصفحات. لم أر هذه الصفة الموسوعية مع اي استاذ آخر قط، لا عراقي ولا اجنبي ، خلال حياتي الاكاديمية الطويلة ودراستي وتدريسي في عدة جامعات. كانت ذاكرته خيالية وتحليله محبوك وصياغته سليمة ولغته منسابة قويمة. لم يتعود ان يحمل معه ملاحظاته المكتوبة مثلما هو شائع لدى جميع التدريسيين. لكن محاضراته كانت تتدفق كالشلال من وحي ذاكرته.  ولااغالي ابدا بقولي ان كل ماتعلمته من دراستي الاقتصاد في جامعة بغداد يعود منفردا لما تعلمته في صفوف الاستاذ كبة، وماعداه لم يكن بذي شأن مطلقا. فقد تبخر وتبدد مع الامتحانات النهائية.  ولست بمغالٍ ان قلت ان كبة كان قد قزّم دون قصد ماحوله من اساتذة بفضل جبروته المعرفي وسطوته العلمية وتجربته الثرة، فكان البون شاسعا ومهيبا ومضحكا بين مانشهد في درسه ومانشهده في الدروس الاخرى. ولست اجامل بالقول بأنه كان انسانا طيبا يحمل قلبا كبيرا عطوفا وضميرا حيا  يتعايشان مع عقله المتفوق ويختفيان وراء وجهه الذي قلما يبتسم. كانت لي ولزميلتي التي اصبحت زوجتي لاحقا، معه علاقة صداقة خاصة توثقت من خلال مطاردتنا له باسئلتنا الكثيرة والتي كانت تضيع عليه فترة الاستراحة بين الدروس التي يقضيها في غرفة استراحة الاساتذة في الطابق الثاني من الجناح الاول لكلية الادارة والاقتصاد. ولم يتضايق يوما او يتملل مطلقا، بل كان يسهب باجاباته كما يسهب في محاضراته.  رحم الله الفقيد واسكنه فسيح جناته، ولنا ان نتعلم من ذكراه ونتبارك بها.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1548 الاحد 17/10/2010)

 

في المثقف اليوم