آراء

الرئيس الفلسطيني محمود عباس في بغداد

من أجل تجديد العلاقة بين شعبين وليس بين زعيمين وحسب

يعتقد الكثيرون  من الفلسطينيين ومن مراقبي الشان الفلسطيني ان الاهتمام بالقضية الفلسطينية لدى الشعوب العربية  وكذلك الأنظمة العربية قد انخفض منسوبه خلال العقود الأخيرة وأنا إلى جانب هذا الرأي وأعزوه لعاملين واحد فلسطيني وآخر عربي.

بالنسبة للعامل الفلسطيني فإن انتقال نشاط منظمة التحرير الفلسطينية (م.ت.ف) من بيروت إلى شتى الأقطار العربية إثر الغزو الإسرائيلي لبيروت  صيف عام 1982 قد حد إلى درجة كبيرة إن لم نقل قد أوقف نشاطها "الثوري" ونقله من بؤرة الحراك الثوري آنذاك بيروت إلى  مراكز المدنية العربية حيث اصبح المقر الرسمي للمنظمة تونس. من هناك اصبحت تمارس عملا سياسيا صرفا إلى أن انغمست في عملية تفاوضية انطلقت في مدريد عام 1991 والتي كانت نتيجة مباشرة لما تمخض عنه احتلال العراق للكويت وهزيمته على يد التحالف الدولي الذي شكلته الولايات المتحدة آنذاك. إن التعقيدات التي نشأت منذ بدء العملية التفاوضية والتي استمرت حتى بعد توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993 بين م.ت.ف وإسرائيل قد جعلت من الصعب على المواطن العربي أن يفهم ما يجري أما الأنظمة العربية فإن جميعها أيدت العملية عدا العراق (رغم أنه لم يعبر عن معارضته بشكل علني بسبب العلاقة الجيدة مع القيادة الفلسطينية) وسوريا في زمن الأسد الأب التي جاهرت بمعارضتها اتفاق أوسلو.

ومنذ دخول القيادة الفلسطينية إل أرض فلسطين بعد التوقيع على الاتفاقية المذكورة وحتى يومنا هذا جرى الكثير من الشد والجذب بين اسرائيل والطرف الفلسطيني بسبب تراجع اسرائيل عن تنفيذ التزاماتها وفق الاتفاق وسرعت من عملية فرض الوقائع على الأرض من خلال توسيع عملية مصادرة الاراضي الفلسطينية وبناء المزيد من المستوطنات على الأراضي التي يفترض أن تقوم عليها الدولة الفلسطينية أي الضفة الغربية وقطاع غزة  والجزء الشرقي من القدس. هذا الصراع بين الطرفين كان بالنسبة للشعب الفلسطيني ولقيادته  مثابة حرب حامية ومعلنة تشنها اسرائيل عليه وعلى ما تبقى من أرضه بينما كانت بالنسبة للجماهير العربية حربا صامتة لا يعرف موضوعها إلا من يتابع دقائقها.

وبالنسية للعامل العربي ودوره في حرف اهتمام الجماهير عن القضية الفلسطينية فكانت بدايته سنة 1980عندما كانت م.ت.ف لا تزال في بيروت وكان ابرز حدث في هذا الشأن هو اندلاع الحرب العراقية الإيرانية والذي يمكن القول أنه (أي الحدث) مهد الطريق للحرب التي شنتها اسرائيل على لبنان في 1982 لإخراج المنظمة إذ أن تلك الحرب المدمرة للطرفين أشرت بداية إخراج العراق من دائرة التأثير في الصراع العربي الإسرائيلي إذ أصبح الصراع ضد "العدو الفارسي" هو أولوية العراق على المستوى العسكري والفكري والإيديولوجي جندت له كل امكانات العراق المادية والإعلامية والتي انتهت بعد ثمان سنوات كما نعلم بتراجع العراق عن مطالبه (والتي شن الحرب بسببها الحرب) بالسيادة على كامل شط العرب والذي كان قد تنازل عنه لشاه إيران في اتفاقية الجزائر عام 1975 لقاء وقف الدعم الإيراني للحركة الكردية المسلحة وتحول العراق من دولة غنية إلى دولة مفلسة ترزخ بالديون وتعاني مشاكل داخلية عميقة سببها مخلفات تلك الحرب وانخفاض صادرات العراق النفطية إلى مستوى لم يكن يكفي لسد الحاجات الأساسية للشعب.

قبل ذلك وفي الشهر الأخير من عام 1987 اندلعت انتفاضة شعبية فلسطينية شملت كل قطاعات الشعب الفلسطيني وكانت من القوة والعنفوان والاستعداد للتضحية أن دوخت قادة إسرائيل العسكريين قبل المدنيين الأمر الذي دفع الجنرال السابق ورئيس الوزراء الإسرائيلي حينذاك إسحق رابين إلى القول أنه " لا يوجد حل عسكري للانتفاضة". هذا القول مثل اعترافا ربما لأول مرة بمحدودية قدرة القوة العسكرية على فرض حل على قضية شعب واستمرت الانتفاضة متجددة و بزخم لا ينقطع مع كل اطلالة كل يوم حتى أنه نقل عن رئيس الاتحاد السوفييتي آنذاك غورباتشيف أنه سأل الزعيم الراحل ياسر عرفات في لقاء بينهما "إلى متى ستكونون قادرين على الاستمرار على هذا النحو؟" لا أتذكر رد عرفات ولكن الشارع الفلسطيني كان يحيب على هذا السؤال المتشكك في كل يوم جديد.

في صيف 1990 وكانت الانتفاضة لا زالت في ريعانها حتى بعد مرور ثلاث سنوات على اندلاعها تتوتر أجواء الشرق الأوسط مرة أخرى فيما عرف بالأزمة بين العراق والكويت لتنتهي باقدام العراق على احتلال الكويت وتوجيه أنظار الشعوب والحكومات العربية مرة أخرى من فلسطين إلى مكن آخر. ومرة أخرى يخرج العراق خاسرا ومدمرا أكثر من المرة الأولى بفعل الحملة الجوية التي قادتها الولايات المتحدة لضرب البنية التحتية للعراق ونتذكر قول رئيس أركان الجيش الأمريكي آنذاك كول باول عندما قال "سنعيد العراق إلى ما قبل التصنيع" هذا عدا قتل أكثر من مائة ألف جندي عراقي كانوا ينسحبون من الكويت بواسطة القصف الجوي الأمريكي تلك المجزرة المروعة التي سكت عنها الغرب وكذلك النظام العراقي.

وكما نرى فإن الكارثة على الشعب الفلسطيني، عدا نكبة ال 1948 بقيام دولة إسرائيل وتهجير شعب كامل من أرضه،  قد جاءت مرتين من العراق الأولى بسبب الحرب مع ايران وتمهيد الطريق لاحتلال بيروت والثانية بسبب احتلال  الكويت والذي أدى إلى قتل الانتفاضة الفلسطينية ومهد الطريق لفرض التسوية السلمية غير العادلة على الشعب الفلسطيني. جرى كل ذلك تحت غطاء الشعارات التي كان يطغى عليها الحس الشوفيني أكثر بكثير مما كان يطغي عليها الحس بالمتطلبات الحقيقية للوحدة العربية وأولها الوحدة الداخلية وبناء اقتصاد متين يعتمد على نفسه وقبل ذلك تحقيق وحدة الرؤ ى الوطنية عبر وسائل ومؤسسات ديموقراطية وليس عبر حرب التصفيات الجسدية ضد كل صاحب رأي آخر حتى لو كان من نفس الحزب.

ومن بين العديد من القادة الفلسطينيين لم يكن الرئيس ابو مازن (اقول ذلك عن معرفة لم تأت من طرف ثالث) من نوع القادة الذين يدركون متأخرين وقوع الكارثة لذلك كان دائما موقفه بين التحفظ والرفض فيما يخص مغامرات العراق غير المحسوبة والتي انتهت بالخراب له ولجيرانه وللشعب الفلسطيني بشكل خاص.

لقد مثل رحيل نظام عاجز متهرأ في 2003 صدمة للكثيرين الذين كانوا لا يزالون يعيشون أوهام البطل الذي ياتي ليحررهم على حصان أبيض كما وصفه القائد والأديب الفلسطيني الكبيرالراحل توفيق زياد. بالطبع لم يكن الراحل زياد يقصد زعيما بعينه بل كانت دعوة لأن لا تنتظر الشعوب من يأتي ليحررها من الخارج بل أن تاخذ زمام المبادرة بنفسها وهذا ما أدركه الشعب الفلسطيني وعبر عنه في انتفاضاته العديدة.

لقد اعتبر الكثير من العرب أن الاحتلال الأمريكي أطلق  رصاصة الرحمة على الشعب العراقي وليس على نظام ولى  زمنه واصبح العراق بنظرهم لوحة مأساوية من المحزن النظر إليها. ومما زاد من ماساوية هذه الصورة اندلاع العنف الذي وضعه الإعلام الغربي والعربي الخليجي بشكل خاص في إطار حرب أهلية طائفية (بالطبع أريد له وعمل على أن يكون كذلك لولا الدور الحاسم للمرجعية الشيعية). فظهرت القاعدة ومن ثم داعش التي سيطرت على جزء من العراق وظن الكثيرون أن العراق لن يستفيق من كبوته لعقود. لكن العراقيين أثبتوا أن هذه الافتراضات، التي هي تمنيات للبعض، كانت خاطئة واستطاعوا أن يقضوا على التهديد وبدأ العراق باستعادة عافيته الأمر الذي دفع بالكثيرين لأن يعيدوا حساباتهم خاصة الدول التي حرضت على الطائفية ومولت وسلحت الإرهاب.

قال اللواء المتقاعد ومستشار المركز الأوربي لمكافحة الإرهاب عبد الكريم خلف في مقابلة تلفزيونية بثت مؤخرا أن دول الخليج أنفقت 200 مليار دولار على تمويل وتسليح المنظمات الإرهابة وأن  حصة السعودية من التمويل 40 مليار دولار (ثلاثة أضعاف الميزانية السنوية لبلد عربي غير نفطي مثل تونس) وأن مصانع السلاح في أوربا الشرقية (خاصة بلغاريا وبولندا) قد ضاعفت انتاجها من السلاح 15 ضعفا وشغلت 30 ألف عامل إضافي وهي كلها أسلحة ذهبت للمنظمات الإرهابية في العراق وسوريا.

ذلك هو الوجه الآخر للصورة التي أريد لها أن تكون صورة حرب أهلية لا دخل لأحد من الخارج بها في الإعلام الخليجي وكذلك الأوربي.

لقد سبق وأن قام الرئيس محمود عباس بزيارة العراق بعد 2003 على خلفية الاعتداءات التي حصلت على الفلسطينيين المقيمين هناك والتقى القادة العراقيين وتلقى تطمينات بأن ليس هناك اي جهة عراقية منظمة معروفة للحكومة أو للناس هي من قامت بالاعتداءات وحصل ما حصل لبعض الأخوة الفلسطينيين الذين تشردوا على الحدود مع الأردن قبل أن تقوم البرازيل باستضافتهم..

غيرأن زيارة ربيع 2019 تحمل معنى وبعدا مختلفا. فمن الجانب العراقي بدأ البلد باستعادة عافيته كما وبدأ يلعب دورا على المستوى الإقليمي خاصة بعد تولي ابراهيم الجعفري وزارة الخارجية ورأينا مواقفه فيما يخص سوريا وإيران حيث رفض القطيعة مع هذه الدول ورفض اختلاق صراعات لا مصلحة للشعوب العربية بها ولم يرضخ لأي ضغط أمريكي (إن وجد) بالاتجاه المعاكس. وهذا في حقيقة الأمر موقف جميع الزعامات العراقية منذ تاريخ أول حكومة منتخبة برئاسة الجعفري عام 2004 وانتهاء بحكومة الدكتور عادل عبد المهدي الحالية..

أما من الجانب الفلسطيني فإنه يتعرض لتهديد جدي لمستقبله تمثله ما يسمى ب "صفقة القرن" التي رفضها بشكل قاطع دون أن تظهر من الدول العربية مواقف مؤيدة له ورافضة لهذه الصفقة. ويخشى الطرف الفلسطيني أن تمارس عليه ضغوط عربية خاصة من قبل الدول التي تساعد في دعم ميزانية السلطة الفلسطينية أي أن تلجأ إلى الابتزاز المالي. ما الذي يستطيع الجانب العراقي أن يفعله لدعم موقف السلطة الفلسطينية وتعزيز صمود الشعب الفلسطيني؟ هناك الكثير مما يمكن أن يفعله وفي عدة جوانب

سياسيا:

- أن يتبنى ويدعم المطالب الفلسطينية في المحافل العربية والإقليمية والدولية ويؤيد رفضه لصفقة القرن من منطلق "نرضى بما يرضى به الفلسطينيون ونرفض ما يرفضوه"

- يرفض الضغوط ذات الطابع السياسي والمالي التي تمارس على الشعب الفلسطيني وسلطته لتقديم تنازلات ضد مصالحه الوطنية لأنه لم يعد لديه ما يقدمه بعد أن قبل حل الدولتين والمبادرة العربية وأن الضغط يجب أن يسلط على إسرائيل والولايات المتحدة.

ثقافيا:

-- تعزيز التقارب الثقافي من خلال دعوة الكتاب والأدباء والصحفيين  الفلسطيينين للمشاركة في المنتديات الثقافية العراقية ومساعدتهم في طباعة ونشر نتاجاتهم الثقافية والفكرية وبذلك توفر لهم الفرصة لمعرفة ما يدور في العراق عن كثب..

اقتصاديا:

- - دعم ميزانية السلطة الوطنية الفلسطينية والتي تعاني من ضغوط إسرائيلية بسبب قيامها بحجب مستحقات السلطة من أموال الضرائب على البضائع الداخلة لفلسطين .

- - فتح الأسواق العراقية أمام النتجات الفلسطينية الزراعية والمصنعة وإعفاءها من الضرائب

- - تشجيع الاستثمار المشترك لما للفلسطينيين من خبرة ومعرفة في هذا الحقل.

و ليس من المستبعد أن يتعرض القادة العراقيون لضغوط أمريكية  في قضية دعم الشعب الفلسطيني ولكنهم كما في السابق أظهروا  شجاعة في مواقفهم عندما رفضوا تحويل العراق لساحة للنشاط المناهض لسوريا وإيران.إن  التجربة تعلم أن الغربيين يضطرون (ولو على مضض) لاحترام المواقف المبدأية  عندما تكون مبنية على المصلحة الوطنية ذلك أن ما يقدم للشعب الفلسطيني في الظروف الحالية لا يعادل نقطة في بحر مما يقدمه الأمريكيون والغربيون إلى إسرائيل و لاتجد أحد يقول لهم  لماذا تفعلون ذلك فدعم الشعب الفلسطيني شأن عربي وإسلامي خالص يتوافق مع المصلحة ومع الأخلاق والواجب الإنساني و لا يتناقض مع القانون الدولي.

(لقد سمعت ولم أقرأ أن الولايا ت المتحدة قد عرقلت قيام الحكومة العراقية بتحويل  10 ملايين دولار لميزانية السلطة الوطنية الفلسطينية وإذا صح هذا الأمر فيمكن للجانب العراقي والفلسطيني أن يتفقا على آلية ما تتفادى هذه العرقلة وعلى الإعلام العراقي أن لا يسكت على شأن كهذا فلا نسمع به في الفضائيات العراقية غير الحكومية خاصة تلك المعروفة بتأييدها للفلسطينيين).

لقد كانت الكلمات المتبادلة بين الرئيس الفلسطيني والمسؤولين العراقيين ملهمة:

الرئيس أبو مازن: "ونحن جئنا إلى بغداد كوننا نعلم أنها مدينتنا ونعلم معدن الشعب العراقي الأصيل".

رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي: "ستبقى القضية الفلسطينية  هي القضية المركزية لنا جميعا وسنبقى ندافع عن حقنا في دولة فلسطينية على ترابها الوطني وحماية الحقوق الكاملة للشعب الفلسطيني" (لاحظ استخدامه كلمة "حقنا" جاعلا من الحق الفلسطيني حقا عربيا).

النائب الأول لرئيس البرلمان العراقي حسن الكعبي: "ما زلنا كشعب عراقي ننظر لفلسطين على أنها رمز وحدة الأمة العربية".  ثم: " إن موضوع التطبيع مع الكيان الغاصب مستحيل".

 

ثامر حميد

 

في المثقف اليوم