آراء

المتاهة العراقية اليوم

بعد مسرحية اختيار وتكليف محمد توفيق علاوي بمهام رئاسة مجلس الوزراء وتشكيل الحكومة المؤقتة القادمة وفق نفس المنهجية المحاصصاتية السابقة التي جاءت بعادل عبد المهدي رئيساً للحكومة المستقيلة، يدور العراق في دوامة من الضياع والعنف والتهديدات الحقيقية التي تتربص به. فعلاوي  هو إبن المنظومة السياسية ذاتها التي رفضها الشارع المحتج ، والخارج من رحمها في عملية تدوير مرفوضة ، إلى جانب عدم انطباق شروط المتظاهرين  والمعتصمين السلميين عليه بالمرة، فهو وزير سابق لمرتين في عهد نوري المالكي، ونائب سابق ومنتمي حزبياً، أي غير مستقل، وعليه ملف فساد وشبهات بهدر المال العام عندما كان وزيراً للاتصالات، ويحمل جنسية مزدوجة بريطانية  وعراقية ، ويتجاوز عمره الخامسة والستين، إضافة لقبوله بشروط القوى والأحزاب والمكونات والكتل السياسية التي اشترطت عليه مسبقاً الموافقة عليها للتصويت لصالحه ومنحه الثقة في البرلمان وهذا أمر لا يخفى على أحد. هناك صفقة سياسية خفية بين مقتدى الصدر وهادي العامري وإيران طبخت على نار هادئة في قم لتمرير محمد توفيق علاوي باعتباره مرشح تسوية قد يرضي أغلبية  القوى السياسية الممثلة في البرلمان وجزء من الشارع المنتفض ، خاصة جماعة  التيار الصدري، التي تبنت مهمة تصفية سوح التظاهرات وإجهاض الثورة مقابل مكتسبات ومصالح شخصية لمقتدى الصدر وتياره السياسي لذا تعهد الصدر بأن يتولى مهمة تصفية الثورة بالقوة على يد ميليشياته  المتوحشة سرايا السلام وعناصره المطوقة لساحات التظاهر والمتغلغلة فيها تحت عنوان أصحاب القبعات الزرقاء التي صارت تطلق الرصاص الحي وتهدد المتظاهرين الذي يرفضون ترشيح محمد توفيق علاوي ورفع شعارات تندد بغدره وخيانته للثورة والثوار، واستولوا بالقوة على المطعم التركي واخترقوا ساحات التظاهر في ذي قار والبصرة والحلة والديوانية وبغداد  والنجف وكربلاء والكوفة الخ.. تنفيذا لأوامر زعيمهم مقتدى الصدر، المقيم في قم والذي منحته هذه الأخيرة مباركتها، ويحظى كذلك بدعم الميليشيات الأخرى الموالية لها عند الحاجة. تعهد محمد توفيق علاوي بإجراءات عصية ووعود مستحيلة لن يستطيع تنفيذ أي منها، والكل يعلم بذلك وهو على رأس من يعرف حقيقة الوضع فهو من وسط العملية السياسية ويعرف خفاياها. فمن المستحيل أن ينجح في تجريد الميليشيات من أسلحتها ولا حماية المتظاهرين المدنيين السلميين، ولا محاربة الفساد لأنه من جاء به للسلطة هي نفس الأحزاب والكتل السياسية الفاسدة حتى النخاع التي ثار ضدها الشعب العراقي، ولا يمتلك القدرة على تشكيل حكومة مستقلين تكنوقراط مهنيين وكفاءات من خارج أحزاب السلطة فهذا محال، ولن ينجح في فرض توقيت محدد وقريب جداً لإجراء انتخابات مبكرة نزيهة وحرة وتحت إشراف دولي لأن الأحزاب والقوى السياسية المهيمنة لن تسمح له بذلك لأن ذلك يعني نهايتها وإخراجها من السلطة. تاريخ مقتدى الصدر وميليشياته مليء بالجرائم والتقلبات والخيانات والفساد منذ سنة 2003 ولغاية اليوم أسوة بباقي القوى والأحزاب والميليشيات الأخرى. وهي كلها معروفة وموثقة من قبل القاصي والداني في كافة الوزارات والمواقع الحكومية التي شغلها أتباعه في العملية السياسية وجلبت له الأموال والثروات الطائلة بعد أن كان معدماً، إلى درجة أنه صار يمتلك طائرة خاصة وأسطول من السيارات الحديثة والجكسارات والسيارات البيكبئات رباعية الدفع التي تقل عناصر ميليشياته سرايا السلام، بفضل مكاتبه الاقتصادية في كل مرافق الدولة ووزاراتها وحصوله على الأتاوات والقومسيونات وأموال الفديات التي تدفع من قبل الناس لاسترجاع أبنائهم وبناتهم المخطوفين من قبل جيش المهدي سيء الصيت وهو أول ميليشيا مسلحة خارجة على القانون تؤسس في العراق، وقبلها ميليشيا فيلق بدر الذي تأسس في إيران وعاد إلى العراق بعد سقوط نظام الطاغية صدام حسين. ومن رحم جيش المهدي خرجت وانشقت الميليشيات الشرسة والإجرامية الأخرى بأسماء كثير ومتعددة مثل عصائب أهل الحق ونظيراتها كالنجباء وحزب الله العراقي والمختار وكتائب الإمام علي الخ.. والتي وصفها مقتدى الصدر يوما ما بأنها الميليشيات الوقحة لأنها خرجت عن طوعه وتمردت على قيادته. مقتدى الصدر نفسه شخصية غامضة ومتقلبة الأهواء والنزعات ومشهور بمواقفه المتناقضة وغير المتوقعة ولقد نجح في خداع أعرق حزب علماني ذو تاريخ نضالي كبير هو الحزب الشيوعي العراقي لاستغلال اسمه وسمعته النظيفة وجره إلى تحالف انتخابي  وتشكيل كتلة انتخابية موحدة هي كتلة " سائرون" التي فازت بأعلى المقاعد البرلمانية 54 في الانتخابات النيابية الأخيرة سنة 2018 من خلال برنامج انتخابي مدني معارض للعملية السياسية ظاهرياً لكنه انقلب عليه وتخلى عنه وتحالف من جديد مع القوى الميليشياوية الفاسدة والمجرمة التابعة لإيران والمسيطرة على العملية السياسية والمتحكمة بمفاصل الدولة العميقة.  كان من الخطأ الفادح المراهنة على مثل هذا الشخص المزاجي الساذج الذي لا يفقه في السياسية ولا يحترم أي مبدأ إذ أن ما يهمه فقط هو مصالحه الشخصية وهو مستعد لذبح الآلاف من أجل تحقيقها. يواجه زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر معضلة في المواءمة بين حركة احتجاجات شعبية مدنية سلمية تطالب بالسيادة الوطنية الكاملة والتخلص من الهيمنة الإيرانية والتدخلات الأمريكية السافرة في الشأن العراقي الداخلي وتسعى للتغيير الشامل للمنظومة السياسية، وبين حرصه على الحفاظ على مكتسبات تياره ومصالحه الاقتصادية والسياسية. ومع تمسك الانتفاضة بمطالبها، انكشفت حقيقة التيار الصدري وطبيعته العدوانية وتراجعت فرصه في التماهي مع حركة تغييرية ذات مسحة ثورية وبشعارات ترفض العملية السياسية المحاصصاتية التي فرضها الغزو الأمريكي بعد عام 2003. وذلك لأنه جزء لا يتجزأ من ذات العملية السياسية ويدين بالولاء والطاعة للولي الفقيه في طهران. الساحة العراقية ملتهبة ومتوترة وعرضة للانزلاق نحو حرب أهلية شعواء مدمرة وها هو الصدر وميليشيات إيران يدخلوننا مرة أخرى في متاهة التخبط والضياع والحيرة وفقدان البوصلة.

 

د. جواد بشارة

 

في المثقف اليوم