آراء

رشيد الخيّون: «تايتن».. الذهُول أمَامَ المُغامَرة!

بعد مرور مئة وإحدى عشرة سنةً، مِن كارثة السّفينة «تايتانيك» 14 أبريل 1912، حصلت بسببها كارثة الغواصة «تايتن» أو «تيتان» 18 يونيو 2023. هذا، ولولا اكتشاف حطام تايتانيك (1985)، بعد سنوات طويلة، ما حصلت الضَّجة حولها، وأخذت القصص تنسج عنها وعن ركابها، وأُحييت القصائد التي رثتها ورثت المسافرين عليها، وثلاثة منهم كانوا مِن شعراء العِراق، وفي شهر وعام غرقها، حتى قرن الشّيخ محمد رضا الشّبيبي(تـ: 1965) أسطورتها بفعل «شياطين بابل»: «يا بابل البحر الخضم سَحرتنا/ سحراً أرى هاروت في تيتنيك»(لغة العرب 1912).

جرى جدلٌ على منصات التَّواصل الاجتماعي، عن كارثة الغواصة، والتي قضى فيها خمسة مِن أغنياء العالم، فالسفر في بطنها كلفت تذكرته الواحدة ربع مليون دولار، ومِن الجدل: هل كان هذا غروراً بالمال، وطلباً للشهرة، فالمال وحده قد لا يكفي سبباً للاشتهار؟ أم أنّ هناك مشروعاً حقيقياً غير إشباع الفضول، يدخل ضمن دراسة، واستكشاف البحار مثلاً، وهذا لم يُعلن عنه، أو أنّ الكارثة قد غطت عليه.

كان مِن المؤكد أنَّ المغامرين الخمسة ليس لديهم شكٌ بنجاح مغامرتهم؛ وسيعودون شاغلين الإعلام والرأي العام بأخبارهم، ولم يحسبوا لظلمة المحيط حسابها، وما يولده مِن الضغط الهائل تحت الماء.

بطبيعة الحال لا تستحق النظرة لحطام سفينة، في أعماق البحار، خطورة المغامرة، وصرف هذا المال، لولا الأساطير التي أحيطت بتايتانيك الأُمّ، والفيلم الذي هزّ عالم السّينما، وإلا كم سفينةٍ غرقت وغطى الماء الهائل حطامها؟ وكم غواصة رقدت بطاقمها تحت الماء، ولم يُشد الرّحال لرؤية أو استكشاف آثارها، مثلما حصل لتايتانيك. ما يجمع ركاب «تايتن» الغنى وحبّ المغامرة، مع أنّ حطام تايتانيك قد اكتشف وانتهت المفاجأة في حينها، فماذا يريد المغامرون اكتشافه وتقديمه للبشريّة؟!

وهم: رجل الأعمال البريطاني هامش هاردينغ، ورجل الأعمال الباكستاني شاهزاده داود وولده سليمان، الذي عمره تسعة عشر ربيعاً، ورجل الأعمال الأميركي ستوكشون راش، والمستكشف الفرنسيّ بول هنري نارجوليه، ويغلب على الظّن أن الأخير مثل جانب الاطمئنان لعودة الغواصة سالمة، لأنّ هذه الرّحلة السابعة، التي انتهى فيها، إلى المكان نفسه، فلو كان شاهزاده داود لديه شعرة مِن الشّك ما حمل معه وريثه سليمان.

أتيت أثناء الجدل، مع مَن اعتبر المغامرة ترف أهل المال، بمثال مغامرة عباس بن فرناس التَّاكرنيّ (تـ: 274هج)، لم يكن صاحب مالٍ، لكنه كان صاحب هدفٍ، الحلم الذي كلفه الاتهام بالزَّندقة والجنون، لكثرة فنونه والأدوات التي ابتدعها، فقد اخترع صناعة الزجاج مِن الحِجارة، وأداة تضبط له أوقات الصَّلاة، ثم الطيران «عمل له جناحين، وكسا جسمه بالرِّيش»(القُرطبيّ، المُقتبس مِن أبناء أهل الأندلس)، ولما سقط قيل: «يَطمُ على العنقاء في طيرانها/ إذا ما كسا جثمانه ريشُ قَشعمِ»(ابن سعيد، المُغرب في حلى المغرب)، والقشعم مِن أسماء النّسور. غير أن جنون ابن فرناس كان فنوناً، ورغبةً في تحقيق ما كان قد بلغه عقله، لكنّ الزَّمن ليس زمن اختراع الطَّائرة، فتأجل تحقيق الحلم إلى أكثر مِن ألف عام.

أقول: ماذا كان الفن الذي أراد بلوغه ضحايا «تاتين»، ولم يحسبوا للمغامرة هولها، وهم يدخلون في عماء الماء المظلم؟ هل هناك ما يريدون اكتشافه، أو الوصول إلى اختراع شيء لم يُخترع بعد، مثل الذين يتوقون السّفر إلى الكواكب، للنفاذ خارج الأرض إذا ما ضاقت بالبشر مثلاً! أما ركوب الأهوال لمجرد النّظر لحطام سفينة، فهذا ما أشعل الجدل. وجدت تايتانيك وضحاياها مِن يرثيها ويرثيهم، مع قلة الاتصال بين بقاع الأرض آنذاك، ولم تجد «تاتين» سوى الذُّهول بالمغامرة، وكأنها كانت خُرافةً.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

في المثقف اليوم