آراء

شَهْوَةُ الإخْبَارِ.. غُوَايَةٌ مَمْنُوعَةٌ وَحِرْفَةٌ مُحَرَّمَةٌ

بليغ حمدي اسماعيلتتسارع الدول هذه الأيام في الإعلان عن عقوبات رادعة وسريعة وصارمة أيضا ضد كل من يهرول صوب وسائط التواصل الاجتماعي لنشر أية أخبار كاذبة، أو الترويج لأية شائعات من شأنها تكدير الصفو العام والسلم في المجتمع وبين فئاته وطوائفه، وعلى ضوء ذلك تبارت الدول في الاستباق لإعلان كل ما ينشر ضد الصالح العام للدولة هو بمثابة حرب مضادة وفتنة تسعى لتقويض الأمم . هذا بالفعل ما لا نستطيع إنكاره لا اليوم ولا الغد أيضا، بل إن علماء الاجتماع القابعين في منازلهم اليوم بحكم الحظر الوقائي خشية الإصابة بفيروس كورونا الجائج يؤكدون أن أبرز دوافع هذه الفتنة الإخبارية التي بدت اليوم محرمة هو الفراغ وعدم التفكير في مهارات مستقبلية يمكن امتهارها وتنميتها، فضلا عن أن أكبر وأهم مروجي الفتن الإخبارية اليوم على شبكات التواصل الاجتماعي لم ينالوا قسطا وافرا وحظا وفيرا من كفايات القضاء على الملل إلا باحتراف الفتنة الإخبارية .

ولماذا نعوص في حدث راهن والتاريخ الثقافي والصحافي كفيل بإبراز أن الفتنة الإخبارية كانت ولا تزال غواية معرفية لا يمكن الفكاك منها حتى ولو تغيرت وسائل التواصل أو القنوات الاتصالية في المشاركة في تلك الغواية الممنوعة قديما وحديثا . ففي عام 1904 من القرن الماضي جرت حادثة زواج الشيخ علي يوسف رئيس تحرير جريدة المؤيد المصرية من الآنسة العفيفة الفاضلة الشريفة صفية بنت الشيخ عبد الخالق السادات، وقد أثار هذا الزواج لغطاً وجدلاً كبيراً بالأوساط الاجتماعية في مصر حتى انتقل هذا اللغط والحديث الثائر حوله من قاعات وصالونات المجتمع إلى أروقة المحاكم .

وقصة هذا الزواج ليست طريفة، فهو في بادئ الأمر وخاتمته كان زواجاً طبيعياً، ولكن هذا الزواج قد أسهم في تقسيم المجتمع المصري إلى تيارات متباينة، ورأى بعض الناس أن زواج الشيخ الصحافي أو الجورنالجي هذا صدمة عنيفة ولطمة قوية في وجه أكابر وأعيان المجتمع . فقد رجحت وقتها كفة الحسب والنسب والجاه والتقاليد والأعراف الراسخة على حساب كفة احتراف الصحافة والكتابة حتى ولو كان الكاتب شيخاً معمماً .

وخلاصة القصة أن الشيخ علي يوسف وهو رائد الصحافة المصرية الذي اشتغل بالصحافة وصار صاحب أكبر صحيفة يومية في مصر وهي صحيفة " المؤيد " والتي كانت تضم قامات مصر الفكرية أمثال قاسم أمين وسعد زغلول ومصطفى لطفي المنفلوطي ومصطفى كامل، قد تقدم لخطبة صفية صغرى بنات السيد عبد الخالق أحد أشراف مصر والمنتسبين إلى سلالة الإمام الحسين (رضي الله عنه) حفيد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) .

وتروي الحكايات التاريخية أن الشيخ علي يوسف قد تعرف على صفية حينما رآها في بعض المناسبات التي كانت تضم علية القوم وسادات المجتمع، باعتبار أن الشيخ علي يوسف قد ارتقى أرقى المقامات في المجتمع المصري بقلمه، واستطاع به أن يتصل بالخديو عباس الثاني ثم الخليفة العثماني في القسطنطينية، ولما تقدم لخطبتها لم يرض والدها في بادئ الأمر، لولاً إلحاح العديد من الأمراء والأشراف وسادات مصر الأماجد وقلة من الوزراء، فرضي الأب وأذعن لطلبه .

ولكن ظل السيد عبد الخالق والد صفية يماطل في موعد الزفاف طيلة أربع سنوات، حتى قرر الشيخ علي يوسف أن يظفر بعروسه فقام بخطفها وعقد عليها في بيت أحد أقاربها ويقال أن القران قد عقد في بيت السيد البكري دون علم ومعرفة الوالد بذلك الأمر حتى علم بهذا الزواج السريع من خلال عناوين الصحافة لاسيما ما نشرته جريدة المقطم عن هذه الزيجة .

وهنا قرر السيد عبد الخالق أن يغير دفة الزواج من ظاهرة اجتماعية إلى قضية جنائية، فقام باتهام الشيخ علي يوسف بأنه غرر بابنته القاصر وتزوجها دون علم أبيها، وبعد أن بحثت المحكمة أو النيابة على وجه التحديد أمر هذا الاتهام تبين لها أن صفية ليست بقاصر بل بلغت سن الرشد ومن حقها أن تزوج نفسها، كما أن قرانها قد عقد في بين أقاربها وبحضورهم، لذا حفظت النيابة البلاغ .

ولكن لم يتريث السيد عبد الخالق في أمره بعد رفض النيابة بلاغه، فقام برفع دعوى قضائية أمام المحكمة الشرعية بإبطال الزواج بحجة عدم الكفاءة بين الزوجين في الحسب والنسب والحرفة، وهنا بدأت المعركة الحامية بين التقاليد المصرية وأعرافها الضاربة في القدم وبين مهنة ظن البعض أنها محرمة شرعاً ألا وهي الصحافة .

وكان القاضي وقتها هو أبو خطوة، وعرف عنه التحجر في الرأي والتزمت في القرار،وهذا ما كان فلقد أمر أولاً أن تمكث صفية في بيت أبيها بعيداً عن زوجها الشيخ علي يوسف، حتى توالت الجلسات والمناقشات وسماع الشهود حتى اهتدى إلى رأيه التاريخي بالتفريق بين الزوجين وفسخ عقد الزواج، وكان حجة القاضي في رأيه أن صاحب المؤيد الشيخ علي يوسف لم يكن صاحب نسب أو حسب، بل إنه امتهن أيضاً حرفة وضيعة وهي الصحافة وهي مهنة تقوم على الشائعات والجاسوسية وكشف الأسرار وإذاعة الحياة الشخصية للعامة دون إذن أصحابها .ورغم ما حدث رجع السيد عبد الخالق عن رأيه ووافق على زواج ابنته من الشيخ علي يوسف بعد ذلك .

هذه القصة الطريفة تجعلني استشرف بعض ملامح المستقبل في ظل المد الإخباري الذي يشعل شبكات التواصل الاجتماعي لاسيما المد الديني الذي يبدو أكثر تطرفا وراديكالية، وتلك بالفعل أعاني من مغبتها بصورة ملحة ومستدامة، هذا المد النوعي  الذي لا يرى في البلاد العربية سوى مايوه المرأة وصليب القبطي وزجاجات الخمر المتناثرة بالطرقات والأجانب العراة الضاربين انتشاراً بطول وعرض بعض البلدان لاسيما لبنان والأردن والإمارات،  وكذلك ومن وجهة نظرهم النوعية أيضا الأصنام المتمثلة في التماثيل والمعابد الفرعونية والعبث الفكري والانحلال الأخلاقي الموجود في روايات نجيب محفوظ، ولم يروا فيها الجامعة والأزهر والأوبرا التي تعرض فنوناً رشيقة لا ابتذال فيها ولا مفسدة،ولكن هؤلاء الذين تعنتوا في حكمهم ورأيهم على الشيخ علي يوسف وازدرائه ورفضه بسبب احترافه مهنة قائمة على الجاسوسية، والشيخ هذا بدوره من دعاة التنوير لامتهانه الصحافة وصناعة الخبر .

ولكن ما سيحدث في الدول العربية بعد مرور أزمة كورونا الجائحة والجامعة بغير رحمة استشراف لمستقبل آتٍ لهو استكمال لمنطقية هذا التفكير الذي لا يزال رهين العقلية الجامدة التي تقبع وراء التقاليد والأعراف البالية، وتصر على اتخاذ الدين ذريعة لتحقيق مآربها وأغراضها الخفية، فإن السيد عبد الخالق والد العروس لما استيأس النيل من مقصده راح يفتش بين أوراقه الدينية حتى عثر على شرط الكفاءة في الزواج، وهو نفس المدخل الذي ستعبر منه بعض التيارات الدينية الصاعدة لمحاربة أي فكر يتعارض مع فقههم وأيديولوجياتهم التنظيرية .

والخوف مكمنه من أن جملة هذه الشعوب وتفصيله مؤهلة تماماً لتقبل أي ثقافة فقهية مسموعة أو مرئية أو في صورة كتيبات صغيرة لا تتجاوز الوريقات العشرة،تتضمن إعلان الحرب على أي فكر مغاير، المهم أنهم ينأون عن مغبة الكتاب الكبير والآراء الفقهية المتباينة والمسائل التي تنتظر تأويلاً وتحليلاً مضطرماً لها، بل إن أغلبهم ولا أحصر أحداً يستقي من النصوص الفقهية ما يجعله يرتع ويلعب دونما لغط أو ارتياب.

وحينئذ فقط أدركت لماذا كان يصر أصحاب هذه الآراء والفتاوى والمفتشين بين ثنايا الصحائف القديمة ربما المجهولة النسب أيضاً على محاربة كلمات بعينها مثل التأويل وظاهر النص وتفكيك الخطاب والاجتهاد ودور إعمال العقل؛ لأن مثل هذه العبارات والمواضعات ستحيل نتاجهم المسموع والمرئي إلى مقصلة العقل وهو ما يرفضونه أيضاً جملة وتفصيلاً .

وقضية الشيخ علي يوسف ومهنته المحرمة في عيون البعض ستجعل الأمر سهلاً لبعض المتربصين حالياً بالتنوير و الرافضين لتطويق العقل هذه الأحايين المضطرمة، بل وجود ألوان متباينة من الصحافة من صفراء وحمراء ومتعددة الألوان تجد فرصة سانحة لممارسة هواية سكب الزيت على النار، فتزيد من الأمور اشتعالاً وسخونة، والمستفيد الوحيد في ذلك هم الذين يفضلون انكماش المدنية .ولعل موجة الهجوم مؤخراً على عميد الرواية العربية نجيب محفوظ رغم وفاته منذ سنين لهي بداية وافتتاحية لموجات متتابعة من الرفض والمنع والتحريم أيضاً.

ولأن مهنة الصحافة تمثل في نظر بعض المتشددين عشقاً ممنوعاً ومهنة محرمة لأنها تتناول بعض الموضوعات الخاصة بحياة السياسيين ورجال المجتمع وكذلك تتناقل الخبر الذي يتأرجح بين الحقيقة والرأي، بالإضافة إلى أنها تحتضن قامات فكرية تتناول الحدث بالرصد والتأويل ومن ثم الاجتهاد في إصدار حكم خاص بشأنه، فإنها ستكون صيداً ثميناً وسميناً لأؤلئك المتشددين، فسنجد من يغلو في رأيه ويرمي أحد الكتاب والصحفيين بالتكفير، وهو حكم جاهز وقديم،وعلى قدر ما يحمل سمتاً لتطويق العقل، بقدر ما يحمل معنى الورطة أيضاً .

ولعل أبلغ تشبيه للغلو في التكفير هو " الورطة"، ولقد توعد رسول الله (عليه الصلاة والسلام) بهؤلاء الذين يكفرون إخوانهم بقوله : ( لا يرمي رجل رجلاً بالفسق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك). أما الآن فأصبح التكفير أسرع حكم يمكن أن يصدره إنسان على أخيه، وإذا كان التكفير قديماً سلاح خفي يستخدمه بعض المتطرفين في مواجهة خصومهم، فاليوم وغداً سيصبح أداةً هجومية تستخدم قبل وأثناء وبعد الحوار مع الآخر، هذا إن كان هناك حوار من الأساس. وهذا السلاح كان قديماً يردده رجل على مرأى ومسمع قلة من الحضور ببلدة صغيرة، ثم يتناقل الخبر بصورة وئيدة ثقيلة حتى تصل لرجل يطالع حظك اليوم في شرفته، أما هذه الأيام فالنار تستعر بالهشيم سريعاً، من خلال المنتديات، والفضائيات، والمدونات، والرسائل الإليكترونية، والفيس بوك.

والأخبار المتعلقة بتجريم الصحفيين والكتاب وتحريم كتاباتهم ضاربة في التاريخ العربي والإسلامي ولا تحتاج إلى سرد جديد لها، ومن منطلق هذا نرى هذه الآونة تزاحم الصحف الدينية أو بتوصيف أدق الصحافة السياسية ذات الصبغة الدينية، وهي بقدر ما تتضمن موضوعات دينية تتضمن أيضاً ما تتناوله هذه الصحف الملونة، لذا فالخطيئة ستنال الجميع دونما تفرقة .

والصحافة في ظل المد الديني ستنال بحق لقب الحرفة المحرمة لأن الصحفي بطبيعته يميل للاجتهاد ويمقت قبضة الرقابة على مهنته المحفوفة بالأخطار والتي تتعدى مجرد الجمع والبحث عن المعلومة بل تتجاوز ذلك إلى تخصص حكم معلن يعبر عن رأيه وهنا تكمن خطورة صيده واقتناصه بيسر وسهولة . وما بالكم إذن بالصحافة الأدبية المتخصصة التي تتناول الشعر والقصة والعمل المسرحي فكل هذا في ظل هذا المد فسيناله مقصلة التشدد وسندان المنع .

وأخوف ما يخاف من الصحافي في الوطن العربي أن يطل عليه صباح يعاقب فيه على ارتكابه هذا العشق الممنوع أعني الصحافة كالذي يعاقب على السرقة والقتل وقطع الطريق والزنا، وكفى بالمرء علماً أن يخشى ربه، فيفكر في مستقبل أمته، وكيف يرتقي بها، لا أن يجد نفسه خاوياً من أي تجديد فيهرع إلى شغل وقته وإزهاق جهده وقوته في مساجلات عقيمة لا تسمن ولا تغني من جوع .

 

الدكتور بليغ حمدي إسماعيل

 أستاذ المناهج وطرق تدريس اللغة العربية (م)

كلية التربية ـ جامعة المنيا ـ مصر

 

 

في المثقف اليوم