تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

آراء

كورونا يسقط حكم العسكر

ليس الشأن عسكريا بحتا، لكنّ كل شيء يحمل وجها من وجوه القمع سيجلب إلى المخيلة العسكر. العسكر الذين شوّهت صورتهم بإرادتهم، أو بإرادة غيرهم، حتى ما عادت الشعوب العربية في هذا الزمان تطمئن حين يذكرون. لكن للعسكرة معاني مختلفة، ولعل في تلك الوجوه شيئا يستحق أن يُجلب إلى هذه المشرحة.

يطيب لي استذكار بعض معاني "العسكرة" في شروحات المعاجم العربية، ومنها معجم المعاني، والجامع، والوسيط، والتي تتّفق على معنى يكاد يكون وحيدا، فعَسكر الليل: اشتدّت ظلمته، وعسكر الشيء: جمعه، وعسكر القوم: تجمّعوا، والعسكر: الجيش ومجتمعه، وانجلت عنه عساكر الهموم: زال همّه. ومن هنا أستطيع أن أجد لي ملاذا ومتّكأ فيما سأتطرق إليه.

كورونا، أو كوفيد 19 هذا المتجبّر الذي سقط على رؤوسنا، وفي مراتعنا مثل شيطان رجيم، يتقوّل الناس في شأنه الكثير، فها هو قد تعسكر، وتجنّد لأذيتنا، ولاضطراب أرواحنا، ولبلبلة عيشنا، وكأننا لا يكفينا ما يجري من حكم العسكر الذين وطئوا الرّقاب، وقطعوا الألسنة، وانسلّوا مثل الطواعين في دمائنا، ليأتي كورونا ويُعسكر ويزيد الهموم هموما، كورونا الذي غدا اليوم سيّد المنصّات السياسية، والاجتماعية، والأدبية، والفنية، حتى لم يخل بيت من مُحاول اتّقاءه، ولم يخلُ لسان من التنّدر به سبّا وقذفا، وتهكّما، كورونا الذي بات عِرضُه مشاعا للجميع، فهو المتزعّم، والزعيم الأوحد الذي يتشارك الجميع في تناوله، رؤساء، ملوك، وساسة، وسواد شعب، أثرياء، فقراء، مؤمنون، كفّار، قوّادون، وعاهرات، مخاتيرُ، وأبناء شوارع، مجرمون، وقضاة، متعففون، ووضيعون. الجميع يتناولونه، والكلّ ليسوا بمنأى منه حين وصوله إليهم، ومناولتهم المناولة الأولى، والأخيرة في أصول ديارهم، فليس التّحصّن بالكراسي مانعا، وليس التحصّن بالمال حائلا، وليس الالتجاء بدور العبادة، أوالمواخير سدّا، وحاجزا، فهو الكاسر للرقاب، وهو المثير للرّعب، وهو المعطّل لساعة الكون في دقائقها، وفي ثوانيها.

كورونا يعرّي الأقنعة، فكم من ساسة يتزعّمون العالم، ويعيثون فيه فسادا يبدون في هذا المشهد مثل أي مخلوق طبيعي يصيبه الخوف، فيعبر عنه بالارتعاش، وبالدّموع أحيانا، وبمشاعر استعصبها من قبل، وإذ به يفيض حبا وحنانا، وكم من ساسة وقنّاصين استمرؤوا مرار الشعوب، وإذ بهم أمامه يتساقون الألم كؤوسا مترعات، فلم تستطع الأبراج العاجية، ولا القصور الذهبية، ولا البيوت المزخرفة، أو البيضاء، منع إصابتهم به، شأنهم في ذلك شأن الفقير عاثر الحظّ المرميّ فوق الأرصفة، والمعتقل السجين الذي رفع يوما صوته جاهرا بالحق، فأودع غياهب السجون ظلما وعدوانا. كرونا يعرّي الأقنعة، فكم من مخادع بنى حياته على الغش، وثراءه على أقوات المحرومين، والجياع يسقط طريح الفراش، يتذلّل طالبا رحمة سلبها من مسكين، ويستجدي شفاء من خالق لم يعره التفاتا. العروش تنهار، والأقبية تلمؤها الظلمات، فلا من عارف متنبئ متى تكشف الغمة، ولا من كاهن متبصّر يقرأ لنا الطالع في الفناجين، ولا من سبّحات طويلة يدليها مسترجلون على الدين تزلّفا وتقرّبا وخداعا تستطيع أن تسكب نقطة مضيئة في سطر ينهكه الجفاف.

كورونا الأعجوبة التي وهبوها شكلا جميلا، تاجا ماسيا في إشارة ذكية إلى تسلّطها على الهامات والرؤوس بلا تفرقة، أو تمييز. كورونا الفايروس المعدّل، المعدّل، المطوّر، المتطوّر، كم من مخابئ سرية كانت بها أيدي المخرّبين، ولصوص الحياة تعيث فسادا، وهي تقهقه طويلا فيما ستنشره، وما ستشيعه في البشرية التي خضعت لحكم العسكر طويلا حتى لذّ لها استعباده، فغفلت، وتغافلت عن نكباته، ومآسيه.

أول الحريق ما إن شبّ تحت حكم العسكر، حتى أتى على الأخضر، واليابس، وللتّعاضد، والتّناصر تنادى المتيقّظون، بينما طاب للغافلين النوم في العسل.

كوفيد 19 يشبّ اليوم، فهل من يقظة جديدة، أو لعلها ستكون سباتا عميقا؟!

 

بقلم أمان السيد

كاتبة مقيمة في أستراليا

 

في المثقف اليوم