آراء

بوتين وسبارتاكوس واستراتيجيات تغيير قواعد اللعبة

كان التاريخ وسيظل الحقل المتاح للممكنات والموارد التي يستخدمها الناس في تدبير حياتهم وتجاوز أزماتهم وتأكيد حضورهم في عالم الممارسة الاجتماعية الحية الفورية المباشرة فالممارسة هي الجزء المختفي من جبل الجليد؛ جليد الوجود التاريخي التراكمي لعلاقات القوة واستراتيجية المعلنة والمضمرة فالممارسة ليس مثالاً غامضاً أو أرضية تحتية للتاريخ أو محركاً خفياً بل هي ما يفعله الناس حقاً وفعلاً في عالمهم المعيش فالكلمة (الممارسة) كما يقول الفرنسي بول فين " تعبر بوضوح عن معناها  وإذا كانت بمعنى من المعاني (محتجبة) كالجزء المحتجب من جبل الجليد" فتلك هي وظيفة السياسة بوصفها علاقات قوى إذ "طويلاً ما أخفت السياسة عني السياسي" إنها تخفيه، ليس بمعنى ما يخفي القطار قطاراً آخر، بل بمعنى أن أي قطار يخفي السكة التي يجري عليها. هناك مسافات كثيرة وفضاءات متعددة وأسطح مختلفة ولكن هنا سكة حديد واحدة مهيأة لسير جميع القطارات"

تلك السكة هي تاريخ القوة واحتدامها في كل لحظة من لحظات سيرورة الحياة الاجتماعية للناس الساعيين لتحقيق مصالحهم الحياتية في عالمهم المحكوم بعلاقة القوة والهيمنة والتنافس والصراع الدائم المستمر بين الافراد الجماعات والشعوب والحضارات. نعم الناس الأحياء هم الذين يصنعون التاريخ ولكنهم لايصنعونه على هواهم بل في ظل شروط معطاة لهم سلفا من ماضيهم وممكناته المتاحة وبهذا المعنى نفهم قول ماركس أن الموتى يتشبثون برقاب الأحياء دائما!

تداعت تلك الفكرة إلى ذهني وأنا استمع إلى الإمبراطور الروسي الجديد بوتن وهو يعلن ضم مناطق من أوكرانية، إذ أعلن الرئيس فلاديمير بوتين أن مناطق لوغانسك ودونيتسك وزاباروجيا وخيرسون الأوكرانية باتت روسية. أعلنها أمام العالم أجمع بوصفها حقيقية من حقائق التاريخ وبعد حرب ضروس مع قوى الهيمنة العالمية حول أوكرانيا فما الذي عمله بوتن وكيف يمكن تفسيره؟ في الواقع هو لم يعمل شيئا منافيا لناموس تاريخ القوة وهندستها إنه استخدم موارد التاريخ المتاحة في عالم الأمم الراهنة مثله مثل قائد ثورة العبيد سبارتاكوس حوالي 111 ق.م.-71 ق.م حينما ثأر على روما العظيمة  إذ تعلم سبارتكوس في مدرسة للعبيد كيفية مصارعة الوحوش في ملاعب روما لتسلية الرومان، وفي سنة 73 ق.م نظم ثورة للعبيد في تلك المدرسة، وحينما انتصر بسرعة مذهلة على أسياده راح يطبق عليهم ذات الممارسة التي تعلمها في مدرستهم إذ جعلهم يمارسون لعبة مصارعة الوحوش في الملعب الروماني وكان هو وقادة ثورته يشاهدون العرض بحماسة بالغة. إذ لم يكن لديه ما يفعله بأكثر مما تعلمه في مدرسة العبودية الرومانية ورغم هزيمته بعد سبعين يوما فقط إلا أن ثورته غيرت الإمبراطورية الرومانية نجح في تغيير تصور الرومان للعبيد ، الذي أدى إلى تحسينات في حياة ووضع العبيد وتقليص العبودية تدريجيًا. وحينما نقارن ما يفعله بوتن اليوم مع النظام العالمي للهيمنة  التي تقوده الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية مستخدما قوانينها ووسائلها في هندسة علاقات القوة والهيمنة بدا بالقنبلة الذرية الأمريكية التي وضعت حدا حاسما للحرب العالمية الثانية عام ١٩٤٥م نلاحظ وجه الشبه بين ثورة العبد الروماني الذي ثأر ضد نظام العبودية التي كانت تعتقدها روما المنتصرة من المسلمات البديهية الطبيعية بحسب بول فين فكذلك هو الدب الروسي الثائر ضد النظام العالمي الذي شكلته قوى الحرب العالمية الثانية المنتصرة.

إذ اعلن بالحرف الواحد "، أن النظام العالمي يتغير حالياً والعالم يتجه نحو التعددية ملكم يجري الآن في ظروف تتسارع فيها عمليات التحول الأساسي للبنية الكاملة في العلاقات الدولية، حيث يدخل تشكيل نظام عالمي متعدد الأقطاب وأكثر ديمقراطية وعدالة مرحلة نشطة" فهل ستغير حرب أوكرانيًا وتداعياتها

قواعد اللعبة واستراتيجيات الهيمنة في عالمنا المعاصر؟ وفي عالم السياسة والدبلوماسية؛ المحكوم بقواعد القوة  والمصالح المتبادلة لا قيمة للخطابات والبيانات والكلمات ما لم تكن مسنودة بأفعال ووقائع حية موجودة وحاضرة ومشاهدة على أرض الواقع وذي وزن وقيمة واعتبار .ولكل فعل وحضور وزن ومقدار . وبقدر ما يكون عليه حضورك ووجودك وقوة تنظيمك وفاعليتك في ميدان الممارسة الواقعية؛ بمختلف مجالاتها. يكون حضورك وصوتك وصورتك وحيزك واهميتك في نص البيان والقرار والدبلوماسية عند الآخرين والغياب في النص يعني غياب في الواقع أو تغييب وفي كل الحالين تلك هي مسؤوليتك أنت ولا عتب على الآخرين"وكيف سيكون وضع العرب في ملعب العالم الذي أخذ يتشكل من جديد؟

والتاريخ هو التاريخ فلا شيء يأتي اليه من خارجه ولا شيء يخرج منه. أنه مغامرة الاجتماع الإنساني عبر الماضي والحاضر والمستقبل وللإنسان تاريخين: ” تاريخ طبيعي يشارك به جميع الكائنات الطبيعية وتاريخ وضعي يضعه لنفسه ويضع فيه العلوم والآداب والفنون والسياسة والأخلاق والتشريع والزراعة والصناعة والعمارة.ولا يكون التاريخ إلا حركة وصراع وتكيف بالتطور وتطور بالتكيف ورد فعل واتخاذ موقف في مواقع محمية وتبرير المواقف وتحصين المواقع بما يحقق القوة والحماية والعافية والآمن والآمان ولا يكون التاريخ إلى مجمل تاريخ صراع الإنسان ومواقفه إزاء الطبيعة الذي هو قصة تطوره الذي هو قصة تكيفه الذي هو رد فعل الإنسان ومواقفه إزاء الطبيعة بما فيها طبيعته هو التي هي أشد الطبائع عناداً وتمرداً على التطويع واستغلاقاً على الفهم والتاريخ تاريخان :تاريخ الضرورة والواقع والحياة وهو التاريخ الفعلي الذي يدور حول محول التجارة والحرب والاحتكار وتلك حقيقة لا خير ولا شر ولا خير ولا جبر ولا اختيار، بل سنة من سنن الحياة وحقيقة من حقائق التاريخ فيه فقراء ضعفاء مغلوبون مقهورون يخدمون أغنياء أقوياء غالبين قاهرين في السلم ويدافعون عنهم في الحرب. وتاريخ متخيل: تاريخ الحلم والأمل والرجاء والمثال الذي نريده ونتمناه ونحلم به يدور حول محور العمل للإنتاج واللعب للابتهاج والاكتفاء بالذات والاستغناء عن الغير والعدل والخير والجمال للجميع” ويعصب فهم التاريخ الا بوصفه بنية كلية تتكون من عناصره وقواه الثلاثة (الثقافة والحضارة المدنية) بوصفها كلا مترابطا متناسقاً ومتبادل التأثير والاعتماد بعضهم على بعض بحيث يصعب عزل أي جزء عن الأجزاء الأخرى على صعيد الوقائع الملموسة ، وهذا ما دفع تيار واسع من الفلاسفة والعلماء إلى تأكيد الفرضية الأولية التي نفترض مسبقاً أن المعرفة الحقة هي معرفة الكل وليس معرفة أجزاء مختلفة منه حتى في الحياة العادية ليس من الممكن أن أعرف شكل الغرفة عن طريق معرفة شكل أجزائها المختلفة ذلك إنني استطيع أن أكون فكرة جيدة عن الكراسي والطاولات, ولون الحيطان وشكل النوافذ..الخ . غير أنني لن أعرف الغرفة إلا إذا عرفت الطريقة التي تنتظم فيها هذه الأجزاء جميعاُ في كل مركب واحد وهكذا يكون الأمر في التاريخ والحياة لا أستطيع أن أتعرف عن حقيقة ظاهرة من الظواهر مثل الحضارة بمعزل عن السياق التاريخي الكلي لسيرورتها وتطورها والتاريخ الذي تعنيه هنا هو تاريخ الإنسان أبن الأرض وابناءه واحفاده الساعيين إلى تحقيق اهدافهم في هذا الكوكب. أنه تاريخ الخوف والجهد والسعي والكد والصراع والتدافع والتنافس والنزاع والحرب والسلام والتعايش والحوار.ولكل كائن في هذا الكون تاريخ واحد هو تاريخه الطبيعي الذي هو طبعة ونظام سلوكه وقواعده وقانونه.مقاومة الفناء ودفاعا عن البقاء.

***

ا. د. قاسم المحبشي

 

 

في المثقف اليوم