آراء

أسباب أزمة المشروع التحرري الفلسطيني وإمكانية تجاوزها

مقدمة: تمر (حركة التحرر الوطني الفلسطيني المعاصرة) بأزمة بنيوية ووظيفية عميقة: أزمة قيادة، أزمة برنامج وطني، أزمة فكر وأيديولوجيا، ثم أزمة انقسام ووصول الخيارات المعلنة أو البرامج الحزبية لطريق مسدود سواء كان خيار المفاوضات والتسوية السلمية لدى منظمة التحرير وفصائلها أو خيار المقاومة لدى حركة حماس ومن يشايعها من الفصائل، ومما زاد من تفاقم الأزمة تغير الظروف الموضوعية والذاتية التي كانت حاضرة عند تأسيس المشروع الوطني في بداياته، فالمتغيرات والتحولات الإقليمية والدولية التي استجدت على مجريات الصراع كانهيار المعسكر الاشتراكي والنظام الإقليمي العربي وصعود الإسلام السياسي وفوضى ما يسمى الربيع العربي وموجة التطبيع الأخيرة بين أنظمة عربية وإسرائيل، بالإضافة الى الانقسام الداخلي وصعود اليمين الصهيوني الأكثر تطرفا وعنصرية، كلها أمور زادت من إرباك المشروع الوطني كمشروع تحرر وطني.

هذه الأزمة المركبة ومع أنها أزمة قوى وبرامج سياسية إلا أن استمرارها يؤثر مستقبلا على الحقوق الوطنية السياسية، فالاستيطان في الضفة والتهويد في القدس والانقسام السياسي والجغرافي بين غزة والضفة وتراجع الدافعية النضالية لدى غالبية فصائل العمل الوطني والانشغال بهموم ومتطلبات الحياة اليومية وتزايد المراهنة على المتغيرات الخارجية... الخ، كلها أمور ستُخرِج – إن لم تكن أخرجت – الحالة الفلسطينية من سياق حركة التحرر الوطني ووضعته على تخوم متاهة سياسية مفتوحة على كل الاحتمالات.

لا شك أن مصير الشعوب وتاريخها لا يرتهنا بتقلب الأزمان ولا بتغير موازين قوى إقليمية أو دولية، والأهم من ذلك لا يرتهنا بمصير ومآل الأحزاب والنخب السياسية التي تفرزها كل مرحلة. فإذا كان صعود وسقوط دول وإمبراطوريات لم يلغ وجود الشعب الفلسطيني فإن هزائم وفشل أحزاب ونخب لن يلغي وجود الشعب والقضية، ولكنها تحتم إعادة النظر في البرامج واستراتيجيات العمل بل إعادة النظر في شرعية تحكم نفس القوى السياسية المأرومة بمصير الشعب الفلسطيني، ذلك أن الأحزاب والنخب لا تصنع الشعب والحقوق الوطنية ولكن الشعب هو الذي يصنع الأحزاب والنخب.

الحالة الفلسطينية المأزومة تستدعي مراجعة إستراتيجية شمولية لمجمل الحالة السياسية الفلسطينية وخصوصا للبرنامج الوطني الذي وضع في منتصف الستينيات وطرأت عليه تغيرات لاحقة لم تحض بموافقة كل القوى السياسية. نظرا للغموض الذي يشوب تشخيص الحالة الفلسطينية الراهنة وتعريف النظام السياسي والمشروع والبرنامج الوطني، فسنتطرق لهذه الأمور قبل تناول إستراتيجية المرحلة المقبلة.

المحور الأول: المشروع الوطني كنظام سياسي لحركات التحرر الوطني

هناك إشكال على مستوى استعمال المفردات والمصطلحات لتوصيف الحالة السياسية الفلسطينية فهل هي حركة تحرر وطني؟ أم سلطة وطنية؟ أم سلطة حكم ذاتي تحت الاحتلال؟ أم سلطة دولة؟ وفي ظل الانقسام أليس الأقرب للواقع الحديث عن سلطتين وحكومتين ومشروعين سياسيين واحد وطني وآخر إسلاموي؟ وينتج عن هذا الإشكال إشكال في النعت المناسب للمؤسسة السياسية الناظمة للحياة السياسية، هل هو النظام السياسي؟ أم منظمة التحرير الفلسطينية وميثاقها ومؤسساتها؟ أم المشروع الوطني؟ أم البرنامج الحكومي؟

إجرائيا سنستعمل مصطلح النظام السياسي لوصف كل أشكال الفعل السياسي والمؤسسات السياسية الفلسطينية التي تشتغل على القضية الفلسطينية سواء كانت رسمية أو غير رسمية، في السلطة او في المعارضة وبغض النظر عن أشكال الفعل السياسي الذي تمارسه: عسكريا جهاديا او سياسيا.

1- تعريف النظام السياسي

التعريف التقليدي للنظام السياسي هو نظام الحكم بمعنى المؤسسات الحكومية الثلاث: تنفيذية وتشريعية وقضائية، والتي تقوم بمهمة الدفاع عن الوطن ضد التهديدات الخارجية وضمان الترابط الداخلي، هذا التعريف للنظام يربط النظام السياسي بالدولة، وهو تعريف مستمد أساسا من التعريف التقليدي لعلم السياسة بأنه علم الدولة، إلا أن التطور الذي عرفه علم السياسة مع تطور وتعقد الحياة السياسية وتجاوزها لحدود الدولة، دفع بعلماء السياسية إلى تعريف علم السياسة كعلم السلطة، وعليه، أصبح النظام السياسي يعرف كمفهوم تحليلي أكثر مما هو نظام مؤسساتي مضبوط كما توحي كلمة نظام، وضمن هذه الرؤية عرفت موسوعة العلوم السياسية، النظام السياسي هو " مجموع التفاعلات والأدوار المتداخلة والمتشابكة التي تتعلق بالتخصيص السلطوي للقيم، أي بتوزيع الأشياء ذات القيمة بموجب قرارات سياسية ملزمة للجميع (دايفد استون)، أو التي تتضمن الاستخدام الفعلي أو التهديد باستخدام الإرغام المادي المشروع في سبيل تحقيق تكامل وتكيف المجتمع على الصعيدين الداخلي والخارجي (جابرييل الموند)، أو التي تدور حول القوة والسلطة والحكم (روبرت دولُ)، أو التي تتعلق بتحديد المشكلات وصنع وتنفيذ القرارات السياسية " .

هذا يعني أن النظام السياسي قد يشمل الدولة ولكنه قد يتجاوزها ليستوعب علاقات وتفاعلات سلطوية إما مشمولة بالدولة كالأحزاب والجماعات العرقية والطائفية ذات الثقافات المغايرة والمضادة للدولة، وإما تتعدى حدود الدولة كظاهرة الإرهاب الدولة أو العنف متعدي القوميات أو حركات التحرر الوطني أو التداعيات السياسية للعولمة.

وفي جميع الحالات، فان مؤشرات وجود الظاهرة أو التركيبة السياسية التي يمكن تسميتها بالنظام السياسي هي التالي:

أ - قيادة سياسية ذات سلطة أكراهية – بدرجة ما-.

ب- مؤسسات سياسية وإدارية مدنية وعسكرية واقتصادية

ج - هدف محل توافق وطني

د-إستراتيجية عمل وطنية

لا بد من الإشارة إلى أن النظام السياسي هو نسق فرعي بالنسبة للمجتمع، فهذا الأخير كنظام أو منظومة كلية يتشكل من عدة أنساق فبالإضافة إلى النسق- النظام- السياسي، هناك النسق الديني والنسق الاقتصادي والنسق الثقافي، واتساق هذه الأنساق وانسجامها مع بعضها البعض هو الذي يحفظ للمجتمع توازنه واستقراره، واختلال نسق من هذه الأنساق يؤثر سلبا على بقية الأنساق وبالتالي على استقرار المجتمع وتوازنه. وفي هذا يرى ديفد استون " إن الحياة السياسية هي جسد من التفاعلات ذات الحدود الخاصة التي تحيطها نظم اجتماعية تؤثر فيها بشكل مستمر "، وهو يعتبر ان النظام السياسي مثل (العلبة السوداء) ولا يهم ما يجري داخل العلبة بل علاقات النظام مع بيئته، وهذه البيئة على نوعين :الأول هو النظم الأخرى المكونة للنظام الاجتماعي العام كالنظام الاقتصادي والنظام الثقافي والنظام الديني الخ، والثاني مكون من البيئة الخارجية أو غير الاجتماعية، كالنظام البيئي، النظام البيولوجي، النظام النفسي والنظام الدولي.

هذه المقاربة النسقية لمفهوم النظام السياسي مهمة عند معالجة النظام السياسي الفلسطيني، فالحديث عن أزمة النظام السياسي الفلسطيني لا يعنى فقط أزمة تشكيل الحكومة ولا الصراع على المناصب بل أيضا وأهم من ذلك تأثير الاحتلال و الأجندة الخارجية والبعد الديني في الصراع سواء بين الفلسطينيين والإسرائيليين أو بين الفلسطينيين وبعضهم بعضا بالإضافة إلى المحددات الاقتصادية الناتجة عن الارتهان للتمويل الخارجي.

2- المشروع (البرنامج) الوطني ضرورة حياتية للشعوب الخاضعة للاحتلال.

لا تستقيم السياسات العامة للأمم والدول بدون رؤية، والرؤية هي الهدف وإستراتيجية تحقيقه، والرؤية عند الشعب الخاضع للاحتلال هي المشروع الوطني التحرري وبرنامج للعمل الوطني قابل للتكيف مع المتغيرات دون أن يفقد بوصلة الاتجاه نحو الهدف الاستراتيجي. لا يمكن أن ينجح شعب خاضع للاحتلال بدون مشروع وطني وثوابت متَفَق عليها تُلهم الشعب وتوحده وتستنفر قواه للدفاع عنها.

ما وراء الفشل المتعاظم والتخبط الواضح والتيه المعمم على مستوى كافة نخب ومؤسسات الحالة السياسية الفلسطينية، يكمن غياب الرؤية أو غياب المشروع الوطني وعدم ثبات برامج العمل الوطني وتعددها بتعدد الأحزاب .فشل المفاوضات والخلاف الداخلي حولها، الاختلاف حول مفهوم المقاومة، فشل المصالحة، الفوضى والفلتان الأمني والاجتماعي، الصراع على سلطة وهمية، فساد نخب ومجتمع مدني وحكومات، هجرة الشباب والانتقال من المطالبة بحق العودة إلى المطالبة بحق الهجرة، العجز عن القيام بانتفاضة جديدة وحتى عدم القدرة على ممارسة المقاومة الشعبية السلمية الخ، ليس ما سبق المشاكل الحقيقية أو جوهر القضية بل هي تداعيات ونتائج لغياب الرؤية أو المشروع الوطني بما يتضمن من ثوابت وطنية. استمرار التركيز على أزمة المفاوضات وأزمة المقاومة وغيرها، إنما هو هروب من جوهر المشكل وهو غياب مشروع وطني وثوابت وطنية، وهو غياب إما لعدم الإيمان بالمشروع الوطني أو لعدم القدرة على تحمّل استحقاقاته.

مع أن سؤال الأزمة صاحب المشروع الوطني الفلسطيني منذ ولادته إلا أنه تحول من سؤال حول أزمة المشروع الوطني إلى سؤال حول ماهية المشروع الوطني ثم سؤال حول الوجود بحيث يجوز التساؤل اليوم هل يوجد مشروع وطني فلسطيني؟

الواقع يقول إنه بالرغم من أن كلمة المشروع الوطني والثوابت الوطنية من أكثر المفردات تكرارا عند القوى السياسية الفلسطينية، إلا انه لا يوجد مشروع وطني ولا ثوابت محل توافق، بل ينتظر الفلسطينيون من يضع لهم مشروعهم الوطني، فكما صنع العرب منظمة التحرير بداية يبدو أن الفلسطينيين اليوم وبعد أن نفض العرب يدهم من القضية ينتظرون من الرباعية أو من إيران أن يصيغا لهم مشروعا وكيانا ولا بأس أن ينعته الفلسطينيون بالوطني أو مشروع مقاومة إن شاءوا.

قد يتساءل البعض كيف لا يوجد مشروع أو برنامج وطني وعندنا أكثر من خمسة عشر حزبا وفصيلا لكل منها برنامجها وإستراتيجيتها ونصفها يملك ميليشيات وقوات مسلحة؟ كيف لا يوجد مشروع وطني وكل الأحزاب تتحدث عن المشروع الوطني وتبرر عملياتها العسكرية بأنها من اجل المشروع الوطني والدفاع عن الثوابت الوطنية! وتبرر قتالها مع بعضها البعض بأنه من اجل المشروع الوطني؟ كيف لا يوجد مشروع وطني ولدينا حكومتان وسلطتان لكل منها أجهزتها الأمنية والشرطية ووزرائها وقوانينها وعلاقاتها الخارجية الخ ؟ كيف لا يوجد مشروع وطني وقد اندلعت حرب أهلية باسمه ودخل آلاف الفلسطينيين سجونا فلسطينية وقُتل بعضهم في هذه السجون وعُذب و آخرون باسم المشروع الوطني والدفاع عن الثوابت؟ كيف لا يوجد مشروع وطني وهناك منظمة التحرير الفلسطينية وميثاقها وقرارات مجالسها الوطنية ولجنتها التنفيذية والمجلس المركزي؟!.

وقد يقول قائل إن وجود شعب تحت الاحتلال يعني تلقائيا وجود مشروع وبرنامج تحرر وطني، وهذا قول يحتاج لمراجعة. صحيح أنه يوجد احتلال صهيوني ويوجد أكثر من 14 مليون فلسطيني يحملون الوطن معهم أينما حلوا وارتحلوا ويربون أبنائهم على حب الوطن و التوق للعودة إليه، و صحيح أن قرارات دولية تعترف للفلسطينيين بحق تقرير المصير وبعضها يعترف لهم بالحق في دولة الخ، ولكن، هذه أمور قد تضعف مع مرور الزمن أو تشتغل عليها إطراف محلية أو إقليمية ودوليه وتخرجها عن سياقها الوطني من خلال حلول جزئية وتسويات إقليمية.

إن كان يوجد مشروع وطني فما هي مكوناته من حيث الهدف والوسيلة والإطار والمرجعية؟ وإن كان يوجد ثوابت وطنية فما هي؟ هل هي المنصوص عليها في الميثاق الوطني قبل تعديله أم ثوابت ما بعد التعديل؟ هل هي التي تتحدث عنها حركة حماس، ام الثوابت التي تتحدث عنها حركة فتح، ام الثوابت التي تتحدث عنها حركة الجهاد الإسلامي الخ؟ أم الثوابت التي يتحدث عنها اللاجئون في الشتات؟

منظمة التحرير في وضعها الحالي لم تعد مشروعا وطنيا ممثلا لكل الشعب الفلسطيني ليس فقط بسبب تآكلها داخليا ولاعترافها بإسرائيل وصيرورتها ملحقا للسلطة واستحقاقاتها الخارجية بعد أن كانت مؤسِسَة لها، بل أيضا لأنها أصبحت جزءا من الخلاف الفلسطيني ولا تعترف بها حركة حماس والجهاد الإسلامي وتتحفظ على ممارساتها فصائل حتى من داخلها، فغياب توافق وطني حول المنظمة يقلل من أهمية اعتراف كل دول العالم بها، أيضا المفاوضات ليست مشروعا وطنيا، والسلطة و الحكومة ليستا مشروعا وطنيا، ومجرد الحديث عن مقاومة وحتى ممارستها بشكل فصائلي ليس مشروعا وطنيا.

لو كان عندنا مشروع وطني حقيقي ولو كان عندنا ثوابت محل توافق وطني ما كان الانقسام وما كان فشل المصالحة وفشل مئات جولات الحوار، لو كان لدينا مشروع وطني ما وُضِعت وثائق متعددة ومواثيق شرف كإعلان القاهرة 2005 ووثيقة الوفاق الوطني 2006 واتفاق القاهرة 2008، وورقة المصالحة التي تم التوقيع عليها في أبريل 2011 وبروتوكول القاهرة للمصالحة 2017 وكلها لم تنفذ حتى اليوم، لو كان لدينا مشروعا وطنيا وثوابت وطنية ما كانت كل المؤسسات القائمة فاقدة للشرعية الدستورية (حسب مقتضيات القانون الأساسي) ولشرعية التوافق الوطني، لو كان لدينا مشروعا وطنيا ما كان هذا التراشق والاتهامات المتبادلة بالخيانة والتكفير ما بين من يتحدثون عن المشروع الوطني، لو كان لدينا مشروعا وطنيا ما كان هذا حالنا وما كان هذا التدخل الفج من القوى الخارجية في قضيتنا الوطنية .

إن كان كل ما سبق من تشكيلات سياسية وبرامج حزبية ليس مشروعا وطنيا، فما هو المشروع الوطني ؟.ندرك جيدا صعوبة تحديد المشروع الوطني في الحالة الفلسطينية والصعوبة الأكبر في وضعه موضع التنفيذ، نظرا لتداخل الماضي مع الحاضر، الدين مع السياسة مع الاقتصاد، الوطني مع القومي مع الإسلامي، الشرعية الدولية مع الشرعية التاريخية والشرعية الدينية، ونظرا لطبيعة الاحتلال الصهيوني الاستيطاني ألإجلائي الخ، ونظرا لأن بعض مكونات النخب السياسية الفلسطينية وخاصة نخب السلطتين، بدأت تفقد إيمانها بعدالة القضية وبدأت حسابات السلطة والمصلحة الآنية تطغى عندها على حسابات المصلحة الوطنية، ومن هنا فإن أي توجه لإعادة البناء النظري للمشروع الوطني ووضع آليات لتنفيذه يجب أن يبدأ كخطوة أولى خارج حسابات السلطتين وخارج ارتباطات الحزبين الكبيرين ومن خلال التعامل مع الشعب الفلسطيني ليس كساكنة غزة والقطاع بل كشعب قوامه أكثر من 14 مليون مواطن.

إن استمر كل حزب وحركة في التصرف باعتبار أنه يمثل المشروع الوطني، واستمر في تحميل مسؤولية أي خلل أو تقصير أو عدم إنجاز للآخرين من الأحزاب أو للتآمر الخارجي فهذا سيؤدي لمزيد من ضياع ما تبقى من أرض وكرامة وطنية. لذا فالأمر يحتاج لتفكير إبداعي خلاق لتأسيس عقد سياسي أو مشروع وطني جديد، وإن كان الحديث عن مشروع وطني جديد يستفز البعض ممن قد يفسرون الدعوة بأنها تجاوز للأحزاب والنضالات السابقة، وهي ليست كذلك، فلنقل إننا نحتاج لاستنهاض الحالة الوطنية على أُسس جديدة. ومن حيث المبدأ فحتى نكون أمام مشروع وطني يجب توافق الأغلبية على مرتكزات أي مشروع وطني وهي: 1- الهدف 2- الوسيلة أو الوسائل لتحقيق الهدف 3- المرجعية 4- الإطار 5-الثوابت. وسنفصل لاحقا هذه العناصر.

3- المشروع الوطني الأول: مشاريع في مشروع

تم التعامل مع منظمة التحرير منذ قرار إنشائها بداية في قالمة العربية عام 1964 كتجسيد للكيانية السياسية الفلسطينية، من حيث وجود قيادة ومؤسسات: رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، واللجنة التنفيذية والمجلس المركزي والمجلس الوطني الفلسطيني والقضاء الثوري والكفاح المسلح الخ، كما حدد الميثاق القومي 1964 ثم الوطني 1968 الإستراتيجية والهدف، فكانت بداية إستراتيجية الكفاح المسلح ثم بالتدريج ومن خلال صياغات تحويريه ومبطنة تم الانتقال من الكفاح المسلح إلى العمل السياسي. هذا التحول بالإستراتيجية رافقه أو بالأدق كان نتيجة استعداد لتحوير الأهداف من تحرير كل فلسطين إلى القبول بدولة على أساس الشرعية الدولية.

كان النظام السياسي وحتى علم 1968 نظام حركة تحرر وطني تتمركز خارج فلسطين وتخضع للقيادة العربية المشتركة، وهو ما جعل المحددات الخارجية تلعب دورا كبيرا في قيام النظام السياسي- منظمة التحرير- بداية ثم التأثير والتدخل الفج في رسم سياساته وحركاته السياسية لاحقا. هيمنة فصائل الكفاح المسلح على المنظمة عام 1968 حرر منظمة التحرير نسبيا من التبعية العربية الرسمية ثم جاء قرار قمة الرباط 1974 بالاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا ووحيدا ليزيد من هامش الحرية إلا أن منظمة التحرير ومجمل القضية بقيت متأثرة بمحيطها العربي والإقليمي.

لم يكن النظام السياسي الفلسطيني - ومنذ أن وجدت القضية الفلسطينية كقضية كفاح من أجل الاستقلال وحق تقرير المصير - هو الفاعل الوحيد في رسم إطار الصراع وتحديد أهدافه وأبعاده، بل كان طرفا ضمن أطراف متعددة عربية ودولية. لا شك أن الشعب الفلسطيني هو المعني أكثر من غيره بالصراع بفعل وقوعه مباشرة في بؤرة الحدث وبفعل كونه الأكثر تضررا من مجريات الأحداث إلا أن دوره كفاعل كان مقيدا ومحكوما بالفاعلين الآخرين وبموازين القوى التي يصنعونها، وما كان يسمى النظام السياسي الفلسطيني الذي جسدته منظمة التحرير الفلسطينية هو في حقيقته ليس مشروعا وطنيا خالصا بل مشروعا خليطا من مشاريع أربعة: المشروع الوطني الفلسطيني والمشروع القومي العربي والمشروع الإسلامي والمشروع التحرري العالمي. وكنتيجة لذلك أيضا، فإن التحويرات التي طرأت على البرنامج الوطني والنكسات والهزائم التي تعرض لها النظام السياسي الفلسطيني عبر محطاته المأساوية البارزة 1967 هزيمة يونيو وضياع الضفة والقطاع، 1970 أحداث الأردن، 1982 الخروج من لبنان، 1983 الانشقاق داخل فتح و 1990 تداعيات الغزو العراق للكويت، ثم الدخول الاضطراري بعملية السلام وتوقيع اتفاقية أوسلو، وأخيرا الانقسام ... لم تكن نتيجة لتقاعس أو تقصير الشعب الفلسطيني ونظامه السياسي بل كان للأطراف الأخرى العربية والدولية المصنفة ضمن معادلة الصراع دور رئيس في حدوثها وتحمل مسئوليتها، كذلك الأمر بالنسبة للإنجازات السياسية التي تحققت، فلم يكن مرجعها فقط النضال الفلسطيني وفعالية النظام السياسي بل لعبت الأطراف الأخرى دورا في تحقيقها أو في تضخيمها.

ويمكن القول إن البرنامج الوطني الذي كان يتصدى له النظام السياسي الفلسطيني اختزن في ثناياه أربع قضايا أو مشاريع أو هو حصيلة لهم:

المشروع الأول: المشروع الوطني الفلسطيني الرافض للوجود الصهيوني في فلسطين والمتطلع للاستقلال إنه المشروع الذي يقف في الصدارة عند الحديث عن القضية الفلسطينية فهو عمادها وجوهرها وعامودها الفقري.

المشروع الثاني: القومي الوحدوي العربي حيث كانت كل القوى والأنظمة القومية تقول بتحرير فلسطين وتعتبر الوجود الصهيوني تهديدا للأمن القومي العربي وعائقا أمام الوحدة العربية، بل إن كثيرا من الأنظمة العربية كانت تعتبر تحرير فلسطين من أولى مهامها، وتحت شعار البعد القومي للقضية وقومية المعركة ووحدة المصير كانت الأنظمة- خصوصا القومية والثورية- تتدخل بشكل سافر في حياة الفلسطينيين وفي مسار مشروعهم الوطني.

المشروع الثالث: المشروع الإسلامي. نظريا جمعت فلسطين والقدس الشريف بما تمثلانه من رموز دينية وبما تجسدانه من معان روحية عميقة لدى المسلمين كافة كل المسلمين عرب وغير عرب، وتضمن خطاب الأنظمة والحركات الإسلامية ما يؤكد التزامها نظريا بتحرير فلسطين ورفض الوجود الصهيوني فيها من منطلق ديني، ولكن على مستوى الممارسة تفاوت العطاء وتباينت أساليب التعامل فهناك من المسلمين من اكتفى بالدعوات الصالحات للشعب الفلسطيني وهناك من رأى أن طريق تحرير فلسطين لا تمر القدس بل عبر كابول وكشمير بل حتى نيويورك وواشنطن. وفي زمن ما يسمى الربيع العربي هيمن الخطاب الديني على غيره إلا أن فلسطين كانت غائبة عن اهتمامات الاسلامويين بل عززت إسرائيل من مكانتها ونفوذها مستغلة فوضى (الربيع العربي).

المشروع الرابع: المشروع التحرري العالمي حيث كانت حركة التحرر العالمية تلتقي مع كل من المشاريع الثلاثة على قاعدة معاداة الصهيونية والإمبريالية ومحاربة الاستعمار بكل صوره وأشكاله، وكان على رأس حركة التحرر العالمية الاتحاد السوفيتي والصين ومجموعة دول المسكر الاشتراكي والتي دعمت ومدت حركات التحرر في العالم الثالث بما فيها حركة التحرر العربية وعلى رأسها حركة المقاومة الفلسطينية بالمال والسلاح ونسجت معها علاقات (إستراتيجية) عسكرية وسياسية اقتصادية وكانت أكبر نصير لها داخل هيئة الأمم المتحدة.

هذه المشاريع الأربعة كانت تتداخل مع بعضها البعض، تقترب من بعضها أحيانا فتتعزز مكانة النظام السياسي الفلسطيني، أو تتنافر وتتصادم فيتأزم النظام السياسي الفلسطيني وتنتكس القضية الفلسطينية. وبالرجوع إلى الميثاق الوطني الفلسطيني الذي رسم معالم النظام السياسي الفلسطيني نجد قوة حضور المحددات الخارجية الأربعة سواء عند تحديد الإستراتيجية النضالية، فمهمة التحرير لم تكن مسؤولية فلسطينية خالصة، حيث نص الميثاق أن الفلسطينيين (طليعة) الأمة العربية والإسلامية وحركة التحرير العالمية في معركة التحرير، وهدف التحرير هدف قومي وإسلامي، حيث فلسطين جزء من الأمة العربية ولم يكن مسموح للفلسطينيين بالتفريط بأي جزء منها حتى لدواعي المصلحة الوطنية الفلسطينية، حتى انه تم التنصيص في الميثاق القومي الفلسطيني على أن لا تمارس المنظمة أي سيادة على الضفة وغزة، وفلسطين أيضا وقف إسلامي لا يجوز التفريط بأي جزء منها.

حتى السلطة التي تمارسها القيادة الفلسطينية كانت سلطة معنوية أكثر منها سلطة سيادية، بسبب وجود المنظمة على ارض غير فلسطينية وخضوع الفلسطينيين للاحتلال، فالسلطة الإكراهية للقيادة الفلسطينية كانت تصطدم بالسلطة السياسية والسيادية لأنظمة أخرى، ولم يختلف وضع المؤسسات السياسية بما فيها التنظيمات المسلحة كثيرا من حيث ما تمارس من سلطة وسيادية أو من حيث قدرتها على تنظيم الشعب الفلسطيني.

فلا غرو إذن أن النظام السياسي الفلسطيني قبل 1988 كان محكوما بمعادلة معقدة ومستحيلة التحقيق وهي التوافق بين المحددات أو الشروط الأربعة المشار إليها، فأي إخلال بشرط من هذه الشروط أو تَرَجُع أي طرف عن التزامه سينعكس سلبا على النظام السياسي الفلسطيني وبالتالي على إنجاز البرنامج الوطني.

كان توازن هذه المشاريع الأربعة وتوافقها ولو على قاعدة الحد الأدنى هو الذي حكم النظام السياسي الفلسطيني خلال ثلاثة عقود، سواء في حالات احتدام الصراع والحرب أو في مرحلة البحث عن حلول سلمية للصراع، حيث كان لكل طرف مصلحة في استمرارية (التحالف) أو التنسيق فيما يتعلق بالشأن الفلسطيني إما من منطلق المصلحة المشتركة في مواجهة عدو مشترك أو لمصلحة خاصة لكل طرف، وكانت النظام السياسي الفلسطيني معني أكثر من غيره بالحفاظ على الترابط والتنسيق بين المشاريع الأربعة ولو على قاعدة الحد الأدنى، وكان دائم السعي لتعويض أي نقص في فاعلية أداء أي بُعد من الأبعاد الأربعة بتقوية وتعزيز فاعلية الأبعاد الأخرى. فغياب وانتكاسة المشروع القومي بعد حرب 67 تمت محاولة تعويضه بتقوية المشروع الفلسطيني وتصعيد الكفاح المسلح ضد إسرائيل وانتكاسة المشروع الوطني الفلسطيني بعد أحداث أيلول 1970 تم تداركه بتقوية الوجود الفاعل للقضية على المستويين العربي والدولي، وانتكاسة المشروع القومي العربي بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد جرت محاولة التقليل من مخاطرة بتقوية المشروع الوطني الفلسطيني وبتفعيل دور المشروع التحرري العالمي سواء على مستوى تعزيز مكانة القضية الفلسطينية بين دول العالم أو تفعيل قرارات الشرعية الدولية ومكانة المنظمة داخل الأمم المتحدة وفي المنظمات الدولية الأخرى، إلا أن ما لم يخطر على بال المخططين داخل النظام السياسي الفلسطيني أن تحدث الانتكاسة على كافة المستويات.

ارتهان النظام السياسي وبرنامج العمل الوطني للمحددات الخارجية كان جليا في التحويرات التي طرأت على البرنامج الوطني حيث كانت كل تراجع لأي من المشاريع المشار إليها أو التصادم معها يؤدي لخلخلة البرنامج الوطني وخفض سقف تطلعاته وصيرورته أكثر تطويعا لفكر التسوية وللبحث عن حلول وسط بأجراء تحويرات على المشروع الوطني تحت عنوان التكتيك السياسي تارة والعقلانية السياسية تارة اخرى.

فبعد أحداث الأردن عام 1970 وسلبية الموقف العربي تبنت المنظمة فكرة الدولة الديمقراطية على كامل فلسطيني عام 1971 والتي تمنح لليهود المقيمين على أرض فلسطين حقوق متساوية مع المسلمين والمسيحيين، فيما كان الميثاق لا يعترف بحقوق لليهود إلا الذين كانوا يعيشون فيها قبل 1947، وبعد حرب أكتوبر 1973 تبنت المنظمة فكرة المرحلية وتبنت البرنامج المرحلي الذي يتحدث عن سلطة وطنية مؤقتة، ومع توقيع اتفاقية كامب ديفيد ثم حرب لبنان 1982 والتقاعس العربي في نصرة الثورة اعترفت المنظمة بقرارات الشرعية الدولية وتطويع البرنامج الوطني لهذه القرارات وهو ما تم تبنيه رسميا في إعلان الدولة في الجزائر عام 1988، وجاءت حرب الخليج الثانية وما أدت من انهيار للنظام الإقليمي العربي ثم انهيار المعسكر الاشتراكي للارتماء في أحضان التسوية الأمريكية التي أدت إلى مؤتمر مدريد 1991ثم توقيع اتفاقية أوسلو 1993 التي أسست لسلطة الحكم الذاتي الفلسطيني وأخرجت البرنامج التحرري الوطني من ماهيته وأدخلته في متاهة جديدة.

المحور الثاني: تعدد البرامج وانقلاب السلطة على المشروع الوطني

1- محاولات متعثرة لإنقاذ المشروع الوطني:

تزامنت الانتفاضة الأولى 1987 ثم الإعلان عن قيام الدولة في اجتماع المجلس الوطني في الجزائر عام 1988 مع ظهور حركتي حماس والجهاد الإسلامي من خارج إطار المشروع الوطني والنظام السياسي الرسمي- منظمة التحرير الفلسطينية - وببرنامج ديني سياسي بمرجعيات وأهداف وتحالفات متعارضة مع البرنامج الوطني، وإن كان ظهور هذه القوى عزز من الانتفاضة واستقطب شرائح شعبية داخلية وخارجية داعمة للشعب الفلسطيني إلا أنها شكلت حالة انقسام حاد في النظام السياسي الفلسطيني مهدت بدورها لانهيار هذا النظام لاحقا. بالإضافة لظهور الإسلام السياسي الفلسطيني بأجندة مغايرة للبرنامج الوطني أوجد اتفاق أوسلو الذي وقعته منظمة التحرير مع إسرائيل عام 1993 خلخلة في مرتكزات النظام السياسي بل شكل خروجا عن البرنامج الوطني الأول، وبهذين المتغيرين باتت ثوابت البرنامج الوطني اقل بكثير من المتغيرات التي طرأت عليه.

نظرا لمحدودية الإمكانيات الفلسطينية: العسكرية والاقتصادية والديمغرافية – الشتات والاحتلال- فقد استمرت التدخلات الخارجية في لعب الدور الرئيس في توجيه النظام السياسي، إلا أن القوى المؤثرة اختلفت جذريا عن سابقاتها وهو اختلاف أدى لتحول النظام السياسي عن أهدافه وإستراتيجيته، فإذا كانت سابقا قوى صديقة أو حليفة تجمعها بالمشروع السياسي الفلسطيني قواسم مشتركة، فأنها هذه المرة قوى غير صديقة أو معادية لمنظمة التحرير ومشروعها السياسي، أو صديقة ولكن لها أجندة خاصة بها، أو صديقة ولكن غير مؤثرة.

إذن ما بعد أوسلو حدثت خلخلة للنظام السياسي الفلسطيني بعناصره الأربعة المشار إليها – القيادة والمؤسسات والهدف والإستراتيجية – صحيح انه مع تأزم مسلسل التسوية وتهرب إسرائيل من التزاماتها وخصوصا مع انتفاضة الأقصى – سبتمبر 2000- حاول النظام السياسي الفلسطيني أن يعود لمرتكزاته القديمة و يرمم السفن التي أحرقتها اتفاقية أوسلو سواء من حيث دعم أو السكوت عن ممارسي العمليات الفدائية، أو من خلال التأكيد على حق العودة وعدم التفريط بالثوابت أو إحياء مؤسسات منظمة التحرير وخصوصا اللجنة التنفيذية والمجلس المركزي والمؤسسات القيادة لحركة فتح وتغيير القيادة بعد وفاة الرئيس أبو عمار، ثم إجراء انتخابات بلدية وتشريعية وتشكيل حكومة وحدة وطنية الخ، إلا أن كل هذه المحاولات لم تفلح في إخراج النظام السياسي الفلسطيني من مأزقه بل وصل الأمر للانقسام الراهن.

التيه السياسي الراهن الذي يعاني منه النظام السياسي الفلسطيني ليس خللا ظرفيا وعابرا، بل خلل بنيويا قبل أن يكون وظيفيا، سواء تعلق الأمر بكل حزب وحركة على حدة أو من خلال ما تم تسميته بالمشروع الوطني القائل بدولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة عاصمتها القدس وحل عادل لقضية ألاجئين.

خلل الفصائل يكمن في كونها فصائل منفردة لا يجمعها إطار وطني واحد ولو ضمن ائتلاف كما كان الحال مع منظمة التحرير في سنوات السبعينيات أو جبهة تحرير فيتنام أو جبهة تحرير الجزائر الخ، والخلل أيضا في غياب استقلالية قرارها وتبعيتها لأجندة دول وأطراف خارجية لأسباب أيديولوجية وغالبا ما تؤدي التبعية الأيديولوجية لتبعية مالية والمال الخارجي له ثمن سياسي لا يتوافق غالبا من المصلحة الوطنية، هذا بالإضافة إلى أن تبعية حزب أو حركة لمرجعية خارجية يؤشر على ضعف الانتماء للوطن: ثقافة وهوية وانتماء، وهي تبعية تعيق الشراكة السياسية الوطنية بما فيها التوصل لإستراتيجية عمل وطني. أن يكون لكل حزب إستراتيجية سياسية وعسكرية خاصة به وميليشيات مسلحة بل ومستشفيات وجامعات ومعسكرات تدريب هذا لا يعني وجود إستراتيجية عمل وطني، ولا يندرج في إطار التعددية السياسية والحزبية التي تعرفها المجتمعات الديمقراطية، حال الأحزاب والحركات السياسية في فلسطين فئوية مدمرة للمشروع الوطني وكانت أهم أسباب فشله.

أما خلل (المشروع الوطني) الذي تقوده حركة فتح ومنظمة التحرير فيكمن، بالإضافة أنه لا يعبر عن توافق وطني حيث لا تقر به حركة حماس والجهاد الإسلامي وقوى أخرى، إنه مرتهن بالتسوية السياسية ولن تقوم له قائمة إلا في إطار تسوية سياسية تُقر بها إسرائيل، وذلك بسبب مرجعية هذا المشروع وهي الاتفاقات الموقعة التي تعتمدها المنظمة والسلطة لإنجاز هذا المشروع، وبسبب الجغرافيا السياسية حيث تفصل إسرائيل ما بين الضفة وغزة، ومن هنا تصبح إسرائيل وكأنها شريك في هذا المشروع الوطني.

إن كان هذا كان حال المشروع الوطني قبل الانقسام وفصل غزة عن الضفة وفي ظل وجود أفق للتسوية فكيف الحال الآن مع الانقسام ومع وصول مسار المفاوضات لطريق مسدود ووصول مشروع المقاومة عند فصائل غزة لطريق مسدود أيضا وانغلاق أفق المصالحة الوطنية؟

بغض النظر عن المرامي غير البريئة للبعض من القول بمأزق العمل الوطني الفلسطيني بكل أبعاده الوطنية واليسارية والإسلاموية، فإن واقع الحال يقول بأن النظام السياسي الفلسطيني بمؤسساته الرسمية وغير الرسمية وبنخبه الحاكمة وغير الحاكمة وما يرتبط به وبها ويدور حوله وحولها من إيديولوجيات وثقافات سياسية وتكوينات اجتماعية وبغض النظر عن الشعارات التي ترفعها :المقاومة والجهاد أو التسوية والمفاوضات، هذا النظام يعيش مأزقا وجوديا حقيقيا وخصوصا مع وصول حكومة اليمين الصهيوني مع نتنياهو للحكم في إسرائيل وانكشاف وهم المراهنة على الإدارة الأمريكية الجديدة بعد تراجعها عن مواقفها بشأن الاستيطان أيضا مع موجة التطبيع العربي الجديدة مع الكيان الصهيوني. أن يؤول واقع الحال بعد خمس وسبعين سنة من النكبة وبعد خمسين عاما تقريبا من تأسيس منظمة التحرير وثلاثين عاما من المفاوضات العبثية، و بعد انتفاضتين أزهقتا أرواح الآلاف من الشباب ودمار شامل في مؤسسات وبنية المجتمع، وبعد ستة عشر سنة من الحرب الأهلية وانقسام النظام السياسي...، أن يؤول الأمر بعد كل ذلك لهذا التيه السياسي وحالة التدمير الذاتي التي تمارسها القوى السياسية بحق بعضها البعض وبحق الوطن وهو الأخطر، فهذا يعني أن كل مكونات النظام السياسي تعاني خللا استراتيجيا بنيويا ووظيفيا.

لو كان الخلل ناتجا فقط عن اختلال موازين القوى مع العدو وتخلي من يُفترض أنهم أخوة وأصدقاء وشركاء لنا في المصير القومي والانتماء الإسلامي عن واجبهم، وهو أمر حاصل، ولو كانت صيرورة الحال لسوء الحال الذي نحن فيه يعود فقط للعدو وممارساته وتحالفاته وللمحيط الإقليمي لهان الأمر، بل وكان دافعا للشعب على مزيد من السير في نفس الطريق و لكان الشعب على استعداد لتقديم المزيد من التضحيات، فلا يمكن أن ننتظر من العدو إلا كل إرهاب وقمع، ولكن الواقع يقول بأن أخطاء داخلية لعبت دورا كبيرا في الخلل الحاصل وفي تمكين العدو من تحقيق أهدافه سواء على مستوى إفشال مشروع السلام الفلسطيني أو محاصرة خيار المقاومة أو إحداث الانقسام والفتنة الداخلية أو تكثيف الاستيطان واستكمال تهويد القدس.

لا تقتصر خطورة الأمر عند هذا الحد بل تتجاوزه لما هو اخطر، فبدلا من أن تعترف النخب الفلسطينية المأزومة بأخطائها وتفسح المجال لآخرين أو على الأقل تقوم بمراجعة نقدية شمولية تراجع فيها مسيرتها فتصحح ما أعوج من سلوك وتقَوِّمَ ما ثبت فشله من نهج وتحاسب حيث تجب المحاسبة، بدلا من ذلك، تمارس اليوم سياسة الهروب إلى الأمام بطرح خيارات لا واقعية أو بتحميل كل طرف الطرف الآخر مسؤولية ما يجري .

هذه النخب والأحزاب وبسياسة الهروب إلى الأمام التي تنتهجها تريد أن تبرئ نفسها وتهيئ الشعب ليقبل بتسيدها عليه مجددا في ظل الخراب القائم ولتسوقه نحو عبثية جديدة، عبثية قد تأخذ اسم (كل الخيارات مفتوحة)[1]من طرف نفس النخبة بل نفس الشخصيات التي قادت عملية المفاوضات تحت شعار (الحياة مفاوضات) بما مكن العدو من تكثيف مشروعه الاستيطاني والتغطية على جرائمه، أو عبثية التلويح بشعار المقاومة والانتفاضة ووحدة الساحات من خلال تطوير حماس للصواريخ وتلويحها بالاستعداد لتحقيق نصر جديد إن حاولت إسرائيل دخول قطاع غزة أو اعتدت على قادة المقاومة، وكأن حماس حققت بالفعل نصرا في كل نهجها المسلح السابق، وكأن غزة أكثر قدسية من القدس بحيث لا تجوز المقاومة ولا تُستعمل الصواريخ إلا دفاعا عن الإمارة الربانية في غزة.

2- ضرورة المراجعة الشمولية للمشروع والبرنامج الوطني

نتحدث عن مراجعة شمولية ليس بهدف التشهير بالقوى السياسية القائمة ولا تبشيرا بقوى ونخب جديدة قادمة قريبا، فلا يبدو في الأفق إمكانية ظهور قوى وطنية جديدة، ويبدو انه غير مسموح بظهور هذه القوى إلا إذا كانت بسقف سياسي أقل. مرد المطالبة بالمراجعة الشمولية والتي طالما طالبنا هو رد الاعتبار لمشروع وطني تحرري أطاحت به المفاوضات العبثية والمقاومة العبثية والصراعات الداخلية والمؤامرات الإقليمية بالإضافة للعدوان الصهيوني المستمر، مشروع لا يستمد مبررات ومشروعية وجوده من النخب السياسية لأنه ليس تجسيدا إرادويا لهذه النخب، ولا يستمد مشروعيته من محصلة موازين قوى إقليمية أو دولية، فهذه فاعلة ولا شك في التأثير على استراتيجياته وتحديد تخوم تحالفاته ولكنها لم تمنحه شرعية الوجود ولا تستطيع أن تلغي وجوده. إنه مشروع تحرر وطني يستمد مبررات وشرعية وجوده من عدالة القضية الوطنية الفلسطينية وهي عدالة مستمدة من التاريخ ومن اعتراف الشرعية الدولية بالقضية الفلسطينية كقضية تقرير مصير سياسي لشعب خاضع للاحتلال [2]، مشروع تحرر وطني يستمد مبررات وشرعية وجوده من واقع وجود شعب فلسطيني قوامه أكثر من أربعة عشر مليونا نسمة بما يميز هذا الشعب من ثقافة وهوية وانتماء للأرض لم تستطع كل سياسات العدو من تغييبها. هذا معناه أن المأزق والخلل هو مأزق نخبة وأحزاب وليس مأزق شعب عمره أكثر من أربع آلاف سنة لم تستطع كل جحافل الإمبراطوريات وتداول أشكال الهيمنة من شطب اسم فلسطين أو تذويبه، وهذا هو مصدر فخر الشعب الفلسطيني ومصدر قلق الكيان الصهيوني.

شعب بهذا العمق التاريخي، وقضية بهذه العدالة التي يتزايد اعتراف العالم بها يجب أن لا يُعلق مصيره ومصيرها بمصير أحزاب ونخب وبتعثراتها ومآزقها، وارتباطاتها الخارجية، القضية الوطنية والمشروع الوطني لا يستمدان شرعيتهم: وجودا وعدالة، من النخب والأحزاب، بل إن هذه الأخيرة هي التي تستمد شرعية وجودها ومبررات استمرارها من قدرتها على تحمل مسؤولية القضية الوطنية والسير بها نحو تحقيق الهدف وهو الحرية والاستقلال .الأحزاب والنخب مجرد أدوات أو تشكيلات مؤقتة، فيما القضية الوطنية كينونة وهوية تتسم بالاستمرارية والدوام. يجب أن تهجر القوى السياسية الأنوية الحزبية والإيديولوجية التي تجعلها تعتقد وتريد من الشعب أن يعتقد بأن التأييد الشعبي والرسمي الذي حظيت وتحظى به القضية الآن عالميا يعود الفضل فيه للأحزاب، هذه الأنوية مرفوضة أخلاقيا وواقعيا، العالم الخارجي لا يدعم القضية الفلسطينية بسبب تأييده لنهج وإيديولوجية الأحزاب لأن العالم يتعاطف مع قضيتنا لأنه يدرك بأنها قضية عادلة، يتعاطف مع الشعب الفلسطيني لأنه شعب ضعيف يتعرض لعدوان همجي بربري من دولة أكبر وأقوى منه عسكريا متحالفة مع دولة عظمى سيئة السمعة-الولايات المتحدة الأمريكية-، ما حرك الرأي العام العالمي ليخرج بمظاهرات ومسيرات ضد إسرائيل وحرك المنظمات الحقوقية والمنظمات الدولية لتطالب بتقديم قادة إسرائيل للمحاكم الدولية... ليست صواريخ حماس ولا مهارة المفاوض الفلسطيني، بل عدالة القضية ومعاناة الشعب.

بناء على ما سبق فلا الزعم بالشرعية التاريخية أو الشرعية الجهادية أو الشرعية الدينية للأحزاب والطبقة السياسية يمنحها الحق بمصادرة القضية الوطنية والاستحواذ عليها بعيدا عن ثوابت الأمة التي يتم صياغتها بالتوافق الوطني، والطامة الكبرى في هذا السياق عندما تدعي القوى السياسية، التي يفترض أنها حركات مقاومة، إنها تستمد شرعيتها من صناديق الانتخابات! طامة كبرى لأنه لم يحدث في التاريخ أن استمدت حركة تحرر وطني شرعية وجودها من انتخابات تجري في ظل الاحتلال، فالاحتلال بما هو نفي لحرية وسيادة الشعب يتناقض مع الانتخابات الديمقراطية بما هي تجسيد لإرادة الأمة، فأي سيادة وحرية تحوزها القوى التي تزعم بأنها تملك شرعية مستمدة من صناديق الانتخابات في ظل الاحتلال؟ أين الحرية والسيادة عند حركة حماس: تنظيما وحكومة في قطاع غزة؟ وأين الحرية والسيادة لحركة فتح والسلطة في الضفة الغربية.

حركات التحرر الوطني تستمد شرعيتها من الشعب الذي يلتف حولها لأنه يشعر بأنها تمثل أمانيه وأهدافه الوطنية وتقوده في معركة التحرر الوطني، تستمد شرعيتها من مقاومتها للاحتلال بكل أشكال المقاومة، الشعب الخاضع للاحتلال لا يضفي شرعية على حركة التحرر لأنها تمنحه راتبا وتسهل عليه متطلبات الحياة اليومية في ظل الاحتلال. تحويل وظيفة حركات التحرر من المقاومة الشعبية الواحدة والموحدة في ظل قيادة وحدة وطنية إلى سلطة وحكومة تؤَّمِن رواتب ووظائف لمنتسبيها يشكل حرفا لطبيعة مرحلة التحرر الوطني وأولوياتها بل خرقا للقانون الدولي الذي يحدد ويضبط مسؤولية دولة الاحتلال وحقوق الشعب الخاضع للاحتلال إن الوظيفة التي تقوم بها السلطتان والحكومتان في غزة والقطاع وظيفة (غير وطنية) لأنها تخفف عن دولة الاحتلال أعباء ومسؤوليات الاحتلال دون أن تمنح الشعب الحرية والاستقلال! وإن كان مقياس الحكم على شعبية وشرعية التنظيمات والهيئات القائمة في مجتمع خاضع للاحتلال هو قدرتها على تقديم خدمات للمواطنين، فإن أكبر حزب وأكثرها حضورا وتأثيرا هو (حزب وكالة الغوث) حيث تقدم وكالة الغوث خدمات وأجور لحوالي 72% من سكان غزة مثلا.

إن أرادت القوى والنخب السياسية المتواجدة في السلطة: سلطة غزة وسلطة الضفة، أن تُقيِّم نفسها كحركات تحرر وطني وتختبر شعبيتها ومدى تأييد الشعب لأيديولوجيتها ومبادئها وممارساتها، فلتوقِف الرواتب والامتيازات والرشاوى التي تقدمها، آنذاك ستكتشف أن نسبة المؤيدين الحقيقيين لها لن تزيد عن20%. لقد حولت الأحزاب والقوى والنخب المسيطرة في فلسطين المناضلين والمجاهدين إلى موظفين ومرتزقة وسلطت عليهم لعنة الراتب وبات الراتب بالنسبة لكثيرين منهم أهم من الوطن. الحالة الطبيعية أن المناضلين الحقيقيين والشعب بمجمله ينتزع من قوت غذاء أبنائه ليقدمه لحركات التحرر الحقيقية، الانتماء لحركات التحرر وللثورة يقوم على العطاء والبذل وليس الأخذ والاسترزاق. أن تقوم من يفترض أنها قوى تحرر وطني بتشكيل حكومات في ظل الاحتلال وتقدم رواتب وامتيازات للشعب من مصادر تمويل خارجية[3] لكل منها أجندة خاصة بها حتى وإن كانت متعارضة، فهذا يطرح سؤالا حول ماذا تعني الوطنية والمشروع الوطني واستقلالية القرار؟ وماذا تعني حركة التحرر الوطني؟ لقد وقعت كل الفصائل والحركات في مصيدة السلطة وأصابتها لعنة الراتب وهي لعنة ما كانت تصيبها لو لم تكن نخبها مستعدة لهذا الإغراء.

ومن المفارقات في المشهد السياسي الفلسطيني وخصوصا الحزبي، أن نشاهد أحزابا تتحدث عن انتصارات وتحتفل بانتصارات فيما المشروع الوطني والقضية الوطنية برمتها في حالة تراجع! كيف يمكن أن ينتصر حزب وينهزم وطن؟ أضف إلى ذلك ما نلاحظه من تضخم تعرفه أحزاب سياسية: تضخم مالي وتضخم في الشعارات والإعلام في ظل الانقسام والخراب المعمم للوطن، فهل وجدت الأحزاب والنخب لمصلحة القضية الوطنية أم بالعكس؟ يبدو أن بعض الأحزاب والقوى توظف القضية الوطنية ومعاناة الشعب لتعلي من شأن برنامجها وأيديولوجيتها، المهم بالنسبة لها هو الحزب والحركة نفسها أما الوطن والشعب فلهما رب يحميهما أو يُترك مصيرهما للأجيال القادمة، وبالتالي يصبح هدف بعض نخب الأحزاب والحركات السياسية يقتصر على كيفية توظيف معاناة الشعب لتغتني وتُسمن وتضمن حياة كريمة لأبنائهم وذويهم.

المحور الثالث: استقراء أسباب مأزق المشروع الوطني كمدخل لإستراتيجية جديدة

عود على بدء نقول، إن كانت أزمة المشروع الوطني وصلت اليوم لدرجة الاعتراف الصريح من القادة بالأزمة وبالطريق المسدود، إلا أن مأزق المشروع الوطني كان حاضرا وملموسا قبل ذلك بكثير وله محطات كثيرة كانت تستوجب التوقف عندها وعمل مراجعة إستراتيجية، بل يمكن القول إن المشروع الوطني ولد مأزوما، إلا أن المعاندة والمكابرة كانا سيد الموقف، مما فاقم من الأزمة وأوصلها إلى ما هي عليه اليوم.

كان من المفروض أن تكون وقفة المراجعة منتصف مايو 1999 عندما انتهت المرحلة الانتقالية للحكم الذاتي دون دفع إسرائيل ما عليها من استحقاقات بموجب اتفاقية أوسلو التي تقول بأن مدة سلطة الحكم الذاتي خمس سنوات بعدها تبدأ مفاوضات الوضع النهائي التي ستؤدي لإنهاء الاحتلال، آنذاك كان من المفروض أن يتم الإعلان عن تجسيد قيام الدولة، ولكن التحذيرات بل والتهديدات التي انهالت على الرئيس أبو عمار دفعته للتراجع عن قرار كان سيتخذه بهذا الشأن، وللأسف فإن التحذيرات والضغوطات جاءت من دول عربية كبيرة وخصوصا مصر وليس فقط من إسرائيل وواشنطن.

وكان يُفترض أن تحدث المراجعة الإستراتيجية بعد فشل مفاوضات كامب ديفيد الثانية عندما تم تهديد الرئيس أبو عمار إن لم يوقع على ما عرضه عليه الأمريكيون والإسرائيليون ولكن أبو عمار لجأ لمراجعة بطريقته الخاصة وبغياب إستراتيجية وطنية ونقصد بذلك انتفاضة الأقصى التي كان من الممكن أن تدشن لمرحلة جديدة لولا الصراعات الداخلية وتوظيفها لأغراض حزبية، فبدلا من أن تشكل انتفاضة الأقصى منطلقا لمراجعة تؤسس لحالة نضالية جديدة فاقمت من أزمة النظام السياسي عندما تحولت لحالة من الفوضى والفلتان الأمني وانتهت الانتفاضة بالانقسام، لقد جرى مع انتفاضة الأقصى ما جرى مع انتفاضة 1987 التي انتهت بتوقيع اتفاقات أوسلو أو كانت نتيجتها تسوية أوسلو![4].

وكانت المراجعة واجبة عندما اقتحم الجيش الإسرائيلي الضفة الغربية في أوج انتفاضة الأقصى في مارس 2002 ومحاصرة الرئيس بالمقاطعة وهي محاصرة شاركت فيها الأنظمة العربية عندما حالت بينه وبين مخاطبة شعبه والعرب والعالم عبر الهاتف أثناء القمة العربية في بيروت، بل وحوصر الرئيس ونهجه من أطراف فلسطينية أيضا.

وكانت المراجعة واجبة عندما قامت إسرائيل باغتيال الرئيس أبو عمار بالسم في نوفمبر 2004 وممن شاركوا في اغتياله كانوا على رأس مشيعيه، وبعضهم كان في مواقع متقدمة في قيادة المشروع الوطني والسلطة بعد غيابه.

كما كانت المراجعة الإستراتيجية واجبة عندما عم الانفلات الأمني مناطق السلطة خلال عامي 2005 و2006 ثم حدث الانقسام والحرب الأهلية.

وكانت المراجعة واجبة عندما قامت إسرائيل بأكبر عمليات استيطان في الضفة وتهويد القدس وعندما أعلنت عدم اعترافها بالاتفاقات الموقعة ثم شكل نتنياهو حكومة يمينية عنصرية متطرفة يقول بعض أعضائها أنه لا يوجد شعب فلسطيني وتقوم باقتحامات يومية للمسجد الأقصى، وعندما قام المستوطنون بمسيرة الإعلام في مايو 2023.

لو كانت تجري مراجعات دورية ولو جرت مراجعة إستراتيجية بعد أية من المحطات المشار إليها وخصوصا في المراحل الأولى لكان من الممكن تدارك الوضع وما كان وصل الحال لهذا المأزق المعمم.

لا غرو أن موجبات القيام بمراجعة شمولية كثيرة وعلى رأسها وصول المشروع الوطني ومجمل الحالة السياسية إلى طريق مسدود، وقبل محاولة استشفاف ممكنات الخروج من المأزق لا بأس من تلمس أهم أسباب عدم إجراء مراجعات إستراتيجية، وهي كما نرى:

أولا: غياب فضيلة وثقافة النقد الذاتي

المراجعة والمحاسبة جزء من ثقافة النقد الذاتي وهذه ثقافة وفضيلة لا تتوفر إلا عند النخب المنتمية لثقافة الديمقراطية أو التي نذرت نفسها لخدمة الوطن، هذه الثقافة غائبة عن النخب السياسية الفلسطينية كما هي غائبة عند كل النخب السياسية العربية التي تمارس المراجعة والمحاسبة بطريقتها الخاصة من خلال الانقلابات والمؤامرات أو ينوب عنها الخارج في إحداث وتوجيه المراجعة. غياب هذه الفضيلة عند النخب الفلسطينية يعود لغياب الديمقراطية داخل الأحزاب وبسبب مركبات نفسية عند قيادات ونخب العمل الوطني والإسلامي بكل أيديولوجياتها.

ثانيا: ضعف إن لم يكن غياب مؤسسة القيادة الجامعة.

تاريخيا هناك أزمة قيادة لدى الفلسطينيين، سواء بسبب عدم تعود الفلسطينيين على حكم أنفسهم بأنفسهم بسبب الاحتلال، وبالتالي عدم مراكمة تراث سياسي ومؤسساتي حول القيادة، أو بسبب الشتات وبالتالي صعوبة وجود مؤسسة قيادة كلية وشمولية عابرة للحدود. وتاريخيا اشتكى الفلسطينيون من ضعف وطنية قياداتهم التقليدية التي تدافع عن مصالحها أكثر من دفاعها عن الوطن، وما أشبه اليوم بالبارحة، حيث استمرأت قيادات سياسية التفرد بالزعامة والقيادة وتم اختزال الوطن بالحزب أو الحركة ثم اختزال هذه الأخيرة بالمكتب السياسي أو اللجنة المركزية وانتهى الأمر أخيرا بتمركز كل السلطات والصلاحيات بيد القائد الأوحد وثلة المستشارين المحيطين به[5].

سيطرة قيادات كارزماتية أو دكتاتورية: ثورية أو دينية على مركز القرار السياسي والمالي، دكتاتوريات تَزعُم امتلاكها الحقيقة المطلقة، يجعل من المراجعة والمحاسبة إهانة لها وتشكيك بقدراتها القيادية، وما يطيل من العمر السياسي للزعامات والأبوات هو عدم تعود الناس على التعامل مع مؤسسات وقوانين، حيث استمرئوا أن يكونوا رعايا يقودهم راع.

المؤشر الأهم على أزمة القيادة يتجاوز الشخصيات وقدراتها ليمس صفتها التمثيلية، فضعف القيادات جزء من المشكلة، والأخطر هو ضيق نطاق الصفة التمثيلية للقادة حتى وإن عملوا في إطار مؤسسة. غياب قيادة وحدة وطنية ثم الانقسام، أدى لضعف مؤسسة القيادة، فلا توجد اليوم مؤسسة قيادة تمثل كل الشعب ويخضع لها كل الشعب وجود قيادات بعدد الأحزاب والحركات السياسية لا يعني وجود مؤسسة قيادة، مؤسسة القيادة لا تكون إلا إن أخذت طابعا وطنيا كليا شرعيا.

ثالثا: غياب حالة شعبية ضاغطة على القيادات السياسية.

الثقافة السائدة تقلل من شأن المواطن لصالح الحاكم، غالبية الناس تعتقد أن الزعماء السياسيين قدر لا فكاك منه أو أنهم ربانيون (فلو لم يشأ الله أن يكونوا قادة لما كانوا) أو يعتقدون بأن لا حيلة لتغييرهم لأنهم مدعومون ومسنودون من قوى كبرى أو من دول إقليمية. أيضا المواطن لا يفكر بمحاسبة الحاكمين أو مطالبتهم بمراجعة سياساتهم ما دام هو نفسه لا يؤمن بمبدأ المراجعة والمحاسبة داخل بيته أو عمله. ثقافة الخضوع وبرادغم الطاعة هو ما يحكم علاقة المواطن بالقائد وخصوصا إن كان القائد يتصرف تحت غطاء الثورية والجهادية والدين. يضاف إلى ذلك إن شتات الشعب الفلسطيني ووقوع غالبية التجمعات الفلسطينية تحت سيطرة سلطات غير فلسطينية يُضعف من قوة تأثير الجمهور الفلسطيني في الضغط على قيادته. وقد حاول الشباب في مارس 2011 الخروج إلى الشارع مطالبين بإنهاء الانقسام متأثرين بالربيع العربي إلا أن محاولتهم فشلت بسبب قمع السلطتين وتخلي الأحزاب عليهم.

رابعا: انسلاخ الأحزاب عن منظومة حركات التحرر الوطني

حيث أصبحت القيادات التاريخية والمؤسِّسَة محاطة بنخب انتهازية ومصلحية راكمت الثروات وأقامت شبكة مصالح من الصعب التخلي عنها، وبالتالي تشعر أن كل مراجعة ومحاسبة قد تطيح بها ومن هنا تعمل على إفشال أي توجه في هذا السياق، وأسوأ مَن في هذه النخب هم أبناء وأقارب القادة، فتصبح النخبة الفاسدة مستقوية بأبناء وأخوة وأقارب الزعيم والقائد، والمؤسف أن غالبية أبناء قادة العمل الوطني والإسلامي لم يسيروا على نهج آبائهم بل درسوا في أرقى الجامعات الأوروبية والأمريكية وأصبحوا من أصحاب الملايين و الشركات الضخمة في داخل الوطن وخارجه وأسسوا شراكة مصالح حتى مع إسرائيليين وبعض أبناء القادة أصبحوا لصوصا وفاسدين ومتعاونين مع الاحتلال، وهكذا أصبحت هناك حالة انفصام شخصية وخطاب عند النخب السياسية، فهي تتكلم كحركة تحرر وتمارس كسلطة، وبالرغم من أن الشعب كما العالم الخارجي ينظر لهم ويعاملهم كفاشلين كحركة تحرر وفاشلين كسلطة سياسية، إلا أنهم مستمرون في غيهم .

خامسا: فساد السلطة/ السلطتين وتواطؤ النخب ومؤسسات المجتمع المدني.

الأزمات والمآزق التي مر بها الشعب والنظام السياسي كانت تُنتج نخب وطبقات مستفيدة في كافة الفصائل وسواء كانت في السلطة أو في المعارضة. فهناك أغنياء الانتفاضة وأغنياء المقاومة والجهاد وأغنياء السلطة وأغنياء بناء الجدار العنصري وأغنياء الحصار وأغنياء الأنفاق ....هذه النخب المستفيدة أصبحت نافذة في مراكز صنع القرار في غزة والضفة، وتشكلت معادلة ضمنية بأن يبرر كل طرف عدم القيام بمراجعة ومحاسبة داخلية بأخطاء وتجاوزات وتهديدات الطرف الثاني، بمعنى أن كل نخبة سياسية لكل حزب وفصيل وتحت شعار وجود تهديد العدو الصهيوني والمنافس الوطني تروج مقولة إن الظروف لا تسمح بالمحاسبة والمراجعة الآن، وأن يتحدث الطرفان عن الأخطاء السياسية لكل منهما بل وصل الأمر لدرجة الاتهام بالخيانة أو التكفير دون أن يثير أي منهما وبتعمق في ملفات الفساد المالي لدى الطرف الثاني هذا معناه التواطؤ على الفساد، وقد بان أن فساد سلطة وحكومة حماس لا يقل عن فساد السلطة الوطنية إذا أخذنا بعين الاعتبار الفترة الزمنية لكل منهما والإنجازات التي حققها كل منهما !. أضف إلى ذلك أن هذا الفساد للنخب والذي تغذية أطراف خارجية متعددة أرتبط به جزء كبير من الشعب الذي أصبح بدوره مستفيدا من الواقع[6]فمؤسسات المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية ليست بعيدة عن حالة الفساد والتواطؤ. ولكن أسوء ما نخشاه في هذا السياق، أن هذا التواطؤ للنخب سيتمظهر قريبا في توافق ضمني بين النخبتين المأزومتين، في الضفة وغزة أو في فتح وحماس، على تحويل التقسيم إلى تقاسم غير وطني، ما نخشاه أنه وبالرغم من عدائهما المعلن إلا أنهما سيواجهان معا أية قوة ثورية ونضالية جديدة وصادقة في مسعاها أو أية قوة متمردة تنبثق عن أي منهما وستواجهان معا أي أصوات مستقلة تتحدث عن فسادهما.

سادسا: الجهل السياسي.

كثير من قيادات العمل الوطني ونخبها تعتقد أن ما تقوم به هو الصحيح ويمثل المصلحة الوطنية، فثقافتها وخلفيتها الفكرية والعسكرية تجعلها تعتقد أنها حامية المشروع الوطني وحامية حمى الوطن وأن العثرات التي تواجه مشروعها السياسي تعود للتآمر الخارجي وليس لها ولنهجها. لقد لمسنا عمق الجهل السياسي لدى المفاوضين منذ مؤتمر مدريد حتى اليوم وذلك من خلال الاتفاقات الموقعة السياسية والاقتصادية ونصوصها الملتبسة والتي كانت تفسر دائما لمصلحة إسرائيل، ولا أدل من ذلك أن نكتشف وكما قال الرئيس أبو مازن إن المفاوضات كانت تسير بدون مرجعية ![7]ولاحظنا الجهل السياسي في التعامل مع الشرعية الدولية حيث تعاملت القيادة مع الشرعية الدولية تارة بالرفض المطلق لها وتارة بالارتماء بأحضانها، وحتى عندما أقرت القيادات بأهمية الشرعية الدولية تعاملت معها وكأنها دار ندوتنا أو احد دواويننا دون فهم وإدراك للآليات التي تحكم التعامل الدولي. وكان الجهل السياسي أكثر وضوحا وخطورة عند ممارسي الكفاح المسلح والجهاد، الذين اعتقدوا أن الكفاح المسلحة والجهاد مجرد حمل السلاح والاشتباك مع العدو جاهلين قواعد وقوانين الحرب وحرب العصابات، و جاهلين تَعقُد وتشابك الشأن العسكري مع السياسي مع الاقتصادي الداخل مع الخارج الخ, ولذا كانت النتيجة آلاف الشهداء وتدمير البنية التحتية دون أي إنجاز سياسي حقيقي .لا يمكن إجراء مراجعات دون الاعتراف بالخطأ ونخبنا السياسية تعتقد أنها منزهة عن الخطأ!. هذا لا يعني أن كل ما جرى من خراب للمشروع الوطني يعود للجهل بل للفساد دورا فيما جرى كما بينا، والخطورة عندما يجتمع الجهل السياسي مع الفساد السياسي عند نفس النخبة.

سابعا: غياب استقلالية القرار والارتهان لأجندة خارجية.

باتت كل مكونات النظام السياسي فاقدة لاستقلالية القرار بغض النظر عن الجهة التي يُصادَر القرار لصالحها، هذا الأمر يجعل القيادات تشعر بالعجز وألا جدوى أية مراجعة أو تصحيح للمسار ما دامت تؤمن بأن التغيير سيكون خارجيا ومهما فعل الفلسطينيون فلن يغيروا من الواقع، ومن هنا تصبح قوة الدفع تجاه الارتباط بالخارج أقوى من قوة الدفع نحو المراجعات الداخلية وبالتالي المصالحة في إطار سياسة الالتقاء وسط الطريق. كما أن الارتهان بالخارج يعيق المراجعات الداخلية لأن الحكم على صحة نهج أي تنظيم أو سلطة فلسطينية لم يعد يقاس اعتمادا على توافقها مع المصلحة الوطنية بل بمدى تجاوبها مع اشتراطات الخارج، وحيث أن الخارج مستفيد من الواقع الفلسطيني بل ويغديه فلن يسمح بأي مراجعات فلسطينية داخلية.

هذه الحالة موجودة منذ تأسيس منظمة التحرير التي تشكلت بقرار قمة عربية واستمرت الوصاية عليها لحين من الزمن، و حتى بعد ظهور نسبي لاستقلالية القرار الفلسطيني بقيت التدخلات العربية المباشرة أو من خلال التنظيمات التابعة للأنظمة تعيق أية مراجعات جذرية للعمل السياسي، كانت سياسة إرضاء كل الأنظمة العربية وحتى غير العربية أهم عوائق المراجعة والمحاسبة، وعندما حاولت حركة فتح عمل بعض المراجعات والمحاسبة تعرض بعض قادتها للاغتيال على يد محسوبين على الأنظمة، واليوم تزايد حجم وتأثير التدخلات الخارجية بالشأن الفلسطيني، فهي عربية وإقليمية إسلامية ودولية، وما نلاحظه من تهديدات إسرائيلية علنية وأمريكية مبطنة للرئيس أبو مازن إن هو أنجز المصالحة مع حركة حماس مؤشرا على هذه الضغوط.

ثامنا: المراهنة على الانتخابات ثم التهرب منها

لا شك أن الانتخابات في الدول الديمقراطية أهم آلية للمراجعة والمحاسبة حيث تتكفل صناديق الانتخابات بعملية الفرز، فمن خلال الانتخابات يعاقب الشعب المخطئين وغير الأكفاء ويوصل لمركز القرار من يعتقد انه الأكثر حرصا على مصالح الوطن، ولكن الانتخابات وحتى تقوم بهذه الوظيفة تحتاج لمؤسسات وثقافة ديمقراطية و فوق ذلك تحتاج لحرية المواطن في الاختيار والتعبير الحر عن رأيه، وهذا أمر غير متوفر في الحالة الفلسطينية حيث الاحتلال هو السيد. ومع ذلك فقد راهن الشعب والنخب السياسية على إمكانية إصلاح السلطة والنظام السياسي من خلال العملية الانتخابية المفروضة بمقتضى الاتفاقات الموقعة، هذه المراهنة أضعفت وغيبت، وخصوصا في الفترة الأخيرة، أي جهد للإصلاح والمحاسبة خارج العملية الانتخابية، وللأسف فإن الانتخابات الفلسطينية بدلا من أن تساعد على إصلاح النظام السياسي زادت من تأزمه وأصبحت الانتخابات بحد ذاتها إشكالا وقضية خلافية. ومع تجدد الحديث عن المصالحة وتوقيع الورقة المصرية للمصالحة تجدد الحديث عن الانتخابات كمخرج لأزمة النظام، ولا نعتقد أن الانتخابات ستُخرِج النظام السياسي من أزمته إن لم تكن مسبوقة بتوافق على أسس البرنامج الوطني.

تاسعا: ضعف دور الانتلجنسيا

دون الخوض بجدل أبستمولوجي حول وجود أو عدم وجود انتلجنسيا فلسطينية وعربية بشكل عام فواقع الحال وما أُصطلح عليه كمكون من مكونات المجتمع، وجود طبقة أو فئة المثقفين والمفكرين الذين يتميزون عن غيرهم بحرفة الكتابة والتنظير والتعبير عن كل ألوان الثقافة الوطنية، إنها الطبقة أو الفئة التي تعبر عن الثوابت والقيم الوطنية المتحررة –أو هكذا يجب أن تكون- من الحسابات الحزبية الضيقة.

تاريخيا كان يقال إن الشعب الفلسطيني يتميز بالثقافة وبمثقفيه الذين تركوا بصماتهم عبر العالم، ولكن الملاحظ أن دور هؤلاء في الوقت الراهن ضئيل وليسوا في مستوى الدور المُنتَظَر منهم، وهذا يعود إما لواقع الشتات وما يفرضه من قيود على حرية المثقف الفلسطيني في التعبير عن هويته الوطنية وممارسة دوره الوطني، أو لان المثقف لا يشعر أن السلطة والأحزاب القائمة تعبر عن تطلعاته الوطنية أو تجسد المشروع الوطني كما يرتئيه، أو لأن السلطة استقطبت كثيرا من هؤلاء المثقفين الذين تحولوا لأبواق تُجمل صورة السلطة ونهجها وبالتالي خانوا الأمانة وتخلوا عن دورهم الطليعي، كما أن عديدا من المثقفين فضلوا الانكفاء على أنفسهم والابتعاد عن الحياة العامة معتبرين أن المرحلة مرحة فتنة والأفضل تجنبها.

عندما يصبح الشعب المُحبَط منشغلا بضمان استمرار تأمين قوت يومه وخائفا على مستقبله، وعندما تصبح النخب السياسية منشغلة بالصراع على السلطة ومراكمة الثروة، فمن يدق الجرس ويدعو لكسر جدران السجن؟ إنهم المثقفون وأصحاب الرأي، وعندما يغيب هؤلاء يضعف الأمل بالتغيير أو تتقدم قوى جديدة تحت عنوان ثقافي أو أيديولوجي لتملأ الفراغ وتدق الجرس وهذه القوى اليوم هم المفتون والوعاظ ورجال الدين، فتملأ الثقافة الدينية المشوهة الفراغ الذي تركه المثقفون الوطنيون، ويحل رجل الدين محل المثقف وبالتالي يمارس رجال الدين عملية المراجعة والمحاسبة حسب رؤيتهم ومنطقهم ويؤسسون لبديل أيضا حسب رؤيتهم ومنطقهم وهو بديل كما بانت ملامحه لن يؤدي إلا لمزيد من التيه والضياع.

عاشرا: السلطة الفلسطينية

كان من المفترض أن تحل سلطة وطنية فلسطينية محل سلطة الاحتلال، ولكن الذي جرى انه أضيفت سلطة إلى جانب سلطة الاحتلال. حتى القوى التي كانت تنتقد السلطة تعيش اليوم على فتاتها أو تسعى لتصبح سلطة. ولأن غالبية الشعب والقوى السياسية أصبحت مستفيدة من السلطة، ولأن التفكير بالمراجعة يعني التفكير بحل السلطة، فقد باتت المراجعة والبحث عن بدائل للوضع السياسي الراهن يثير القلق عند شرائح اجتماعية وقوى سياسية متعددة.

لقد وقعت كل القوى السياسية تقريبا بإشكالية التوفيق بين السلطة السياسية المؤسساتية والعلنية والتي تعمل داخل الأراضي المحتلة وتعيش بمداخيل الدول المانحة التي تربط ما بين التمويل والالتزام بالأجندة السياسية الخاصة بهذه الدول من جانب، و زعمها بأنها حركة تحرر وطني مهمتها مقاومة الاحتلال من جانب آخر. الثورة وحركة التحرر لها فقهها واستحقاقاتها والسلطة الدولانية لها فقهها. واليوم باتت السلطتان والحكومتان عبئا على المشروع الوطني كمشروع حركة تحرر، مما يتطلب إعادة النظر بوظيفة السلطتين.

المحور الرابع: نحو إستراتيجية وطنية جديدة.

اليوم، لم تعد المراجعة التي تؤسِس لمشروع وبرنامج وطني جديد خيارا من عدة خيارات بل ضرورة وطنية. إن لم تأخذ قوى من داخل النظام السياسي الفلسطيني أو من داخل الحالة السياسية الفلسطينية بشكل عام المبادرة فهناك قوى وأطراف خارجية ستأخذها. منطقة الشرق الأوسط، والقضية الفلسطينية خصوصا، لا تسمح بوجود فراغ سياسي. تاريخيا كانت أطراف عربية وإقليمية تملأ فراغ غياب الفاعل الفلسطيني، ومنظمة التحرير في بداية ظهورها مثال على ذلك، هذا ناهيك أن مشاريع التوطين والوصاية والتدويل تخيم على أجواء الحالة الفلسطينية المأزومة اليوم. سياسة الترقيع والتلفيق والهروب إلى الأمام والتخفي وراء الأيديولوجيات والشعارات الكبيرة الفارغة لم تعد تجدي اليوم، الحقوق الوطنية المسلوبة لن تعيدها واشنطن ولا الرباعية ولا جيوش المسلمين والعرب ولا محور المقامة. نعم الشرعية الدولية ضرورية والتضامن العالمي مهم والأيديولوجيات مفيدة كأدوات للتعبئة والتحريض، إلا أن كل هذه الأمور لا تنوب عن فعل الشعب صاحب القضية.

المراجعة الشمولية المؤسِسة لمشروع وطني جديد أو المصحِحة لمسار المشروع الوطني كفكرة حاضرة ومبهمة عند الجمهور، يجب أن تتجاوز إفرازات المشكلة وتتعامل مع أصولها ومسبباتها الحقيقية.

المطلوب مشروع وطني جديد، ليس مشروع سلطة وحكومة بل مشروع حركة تحرر وطني يجمع ما بين مشروع سلام فلسطيني من جانب والحق بالمقاومة من جانب آخر.

1- مرتكزات المشروع الوطني المنشود:

المشروع الوطني التحرري الفلسطيني ليس شعارا أو صياغة لغوية جميلة ومتناسقة وليس محاصصة وتقاسم مغانم السلطة بين القوى السياسية، بل برنامج عمل وأسلوب حياة وإستراتيجية كفاحية للفلسطينيين كشعب ما زال خاضعا للاحتلال، كما أن الهدف من تأسيس أو إعادة بناء المشروع الوطني المنشود ليس فقط إيجاد مخارج للأزمات الراهنة كالانقسام ووجود سلطتين وحكومتين وأزمة انتخابات وأزمة مفاوضات الخ، بل هو بمثابة خطة طريق تسير عليها الأجيال الراهنة والأجيال القادمة إلى حين تحقيق الاستقلال الوطني.

المشروع الوطني أكبر وأشمل من السلطة والانتخابات والأحزاب، فهذه إن كانت تخدم هذا المشروع وتعززه كان بها وإن لم يكن فلا يمكن التخلي عن المشروع الوطني من اجلها. أيضا المشروع الوطني لا ينفصل عن الثقافة والهوية الوطنية ولا عن الثقافة الديمقراطية كثقافة تعددية، ففي ثقافتنا الوطنية متسع للجميع، ومن لا يؤمن بثقافتنا وهويتنا الوطنية وتنوعها وامتدادها لأكثر من أربعة آلاف سنة لا يمكنه أن يكون جزءا من المشروع الوطني فبالأحرى قيادته.

ثوابت الأمة وحقوقها الوطنية ليست حقل تجارب للإيديولوجيات عابرة الوطنيات، ولا تخضع لموازين القوى الإقليمية والدولية، عندما لا يعرف الشعب ثوابته ومرجعياته ولا تتوافق قواه السياسية على تعريف لها، فهذا يشكك في عدالة قضيته الوطنية. ما كان لأصحاب الإيديولوجيات القومية والإسلامية أن يتراموا على قضيتنا وينصِّبوا أنفسهم أوصياء لولا ضعف الحالة الوطنية وتفشي الخلافات الداخلية[8].التدخلات سواء باسم العروبة أو باسم الإسلام امتهان لكرامتنا الوطنية وتشكيك بحقنا بدولة، فلماذا يجوز للمصريين والسوريين والإيرانيين أن يكون لهم دول وطنية خاصة بهم فيما يُحرَم علينا إقامة دولة فلسطينية خاصة بنا؟ الدولة الوطنية الفلسطينية لا تعني القطع مع الأبعاد القومية أو الإسلامية للقضية.

عندما يكون للعرب والفكر القومي وللمسلمين والحركة الإسلامية عنوان واحد متفق عليه، فسنكون أول من يسير من ورائه ونسلمه مقاليد أمورنا، ولكن لن نتخلى عن هويتنا وثقافتنا الوطنية ولا عن حلمنا بدولة وكيان وطني يحفظ لنا كرامتنا وإنسانيتنا لصالح الآخرين، وطن يعيش فيه أبناؤنا مرفوعين الرأس بلا احتلال صهيوني ولا وصاية عربية، ولن نستمر معلقين بحبال وهم مدعو القومية والإسلاموية ليوظفونا كما يوظفوا شعارات القومية والإسلام لخدمة مشاريعهم الوطنية أو الإقليمية أو الحزبية إن لم يكن الشخصية.

هذا الكيان الوطني الفلسطيني ضرورة لأي مشروع قومي وحدوي عربي صادق أو مشروع وحدوي إسلامي صادق، مشروعنا الوطني رأس حربة لوقف توسع الكيان الإسرائيلي ببعديه الصهيوني واليهودي، فمن لا يقف إلى جانب المشروع الوطني التحرري الفلسطيني لا يمكنه أن يكون قوميا عربيا وحدويا ولا إسلاميا حقيقيا، كما أن المشروع الوطني الفلسطيني لن يكتب له النجاح بدون بعديه :العربي والإسلامي .هذا الهدف/المشروع الوطني يتطلب إخضاع كل الأيديولوجيات له بحيث تصبح إحدى مكوناته لا أن يُلحق المشروع الوطني بمشاريع قومية وإسلاموية مأزومة.

هذا الهدف الوطني يجب أن يكون محل توافق وطني ويتجنب التصادم مع الشرعية الدولية التي تعترف للشعب الفلسطيني بالحق في تقرير المصير السياسي على أرضه وبحقه في دولة خاصة به. الدولة هدف مشروع ولكنها ليست المشروع الوطني، فهذا سابق في وجوده على هدف الدولة وهو سيستمر ما استمر الاحتلال ويجب ألا يخضع للتجاذبات والمناورات حول مفهوم حل الدولتين. ولكن وحيث أنه يوجد توجه دولي لحسم الصراع في المنطقة على أساس حل الدولتين، فيجب أن نتوحد على مفهوم الدولة التي نريد، سواء كانت حسب قرار التقسيم أو دولة في الضفة وغزة، حتى إن كانت دولة على كامل فلسطين التاريخية فالمهم هو توافق وطني على هدف يناضل كل الفلسطينيين من اجله تحت قيادة وحدة وطنية، آخذين بعين الاعتبار عدم جدية إسرائيل في التعامل مع حل الدولتين وعدم قدرة المنتظم الدولي الآن على إجبار إسرائيل على الانسحاب من كل الأراضي المحتلة عام 1967 بما فيها القدس وعودة اللاجئين الفلسطينيين. هذا يعني أن الدولة هي إحدى المعارك التي على المشروع الوطني التحرري خوضها، وقد يضطر أيضا لخوض معارك ضد التوطين والتدويل والوصاية.

إعادة بناء وتأسيس المشروع الوطني كمشروع حركة تحرر وطني يعني التعامل مع شعب قوامه أكثر من 14 مليون فلسطيني في الداخل وفي الشتات، يتطلب تفعيل دور نصف الشعب الفلسطيني الذي رُكن على الرف منذ توقيع اتفاقات أوسلو دون تجاهل الأوضاع في غزة والضفة، الأمر الذي يتطلب أن يضع هذا المشروع على سلم اهتماماته رفع الحصار عن قطاع غزة ومواجهة الاستيطان والتهويد في الضفة والقدس.

مدخل هذا المشروع ليس بالضرورة الانتخابات التشريعية والرئاسية وليس التوافق على حكومة وحدة وطنية، بل إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية لتستوعب الكل الفلسطيني، لو تمكنا من بناء منظمة التحرير على أسس جديدة وبقيادة جديدة فسيكون حل بقية القضايا أيسر كثيرا، لن تنجح أية مصالحة أو شراكة سياسية أو مشروع وطني إن بقي أي فصيل فلسطيني خارج إطار منظمة التحرير الفلسطينية، لأن منظمة التحرير ليست حزبا أو فصيلا بل الكيانية السياسية التي يعترف بها العالم اجمع [9]. هذا المشروع الوطني الجديد يجب أن يُعيد الاعتبار للأبعاد القومية والإسلامية والدولية للقضية الفلسطينية على أسس جديدة لا تجعل المشروع الوطني ومجمل القضية ملحقة بهذا البعد أو ذلك.

من حيث المبدأ فالمشروع الوطني التحرري محل النقاش يجب أن يحسم من خلال التوافق في الأمور الخمسة التالية التي تشكل مرتكزات أي مشروع وطني وهي ما يجب أن تشتغل عليها أية مصالحة وطنية حقيقية:

أ‌) – الهدف:

نحن هنا نتحدث عن أهداف شعب خاضع للاحتلال وهي أهداف إستراتيجية متعالية مؤقتا عن المشاكل الفرعية الناتجة عن الصراعات الداخلية وتعقيدات الحياة اليومية والمناكفات السياسية الناتجة عن الانقسام. بعد صياغة والاتفاق على المشروع الوطني وتشكيل قيادة وحدة وطنية سيكون لهذه المشاكل الأولوية في التعامل وكثير منها سينتهي تلقائيا في حالة التوافق على المشروع الوطني. عندما نتحدث عن أهداف لمشروع وطني فإننا نتحدث عن بدائل لحالة التيه القائمة وللمشاريع غير الوطنية التي يتم العمل عليها علنا أو بطريقة خفية.

وعليه، فالهدف الاستراتيجي هو الإجابة عن: ماذا يريد الفلسطينيون؟ أو كيف يرون حقوقهم المشروعة؟ أو ما هو الحق الذي يناضلون من اجله؟ هل يريدون تحرير كل فلسطين من البحر إلى النهر؟ أم دولة في غزة والضفة بما فيها القدس؟ أم دولة ثنائية القومية على كامل فلسطين الانتدابية؟ أم دولة غزة؟ أم دولة غزة الموسعة لتشمل أجزاء من سيناء مقابل التخلي عن الضفة والقدس؟ أم دولة مؤقتة على جزء من الضفة وقطاع غزة؟ أم تقاسم وظيفي ما بين أجزاء من الضفة والأردن وإسرائيل؟ أم اتحاد كونفدرالي ما بين غزة وأجزاء من الضفة وربما الأردن أيضا؟ أم الأردن وطن للفلسطينيين؟ هل يقبل الفلسطينيون مبدأ تبادل الأراضي؟ هل يريد الفلسطينيون القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية المستقلة؟ أم يريدونها عاصمة لدولتين؟ هل يريد الفلسطينيون عودة كل اللاجئين إلى قراهم ومدنهم الأصلية؟ أم عودتهم لمناطق السلطة؟ أم حل مشكلة اللاجئين حسب قراري الأمم المتحدة 242 و 338؟

هل الفلسطينيون مستعدون لحسم الأمر بهذه الأمور بدلا من البقاء في حالة تردد وتوظيف خطاب سياسي علني شعاراتي وعاطفي وانفعالي وساذج ومستفز حول القبول بهدف مرحلي دون التخلي عن الهدف الاستراتيجي كالقول بقبول دولة في الضفة وغزة مع عدم التخلي عن الهدف الاستراتيجي وهو تدمير إسرائيل وتحرير كامل التراب الفلسطيني؟ وقبول حماس بسلطة محاصرة تحت الاحتلال في غزة مع استمرار رفع شعارات تحرير كل فلسطين! وهل من مصلحة الفلسطينيين ترك الهدف مفتوحا حسب التطورات وموازين القوى بحيث يتم الانتقال من هدف لآخر اعتمادا على موازين قوى إقليمية ودولية ليسوا طرفا أصيلا فيها؟ وهل يمكن للعالم القبول بمشروع وطني يقول بهدف مرحلي قائم على الشرعية الدولية وهدف استراتيجي معلن يقول بإنهاء دولة إسرائيل؟ وكيف يتم صياغة العلاقة بين المرحلي والاستراتيجي؟ وهل يمكن تحديد أهداف وطنية واستراتيجيات لتحقيقها اعتمادا على ممكناتنا الوطنية؟ كيف نفصل ما بين ما نريده كفلسطينيين، وما تريده أطراف عربية وإقليمية توظف القضية الفلسطينية لخدمة أجندتها الخاصة لأن المشروع الوطني لن يكون وطنيا إلا تحت راية الوطنية الفلسطينية كثقافة وهوية وانتماء؟ الخ.

ب) - وسائل وآليات تحقيق الهدف:

الاختلاف حول الهدف أثر سلبا على وسائل تحقيقه، بحيث باتت الوسائل تتكيف وتتحدد في كل مرحلة حسب الهدف المُعلن أو المُضمر وحسب موازين القوى الداخلية وحسب المصلحة والارتباطات الخارجية لكل حزب وحركة. ففي بداية الثورة الفلسطينية كان الكفاح المسلح هو الطريق الوحيد لتحرير فلسطين ثم أصبح الكفاح المسلح والعمل السياسي يسيران جنبا لجنب كوسائل للتحرير وأخيرا آل الأمر للسلام والتسوية السياسية كخيار استراتيجي وفي كل مرحلة كان التغيير في الوسائل مرتبطا بالتغيير في الهدف وفي التغير في النخب وفي تغليب حسابات السلطة على حسابات الوطن، مع عدم إسقاط دور الضربات التي تعرضت لها الثورة من العدو الصهيوني ومن الأنظمة العربية.

ضمن نفس السياق سارت حركة حماس ففي البداية كان الجهاد بما في ذلك العمليات الاستشهادية داخل الخط الأخضر الطريق الوحيد للتعامل مع اليهودية والصهيونية وإسرائيل، وكانت المفاوضات والتسوية السلمية والسلام والاعتراف بإسرائيل كلها أمورا مرفوضة، وعندما بدأت التسوية الخفية منذ قرار شارون بالانسحاب من غزة عام 2004 – تسوية فصل الضفة عن غزة - لإدماج حركة حماس في النظام السياسي الفلسطيني ووعدها بسلطة في قطاع غزة، أوقفت حركة حماس العمليات الاستشهادية داخل الخط الأخضر ثم أوقفت المقاومة المسلحة داخل الضفة الغربية وأخيرا أوقفتها انطلاقا من قطاع غزة، هذا التحول في الوسائل عند حركة حماس مرتبط بتحولها لسلطة ومرتبط بالتغير في الهدف، حيث باتت اليوم وكأنها تقبل بسلطة في قطاع غزة.

المشكلة لا تكمن في المقاومة كما لا تكمن في التسوية السلمية من حيث المبدأ، بل من الخطأ وضع تعارض ما بين المقاومة والسلام والتسوية السلمية، لأن المقاومة ليست قتالا من أجل القتال بل نضال من أجل الحق والسلام، والمقاومة بدون رؤية سياسية وهدف سياسي قابل للتحقيق تصبح نوعا من العمل الانتحاري أو الارتزاق الثوري والجهادي. المشكلة تكمن في غياب التوافق الوطني حول الوسائل واستراتيجيات العمل، فلا يجوز لحزب أو حركة – حماس والجهاد الإسلامي- أن تنهج نهج المقاومة المسلحة بما في ذلك العمليات الاستشهادية داخل إسرائيل فيما منظمة التحرير تعتمد خيار التسوية السياسية وتجلس على طاولة المفاوضات مع الإسرائيليين لتنفيذ اتفاقات موقعة، كما لا يجوز لفصائل مقاومة أن تستمر في إطلاق صواريخ والقيام بعمليات عسكرية فيما تلتزم السلطة الرسمية بالتنسيق الأمني مع إسرائيل، ولا يجوز لحركة حماس أن ترفض التهدئة وتستمر بإطلاق الصواريخ وهي خارج السلطة وعندما تصبح سلطة في غزة تعلن وقف إطلاق الصواريخ بل وقف المقاومة، بل وصل الأمر أن حركة الجهاد في القطاع دخلت في مواجهة بالصواريخ مع إسرائيل بينما وقفت حماس موقف المتفرج كما جرى في مايو 2023. هذا لا يعني رفض الجمع بين المقاومة والسلام بل رفض وجود استراتيجيات متعارضة بشأنهما، لو كانت المقاومة والمفاوضات تمارسان في إطار إستراتيجية وطنية وتحت رعاية قيادة وحدة وطنية لعضدت المقاومة من موقف المفاوض وأضفت المفاوضات شرعية على المقاومة.

الانقسام وفصل غزة عن الضفة أثر كثيرا على قدرة تحقيق الفلسطينيين لأهدافهم بأي وسيلة كانت، فلم تعد المشكلة في المقاومة المسلحة والمفاوضات فقط بل تجاوزت ذلك للوسائل الأخرى كالانتفاضة السلمية والمقاومة الشعبية. الفلسطينيون اليوم عاجزون عن إطلاق انتفاضة ثالثة أو مقاومة شعبية واسعة، هذا ناهيك أن نصف الشعب الفلسطيني في الشتات مُحيد عن ميدان المواجهة. وبالتالي لا يمكن الحديث عن مشروع وطني في ظل عدم اتفاق الأغلبية على وسائل تحقيق الهدف أي على الموقف من المقاومة والموقف من التسوية السلمية والموقف من المفاوضات، ما ذكرناه حول الموقف من المقاومة المسلحة يقال عن الموقف من المقاومة الشعبية ومن الانتفاضة ومن المفاوضات والتسوية السياسية، فلا يجوز القول بأن المفاوضات محرمة ومرفوضة إن مارستها حركة فتح والرئيس أبو مازن ومحللة وشرعية إن مارستها أو سعت إليها حركة حماس. ومن الواضح أن عدم الاتفاق على آليات ووسائل العمل لا يعود فقط لحسابات تغيير الهدف والتغيير في موازين القوى بل أصبح اليوم لحسابات تتعلق بالسلطة ومغانمها وبالارتباطات الخارجية لكل طرف.

ج) المرجعية:

المرجعية هي موئل الحق والهوية والثقافة، ومنها تُحدد الأهداف ووسائل العمل وهي التي تمنح هوية للمشروع الوطني الفلسطيني، هذه المرجعية إشكال أيضا، بسبب التداخل ما بين التاريخي والديني والسياسي والقانوني، وما بين الوطني والقومي والإسلامي، وبسبب الشتات وخضوع أغلبية الشعب الفلسطينية لسلطات غير وطنية لكل منها أجندتها ورؤيتها الخاصة للصراع في المنطقة. عندما تغيب استقلالية القرار وتتداخل الهويات يصبح الحديث عن مرجعية وطنية ومشروع وطني وثوابت وطنية أمرا صعبا. هذا التداخل صاحب مسيرة المنظمة منذ تأسيسها كما أشرنا سابقا وهو تداخل ما زال مستمرا حتى اليوم مع تغير في ترتيب المرجعيات من حيث الأهمية وهو تغير ناتج عن تغير القوى إقليميا ودوليا فأصبحت واشنطن والغرب أكثر حضورا من المعسكر الاشتراكي سابقا وروسيا حاليا، وحلت المرجعية الإسلامية محل المرجعية القومية العربية وزادت المرجعية الوطنية وهنَّا وتراجعا.

المرجعية اليوم تحتاج لإبداع خلاق ما بين الوطنية والقومية والإسلام، وما بين المرجعية التاريخية ومرجعية الشرعية الدولية، وما بين المرجعية الوطنية ومرجعية الأجندة الإقليمية. ولكن هل أن الاتفاق على المرجعية يكون من خلال الإطار القائم وهو منظمة التحرير الفلسطينية؟ أو من خلال حوارات بين المنظمة والقوى خارجها؟ أم يتم الاتفاق عليها من خلال الانتخابات؟ نعتقد أن مجلسا تأسيسيا منتخبا من فلسطينيي الداخل والخارج هو الجهة المؤهلة لصياغة المرجعية والأهداف.

د) الإطار:

نقصد بالإطار الكيان أو النظام السياسي أو قيادة وحدة وطنية. الإطار هو ما يستوعب ويوجه كل العملية السياسية الفلسطينية في الداخل والخارج ويتصرف ويتحدث نيابة عن الكل الفلسطيني. لا يكفي أن يكون الإطار معنويا كما يقال عن منظمة التحرير بأنها الوطن المعنوي للفلسطينيين بل يجب أن يكون مؤسساتيا أيضا.

قبل ظهور حركة حماس وقبل تأسيس السلطة الوطنية كانت المنظمة تمثل هذا الإطار، أما اليوم فالحاجة تدعو إما لإعادة بناء وتفعيل منظمة التحرير لتستوعب كل القوى السياسية الجديدة ليس على مستوى الكم فقط بل أيضا على مستوى الكيف أي على مستوى البرامج والتوجهات، أو التفكير بإطار جديد ينبثق عن مؤتمر شعبي وطني لجميع الفلسطينيين في الداخل والخارج. وجود إطار يعني وجود قيادة واحدة وممثل واحد للشعب الفلسطيني يتحدث نيابة عنهم ويتصرف باسمهم في كافة المحافل الدولية، والأمر ليس سهلا، فمثلا هل الدول والمنظمات التي اعترفت بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا ووحيدا مستعدة لتحويل اعترافها لإطار جديد يختاره الفلسطينيون بحرية أو يتكرر ما جرى مع تجربة انتخابات يناير 2006؟ وهل سيرث الإطار الجديد كل الالتزامات والاتفاقات التي وقعتها والتزمت بها منظمة التحرير أم يبدأ عهدا جديدا برؤية جديدة؟

هـ) الثوابت:

الثوابت كل ما هو محل توافق وطني، في حالة الاتفاق على العناصر الأربعة المشار إليها أعلاه تصبح ثوابت للأمة. داخل الثوابت يمكن للقوى والأحزاب السياسية أن تختلف في برامجها السياسية ولكن لا يجوز لها أن تختلف حول الثوابت ما دام الشعب يعيش مرحلة التحرر الوطني. بعد إنجاز الهدف وقيام الدولة يمكن للقوى السياسية وللشعب بشكل عام أن يعيد صياغة بعض الثوابت من خلال التوافق أو من خلال الانتخابات والاستفتاء العام.

2- آليات تنفيذ البرنامج الوطني الجديد:

المراجعة الإستراتيجية المؤسِسة لمشروع وطني جديد يجب أن تشتغل على مستويين وهدفين أحدهم عاجل وقصير المدى والآخر استراتيجي بعيد المدى مع تزامن العمل على المستويين: -

الهدف/المستوى الأول: عاجل ومرحلي (تقاسم وظيفي وطني)

لأننا لا نستطيع أن نتجاهل وجود القوى السياسية القائمة وخصوصا حركتي فتح وحماس، ولا نستطيع تجاهل وجود سلطتين وحكومتين متعاديتين، لذا يجب العمل على مصالحة أو تهدئة فلسطينية داخلية، مصالحة مؤقتة تضع حدا لحالة الانحدار بين كياني غزة والضفة. إنجاز هذا الهدف المرحلي والعاجل سيتعامل مؤقتا مع واقع فصل غزة عن الضفة وواقع وجود حكومتين وسلطتين، ليست هذه دعوة لتكريس الفصل بل التعامل معه مؤقتا للانتقال لمرحلة جديدة، وخصوصا أن شروط إنهاء الانقسام الاستراتيجي لم تعد خاضعة لقرار فلسطيني وهي غير متوفرة الآن، فحتى لو قررت حركتا فتح وحماس التصالح فلن يعود التواصل بين الضفة وغزة في إطار حكومة وسلطة واحدة بدون موافقة إسرائيل أو بدون تسوية سياسية تشارك فيها إسرائيل[10].

إذن بدلا من استمرار الحالة العدائية بين غزة والضفة يجب عمل مصالحة ضمن واقع الانقسام لحين تغير الأحوال. هذه المرحلة من المصالحة تحتاج لاعتراف كل طرف بأن الطرف الآخر شريك في النظام السياسي وله حق تقرير مصير هذا النظام ورسم خارطة المشروع الوطني الجديد، وتحتاج لوقف حملات التحريض والتخوين والتكفير، وتحتاج لوضع حد للاعتقالات المتبادلة، ونعتقد أن الثقافة والإعلام من أهم آليات تجاوز هذه المرحلة من خلال العمل على رد الاعتبار للثقافة والهوية الوطنية وتفعيل كل رموزهما. ونلفت الانتباه هنا أن ورقة المصالحة المصرية تقوم على أساس مصالحة مؤقتة في ظل استمرار الانقسام لحين من الزمن.

حيث إن عقبات متعددة تحوُّل دون إلغاء السلطة سواء في الضفة الغربية أو في غزة وتعيق إنجاز المشروع الفلسطيني للسلام، وتهدد السلطة والحكومة في غزة من خلال استمرار الحصار، فيمكن للمصالحة في هذه المرحلة أن تأخذ شكل توافق وطني في الضفة بين كل القوى السياسية والشعبية بما فيها حركة حماس والجهاد الإسلامي في ظل الحكومة القائمة هناك، هدف هذا التوافق أو المصالحة الجزئية هو مواجهة سياسة الاستيطان والتهويد في الضفة والقدس. في المقابل يجري توافق في قطاع غزة تشارك فيه جميع القوى بما فيها حركة فتح وفصائل منظمة التحرير، لرفع الحصار عن القطاع في ظل حكومة حركة حماس.

هذه المصالحة الوطنية المؤقتة والتي ستأخذ طابع التقاسم الوطني الوظيفي تشكل المدخل للمرحلة الثانية للإستراتيجية الجديدة أو المصالحة الوطنية الإستراتيجية من خلال تهيئة الظروف للانتخابات وفتح حوار جاد حول ثوابت ومرتكزات المشروع الوطني المشار إليها.

لا شك أن هناك مزالق وتخوفات من التعامل مع هذا المفهوم للمصالحة أو التقاسم الوظيفي المؤقت، حيث الخشية بأن يستغل بعض المستفيدين من حالة الفصل أي نجاح في المصالحة الأولى لتبرير حالة الفصل أو أن تستغل كلا الحكومتين التوافق الداخلي لإضفاء شرعية دائمة على وجودها يدفعها للتقاعس عن إنجاز المصالحة الوطنية الإستراتيجية. لتحاشي وقوع ذلك يجب العمل في آن واحد على المرحلة الثانية للإستراتيجية الوطنية، وهناك علاقة تفاعلية أو تأثير متبادل بين المصالحتين، بمعنى أن أي تقدم في أي مصالحة سيؤثر إيجابا على إنجاز المصالحة الأخرى والعكس صحيح.

الهدف /المستوى الثاني: إستراتيجي (التوافق والتراضي على ثوابت ومرجعيات القضية الوطنية).

الاشتغال على المرحلة أو المهمة الأولى للإستراتيجية الوطنية يجب أن يكون مواكبا للاشتغال على المرحلة الثانية بل يجب أن يكون الالتزام بإنجاز الهدف الأول (التقاسم الوظيفي الوطني) مشروطا بالالتزام بالهدف الاستراتيجي الاتفاق على الثوابت والمرجعيات، حيث يستحيل التقدم نحو الهدف الاستراتيجي دون إنهاء الانقسام. وعندما نقول تساوق الاشتغال على المستويين فذلك لأننا نحشى من أن واقع فصل غزة عن الضفة قد يستغرق وقتا طويلا لأن إسرائيل والقوى المستفيدة من حالة الفصل ما زالت قوية وفاعلة.

هذا التساوق لمساري المصالحة هو ضمان عدم تحول التقاسم الوظيفي الوطني المشار إليه إلى كيانين سياسيين دائمي الوجود. لهذه المصالحة الإستراتيجية مدخل أيضا وهو تفعيل وتطوير منظمة التحرير كمرجعية ناظمة للجميع، وفي هذا السياق يمكن الاستعانة بما ورد بورقة المصالحة المصرية حول تشكيل لجنة مشتركة عليا لضمان أن يستمر كيانا غزة والضفة ضمن مشروع وطني واحد. إذا كانت المصالحة الأولى، أي المصالحة العاجلة في ظل الانقسام القائم تتعامل مع الانقسام الأخير الذي نتج عن أحداث يونيو 2007، فإن المصالحة الإستراتيجية يجب أن تتعامل مع الانقسام الإستراتيجي السابق على تلك الأحداث والسابق لسيطرة حركة حماس على القطاع، هذه السيطرة وما لحقها من توترات وصدامات مسلحة هي نتيجة وإفراز لأزمة سابقة.

الإستراتيجية الجديدة ستكون مضطرة لإعادة طرح تساؤلات تم طرحها منذ تأسيس المنظمة ولم يتم الحسم فيها، ولأنها لم تحسم فقد عادت مجددا وبشكل أكثر تعقيدا. منذ أن وجِدت قضية سياسية تُسمى القضية الفلسطينية، وهي محل تنازع بين الأبعاد الوطنية والقومية والإسلامية والدولية، وتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية لم ينه حضور هذه الأبعاد وإن كان غيَّر في الأولويات. فهل نحن نقاتل إسرائيل لأنها عدو ديني تاريخي وبالتالي يجب اجتثاثها من الوجود، وفي هذه الحالة فالصراع يتجاوزنا كفلسطينيين ليشمل كل الأمة الإسلامية؟ أم نقاتلها كفلسطينيين لأنها ترفض حقنا بدولة مستقلة سواء كانت هذه الدولة حسب قرار التقسيم 194 لعام 1947 أو دولة في الضفة الغربية وقطاع غزة؟ غياب الرؤية الواضحة للهدف عند أصحاب الحق ينتج حالة من الإرباك حول تحديد وسائل تحقيق الهدف وحول معسكر الحلفاء ومعسكر الأعداء وحول مفهوم استقلالية القرار الوطني وجدواه، وهي أمور تجر أصحاب الحق إلى صراعات وحروب داخلية. غموض وعدم الاتفاق على (الأنا) في أي صراع يؤدي تلقائيا لغموض وتعميم مفهوم (الآخر)، الأمر الذي يربك الحالة السياسية وهو ما تعاني منه القضية الفلسطينية. هذا الغموض حول الأنا والآخر هو الذي مكن إسرائيل من تحشيد الصهيونية العالمية واليمين المسيحي ودول أخرى في مواجهة النضال الفلسطيني، وهو ما مكن تل أبيب وواشنطن من إدراج نضال الشعب الفلسطيني ضمن الإرهاب الدولي.

من المفهوم في السياسة، التعامل مع أهداف مرحلية وأهداف إستراتيجية، ومن المفهوم أيضا تعدد أساليب العمل لتحقيق الهدف، إلا أنه في جميع الحالات يجب على المرحلي أن يكون في خدمة الإستراتيجي كما أن تعدد أساليب النضال يكون ضمن نفس الهدف وفي إطار إستراتيجية وطنية واحدة وموحدة وليس لكل حزب هدف استراتيجي ووسائل خاصة به لتحقيق هذا الهدف. في الحالة الفلسطينية الأنا مبهم – وطني أم قومي أم إسلامي – ولا يوجد اتفاق على الآخر –إسرائيل أو اليهودية العالمية أو الصهيونية أو المسيحية أو أهل الكفر- والوسائل متعددة ومتعارضة –كفاح مسلح وجهاد؟ أم انتفاضة شعبية؟ أم مفاوضات وحل سلمي[k1] ؟_هذا الأمر يخلق حالة إرباك في تحديد معسكر الأصدقاء ومعسكر الأعداء، أيضا فإن عدم التحديد يجعل العالم لا يعرف ما الذي يريده الفلسطينيون بالضبط وما هي مرجعيتهم السياسية.

إن لم نتدارك الأمر بالمصالحة الإستراتيجية، فسيسير النظام السياسي نحو مزيد من التفكك. حركة فتح لن تبقى موحدة وكان المؤتمر السادس بداية التصدع فبعد المؤتمر فقدت حركة فتح كينونتها كحركة تحرر وطني، وحركة حماس ستشهد مزيدا من الانحسار كلما توغلت في السلطة والحكم واستمرت ملتزمة بالهدنة، وقد تشهد انقسامات داخلية وخصوصا بين تيار وطني وتيار أممي مرتبط بجماعة الإخوان المسلمين وتيار سينحو نحو التطرف .بطبيعة الحال لن يكون مصير بقية القوى السياسية بالأفضل، وقد نشهد ظهور العديد من التيارات أو الأحزاب بمسميات المستقلين أو أية مسميات أخرى يقودها رجال أعمال ورجال دين، إلا أن هذه القوى لن تشكل استنهاضا للحالة الوطنية بل ستزيد من التيه ومن فرص تدخل أطراف خارجية.

التخوفات الأكثر مأساوية هي فقدان ما تبقى من الضفة، وقد نشهد قريبا حربا أهلية في قطاع غزة. إسرائيل لن تُمكِن الفلسطينيين من دولة ذات سيادة في الضفة الغربية، وحتى تبعد الأنظار عما يجري في الضفة وحتى تلهي الفلسطينيين وتُرضي أصدقاءها ممَن لهم تطلعات سلطوية غير قادرين –أو غير مسموح لهم-على تحقيقها في الضفة فستخلق المناخ المناسب لفتنة وحرب أهلية في القطاع، كما سبق وهيأت المناخ لـ (الانقلاب) الذي أقدمت عليه حركة حماس في يونيو 2007.حرب أهلية حول مَن يحكم قطاع غزة: حركة فتح أم حركة حماس؟ وقد تشارك جماعات أخرى في هذه الحرب، كما سيكون للعملاء دور مهم في هذه الفتنة. سكوت إسرائيل عن حكم حماس في الضفة ليس قبولا نهائيا أو موقفا استراتيجيا وليس عجزا، بل لهدف تكتيكي، وعندما تشعر إسرائيل بأنها حققت هدفها من الانقسام فستنقل المعركة لقطاع غزة.

خاتمة

بالرغم من أن الثورة الفلسطينية المعاصرة مرت بعديد الأزمات والمنعطفات الخطيرة منذ أيلول الأسود في الأردن 1970 إلى خروج قوات منظمة التحرير من لبنان 1982، والخلافات السياسية الناتجة عن توقيع اتفاقية أوسلو وقيام السلطة الوطنية، وأخيرا الانقسام وفصل غزة عن الضفة، إلا أنه في كل هذه المنعطفات كان يوجد أمل بتجاوز هذه الأزمات، ولكن مع التحولات والمتغيرات الأخيرة منذ تولي ترامب للإدارة الأمريكية والتزام خلفه بايدن بنفس السياسة المعادية للفلسطينيين والمنحازة بلا حدود للكيان الصهيوني، ومع وصول حكومة يمينية عنصرية برئاسة نتنياهو تضم متطرفين عنصريين أمثال بنغفير وسموترتش ينكرون حتى وجود الشعب الفلسطيني، ومع التطبيع العربي الزاحف، ومع وصول حوارات المصالحة لطريق مسدود... مع كل ذلك فإن حركة التحرير الفلسطينية والمشروع الوطني باتا محل تهديد وجودي بل يجوز التساؤل إن كان ما زال هناك مشروع وطني تحرري بالفعل؟

وهذا يتطلب سرعة التحرك والعمل لإنقاذ القضية والشعب، ومهمة الإنقاذ لا تعود للأحزاب والطبقة السياسية المأزومين ولا للسلطتين بل لحراك شعبي عام يستنهض منظمة التحرير الفلسطينية أو يُنتج مشروعا وطنيا جديدا وقيادة جديدة.

***

أ. د. إبراهيم أبراش

أستاذ العلوم السياسية - جامعة الأزهر بغزة

.............................

[1] -(كل الخيارات مفتوحة) شعار الأقوياء وليس شعار الضعفاء، وبالتالي فلا محل ولا قيمة لهذا الشعار في الساحة الفلسطينية وخصوصا في ظل حالة الانقسام، فعندما يفشل خيار التسوية ويفشل خيار المقاومة فأية خيارات أخرى. إن استمرت حالة الانقسام لن تنتج إلا مزيدا من الهزائم أو خيار(عليَّ وعلى أعدائي).

[2] -نشير هنا أن الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني عام 1974 وصدور عشرات القرارات الدولية لصالح الشعب الفلسطيني جاء في وقت كانت تمارس فيه المنظمة الكفاح المسلح وتصنف كحركة إرهابية في غالبية الدول الأوروبية. فرضت المنظمة نفسها بالرغم من كل ذلك لأنها بالإضافة إلى الظروف الدولية المواتية كانت تمثل الكل الفلسطيني، بمعنى أن وحدة الشعب ووحدة ووحدانية القيادة هو ما جعل العالم يحترمنا.

[3] - عملت إسرائيل على تدمير الاقتصاد الفلسطيني من خلال بروتوكولات باريس الاقتصادية المتممة لاتفاقات أوسلو ومن خلال إجراءات على الأرض كمصادرة الأراضي الزراعية أو تقطيع أوصالها ومن خلال تدمير المنشئات الصناعية وفرض قيوم على تصدير المنتجات الفلسطينية وإدخال المواد الخام أيضا من خلال شراكة مذلة مع نخب اقتصادية فلسطينية. كان الهدف من هذه الإجراءات تجويع الشعب لإجباره على القبول بأي حل سياسي. هذه السياسة لم تنجح ولكنها أدت لتبعية الاقتصاد والمجتمع الفلسطيني لجهات مانحة أجنبية وهي تبعية مضرة بالمشروع الوطني ومعيقة له.

[4] - انتهت انتفاضة 1987 بتوقيع اتفاقية أوسلو وانتهت انتفاضة الأقصى بالانقسام. فهل كانت الانتفاضتان عفويتين أم موجهتين ومخطط لهما؟ إن كانتا عفويتين فيمكن تفهم ما جرى لهما وبالتالي لا نحمل القيادات السياسية مسؤولية مآلهما ولكن القيادات والفصائل تقول بأن الانتفاضتين كانتا موجهتين من قبلهما، معنى هذا أن الفصائل وخصوصا حركتا فتح وحماس وجهتا أو وظفتا الجماهير المنتفضة لهذه النهاية، حركة فتح وجهت انتفاضة 1987 لتمرير نهج التسوية وتوقيع اتفاقية أوسلو، وحركة حماس وجهت انتفاضة الأقصى للانقلاب على النظام السياسي ولتسيطر على قطاع غزة.

[5] -غالبية مستشاري الرئيس أبو مازن، شخصيات غير شعبية وبسمعتها سيئة وفشلوا إما في الانتخابات التشريعية أو انتخابات مؤتمر حركة فتح أو فشلوا وأبعدوا عن أحزابهم، مما يثير التساؤل حول المعايير التي على أساسها يتم اختيار هؤلاء وهل هم متواجدين بإرادة الرئيس أم مفروضون عليه من قوى خارجية؟

[6] -يوجد ما يمكن اعتباره رشوة جماعية للشعب: الدول المانحة من خلال الرواتب والمشاريع، وكالة الغوث، المنظمات الأهلية، الدول الإقليمية والعربية من خلال الأموال التي تقدمها مباشرة للسلطة أو غير مباشرة للتنظيمات، جماعات الإسلام السياسي عبر العالم الخ، كل ذلك جعل أكثر من نصف الشعب الفلسطيني يتقاضى راتبا أو ما يوازيه من المساعدات وهو جالس في بيته، وهذا خلق مجتمعا غير منتج وبالتالي مرتبطا بهذه الجهات الخارجية، وبالتالي غير متحمس لتغيير الحال ما دامت نخبه وأحزابه غير معنية باستنهاض الحالة الوطنية.

[7] -جريمة المفاوضين الفلسطينيين لا تقل عن جريمة إسرائيل في موضوع الاستيطان لأنه لا يُعقل أن يستمر المفاوضون الفلسطينيون بالتفاوض حول موضوع الاستيطان لمدة ثمانية عشر عاما فيما الاستيطان يتواصل بتسارع وفيما يوجد مرجعية دولية تقول بعدم شرعية الاستيطان في الأراضي المحتلة؟ والأخطر من ذلك أن نفس الفريق المفاوض الفاشل ترقى تنظيميا ووظيفيا وقاد ماراتون إعلان تجسيد قيام الدولة! وقد رأينا نتيجة ذلك، فلا يعقل أن الذين يفشلون في إنجاز المهام الأصغر يمكنهم إنجاز المهام الأكبر؟

[8] - إذا كانت حركة حماس والجهاد الإسلامي تمثلان تيارا إسلاميا مرتبطا بالإسلام السياسي الخارجي، فلماذا لا تتوحد القوى الوطنية في إطار واحد لمواجهة هذا التيار الأصولي؟ لماذا لا يعيد التيار الوطني بكل فصائله بناء منظمة التحرير ثم يطلب من حماس والجهاد المشاركة وإن رفضا يتم مواجهتهما متحدين؟

[9] -ندرك الحالة المتردية لمنظمة التحرير مؤسسات وشخصيات وبالتالي لا ندافع عن واقع المنظمة بل عن صفتها المعنوية والسياسية حيث من خلالها يعترف العالم بالشعب الفلسطيني وبقضيته السياسية ومن خلالها يتواجد تمثيل الشعب الفلسطيني في كل المنظمات والمحافل الدولية لو انتهت المنظمة أو شكل الفلسطينيون هيئة جديدة سيحتاج الأمر لجهود مضنية حتى تكتسب اعترافا دوليا وقد لا يحدث ذلك في ظل واقع النظام الدولي الجديد وعليه سيكون من الأفضل الحفاظ على المنظمة مع تطويرها وتوسيعها لتستوعب كل القوى السياسية، وفي داخلها يمكن تجديد المشروع الوطني .

[10] -لم يعد حل السلطة قرارا فلسطينيا خالصا بالرغم من أنها تأسست شكليا بقرار من المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية فحيث إن السلطة باتت تخدم استمرار الوضع القائم وتحضا بقبول الرباعية فإن إسرائيل والرباعية مستعدون لضمان استمرارية السلطة ضدا عن إرادة منظمة التحرير، وبالتالي يصبح المطلوب إعادة النظر بوظائف السلطة لا حلها.

***

في المثقف اليوم