آراء

محمود محمد علي: مجزرة مستشفيي المعمدان.. محرقة إسرائيلية!

استهداف المدنيين محظورا بموجب القانون الدولي، واستهداف المستشفيات المدنية محظورا أيضا وفق المادة 18 من قانون جنيف الرابعة لعام 1949، بل يتوجب على أطراف النزاع احترامها وحمايتها في جميع الأوقات، لكن هل تحترم إسرائيل القانون الدولي وحرمة المستشفيات والمنشآت المدنية؟.

للأسف ففي الساعة السابعة وتسع وخمسون دقيقة بتوقيت غزة .. السابع عشر من أكتوبر – تشرين الأول عام 2023 .. المكان مستشفيي المعمداني أو المستشفى الأهلي العربي أو سمه كما شئت.. لحظة حبس العالم أنفاسه لدقيقة ليستوعب ما جرى .. الساعة الثامنة بتوقيت غزة الكل فتح أعينه على مئات الضحايا، والسبب غارة إسرائيلية لم تترك جريحا أو مسعفا أو حتى طبيبا كانوا يريدون قمة في عمان علها تعيد للعالم بعض الصواب بعد كل هذا الجنون، فقررت إسرائيل إعادة الجميع للقاع .

بدوره، أكد رئيس مكتب الاعلام الحكومي في غزة سلامة معروف أن مجزرة المستشفى المعمداني التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي تعدّ مجزرة القرن الواحد والعشرين، وهي امتداد لجرائمه منذ نكبة الشعب الفلسطيني عام 1948م، موضحا أنه حتى هذه اللحظة هناك انتشال لأشلاء من موقع مجزرة المستشفى المعمداني التي تعمّد الاحتلال استهدافها بشكل مباشر والمدنيين النازحين إليها منتهكاً كل الأعراف والقوانين الدولية وما يسمى أخلاق الحرب.

ووصف معروف أن ما جرى هي محرقة إسرائيلية في تعمد إسرائيل واضح لقتل المدنيين من الأطفال والنساء والأطقم الطبية والصحفية، لافتا إلى أن هذه الجريمة تثبت للعالم أن الاحتلال لن يتوقف عن القتل والدمار، ولا زالت شهيته مفتوحة لمزيد من المجازر، دون خشية من عقاب أو محاسبة أو لوم، بعدما لم يستطع العالم حتى فرض ممرا إنسانيا لإدخال الحاجيات الأساسية من دواء وغذاء ووقود إلى غزة لمواجهة النكبة الإنسانية والعدوان المتواصل.

طائرة جو بايدن التي كان خط سيرها واشنطن – عمان، جرى بمسارها بعض التغيير، وطائرة محمود عباس التي أقلعت إلى عمان استدارت وعادت إلى رام الله، وطائرة السيسي التي كان من المقرر لها أن تغادر القاهرة إلى عمان لم تقلع أصلا .

فما بين لحظة الإعلان عما كان يروج له إعلاميا أنها قمة رباعية ولحظة لإلغائها من الأربعة كافة جرت جريمة يندي لها جبين الإنسانية، فبعد أن مضت على حرب إسرائيل على قطاع غزة عشرة أيام، قرر الجيش الذي يطلق على نفسه اسم جيش الدفاع أن يوجه أكثر الضربات إيلاما، ليس لمن يقول أنه يقاتلهم أي المقاومة المسلحة، وإنما لمن يقتلهم طوال الحرب أي أهل غزة، واختار لجريمته هذه مكانا يصلح رسالة إسرائيل .

مستشفى وإن اختلفوا على تسميته كما ذكرنا، إلا أن هذا المستشفى لم يعد موجودا، لا هو ولا من فيه من جرحى ومصابين ومرضى وممرضين وأطباء، فالجميع توفي إلى رحمة الله، والجميع تحول إلى ذكرى، وكل هذا جرى في أقل من دقيقة، وهي المسافة التي يقاس بها عمر الغارة الإسرائيلية على هدفها، وسريعا بدأت تخرج الأرقام، أدناها 600، ووصلت إلى في مزاد المفقودين إلى أكثر من 1000، وجميعهم كما ذكرنا لا توجد لهم علاقة بمسلحين وليسوا قادرين أصلا على حمل السلاح، وما جرى بعد ذلك لم يكن كما كان قبله،فجاءت إلى الردود من الشارع العربي في الضفة .

المظاهرات عمت مدن العرب، ففي عمان حاصر الغاضبون سفارة تل أبيب الفارغة، وفي مدينة أخرى شمال الأردن خرج المتظاهرون مطالبين بفتح الحدود . أما في الضفة خرجت مظاهرات في القدس والخليل، وفي الكويت جرت وقفة هناك، وفي تونس خرج شلال من الغاضبين نحو الشوارع، والمغرب كذلك، وحتى موريتانيا وليبيا واليمن والعراق ولبنان، وكذلك الحال في مصر، والغضب لم يقتصر على العرب، ففي إسطنبول التركية وقف المتظاهرون لساعات، وفي ماليزيا وباكستان وإيران، وكذلك كندا إضافة إلى مدن أوروبية متفرقة، وهذا عن المواقف الشعبية .

أما المواقف الدولية فبغير الشجب والتنديد الذي لا يستحق الذكر أصلا، كان الحدث الأبرز عقد في جدة لوزراء الخارجية لمنظمة التعاون الإسلامي للتعبير عن استنكارهم الشديد ربما وربما لذر الرماد بالعيون . هذا بالإضافة إلى إلغاء قمة رباعية كانت ستجري في الأردن، وتضم كلا من العاهل الأردني والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والفلسطيني، بالإضافة للرئيس الأمريكي جو بايدن، وفي أسباب إلغائها قيل الكثير، فالأمريكيون قالوا أن القمة ألغيت لمخاوف أمنية وبالتنسيق مع عمان . أما الرئيس الفلسطيني فقال أنه عاد ليشارك شعبه الحزن على المصاب، والسيسي خرج في اليوم التالي ليتلوا ما عُد تصريحاته تستحق التوقف عندها وإن بدت لا علاقة لها لما جرى في المستشفى المعمداني، لكنها ترتكز عليه، وهي قضية التهجير التي الآن أكثر وضوحا مما سبق، والسيسي بتصريحات هذه أستبق مؤتمر بايدن ونتنياهو بدقائق، وهذا مؤشر على أنه أراد إيصال رسائل لهما ردا على رسائل إسرائيل في قصف المستشفى .

ودعونا نشرح الأمر بطريقة أكثر وضوحا، فمنذ شنت تل أبيب حربها الأخيرة  هذه على غزة، وهي تضع نصب عينها هدفا واحدا لا ثاني له، وبالتأكيد ليس القضاء على المقاومة، وإنما هو تهجير الفلسطينيين من القطاع، وحددت لهم وجهتهم إلى مصر، ولكن الفلسطينيون قالوا لن نعيد النكبة من جديد، فأمعنت إسرائيل فيهم القتل والترهيب لإجبارهم على النزوح، وسقط أكثر من 2000 في صفوف الغزاويين واستمروا، فجاءت ضربة المستشفى لكي تضاعف لهم الأرقام بسرعة، ولتريهم أن إسرائيل ما زالت تمتلك من الوحشية المزيد، ففهم الجميع أن تل أبيب لا تراجع ولا استسلام عن خطة التهجير حتى لو ارتكبت من الفظائع ما ليس فقط يندي جبين الإنسانية برمتها في ضميرها وكرامتها .

لذا خرج السيسي للقول أن صحراء سيناء غير متاحة لاستقبال أحد، وإذا كانت إسرائيل تريد تهجير أحد، فصحراء النقب أكثر ملائمة، وقال ليست مصر التي تقبل تصفية القضية الفلسطينية، وهو موقف استبقته الأردن باجتماع ملكها قبل يوم من تصريحات السيسي مع قادة جيشه جين قال أن التهجير خط أحمر، فمعلوم خط نتنياهو التي وقف قبل أشهر بالأمم المتحدة يتحدث عنها وعن دولة يهودية على كامل حدود فلسطين، والعرب الآن لا يريدون تكرار نكبة ونكسة أفقدت الفلسطينيين أكثر من ثلثي مساحة دولته، وهذا الموقف ذاته كان عباس قاله في خطاب ليلي بعد حادثة المستشفى بأن الفلسطينيين لن يهجروا من جديد إذا هي مسألة تهجير، وعلى ما يبدو  أمريكا قد أعطت الضوء الأخضر لإسرائيل لتنفيذها حتى لو كان ذلك على حساب ألاف الضحايا من الفلسطينيين، وعلى ذكر أمريكا رئيسها الذي انحرف مسار طائرته من عمان ليحط في تل أبيب في أول تعليق له على تدمير المستشفى الذي يعتبر تابعا لمؤسسة كنسية، قال إن الطرف الآخر قاصدا الفصائل الفلسطينية هم من ارتكبوا هذه الجريمة، متحديا بذلك الواقع والمنطق، ومشاركا الرواية الإسرائيلية التي سعت لتصديرها للعالم، فليس مهما لدى عجوز البيت الأبيض من مات وقتل، والمهم ألا تُسأل إسرائيل عن ذلك، وهذا هو الدور الأمريكي الآن بكامل غطرسته وبطشه ووجهه الحقيقي الذي كشفه دون أن يبالي بحقوق ووجهات نظر واحد، والعالم لا يملك ألا أن يسير خلف واشنطن أو يغمض عينيه لتصبح الكرة في ملعب الفلسطينيين والعرب، فإما أن يقبل بتصفية القضية أو يقبلوا بأفعال إسرائيل أو يكون لهم موقف، ولا يحك جلدك إلا ظفرك كما يقال، فحتى إيران التي بنت مشروعيتها في العالم العربي على عداء إسرائيل ودعم فلسطين لم تحرك ساكنا حتى الآن ومعها محورها بأكمله، ولم تصدر منها سوى الوعود والتهديدان، فما عسى العرب أن يفعلوا.. وللحديث بقية .

***

د. محمود محمد علي

أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بجامعة أسيوط

..............................

المراجع

1- قناة ستيب: مستشفى المعمداني.. كل شيء بعد ذلك تغيّر..يوتيوب.

2- أجمد جمعة: مجزرة مستشفى المعمداني أبشعها.. مذابح بشعة ارتكبها جيش الاحتلال ضد الفلسطينيين.. اليوم السابع.

في المثقف اليوم