قضايا

محنة المثقف العربي

عبد اللطيف احرشاوتطرح قضية الثقافة وعلاقتها بالمجتمع غموضا، لا سيما ما يتعلق منها بدور الذات العربية في ظل العلاقة الديناميكية بينهما ومهام الوساطة الملقاة على عاتق الكائن العربي، فسرعان ما تشتعل بين الفينة والأخرى وبإلحاح شديد مسألة المثقف، لنخلص دائما إلى نتيجة مؤداها أن المثقف العربي في أزمة ومحاط بشروط جعلت من أزمته مرتعا للانتعاش.

لا توجد مؤسسة أكثر غموضا للمثقف من التي تدعي تعريفه، قول يشير إلى القلق الناشئ الذي يحيط بالكلمة لإضفاء الطابع الرسمي عليها وبأي طريقة تكون منطقية وغير موضع شك في الوظيفة الملقاة عليه. فالمثقف العربي بالهوية المضطربة سياسيا، يجده ذاته أيضا يصارعها التحدي المعرفي الذي يتمثل في عنف وإدراك رمزي.  كيف ذلك؟ يجب أن يكون على الرغم من ذلك هو الممثل الذي يفكر في الشيء، وفي نفس الوقت الذي يعترض فيه الكائن المفكر من هذا الشيء.

تستخدم كلمة مثقف للإشارة إلى مجموعة النخبة الفكرية في المجتمع، فنفر من الكتاب يرون بأن هذا المصطلح استعمل لأول مرة من قبل الروس في عام (1860) أي النخبة التي لها نظرة نقدية للأوضاع القائمة (المادية والمعنوية). بمعنى وجود نخبة تختلف عن طبقة المثقفين بشكل عام، في حين تذهب العديد من الروايات حول الموضوع إلى القول بميلاد لفظ المثقفين  في البداية داخل التربة الفرنسية، مع صدور (بيان المثقفين) سنة 1898 وهو البيان الذي وقعه مجموعة من الكتاب والمبدعين والمفكرين الفرنسيين(1) الكبار أمثال إميل زولا ومارسيل بروست ولوسيان هير وآخرون، تضامنا مع ألفريد دريفوس (الضابط الفرنسي ذي الأصول اليهودية) بعد اتهامه من طرف السلطات الفرنسية بالتجسس لصالح ألمانيا، عقب حدث احتلال الألزاس واللورين الفرنسيتين، من طرف ألمانيا بذريعة أغلب سكان تلك المنطقتين يتكلمون باللسان الألماني.

فكان لعائلة دريفوس أن عبأت الرأي العام الفرنسي للدفاع والنضال قصد إعادة محاكمته، بعد إثبات زيف الأدلة والوثائق التي توبع إثرها الضابط الفرنسي، فأصبحت هذه المسألة بمثابة المرجعية التاريخية لهذا المفهوم فأضحى ينظر للمثقف بذلك الشخص المدافع عن القضايا الإنسانية في مستوياتها ومجالاتها المختلفة. ففرنسا منذ الأزل كانت قادرة على تلبية نداء الشعب ومفكريها، إذ لا تعتبر المثقفون مجرد فئة بسيطة من المجتمع، ولكن أيضا في وقت سابق كقادة أخلاقيين وسياسيين، وفي هذا الصدد يقول سان سيمون "كان انتصار قوة العقل على قوة البيروقراطية الأرستقراطية".

إن استخدام لفظ المثقف خصوصا في العالم العربي، تمت ترجمته من حيث الذكاء أي ما هو مرتبط بأنشطة الدماغ والأشخاص الذين لهم مستوى معين من التعليم، لتمييزها عن تلك الشريحة التي تقوم بالأنشطة اليدوية لكن بعد ذلك هذا اللفظ سيأخد معنى اجتماعي وسياسي في الفكر الشيوعي، فعلى حد قول إدوارد سعيد بأنه التفكير الناقد مع الوعي الاجتماعي والسياسي الجيد، بالمقابل ما خلق زوبعة ذهنية أثناء كتابتي لهذه المقالة هي إحدى أقوال المفكر الماركسي الإيطالي غرامشي في دفاتر السجن بأن الجميع مفكر، ومن ناحية أخرى ليس للجميع حق الحصول على وظيفة المفكر!!!

إن الخطاب حول وظيفة المثقف في المجتمع هو موضوع متكرر بشكل مدهش، ومثل هذا التكرار للموضوع مرتبط بلا شك بحرج لا يمكن إنكاره، ما يستدعي نقاشات نظرية يحضر فيها عموما البعد الأخلاقي لوظيفة المفكر كمحور للجدال وتفضيلا عن استدعاء نوعية مساهمة المثقف في مجتمعه، أليس من المفترض أن يصاحب التطور ويحلل التناقضات بكل صرامة، وهو ما سيرمي بنا إلى توضيح الرؤية عند الكثيرين وإزالة الخلط لديهم حول الفرق بين المثقف والأنتلجنسي كي نحد هذا الغوغاء.

إذن فالأنتلجنسيا يا معشر العاقلين ليس كما يتباذر للذهن للوهلة الأولى، وكما يشير لها معناها القاموسي "مجموع المثقفين في بلد ما" لكن ما الأنتلجنسيا بفهمها الصحيح هي الشريحة الحاملة للوعي الثوري، وأداة العمل الثوري أيضا (2). وبالتالي فالمثقف لا يمكن أن ينضوي تحت لواء الأنتلجنسيا إلا حينما يعمل على ممارسة النقد للواقع وصولا إلى تغيير الوضع القائم، أي -عندما يحمل مفاهيم وتصورات رافضة وداعية في نفس الآن إلى تعديل جذري- أما إذا كان غير ذلك فهو ينطبق عليها فقط ما يقال في الأوساط الفكرية الفرنسية "كلاب الحراسة" للوضع السائد، لا لشيء إلا أنه حامي نير الديكتاتورية دون القيام بالمهام التاريخية الملقاة عليه. وهنا نستطيع التمييز بين المثقف والأنتلجنسي هذا الأخير ليست مهمته تبرير الوضع وإضفاء الشرعية الأيديولوجية عليه، وإنما ممارسة النقد الجذري الثوري لما هو كائن التزاما بما ينبغي أن يكون.

لقد فهمنا إذن المشكلة والتي تكمن في القرب المفرط والتداخل في البداية، وأن تفكيك المفاهيم يجعلنا نميز عناصر المعادلة وبدونها يضمر الفهم ويصبح النهج عشوائيا وخلطا غير مبرر، فالمشكلة معقدة بشكل لا نهائي عندما يتعلق الأمر بالتحقيق في وظيفة المثقف داخل سياقاته الاجتماعية. صحيح أن المثقف شخص موهوب في مجال المعرفة شريطة أن يكون لهذه المعرفة تأثير على الشؤون العامة، لهذا فالأنتلجنسي هو شخص يفكر وينقل في نفس الآن أفكاره إلى الآخرين، فهو في المقام الذي يتوجب عليه خيط روابط وبناء جسور بين الأفكار والواقع، وخلق علاقات بين المجال الخاص والمجال العام، ما يجعله بذلك ذاتا تفكر في المجتمع وتعتبره أيضا الجماهير شخصا مبدعا لهم.

إن المتتبع للوضع الثقافي بالمنطقة العربية، يستطيع أن يرصد بكل بساطة ودون جهد متعب التيارات والتوجهات الفكرية السائدة، وكذلك الأيديولوجية المهيمنة والتناطح الموجود بين مختلف الرؤى، ما يبين المفارقة الواضحة بين التنظير الفكري والتنزيل العملي ليبين في المجمل السفسطائية العربية بين الفئات الاجتماعية وانتماءاتها الأيديولوجية تنظيرا وعمليا، وما يزيد من تفاقم حدة الأزمة  والإقرار بها في الوطن العربي، تاريخيا منذ عصر النهضة الأوربية، نجد خير مثال لها يتمثل في هامشية المثقفين العرب وتخبط مواقعهم، الأمر الذي يتطلب بالضرورة تكثيف الجهود من قبل النخبة الواعية عن طريق التحليل الموضوعي لا الأيديولوجي فقط، هذه المقاربة الموضوعاتية  سألخص طرحها في ثلاثة أبعاد.

بعد المثقف وثقافته العربية: من الأمور المسلم بها أن الواقع العربي يعيش تشوها في أوضاعه المادية، هذا إلى جانب غياب مؤسسات للثقافة لمأسسة المشهد الثقافي العربي، وهو ما نتج عنه تشتتت المثقفين العرب وظهور صراعات على المستوى الأيديولوجي والسياسي وانتهائهم بالارتماء في أحضان التبعية للغرب، كل هذا انعكس على المثقف العربي وظهرت أزمته في تعاطيه مع ثقافته العربية، وكان مجمل ذلك ظهور مذاهب فكرية مختلطة في الساحة العربية، فترى الفكر التنويري بجانب الفكر المثالي، وكذا سلفي تقليدي بجانب حداثي معاصر، والمحافظ بمقابل الراديكالي كل هذا شكل هويات هجينة وخليط من الخطوط الفكرية التي يصعب عليها تفسير الواقع بمسلمات وبديهيات تقدمية طلائعية، ولم يبلغ هذا ال أيضا حتى اليوم مرحلة توفيق التراث مع النهضة الحضارية، فلا هو حداثي المرجعية ولا هو تقليدي التراث، مما ساهم بشكل كبير في أزمة المثقف العربي الذي تشرب من الثقافة الغربية في تحصيله الأكاديمي ولكنه كان دائم الحنين لثقافته وتراثه العربي فيحدثنا أحيانا عن التحرر، المساواة، العدالة، الكرامة وفي أحيان أخرى يمجد العرب ورجعيتهم يسعى إلى تحليل الواقع بتفسيرات لا هوياتية أو قدرية مثالية تطلق شعارات غير مؤمنة بها لتدعيم النظام القائم، تبحث في الهوية والتراث وتناقش الحاضر تنقل عن الغرب وتقدس الموروث. فهل المثقف العربي تقدمي التصور أم رجعي التفكير أم يجمع الإثنين عملا بالحل الوسط؟

من هنا فإن العمل على تجاوز الأزمة يتطلب ليس فقط توحيد الأنماط الأيديولوجية، بقدر ما هو غياب المنحى الجدلي الذي يضع الوحدة العربية أفقها المنتظر وأيضا تقديم نقد موضوعي للتاريخ وقراءة الحاضر به وتشوفا لتصور مستقبلي، يمزج بين التراث والحداثة عبر أخذ ما هو صالح لزمن تقني بامتياز يمكن من صياغة رؤية تجمع في مجملها البعد التاريخي والحداثي في تحليل وتفسير واقع المرحلة، وبالمقابل إغفال البعدين السالفين الذكر حتميا هو وقوع في أحبال التبعية ونخلص إلى القول بأن أزمة المثقف فهو حتمي وخارج عن إرادته فهو ترجمة فقط لمظاهر التشوه والتخلف بالمنطقة العربية، ما جعل مثقفي الشرق يعيشون على هامش المجتمع مغتربين عن واقع مجتمعهم فكثرة الأيديولوجيات السائدة وأيضا الازدواجية في المواقف، والخلط بين الفكر والمعرفة في حد ذاته نتاج البيئة الاجتماعية التي يعيش فيها المثقف، فمنطقيا إذا كان العالم العربي يحيا فيه التخلف والتشوه فالنتيجة بذلك سيصبح فيها المثقف تعبير واضح عن أزمة المجتمع تدور فيه معارك منذ قدم التاريخ حول المسلمات الأساسية والواقع المعاش، ويتسم بالتناقض بين الفكر والواقع. ولكي نوضح هذه المسألة أكثر يمكن استحضار دور المثقفين العرب تجاه قضايا الاستعمار والتبعية فعند جلوسنا ومحاورتنا للتاريخ العربي، نستخلص اتجاهات ورؤى للمثقفين خاصة في مرحلة ما يسمى بالنضال السياسي ضد المستعمر الأجنبي، فإحداهما سلفي تقليدي يرفض كلية إقامة علاقات مع الغرب الكافر واعتبرها بأن سبب انحطاط وتراجع الأمة الإسلامية، ونمط آخر وليكن ليبراليا يرفض الفكر التقليدي ويدعوا إلى محاكاة الغرب سياسيا دون الإهتمام بقضايا الإقتصاد والمجتمع. أما النوع الثالث فقد رحب بالعقلانية الفيبرية المنادية بالتنظيم الرأسمالي ورفض السياسة الليبرالية، والأخير الماركسي الاشتراكي فقد ٱهتم بترديد الشعارات الرامية للتغيير والرافضة لوحش الرأسمالية والتذكير بالتاريخ الغربي وحداثة فكره (3) دون موضعة المجتمع العربي ومحاولة نقد الأوضاع من داخله، انسجاما وشروط المنطقة باختصار كان انتقال المفكر العربي كله منصب على دراسة الفكر الغربي، لكن في مرحلة الكفاح المسلح من أجل الاستقلال شهدت الشعوب العربية وحدة لم تعرفها من قبل وٱلتحم مثقفيها بالجماهير، فتم تكوين مجموعة من الأحزاب الوطنية (حزب الاستقلال بالمغرب، الحزب الدستوري بتونس مثلا) إلا أن الأمر سيتغير فيما بعد، كما سيتضح استبدال المواقع حسب موازين القوى وتضارب المصالح الوطنية وتغليب مصلحة الأفراد على مصلحة الجماهير، وهذا إن برهن على شيء فلعله خير برهان على أزمة المثقف والشخصية العربية. مجمل القول فكل التناقضات تعبر عن التفسخ والتشردم الثقافي بالمنطقة العربية، إذ أصبح الحاكم هو المتحكم في الثقافة ومساراتها المختلفة، وأصبحت بذلك مغتربة عن واقعها مرتبطة بالآخر المتقدم الذي يمتلك كل وسائل الانتاج الثقافي، فالمرحلة اليوم أصبحت تعرف بحرب الثقافة والاحتلال الثقافي للشعوب المغلوبة على أمرها، تطاحنات ثقافية غيرت منحى سير الشعوب وخلقت استعمارا جديدا أشد حدة من الحروب المادية، إن الإنسان العربي يعنف ثقافيا بل إن الغرب يلوي كل من الحاكم ويحول المثقف إلى مجرد خادم مطيع، هذا غير منعرج الأزمة إلى البناء الداخي، وأصبح الاغتراب والانفصال عن الواقع هو السمة المميزة للمثقف العربي، فتركت جماهير هذه الشعوب تعيش الأزمة الخانقة، حائرة بين الرومانسية والأدب والواقعية المغتربة، يعيش في جور وظلم الرأسمالية والسلعنة والتشييء ويحلق في أوهام الميتافزيقا والرجعية والخيال.

بعد المثقف والسلطة السياسية: تتولد علاقة المثقف بالسلطة والنظام السياسي منذ القدم، بضرورة تاريخية مسعاها تنظيم مؤسسة المجتمع، يلعب فيها المثقف دور الوسيط المفكر في الجوانب الاجتماعية، الاقتصادية، السياسية، الثقافية كما يتعهد الحاكم تثبيت ركائزه ومشروعيته من باب المعرفة التي يمتلكها المثقف، إذن العلاقة في الأصل والمجمل ذات طبيعة تشاركية تحتم على المثقف عدم الانحياز لطرف أو مؤسسة على حساب أطراف أخرى، وألا تكون هذه الطبيعة تسلطية أو إقصائية خصوصا من جانب الراعي ضد رغبات وطموحات الرعية، على أساس عقد اجتماعي يخضع له الجميع، ولكن تاريخيا أيضا نستثني المنطقة العربية من كل هذه الشعارات التي كانت تربتها أوربية بالأساس، فالحاكم العربي كان دائما صاحب التشريع والتنفيذ ومارس وصايته التقليدية ورقابته الأمنية على كل الأصوات الحرة المنادية بالتغيير، ما جعل العديد منها يعانون في صمت جراء التهميش أو كان السجن جزاء لهم على نقد البيئة الحياتية للإنسان العربي، باعتبار المثقفين العرب الذين أخذوا على عاتقهم مناههضة الوضع وتسلطية الأنظمة، فمن خلال استقراء مجموعة من التجارب كنا دائما ما نصطدم بحقائق مرة إما التعذيب والتنكيل بهم وإما التزام الحياد قدر الإمكان، والذي كان كافيا في تشويه فكرهم وهناك آخرون مناصرين للسلطان ولو مؤمنين بفساده، فكان لهم أن شاركوا الحاكم في لعبته السياسية لإضفاء الشرعية على حكمه، وعملا الإثنين بالجدل الماكيافيلي فالحاكم يناصر دينا ولو أنه معتقدا بفساده، إلا أن المثقف العربي استبدل الدين بالحاكم العربي فأصبح يناصر الأنظمة العربية ولو أنه متيقنا من ديكتاتوريتها .ما جعل الكثير منهم يتميز بالتناقض بين فينة وأخرى، والسبب في ذلك يعود لتغيير موقع المثقف فإن كانت مهامه إحداث ضجيج للسلطة لكن أين يمكن إرجاع ذلك الضجيج هل لمصلحة عامة أم مصلحة خاصة؟ والتي غالبا ما تنتهي بتحصين الموقع وكذلك تغيير الموقف، فهو صراع قديم قائم على الشك والتناقض، وفي عالمنا العربي وضعت للمثقف حدود خطابية ومسافة نقدية بين السلطان وحاشيته، لتبقى النتيجة تحصيل حاصل للطرفين معا ويظل الجمهور كالمعتاد الحلقة المنسية في الصراع في مرحلة تفرض عكس ذلك، وبالتالي وجب موقعة الشعب كقنطرة تجمع بين الجانبين أي موضعة الجمهور كأساس في معادلة المثقف والسلطة، علاقة ستجعل المثقف يحمل هموم الشعب بمختلف مكوناتهم الثقافية، عوض الجلوس في الأبراج العالية والمكاتب المكيفة، وفي هذا السياق يسير المفكر إدوارد سعيد الذي طالب بضرورة استقلال المثقف عن السلطة، فالمثقف يطالب بقيم عالية كالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وليس القيام بمهام أدلجة الشعب وإضفاء الجمهور لشرعية غير قصدية على الأنظمة العربية، ومرد ذلك في الأخير هو الدور الغير الأخلاقي للمثقف في زمن التخاذل والنكران والرداءة.

بعد المثقف والقضايا الاجتماعية: عندما يطرح هذا الموضوع في الأوساط الفكرية العربية، غالبا ما يتم استحضار تجارب الجغرافيات الأخرى، والدور الذي لعبه فيها المثقف إبان الثورات والانتفاضات الشعبية (الثورة الفرنسية، الثورة الثقافية بالصين) ما يجعل الكثيرين منهم يدافعون على مأساوية العرب وتخلف شعوبها، فنجد التنويري يتطاول على الليبرالي وهذا الأخير يحاول خندقة اليميني، ويبقى الحديث بذلك خارج الشعب الذي نحن له دوما أن يكون موضوع المرافعات النظرية والمناقشات الفكرية، في وقت كان فيه العالم بالمعنى التقليدي للكلمة في وسطها العربي، يدرج ضمن الخاصة فإذا كان أغلبية العلماء والمفكرين والفلاسفة ينتمون اجتماعيا إلى فئات من العامة، وإلى ما دون الخاصة فهذا لا يعني أن أصناف المعرفة المتباينة التي كانت تمثلها الأقلية الخاصة لها نفس العلاقة والمسافة مع العامة، وهنا يمكن استحضار قول علي بن أبي طالب من أن "الناس ثلاثة فعالم رباني ومتعلم على سبيل نجاة وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق".

لا ننكر أن الجمهور العربي بقي حبيس البحث عن قوته اليومي ناسيا ومتناسيا أو متحالفا مع أصحاب القرارات وطبيعة الأنظمة التبعية، المسؤولة أولا عن تجويع وتهميش وتنكيل شعبها، فظل المثقف هو الآخر إما مقدما تحليل وتفسير للأوضاع فقط دون نقدها وتقديم تصور مستقبلي وتغيير الوضع القائم، وهناك من ارتكن في مراكز البحوث والجامعات ناهجا سياسة الحياد والاغتراب حتى ييتعد عن الاتهامات المجانية وصفة التخوين التي باتت لصيقة الشريحة المثقفة أو (الحاملين لهذه الصفة بهتانا وزورا) أكيد من مسؤولية المثقف حشد الجماهير واستقطابها وتأطيرها أخذا بعضوية غرامشي وبروزا لما يسمى بالمثقف الملتزم، لكن على غرار ذلك مع مرور الزمن تزداد فقط الفجوة وتتسع شيئا فشيئا مع تقادم الأيام، فيهدم جسر التواصل ويعود ذلك لانغماس المثقف في مصلحته الخاصة، باعتباره الذات والموضوع في هذه المسألة، ولم يكتب له الانخرط والتوغل وسط الجماهير لإدراك إشكالاتهم والوعي بقضيتهم ومعاناتهم، ما جعل الجمهور يبادل المثقف نفس الاهتمام بأنه شخص يطفوا في المثالية وفي أعالي مدينته الفاضلة وعالمه الوهمي.

ونحن على مشارف الختم، إن المثقف العربي عشق الهامش ووجد ضالته فيه، ففي كتابات عدة كان مطالب بالدعوة إلى القيام بدوره التاريخي، والأخذ على عاتقه مسؤولية نقد مستويات البنية التحتية والفوقية في الوطن العربي، وتحديد موقعه والابتعاد عن السكيزوفرينية والازدواجية في المواقف، أو الحياد والاغتراب. هذا الأسلوب النقدي والتعبير الحر سيجعل المجتمع يفصل ويميز في وطنه العربي بين المزيف والحقيقي، وبين الخيال والواقع كفيلا بقيام ثورة ثقافية واعية وواقعية، وليست مغتربة عن القضايا الجوهرية، فالنقاش المدار منذ الأزل يضعنا أمام إشكالية تحديد المثقف الذي نتحدث عنه قبل الحديث عن مهامه، فمثقف العرب خليط هو الآخر من أيديولوجيات كثيرة ومواقف متضاربة، وتصورات متناقضة كواقعه. من سيقود مبادرة التغيير في الوطن العربي؟ خصوصا وأن الأصوات الحرة تعاقب بسنوات من الاعتقال وأحيانا الاغتيال، وهو ما سيحيلنا إلى التساؤل هل هناك بالفعل جماهير تحمي هذا المثقف أم فقط البعض يقدم ضريبة فكره ووعيه وآخرون بجهالتهم ينعمون في الفتات؟

رحم الله أبو الطيب المتنبي في قوله:

ذُو العَقْلِ يَشْقَى فِيْ النَّعيم بِعَقْلِهِ

وأَخُو الجَهَالَةِ فِي الشَّقَاوةِ يَنْعَمُ

 

عبد اللطيف أحرشاو

....................

المراجع

1 - جمال علي زهران، تأثير الأوضاع المجتمعية على دور المثقف العربي، مجلة الوحدة، العدد 40، يناير 1988، ص34.

2 - جورج طرابيشي، من المثقفين إلى الأنتلجنسيا، مجلة الوحدة، العدد 40، يناير 1988، ص62.

3- أحمد مجدي حجازي، المثقف العربي والالتزام الأيديولوجي، مجلة الوحدة، العدد 40، يناير 1988، ص29.

 

في المثقف اليوم