قضايا

حقيقة السياسة في المجتمعات المتخلفة

إن الهدف الأساسي من السياسة هو تحقيق مصالح الناس، وبناء منظومة إنسانية اجتماعية توازن بين الحقوق والواجبات. ووفق هذا المعنى، تكون السياسة وسيلة لا غاية .

والمشكلة الجذرية في المجتمعات المتخلفة أن السياسة فيها غاية بحد ذاتها،لذلك يتكرَّس معنى العنف والصدام والصراع على الكرسي، ومحاولة المحافظة عليه بأي ثمن .

وفي هذا المناخ الموبوء يظهر الطاغية (الحاكم)، ويتكرَّس وجوده باعتباره المركز الذي تدور حوله كل تفاصيل المجتمع، وتختفي الدولة شيئًا فشيئًا حتى تصل إلى مرحلة " شِبه دولة "، وتنهار الطبيعة الإنسانية، فيتحوَّل المواطنون إلى أشباح مُدجَّنة لاهثة وراء رغيف الخبز، ورُبَّما لا تحصل عليه . ففي أشباه الدول لا شيء مضمونًا، بسبب غياب الحرية، وانهيار القيم الأخلاقية، وتحوُّل السياسة إلى لعبة للأغنياء المتحالفين مع رموز السُّلطة القمعية .

والطاغية _ في كل زمان ومكان _ في عداوة متبادلة مع الشعب . وسبب هذه العداوة أن الطاغية يعتبر الشعب متخلفًا وبدائيًّا وهمجيًّا وسفيهًا وجاهلًا، وبالتالي يجب الحَجْر عليه، لأن الشعب لا يستحق الحرية، ولا يفهم الديمقراطية . أي إن الشعب عاجز عن قيادة نفسه بنفسه، ولا يستطيع اختيار مَن يَحكمه، وهنا يبرز مفهوم الوصاية . فالطاغيةُ " العبقري " هو الوصيُّ على الشعب " الجاهل " والمسؤول عنه، كما أن الأب "العاقل" هو الوصي والمسؤول عن أطفاله الصغار "غير العاقلين" .

والشعبُ يعتبر الطاغية مجرمًا وسفَّاحًا ولصًّا، نهب ثروات البلاد، ودمَّر حياة الشعب، وفتح السجون للشرفاء والأحرار، وترك الفاسدين يعيثون في الأرض فسادًا، دون حساب ولا عقاب .

وهذه العلاقة الجدلية بين الطاغية والشعب شديدة الخطورة، لأنها تُحطِّم منظومة الولاء والانتماء، فيصبح الفرد باحثًا عن حاجاته اليومية ضمن دائرة الاستهلاك الخانقة، دون النظر إلى ماهية الوطن وأهمية الدفاع عنه، لأن الغريق يتعلق بحبال الهواء، ويبحث عن قشة لإنقاذه، وهذا يَمنعه من مُشاهدة بَر الأمان، أو التخطيط للحاضر والمستقبل . إذ إن البقاء على الحياة يصبح هو الهم الوحيد، والهدف الأسمى بحد ذاته . وانحصار التفكير في البقاء حيًّا هو حاجز يمنع من التفكير في صناعة الإنجازات في الحياة. وهكذا، يتم تدمير الفرد معنويًّا وماديًّا، فيتحوَّل إلى عنصر منبوذ بلا قيمة في المجتمع، وإذا شعر الفرد أن وجوده كعدمه، سيفقد إحساسه بالعناصر من حوله، ويخسر يقينه بالمستقبل المشرق . وعندئذٍ، يتكرَّس مبدأ " اللهم نفْسي " أو "أنا وليكن الطوفان مِن بَعْدي" . ومعَ اضمحلال الولاء في نفوس الأفراد، يتلاشى معنى الانتماء، وتحتفي حقيقته . وتظهر معاني النفاق والمديح الزائف . فالفردُ يُدرِك أنه لَن يحصل على أي شيء في وطنه إلا بمديح الحاكم، والتسبيح بحمده، والإشادة بإنجازات النظام السياسي الوهمية . ولا يخفى أن العنصر الفاعل في المجتمعات البدائية المتخلفة هو الولاء للحاكم، وليس الكفاءة . فلا يَهُم إذا كان الفرد عَالِمًا أو جاهلاً، المهم أن" يبصم بالعشرة " للحاكم وحاشيته، ويكيل لهم المديح ليلاً ونهارًا، على أمل الحصول على جزء يسير من الغنائم التي يجمعها الحاكم وعصابته .

إن الطاغية يعتبر السُّلطة مغنمًا، وينظر إلى " الدولة " باعتبارها شركة تجارية استثمارية، ومِلْكًا له ولعائلته وأتباعه. وهذه النظرة المنحرفة، تجعل الحاكم بالضرورة تاجرًا وسمسارًا، وعليه أن يجمع أكبر قَدْر من الأرباح، ويحصد أكبر كمية من الغنائم .

وهذا التفكير القاصر والقاتل، يُشكِّل خطرًا على الحاكم نفْسه، لأنه يلعب بالنار، ويُكثِّر عدد أعدائه والمتربِّصين بِه، ويُقلِّل عدد أصدقائه المخلصين. فالكثيرون يلتفون حوله لمنافع مادية، ومصالح شخصية، وليس حُبًّا له، أو عِشْقًا لسياسته الحكيمة وإنجازاته العظيمة . وهؤلاء هُم فئران السفينة، ومُستعدون للهرب منها في أيَّة لحظة، لأنهم يعتبرون السفينة مصدرًا لجني الأرباح والمكاسب، وليس وطنًا لهم . فهُم لا يشعرون بالولاء والانتماء إلى المكان الذي يعيشون فيه . تمامًا كالشخص الذي يستأجر شقة مفروشة، أو يحجز غرفة في فندق . إنه يعلم في قرارة نفْسه أن وجوده مُؤقَّت، لأنه لا ينتمي إلى المكان، ولا يشعر بالولاء له، بسبب غياب الروابط النفسية والأخلاقية والفكرية بينه وبين مكان وجوده .

والسياسة القمعية للسُّلطة الحاكمة هي بداية نهاية " الدولة "، إذ إن المواطنين الذين يُعانون من الفقر والجهل والحرمان والظلم، سيتحوَّلون إلى أعداء مُستترين للنظام الحاكم، ينتظرون لحظة الانقضاض، ويفكرون في كيفية الانتقام والثأر من هذا النظام الذي حرمهم من الحياة الكريمة . وهذا يعني أن النار مختفية تحت الرماد، ولا أحد يعرف متى تحين لحظة الانفجار، وكثرة الضغط تُولِّد الانفجار . وقد قِيل : لا تَدخل في مواجهة مع شخص ليس لديه ما يَخسره .

إن الخطيئة العُظمى التي سقط فيها الطاغية هي عدم تفريقه بين السيطرة والقيادة . فهو يعتقد _ بكل جهل وغرور واستكبار _ أن القبضة الحديدية وفتح السجون وتكميم الأفواه والاحتكام إلى الحديد والنار هو الحل الأمثل للسيطرة . وهذه نظرة قاصرة، لأن الاستبداد قد يضمن السيطرة لبعض الوقت،ولكنْ لا يَستطيع توفير الحماية على المدى الطويل بسبب كثرة الأعداء، وزيادة الأعباء الحياتية،وتفاقم المشكلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، كما أن الاستبداد عائق أمام التقدم وصناعة الإنجازات . وأيُّ مليونير يستطيع أن يشتريَ طائرة بأمواله، ويحميَها بنفوذه وسُلطته، ولكنْ ليس أي شخص يقدر على قيادتها والطيران بها .

 

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

 

في المثقف اليوم