قضايا

الزمن والفكر والتاريخ

لا يمكن للإنسان أن يتصالح مع نفْسه، ويصل إلى حالة الوئام الداخلي، إلا إذا أدركَ حقيقةَ نفْسه، وطبيعة ارتباطها بالعلاقات الاجتماعية. والنَّفْسُ الإنسانية هي رمزية البُنية الاجتماعية، لكن المشكلة تكمن في تشظِّي هذه الرمزية، وتناثرها في التفاصيل الحياتية، بفِعل ضغط العناصر المركزية في الواقع المُعاش. ووظيفةُ الإنسان أن يَجمع شَظايا حياته، ويُعيد ترتيبها، من أجل الوصول إلى الأشكال الجمالية المُنبثقة عن المجتمع، ومعرفةِ القيم الأخلاقية التي تذوب في التفسيرات المادية الاستهلاكية لطبيعة الوجود الإنساني. وهذه المهمة في غاية الصعوبة، لأن المجتمع ليس كُتلةً واحدة، ولا يتحرَّك ضمن خَط أُحادي، ولا يَخضع لمعادلة خطية بسيطة. إن المجتمع تيارات مُختلفة، ويتحرَّك ضمن مسارات متوازية حِينًا، ومُتقاطعة حِينًا آخَر، وهو يبتكر مُعادلاته المُعقَّدة أثناء حركته، كما يبتكر النهرُ روافده الجديدة أثناء سَيره. والأفراد_ بشكل عام_ يتحركون في اتجاه أهوائهم الذاتية ومصالحهم الشخصية. وهذا التشابك الاجتماعي أفقيًّا وعموديًّا، يؤسِّس لأزمنة فكرية جديدة، تضغط على وَعْي الإنسان ووَعْيه المُضاد. وهذه المنظومة الثنائية (الوَعْي / الوَعْي المُضاد) تحفظ حالةَ التوازن بين العناصر الأساسية في الواقع الحقيقي والوجود الخيالي.

2

عندما تنعكس الطبيعة المعرفية للعلاقات الاجتماعية على ماهية اللغة، تتكاثر الأشكالُ الرمزية في الألفاظ والمعاني، ويحدث تداخل بين مراحل الزمن، حيث يُعاش الماضي في الحاضر، ويتم حَمْل الماضي إلى المُستقبل. وفي هذه الحالة المُلتبسة، لا يعود الماضي ماضيًا. وبعبارة أخرى، إن الماضي لا يَمضي، وإنما يتقمَّص أشكالًا حياتية مُعاصرة، وينبعث مِن جديد في الفكر الإنساني والسلوك الاجتماعي. ومَن يُحاول التخلُّص مِن ماضيه، كَمَن يُحاول الهرب مِن ظِلِّه. وهذا يستلزم بناء المراحل (الماضي، الحاضر، المستقبل) على قاعدة الفِكر لا الزمن، كما يستلزم إعادة تعريف التراث، مِن منظور الطبيعة التواصلية بين الأنا والأنا المُقَابِل، أي : بين صَوت الإنسان وصَدى أفكاره. والتعاملُ مع الفِكر يؤدِّي إلى حُلول تَوْفيقية لا تَلْفيقية، في حِين أن التعامل معَ الزمن، يؤدِّي إلى التعارض بين المراحل والحِقَب التاريخية، لأن التاريخ يقوم على المشاعر والانتماءات الوجدانية، ويَكتبه كُل شخص وَفْق وُجهة نظره ومصلحته الشخصية، أمَّا الفِكر فلا مكان فيه للمشاعر، لأنه يقوم على الدليل، ومُقارَعة الحُجَّة بالحُجَّة. وإذا كان التاريخُ يكتبه المنتصرون الذين يَمتلكون مَنطق القُوة، فإن الفِكر يَكتبه العلماء الذين يَمتلكون قُوة المنطق. والتاريخُ موجود بفِعل العوامل الخارجية الداعمة له، وضغطِ العقل الجمعي، وتبنِّي السُّلطة الحاكمة له. أمَّا الفِكر فقُوَّته ذاتية، لأن عوامل قُوَّته كامنة فيه، وغير مُستمدة من الخارج. لذلك، الرأي الصائب يُؤخَذ بالحُجَّة القوية، وليس بالأغلبية. والفردُ هو الجماعةُ والمجتمعُ والأغلبيةُ الحقيقيةُ، إذا كان على الحق. والإنسانُ _ أوَّلًا وأخيرًا _ فِكْر، والفِكر هو الجوهر الدائم، أمَّا باقي العناصر الإنسانية التُّرابية، فهي أعراض مُؤقَّتة وزائلة. لذلك، ليس غريبًا أن تنطلق رُوح الإنسان، ويكون جسده طعام الدُّود. وهذا التفاوت الطبقي بين الروح (المحمول ) والجسد (الحامل) مرجعه إلى مركزية المعنى الإنساني، وأهمية الهدف، واستعلاء المصير على المسار.

3

الهديةُ الثمينةُ تُحمَل في كيس بسيط لا قيمة له، ولا أحد يَعبأ به. وأغلى أنواع البضائع تُحمَل في عربات القطار الحديدية، ورُبَّما أكَلَها الصدأ. واللوحةُ الفنية التي تُباع بالملايين، لا أحد يسأل هل رُسِمَت بألوان غالية أو رخيصة. وهذا يعني أن مركزية النتيجة تُغطِّي على السَّبب المُوصِل إليها، وسعادةُ الوصول إلى البيت، تُنسي الإنسانَ مُعاناته مِن وُعورة الطريق. والعِبرةُ بكمال النهايات لا بنقص البدايات. وكُل شيء جميل، إذا انتهى بشكل جميل. وهذا يعني أن جمال الشَّيء كامن في وظيفته ودَوْره، وليس في ذاته وشَكْله.

 

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

 

في المثقف اليوم