قضايا

الخطاب الديني والنزعة الطائفية

العقل مسار معرفة الشريعة، والقلب مسار معرفة الطريقة، والطريقة تقودنا إلى الحقيقة، ولا تتم الطريقة إلا بالشريعة، ولا تتم الحقيقة إلا بالطريقة، فرسم مسارات التعرف على الشريعة يضيق من دوائر الوهم وانحراف العقل، ولكنه لا يكبل العقل ضمن هذه المسارات بل يرسم له الطريق للسير والانطلاق نحو القلق والشك الإيجابي، اللذان يبعثان على البحث الدائم عن أقرب صياغات للشريعة وأقرب مسارات للطريقة التي توصلنا لأقرب نقاط من الحقيقة.

ولعل أهم ثابت لدينا ومسلمة يقينية هي حاجة الإنسان للدين والتدين، وتدين الإنسان فطري المرتكز، إلا أن تجليات هذا التدين وهذا الدين هي محل قراءات كثيرة في عصرنا، تمايزت هذه القراءات بين الافراط والتفريط وبين التعصب والتساهل، ولم يجد الخطاب الديني المعتدل له محلا في صياغات العقل الجماهيري، الذي استطاع الاعلام أن يرسم له خيارات مسبقة ويصنع له قناعات متطرفة تصب في الهدف الاستراتيجي للسياسات العالمية المهيمنة على العقل البشري وساحة الفعل لديه.

بل كان أيضا لكثير من الخطابات الدينية دورا فاعلا في إعادة إحياء نزعات كثيرة، هي مصاديق للتعصب الذي حذرت منه كثير من الروايات الواردة بعدة طرق معتبرة لدى الفريقين، بل التعصب منبوذ عقلا لدى كل الأديان.

لا ننكر أن الممارسات التاريخية للسلطات السياسية المتعاقبة عبر التاريخ سواء لدى المسلمين، أو الديانات الأخرى مارست دورا فاعلا في إذكاء حالة التطرف من خلال التمييز والإقصاء الذي مارسته ضد المختلف معها عقديا أو سياسيا.

حيث تحالفت كثير من هذه الأنظمة عبر التاريخ مع السلطة الدينية كي تشرعن ممارستها فتحظى بالتفاف شعبي، إذ كرست مقولة " الناس على دين ملوكهم "، هذا الاقصاء والتمييز يخلق ردات فعل لدى المستهدفين تتمايز بين الشدة والضعف، ولكن يغلب على معظمها طابع التعصب والانفعال وينمي حالة الانتقام بل يعمق حالة الانكفاء على الذات لدى المُستَهدَفين ويعمق الهوة بين أبناء الأرض الواحدة، لتصبح الطائفة والمذهب والقبيلة هي المأوى وليس الدولة والقانون والشرعية الالهية كما هي، وليست  صياغات تخدم السلطان وتدعم نفوذه وتشرعن وجوده وآليات حكمه.

ولكن هل سنبقى أسرى التاريخ ونستحضر الماضي لتشويه الحاضر وهدم المستقبل؟ أم علينا الاعتبار من التاريخ وتحويل الثغرات والسلبيات إلى محطات إيجابية، نعتبر منها ونعالجها لتصنع حاضرا مختلفا يناسب لحظة الراهن، ويحاول قراءة ذلك التاريخ بأدوات العصر العقلية والمعرفية، ليتجاوز الماضي بتفاعلات الحاضر الراهن ويتجاوز من الانفعال إلى الفعل والانجاز والتقدم؟

إن أحد أهم إشكاليات الخطاب الديني الراهن هي إشكالية الفرقة الناجية التي تستبطن مفردة امتلاك الحقيقة، حيث تعد من الإشكاليات العوائقية الواقعية الموغلة في بناء الحواجز النفسية قبل الدينية، إذ مجرد ادعاء امتلاك الحقيقة يفضي في الذهنية العامة ادعاء كون ممتلكها مصداق للفرقة الناجية، وهو ما يبني تراكميا حواجزا نفسية مع المختلف، ويغلق آفاق الانفتاح عليه والتعايش معه بل والاستفادة من تجربته المعرفية والفكرية، والتي دعت لها الآية الكريمة " وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم " .

ومن هنا يكون المنطلق من تفكيك الخطاب والبنية الفكرية، ومعالجة أوجه الخلل وفق معطيات الراهن وإشكاليات الحاضر، وحاجة الإنسان كفرد وحاجة الأمة كمجتمعات في إعادة فهم النصوص الدينية وإعادة بناء خطاب ناضج وقادر على تلبية حاجة الإنسان والدول في الاستقرار الاجتماعي والأمن في بنية العقل العربي والإسلامي.

فمعالجة جذور المشكلة تكون في ٣ اتجاهات رئيسية :

- الخطاب الديني وإعادة رسم معالم الشريعة وفق أدوات العقل العصري الراهن.

السؤال الذي يتبادر للذهن هو: هل واقعا بتنا بحاجة لتفكيك الخطاب الديني وبنيته الداخل دينية والخارج دينية،

وإعادة بناء خطاب لا يتنازل عن ثوابته وكلياته، ولكنه يدخل للمناطق المرنة في الشريعة ويعيد قراءة النص بعقلية الحاضر، والعمل على المواءمة بين الثابت والمتغير والحفاظ على أصالة الاسلام وخلوده؟

ومن المعني واقعا بعمل ضخم كهذا في مراجعة التراث وإعادة قراءته وتصفيته من كل ما من شأنه مخالفة صريح القرآن وكلياته؟ هل المؤسسات الدينية فقط أو هي والنخب من المثقفين والمفكرين والأكادميين المتخصصين في العلوم الإنسانية المختلفة؟ وهل لهذه العلوم مدخلية في هذا العمل التفكيكي؟

باتت الحاجة في حاضرنا لهذا التفكيك ملحة حيث أصبحنا موغلين في التطرف والتخندق ضد بعضنا البعض، وباتت الخطابات الدينية تعمق الهوة بين أفراد البشر متكأة على العصبيات المذهبية والطائفية، بل حولتها لسلاح في دعم مساراتها السياسية ورغباتها في السلطة، بعد أن تحولت المعرفة لمعتقل في سجن عالم السياسة وباتت السياسة هي التي ترسم آفاقنا المعرفية إن صح التعبير، بدل أن تكون المعرفة هي المنتج لكل الفوقيات وبدل أن تشكل هي القاعدة لذلك .

وأهمية هذا التفكيك تكمن في سلطة الخطاب الديني على الانسان، كونه مفطور على التدين وسلطة الفقيه أو رجل الدين في لاوعيه، فالتفكيك هو المرحلة الأولى في إعادة صياغة خطاب ديني تعايشي وتسامحي ولكن ليس تساهلي، يحدد الخطوط العامة والخاصة ويضع نقاط كالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على حروف مقتضيات الزمان والمكان كي تتضح الصورة بشكل أكثر تجليا مع معطيات راهننا .

بالتأكيد أن كل سؤال من الأسئلة المطروحة هو بذاته يحتاج بحث تفكيكي مفصل ومنهجي وعلمي وموضوعي لنخلص إلى تصور يكون الأقرب للواقع والحقيقة .

إن التركيز على معياري خير قوم وشر القوم هو تركيز على معياري الخيرية والشرية، وليس معيار القوم وإعادة بناء المفاهيم وفق هذين المعيارين اللذان ذكرا في الحديث الذي عرّف خلاله رسول الله صلى الله عليه وآله التعصب،وألمح بل أشار إلى أن التعصب هو أن ترى شرار قومك خير من خيار قوم آخرين، قد يفسح المجال أمام العقل ويفتح آفاق كبيرة تؤسس لمنظومة إسلامية معيارية اجتماعية قادرة على تذويب الحواجز بين أطياف المجتمع، وإعادة التآلف الداعم للاستقرار وتحقيق الأمان للمجتمع.

الاتجاه الثاني في معالجة جذور المشكلة:

- إعادة إنقاذ النزعة الإنسانية للدين

وهو ما يدعو لإعادة النظر في رؤية الدين كمجموعة قوانين حازمة ومتجردة يكون الإنسان في خدمتها، لتتحول إلى قوانين فيها روح هدفها تحقيق مقاصد كبرى تكون في خدمة الإنسان وتكون العلاقة بينها وبين الانسان علاقة تبادلية، فالدين جاء للحياة الدنيا فهي المزرعة وفيها يزرع الثمر والآخرة حصاد، لذلك إعادة قراءة الدين وفق هذا المعطى الذي يضع الانسان نصب عينيه ويضع إنسانيته حاضرة وتحقيق العدالة كمقصد وكقيمة جوهرية تتحقق من خلالها كرامة هذا الانسان، قد يقدم حلا تصالحيا مع الدين وليس تنازعيا وتصادميا معه.

وأيضا نطرح تساؤلا : من هو المعني بذلك واقعا؟ وما هي الآليات التي تحقق هذا الهدف؟

- الاعلام وأعادة إنتاج خطاباته ومنهجياته على ضوء ما سبق، ليتخلص من كل رواسب التعصب باسم الدين والدفاع عن الله .

ويأتي الاعلام كخطوة لاحقة لما سبق، لما له من دور محوري في الترويج لهذا المشروع التصالحي مع الدين، إذ بات هو وسيلة قوية في صناعة وعي الناس وإعادة صياغة أولوياتهم ومفاهيمهم ورغباتهم، بل في تحريكهم وتثويرهم وفق الوجهة القائمة على هذه الوسائل الاعلامية، بالطبع هذه الخطوة تحتاج أيضا مقدمات متعلقة بأصحاب المشروع الاعلامي، الذين يحتاجون الى عدة مقومات للقيام بهكذا مشروع

أهمها :

 - الاكتفاء الذاتي اقتصاديا ومعرفيا وحضور الهدف الرباني.

- الاكتفاء يتولد عنه الاستقلال وعدم الانتماء، وهما مطلبان لخلق ذهنية مستقلة موضوعية ومنهجية قادرة على صياغة خطاب معتدل غير متطرف .

 - الاستمرار والثبات وكسب ثقة الجمهور، وهو ما يتطلب القدرة الفنية والتخصص والاطلاع على كل تطورات عالم الاعلام التقني والنظري والمفاهيمي، واستخراج النظريات الاعلامية من خلال قراءة النص الديني قراءة موضوعية، يستقرئ الواقع الإعلامي ويعرضه على النص الديني ليستخرج من بطون النصوص النظرية الاسلامية في الاعلام .

- القدرة على الانتشار، وهو ما يتطلب عالمية منهجية وخطابية قادرة على مخاطبة كل الجماهير وليس جمهور طائفي أو مذهبي، يتناسب هذا الخطاب مع عالمية الاسلام وينطلق من مبدأ "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"

فالحضور الفاعل لتيار الوعي في عمق التجربة الدينية، ومحاولته مراكمة الجهود والأفكار والمعارف، وإكمال مسيرتها وليس الذوبان فيها أو التحليق حولها، قد يهز جدار الصمت في الخطابات المذهبية والطائفية، ويعيد الرشد للنزعة الإنسانية في الدين، ليرسم مسارات إعلامية عالمية قادرة على الجذب ومانعة للصد، وقادرة على إزالة الموانع أمام وظيفتها في هداية الناس ليس بالسيف ومنطق القوة، وإنما بسلاح الكلمة والعقل وقوة المنطق.

 

إيمان شمس الدين

 

في المثقف اليوم