قضايا

اقتحم الخَوْفَ كرُبَّان السفينة

إن البُنية الرمزية للظواهر الاجتماعية تُحدِّد مساراتِ الخيال الذي يتم إسقاطه على الواقع . وهذا الخيالُ ليس كُتلةً هُلامية سابحة في الفراغ الفكري والعدم الاجتماعي، وإنما هو كُتلة مركزية ذات أبعاد واقعية، قابلة للتطبيق على الأرض . وكُل الأحداث الواقعية هي نتيجة حتمية للخيال، لأن الأفكار تنشأ في الذهن ثم تنزل إلى الواقع، تمامًا كالسفينة التي تُصنَع على اليابسة ثم تنزل إلى البحر . ولا يُمكن للخيال أن يتكرَّس كواقع محسوس إلا إذا تحوَّلت الرموزُ الذهنية إلى أشكال للأخلاق الاجتماعية، وتحوَّلت الإشاراتُ الفكرية إلى ثقافة منهجية توازن بين طموح الفرد ومصلحة الجماعة . وعندئذ، سيقتنع الفردُ بأهمية الخيال كمشروع للخلاص الواقعي، وخطوة أُولى لا بُد مِنها من أجل تأسيس ظواهر اجتماعية عقلانية، تُقدِّم حُلولًا عملية لمشكلات المجتمع .

2

يُمثِّل الأساسُ الاجتماعي للخيال تجسيدًا حقيقيًّا لحياة الفرد روحيًّا وماديًّا . وهذه الحياةُ المتشعبة لا تتحرَّك وفق نظام خطَّي بسيط،وإنما تتحرَّك وفق أنظمة متوازية ومتقاطعة شديدة التعقيد. والفردُ في سباق مع الزمن من أجل أن يجد نَفْسَه الحقيقية في الزِّحام، ويجد صوته الخاص في الضجيج . وكلما اقتربَ الفردُ مِن عوالمه الداخلية، اقتربَ مِن فلسفة الظواهر الاجتماعية . وهذا الأمر ليس غريبًا، لأن الفرد ظاهرة اجتماعية قائمة بذاتها، وهو مندمج بالكُلِّية مع تراكيب المجتمع المادية، وتقاطعاتِ بُنية المشاعر والأحاسيس . وفي ظل هذه الأنظمة المعرفية المتشابكة، يَصنع الفردُ تاريخَه الشخصي، ويبني أُسطورته الخاصة، ويؤسِّس ملحمته الحياتية الذاتية، ويُوصل معنى وجوده إلى عناصر البيئة المُحيطة به . الأمرُ الذي يَجعل الفردَ أيقونةً متفردة، وهُوية متميزة . وكُل فرد _ مهما كانت مكانته الفكرية والاجتماعية _ يخوض معركةً يوميةً حقيقيةً داخل جسمه وخارجه، فهو يُقاتل على الجبهة الداخلية التي تتمثل في المشاعر المختلطة، والأحاسيس المُبعثرة، والأفكار المتناقضة، والصراعات الفكرية . ويُقاتل أيضًا على الجبهة الخارجية المتمثلة في تناقضات السلوك الإنساني، وتشظِّي الهُوِيَّات، وتحدِّيات الأصول والمنابت، والخوف الإنساني من المستقبل المجهول . وينبغي على الفرد أن يتعلَّم مِن الرُّبَّان الذي يَقُود السفينةَ في بحر هائج . إنه يُواجه العناصرَ الطبيعية غير المُتوقَّعة، ويتصادم مع الأحداث المُفاجئة، ويُسيطر على حركات البَحَّارة، ويرى المَوْتَ بأُم عينيه.ومع هذا، لا يَستسلم،ولا يندب حظَّه،ولا يُعلِّق أخطاءه على القضاء والقَدَر.وإنما يُقاتل حتى النهاية، ويَقتحم قَلْبَ الخوف. وأفضل وسيلة للتخلص من الخوف أن تقتحمه .

 

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

 

في المثقف اليوم