قضايا

هَوَامِشٌ عَلَى تَجْدِيْدِ الخِطَابِ الدِّيْنِيِّ فِي مِصْرَ

بليغ حمدي اسماعيلتعد جدلية الشكل والعمق، الرهان الحقيقي لتجديد الخطاب الديني، الذي بالقطع غاب عن المشهد قليلا بفضل إحداثيات طارئة وليست بالجديدة على المجتمع المصري والعربي على السواء، وهذا الغياب وقع تحت سطوة التفاصيل التي أرهقتنا بها وسائط الإعلام المعاصرة من قنوات فراغية نسبة إلى الفراغ وقتل حيز الوقت، وشبكات للتواصل الاجتماعي التي استحالت بشرف وفخر أن تشبه سكن العنكبوت في وهنه وضعفه بضعف العلاقات الاجتماعية التي انحصرت بين (أعجبني) و(تعليق) و(مشاركة) . هذه الإحداثيات باختصار كانت في وقائع فساد وزير الزراعة السابق، واستقالة حكومة المهندس إبراهيم محلب وتشكيل حكومة سريعة لفترة وجيزة وأخيرًا إسدال ستار النهاية على الفصل الأخير من مسرحية صفر مريم التي حصلت عليه في مجموع درجاتها بالثانوية العامة، والذي قامت الدنيا في مصر وقعدت أيضا على إشكالية الصفر رغم أن هذا الرقم له علاقة صداقة واعتياد مع المصريين معه وللتذكرة صفر المونديال الشهير الذي حصلنا عليه في تصويت استضافة نهائيات كأس العالم .

وبإزاء جدلية الشكل والعمق في تجديد الخطاب الديني يقف القائمون على أمر التجديد أمام غموض المسألة نفسها، والتفكير بما هو نسبي يرتبط بواقع راهن وبمستقبل على وشك الاستشراف، لذلك نجد كثيرين من القائمين على أمر التجديد من يهتم بشكل الخطاب وطرائق توجيهه وصياغته واللغة التداولية التي ينبغي أن يقدم بها، بينما على الشاطئ الآخر نكتشف أناسا مهمومين بقضية العمق وهو بالقطع فخاخ موقوتة لأنها تتصل بقضايا فقهية قد تحدث لغطا وجدلا طويلا.

وبرغم أن مسألة شكل الخطاب تعد أساسية أيضا في ظل انتشار فوضى استخدام المنابر على أيدي تيارات الإسلام السياسي فإن العمق هو أساس الخطاب وكنهه الأساسي، وهذا يجعلنا نؤكد بضرورة توصيف الخطاب الديني على أساس أنه سلطة غير مطلقة وهذا يترتب عليه سعي الخطاب لتغيير وظيفته من النقل النصي إلى تحرير العقل وتنويره ومن ثم تثوير أفكاره ومضامينه، وفتح أبواب الاجتهاد التي ظلت موصدة لفترات طويلة من أجل مطامع سياسية، وتغير الوظيفة تجئ لخدمة مقاصد الإسلام . وبما أن الخطاب الديني الراهن دخل طواعية أو من منطق الكراهة معركة الانحسار أو الانتصار فالقائم على أمر تجديده أمام رهان جديد وقاسٍ وهو إقصاء المنتفعين من هذا الخطاب لخدمة مطامح شخصية ومآرب ضيقة .

وهذا يجعلنا نجتر ذكريات ليست بالبعيدة، حينما لعب لفترة طويلة دورا مهما وخطيرا في تأسيس الحياة السياسية، وفي أحايين كثيرة كان محركا للحياة السياسية نفسها، وحينما كان يسعى الخطاب الديني الذي تسيدته تيارات الإسلام السياسي لتكريس ثقافة سياسية ومجتمعية تحمل صبغة دينية لجأ إلى نصوص تراثية تحمل في طياتها دلالات المخالفة والشقاق الذي أحدث اللغط القائم اليوم، ليس هذا فحسب، بل ونحن نمر سريعا على تاريخ الخطاب الديني لفصائل الإسلام السياسي نجده يحمل ملامح ثابتة يمكن رصدها في أنه خطاب ماضوي يأبى المعاصرة ويقيم حواجز مانعة منيعة ضد أية محاولات للاجتهاد أو إعمال العقل، وهذا خطاب بالضرورة أن يستحيل قمعيا وانغلاقيا يرفض الاختلاف أو الفطنة لأهمية حق الآخر، وحينما يتسم خطاب بهذه المؤشرات فهو بالتأكيد نص ذكوري وجود المرأة فيه إحداثياته إما بالتحريم أو التشكيك أو التسفيه أو الإقصاء النهائي.

وتأسيسا على ما سبق وتأكيدا على تأخر عملية القلب المفتوح التي ينبغي أن تجرى للخطاب الديني فإنه الآن يعيش برئة عاجزة تماما عن التنفس، ومن أجل إحيائه وتجديده بإخلاص ديني ووطني ينبغي أولا الاقتصار على مصدري الإسلام الصحيح والسليم القرآن الكريم والسنة النبوية العطرة والعاطرة، دون الاكتراث بالنصوص التي اتبتدعها أهل الجدل والجدال الذين أحدثوا ارتباكا واضطرابا بإطلاقهم دعوات التكفير والتحريم بغير ضابط أو قرينة .

وربما اقتناعنا التام بأن خطابا دينيا متطرفا لا يحيا إلا في ظل ظروف استبدادية استثنائية، فإن الاستحقاقات الديموقراطية التي جاءت بها خارطة الطريق في مصر عقب العزل الشعبي للرئيس محمد مرسي وجماعته كفيلة بوجود خطاب ديني متجدد ومعاصر يفي بالغرض ويشفي ذا العلة ويقضي على حالات الاضطراب الديني والفقهي .وأخيرا تستلزم الظروف الراهنة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية وجود خطاب ديني في مواجهة مستدامة مع الهوية شكلا وعمقًا.وهذا الأمر يتعلق أيضا ببقية الدول العربية التي طالتها مغبة الغلو في التكفير واستلاب الرأي وشيوع التيارات والفصائل الدينية المتطرفة.

ومنذ ثلاثة أعوام اعتزمت وزارة الأوقاف المصرية، بل لا تزال تعتزم تحريا لدقة التوصيف إصدار واعتماد وثيقة لتجديد الخطاب الديني بالتأكيد في مصر ويشاركها في الهم بعض الدول العربية التي يؤرقها الفكر المغالي والمتطرف لاسيما المتعلق بالشأن الديني وقضاياه المجتمعية ، ولاشك أن إصدار وثيقة بشأن التجديد جاء كنتيجة حتمية لواقعنا الراهن منذ اندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير في 2011، ثم استقطاب واستلاب الفصائل السياسية الدينية للمجتمع من خلال القنوات الفضائية الموجهة والصحف والمواقع الإليكترونية التي انفجرت بغير رقابة أو عيني رقيب يتابع تلك الإصدارات، ثم ثورة ثانية في يونيو 2013، جاءت لتكشف الستار عن مطامح ومآرب جماعة حسن البنا والفصائل المتعاطفة معها، بعد أن استطاعت الجماعة أن تمزج الدين بالسياسة، دون عمق في التلقي أو بصيرة في التأويل وخصوصاً حينما حاول البعض من المنتمين إلى تنظيم حسن البنا جعل الرئيس المعزول محمد مرسي رجل دين بدلا من كونه مهندساً ووقتها تقلد منصبا سياسياً لا أكثر،  لكنها فتنة الكهنوت دوما تتحكم في السياسة وحرفة السلطان، وأخيراً ما نسمعه ونشاهده ونقرؤه أيضا من إحداثيات مجتمعية وفتاوى عجيبة وكتابات أعجب تتناول القضايا والموضوعات الدينية بصورة مدهشة وغريبة.

وحينما تقتنص أسماعنا كلمة الوثيقة فإن ثمة خواطر قد تعصف بالذهن إلى حد إمطار الأفكار والطروحات بشأن الكلمة ذاتها، لأنني افترضت وغيري أن هناك شبه وثيقة علنية تحكم الخطاب الديني لاسيما في ظل مؤسسة عريقة جامعة هي الأزهر الشريف منارة العلم الديني في العالم رغم الهنات الصغيرة التي تعتري بعض العاملين في هذه المؤسسة والبيروقراطية العجيبة التي تسود طرقاتها الإدارية ويتحكم من خلال تلك البيروقراطية مجموعة من صغار الموظفين بالدولة والقابعين بالأزهر أو بالأوقاف المصرية وهم لا يعلمون شرف الانتساب لهاتين المؤسستين العريقتين.

لكن المهم هو وجود وثيقة تضمن تجديد الخطاب الديني لا تقييده، لأننا بالفعل ومنذ عقود مبارك نعاني من فقر الاجتهاد الديني، ولا أعتبر ما تم في سنة الجماعة من مساجلات فضائية أو تصريحات صحافية في جملة الاجتهاد لأن ذلك الفعل كان أقرب إلى التندر والسطحية أكثر منه إلى التفقه والتنوير . كما أن الاجتهاد لا يدخل في باب السفه الذي تناول المجتمع المصري مؤخرا من قصص وفتاوى ودعاوى مثل خلع الحجاب أو ارتدائه أو ممارسة الجنس قبل الزواج أو الزواج بالأطفال أو غير ذلك من عبث الأيام وأصحابها . فالوثيقة عليها أن تضمن مناخاً طيباً للاجتهاد لاسيما في العلوم الدينية وليس الدين، وتأليف وتصنيف كتب تتناول قضايانا الفقهية المعاصرة بشئ من المقاربة التاريخية لا الاستناد على فتوى ملقاة ومتناثرة في كتب وصحائف الدولة الأيوبية أو عصر المماليك أو دولة أحمد بن طولون.

فالإصلاح الديني يرتبط بالاجتهاد الإيجابي المحمود الذي يشترط توافر مقومات ومعايير للمجتهد أهمها وأبرزها الكفاءة في حفظ القرآن الكريم وتفسيره وتأويله وفهم وفطنة مقاصده ومراميه، وإتقان الحديث الشريف حفظاً ورواية واتصالاً بالسند وتواتره وأسباب روايته، ومناخه الاجتماعي أيضاً الذي صدر فيه الحديث لحبيبنا وشفيعنا المصطفى (صلى الله عليه وسلم) . وأخيرا الإلمام الكافي والشافي من علوم اللغة العربية والدين الإسلامي بالقدر الذي يسمح للمجتهد طرح فكره ومنتوجه الذهني .ومن ثم يكون الإصلاح فكراً ومنهاجاً وسلوكاً واجتهاداً.

وسأكرر ما قاله المفكر الديني الماتع الشيخ عبد المتعال الصعيدي ؛ ذلك المجدد المجهول والمتجاهل إعلامياً قصداً وعمداً رغم كونه من رواد إصلاح الفكر الديني وتجديده، وأبرز الذين نادو بضرورة تجديد الخطاب الديني منذ عقود بعيدة مترامية في التجاهل والنسيان،  فلقد أشار  منذ سنوات بعيدة إلى ضرورة وحتمية الإصلاح ومقومات الاجتهاد وضرورة تجديد الأزهر الشريف، فلقد قال إن الإصلاح الحقيقي لا يصح أن يقف عند دراسة العلوم الدينية فحسب بل يجب أن يتعداها إلى فتح الأذهان المقفلة في الأزهر، حتى تدخلها آثار التجديد، وتخلع تلك الأبواب البالية، وتعود إلى ما كانت عليه علوماً تفتح العقول، وتربي المجددين، والأئمة المبرزين .

وهو نفس المعنى الذي أشار إليه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي حينما قال بالثورة الدينية، ولسوء الفهم والتأويل اقتنص المتهوكون العبارة وراحوا يدشنوا احتفالات واحتفاءات حسب أهوائهم ومطامعهم السياسية، رغم أن العبارة تتضمن ما ذكره المجدد الشيخ عبد المتعال الصعيدي ليس أكثر.

ولكي تضمن وزارة الأوقاف نجاح وثيقتها لتجديد الخطاب الديني عليها الأخذ بحتمية إعادة التأهيل والتكوين حتى لكبار رجال الدين وهذا ليس بعيب أو منقصة، بل إن التأهيل والتدريب المستمر يتيح للعالم المجدد الإحاطة بطبيعة العصر الراهن وبمراجعة العلوم والفتاوى والقضايا الدينية التي طرحت قديما ويعاد إنتاجها مؤخراً. والحقيقة أنني سأظل مقتنعاً جد الاقتناع عن دراسة وقراءة عميقة وتأمل بأن الشيخ الإمام محمد عبده هو مجدد عصره، وهو صاحب بذرة تجديد الخطاب الديني، ولازلت أكثر اندهاشا وتعجباً كيف لهذا الشيخ الأزهري في بيئته آنذاك يحمل فكرا عميقا متجددا يصلح لزماننا ومكاننا لاسيما وأن اجتهاده كان شديد الصلة بواقع مجتمعه لا منجذباً لعصور بائدة.

وأيضاً إذا استهدفت وزارة الأوقاف المصرية، وغيرها أيضا من وزارات الأوقاف العربية المعنية بتجديد الخطاب الديني وتطويره بما يتلاءم ومقتضيات عصرنا ومواجهة خطر التطرف الديني ومغبة التيارات الأصولية غير الواعية كتنظيم الدولة الإسلامية داعش وغيرها من الفصائل والجماعات الراديكالية فعليها أن تدرك أن مشكلة الخطاب الديني لا تتمثل في الكتب الدينية والمصادر المعرفية التي يستقي منها الخطباء والأئمة معارفهم، بل تتمثل فيهم أنفسهم، فلا تزال عقدة الثقة هي المحك الرئيس لاختيار الإمام والخطيب بل والمعلم الأزهري أيضاً، وسط تجاهل مستمر ومعلن لمعايير أخرى كالكفاءة والخبرة المستدامة غير المنقطعة في الدراسة وحضور المؤتمرات والندوات.

علاوة على ضرورة الأخذ بمعايير المعرفة المستمرة والخبرة العلمية الناجحة لمن تؤول إليه مهمة الخطابة والإمامة، لاسيما هذه الآونة التي نرى فيها الفتنة يقظة ولم تعد نائمة كما كانت، وفي الوقت ذاته الذي نشاهد فيه بعض أباطرة الفضائيات الفراغية المهووسة وهم يدغدغون مشاعر وأعصاب البسطاء من المشاهدين، وبالمناسبة نحمد الله أن مصر تكاد تفرغ من المبدعين والمثقفين ورجال الفكر المستنير وإلا لشاهدنا رجلاً موتوراً يقدم على اغتيال مبدع أو مفكر أو أديب مثلما حدث للأديب العالمي نجيب محفوظ، أو كما جرى للمفكر فرج فودة وغيرهما كثير.

وأقولها صادقاً لأولئك المهمومين بتجديد الخطاب الديني وإعداد وثيقة لتطويره وتنقيته من شوائبه العارضة: قبل أن تجلسوا على مقاعد الكتابة والإعداد للوثيقة لابد وأن تعوا بأنكم مقدمون على معارك ضارية لابد من حسمها سريعا، أبرزها الخطاب الديني الذي تردى وصار سلاحاً ووسيلة تستخدم في غير مكانها وغرضها الصحيح، وأن التجديد أيضا لابد وأن يشتمل على مواجهة صورة الإسلام في الإعلام الغربي، الذي بات يصور ويجسد المسلم في المقالات والدراسات العلمية وحتى في الأفلام السنيمائية على أنه بدوي جاهل مسعور.

وربما أنا مع ضرورة وجود وثيقة ملزمة لتجديد الخطاب الديني في الوقت الراهن لعوامل عدة أهمها ما رصدته بحضور كثيف وطاغٍ في الخطاب الديني المعاصر، فهناك نبرة استعلائية غريبة، رغم أن الخطاب الديني هو رسالة وقيمة في الأساس، ولكن ما سمعته وقرأته من كتابات أكد لدى حقيقة هي أن الخطاب الديني الراهن والذي يتسيده بعض المتطرفين والذي بات تائهاً بين التجديد والتطوير والتعديل يسعى إلى تأسيس درجات متعددة من القمعية والسلطوية، فصاحب الخطاب والنص لايزال يضفي على نفسه صفة القاضي والمشرع والمفتي وصاحب الأمر والنهي والقمع على المتلقي البسيط حتى يحول خطاب الديني إلى سلطة قمعية.

ووسط عشرات القنوات الفضائية الفراغية وعشرات الكتب التي من المفترض أنها دينية تجد معظمها تحمل عقاباً أكثر مما تحمل حلولاً وعلاجات لمشكلات عصرنا المضطرب، ومن المدهش أن سمة العقاب هذه لها كيمياء وحالة من الرضا بنفس وقلب وعقل المستمع والقارئ، فهو لا يريد أن يرهق نفسه بالتفكير والتأويل والتحليل لما يطالعه أو يسمعه من معلومات دينية، لذا فالمستمع ذو الآذان الكبيرة ليس بحاجة ماسة إلى بدائل يختار من بينها أكثر مما هو بحاجة إلى وجود قوة بشرية رادعة له .

إن الخطاب الديني بحاجة إلى عملية تثوير جذرية، وكلما قرأت الآية القرآنية (وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) أدركت على الفور أننا أمامنا طريق طويل جداً لتغيير النبرة الاستعلائية للخطاب الديني، وأن قبول المناقشة وتقدير التنوع الثقافي دون استعلاء أو استكبار لهو أمر جلل بلا ريب.

وأن خطاباً مثل هذا لا يحمل سمة التسامح وتقدير التنوع الثقافي والفكري دون قمع أو قهر لا يؤدي يوماً ما إلى بناء أو نهضة، بل سيسفر عن أجساد تمشي على الأرض لا هدف لها في الحياة أو منها. فكيف تنهض هذه الأمة ولا يزال بعض الدعاة والأئمة يدغدغون مشاعرنا وأعصابنا بقصص تاريخية وحكايات مبتدعة لا أصل لها في كتب التاريخ الرصينة والموثوقة ؟.

ولعل القائمين على إعداد وثيقة لتجديد الخطاب الديني أن يهتموا بقدر ليس بالقليل من وقتهم وجهدهم وجهادهم الذهني والفكري وأن يدركوا ما صنعه الاستعمار الأجنبي والتوافد الخارجي الثقافي على مصر والدول العربية الشقيقة، فلقد عمل الاستعمار على تربية الأجيال المسلمة في الأقطار الإسلامية على إبعادهم عن الإسلام، وسلخه من مفهومه الصحيح كدين شامل يعني بحياة المسلم وآخرته. وعلى هذا الأساس وضعوا سياسة التربية والتعليم في أقطار المسلمين بواسطة المستشرقين، ومن حذا حذوهم من أهل الأقطار الإسلامية نفسها، وقد رسموا سياستهم على أسس منها إضعاف الروح الدينية لدى الطلاب، والاهتمام بالمواد المدنية وتدريسها بمعزل عن الدراسات الدينية، مع العلم بأن الإسلام يدرس كل العلوم على أساس قاعدته الكلية، سواء كانت العلوم متعلقة بالمسائل الضرورية أو الحاجيَّة. كما عمل على إشعار الطلاب منذ نعومة أظفارهم باستعلاء اللغة الأجنبية .

كما أن الأمة الإسلامية تواجه حملات التشويه والتزييف لديننا الحنيف، ومهمة هذه الحملات هدم المجتمع الإسلامي، وإقامة مجتمعات على شَاكلة المجتمعات الأوروبية، وكذلك ما قام به زعماء الفتنة والتشويه من إدعاءات كاذبة مضلة بدءاً من أن القرآن الكريم من تأليف سلطة بشرية، وأن ما جاء به لا يزيد عن كونه نوعاً من الحيل.

إن دراسات المستشرقين حول القرآن الكريم لا تصدر عن العلم، بل تنحرف نتائجه عنه؛ لأنها عن هوى واعتقاد حاقد عن الإسلام، أو غير قادر عن فهمه. إن المستشرقين ينتمون إلى نوعين لا ثالث لهما؛ فالمستشرق إما أن يكون علمانياً مادياً لا يؤمن بالغيب، وإما أن يكون يهودياً لا يؤمن بصدق الرسالة الإسلامية التي أعقبت رسالته.

ويعمل الاستشراق على الحيلولة بين الشعوب وبين الإسلام، وذلك بحجب محاسن الإسلام وتشويه صورته؛ لإقناع الناس بعدم صلاحية الإسلام. هذا بالإضافة إلى فصل المسلمين عن جذورهم الثابتة الأصيلة بتشويه تلك الأصول، وعزلها عن مصادرها، والعمل على هدم الكيان الفردي والاجتماعي والنفسي والعقلي، وذلك للاستسلام أمام المستعمر وثقافته وفكره.

ولم يجد ملاحدة العصر الحديث من شبهات يلصقونها بالإسلام فادعوا كذباً بأن الإسلام عقيدة تدعو إلى التواكل والسطحية واللامبالاة تجاه المتغيرات الحياتية والمجتمعية، ومن يقرأ القرآن الكريم ويتدبر معانيه وآياته الحكيمة يتأكد أن الإسلام دين يحث على العمل، ويدفع الإنسان نحو، والمطالع لآيات القرآن يدرك ويفطن الربط المستدام بين الإيمان والعمل، يقول الله تعالى :  وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون.

والقرآن يحث المؤمنين على العمل حتى في أوقات الراحة، وأقصد يوم الجمعة، فيقول الله تعالى في ذلك :  فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله. فأين هذا التواكل الذي يلصقه الملاحدة بالإسلام والمسلمين؟ . والسنة النبوية لصاحبها  تحث على العمل والسعي الدءوب غير المنقطع من أجل عمارة الأرض، يقول الرسول  : " إذا قامت الساعة في يد أحدكم فسيلة فإذا استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليفعل" . بل ونجد الرسول الكريم  يضرب مثلاً أعلى في الدعوة إلى العمل حيث رفض انقطاع الناس للعبادة في المسجد واعتمادهم على غيرهم في المأكل والمطعم والمشرب والملبس، وامتدح من يعمل ويكد من كسب يده بشرف وأمانة وتقوى ومراقبة من الله تبارك وتعالى.

ولقد خلط أولئك المستشرقون بين التوكل الذي يعني تدبر الأمور والأخذ بالأسباب والتزود بالطاقة الروحية والعبادة، وبين التواكل الذي يعني الكسل وعدم الأخذ بالأسباب والوسائل المعينة. وكلنا يعرف كيف طرد الفاروق عمر بن الخطاب أولئك المتواكلين المنقطعين للعبادة في المسجد معتمدين على غيرهم في رعايتهم وقضاء شؤونهم، وقال عبارته المشهورة : " إن السماء لا تمطر ذهباً"، واستشهد في ذلك بحديث النبي  الذي يقول فيه : " لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدوا خماصاً وتروح بطانا ً" .

وليس هذا فحسب بل جعل الإسلام العمل المفيد من أسباب الثواب وزيادة الحسنات، وقد ورد في القرآن الكريم العديد من الآيات التي تتعلق بهذه المعاني ومن ذلك قوله تبارك وتعالى : هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ وقوله تعالى : وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ،  كما أن السنّة الشريفة تضمنت العديد من النصوص التي تحث على العمل والكسب الحلال مثل قول الرسول  : "ما أكل أحد طعاماً خيراً من أن يأكل من عمل يده"، وقوله  : "من أمسى كالاًّ من عمل يده أمسى مغفوراً له" .

ومما لاشك فيه ـ ومن خلال استقراء التاريخ والواقع المشاهد ـ أن أساليب الكيد والحقد للإسلام قد تنوعت، وكثرت محاولات استئصاله عبر التاريخ قديماً وحديثاً، ولكن الحمد لله تبوء جميعها بالفشل في النهاية، لأن الله عز وجل قد تكفل بحفظ هذا الدين وأهله وأتباعه.

ومن الإدراك الواعي لهذه الأمة أن العودة إلى سياج الإسلام عقيدة ونظاماً هي مسألة مهمة، وأن الواجب الأكبر والسبيل الوحيد للإنقاذ من حياة الشتات هو أن نفهم الإسلام فهماً واعياً مشرفاً صائباً ونقياً وذلك بالتصديق الجازم بعقيدته. واستخدام الفرد المسلم الحقائق والمعلومات التي يستقيها من القرآن الكريم والسنة النبوية، ليربط بها الواقع فيصبح مفكراً إسلامياً قادراً على إيجاد الحلول الصحيحة لكافة المشكلات.

وإذا كنا نعني بالتحديات التي تواجه الإسلام المعاصر، فينبغي أن نحذر المسلمين من النشاطات المعادية للإسلام والتي تتقنع في مؤتمرات ومؤسسات بأسماء مختلفة مثل نوادي الحياة، أو منتديات الصداقة. ولقد قدم الإسلام الحنيف نموذجاً أخلاقياً ثابتاً لمواجهة مثل هذه التحديات.

إن من التحديات التي تواجه تجديد الخطاب الديني الغلو في التكفير الذي نال واصطاد الكثيرين، ولعل أبلغ تشبيه للغلو في التكفير والتفسيق هو " الورطة"، ولقد توعد رسول الله (عليه الصلاة والسلام) بهؤلاء الذين يكفرون إخوانهم بقوله : (لا يرمي رجل رجلاً بالفسق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك). أما الآن فأصبح التكفير وشبهات التفسيق  أسرع حكم يمكن أن يصدره إنسان على أخيه، وإذا كان التكفير قديماً سلاحاً خفياً يستخدمه بعض المتطرفين في مواجهة خصومهم، فاليوم أصبح أداةً هجومية تستخدم بصورة محمومة ومهووسة .واستسهال رمي البعض بالفسق والخروج عن مقاصد الشريعة الإسلامية يذكرني بقصة طريفة، فقد جاء رجل إلى ابن عمر، فسأله عن دم البعوضة، وعن حرمة قتل الذباب، فقال له: ممن أنت؟ قال : من أهل العراق، قال: ها انظروا إلى هذا، يسأل عن دم البعوض، وقد قتلوا ابن بنت رسول الله.

إن أخطر ما نواجهه حالياً من ينصب نفسه باعتباره صاحب ولاية حاكمية، أوتي العلم وفصل الخطاب، وقد عاب القرآن الكريم هؤلاء، مثل قوله تعالى : (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون) .

ولا شك أننا  مغرورقون في فتنة الحكي وشهوة السرد السلبي، وحالنا أشبه ببطل مسرحية صمويل بيكيت المعنونة " في انتظار جودو"، الذي لم يجئ بالفعل لأن المؤلف توفاه الحي الذي لا يموت والأبطال غابوا وسط صفحات المسرحية، إنها فتنة الحداثة التي تسللت خفية في طروحاتنا الفكرية والتي استدعت بالضرورة المطالبة بتجديد الخطاب الديني ومن قبله وبعده تطوير وتحديث خطابنا الثقافي النهضوي الذي لم يطرأ على إحداثياته أية تحديثات أو تجديدات منذ وفاة النهضوي الأكبر الإمام محمد عبده رائد التنوير في العصر الحديث وأن من جاء من بعده اجتر أفكاره وأعاد الصياغة بمصطلحات معاصرة لكن الحقيقة أن الواقع الثقافي المشهود لا يفي بمعطيات عصر يتسارع ومن ثم يتصارع .

وأوضحت التجربة الثقافية شديدة التمصير والتعريب أن الحداثة وقفت طوعا عند حدود المصطلح دون أن تتعدى المد الزمني والمكاني لها وبالتالي دخلت المجتمعات المصرية المتعاقبة لاسيما النخبة في مساجلات تنظيرية حول المصطلح كالدولة المدنية والعلمانية والنهضة وشروط التقدم وإعمال العقل والتكفير وغير ذلك من الطروحات الفلسفية التي طغت على أرفف المكتبات الثقافية والجامعية دون أي تجديد مرتقب حتى وإن افترضنا أن ثمة محاولات فكرية تم رصدها مثل أفكار قاسم أمين وطه حسين وتوفيق الحكيم ويوسف إدريس ومراد وهبة وغالي شكري وزكي نجيب محمود وفرج فودة ونصر حامد أبو زيد وعابد الجابري وجابر عصفور انتهاء بسيد القمني وقضاياه الفكرية المثارة حاليا صوب الأزهر الشريف، هي محاولات لتجديد الخطاب العربي بصورة قصدية، فإن جملة المحاولات التجديدية لم تخرج عن حدود بوابة النقد الواقعي لحالات راهنة آنذاك بغير اجتهاد لتقديم رؤية استشرافية، وكانت النتيجة آلاف الأطباء والمهندسين والمدرسين بحجة أن المدافعة الثقافية هي حصول المرء على شهادة جامعية تحميه من ويلات المستقبل الغيبي دون سعي حقيقي للاكتشاف أو التجديد.

ولأن خطابنا العربي والمصري على وجه الخصوص أكثر ميلا لجلد الذات فإننا رأينا أنفسنا في حالة استغراق كاملة لطروحات النقد أو الجلد الذاتي لفترة ما قبل ثورة يوليو 1952 وتحليل ورصد يبدو مملا بعض الشئ لحكم الملك فاروق ومن قبله فؤاد والحالة الثقافية في هذا الوقت، وبدلا من أن نستفيق على عهد ثقافي يتبعه خطاب فكري يميل إلى التثوير أكثر من استلابه صوب النقد وجدنا خطابا بعد نكسة يونيو 1967 يحلل ما سبق فكانت النتيجة حتى وقتنا الراهن مئات الكتب والرسائل الأكاديمية تحلل الخطاب الثقافي وتنقد وتنقد النقد ذاته في الوقت الذي استيقظت أنا فيه على وصول مركبة فضائية محملة بالعلماء والمستكشفين على سطح الكوكب بلوتو .

وبات مضحكا اجترار المفكرين لكتب بعينها مثل كتاب السؤال لشكيب أرسلان لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم ؟ مسردا كل عوامل التأخر دون أية إشارة ممكنة وليست مستحيلة للنهضة التي ينبغي أن تتحقق على أرض المشهد الراهن. ومن بعدها ظن المفكرون أن النهضة لا تقوم إلا على فكرة المصالحة والتوفيق بين الشرق والغرب وكان أحمد لطفي السيد وطه حسين يمثلان هذه الوجهة، ثم تسارع الوقت لنصل إلى مرحلة الكتابات الغارقة في التنظير والنقد الطويل والتي مثلتها كتابات وجيه كوثراني وعبد الله العروي وفهمي جدعان وعابد الجابري وسمير أمين وغيرهم، وهم يبحثون عن صياغة لخطاب عربي ينهض بالأقطار العربية وكانت النتيجة ليست لكتاباتهم إنما لفقر التوظيف الثقافي المهيمن مزيدا من الشهادات الجامعية وآلاف العاطلين والمعطلين عن الحراك الثقافي والعلمي بل والإبداع الفني الذي أودى بنا اليوم إلى جعل شخصية الأبله أو العبيط إن صح التعبير بطلا للعمل الفني أو جعل صوت الصفائح المعدنية بديلا للموسيقى، وغاب عنا بالفعل أداء يوسف وهبي والصوت الكرواني فيروز .

وإذا أردنا بحق تثوير خطابنا الثقافي والفكري فالأولى الالتفاف بقوة وجدية وصبر بجانب المشروعات والبرامج التي يتم تدشينها وتأسيسها في مصر والوطن العربي، وبدلا من التعبيرات السلبية صوب الكيان الصهيوني ومؤامراته التي لا ولن تنقضي بشأن تقويض الأمة العربية والوطن المصري على وجه الاختصاص، فالأحرى هو اليقظة والوعي تجاه مشروعات الدولة والاهتمام بتحقيق نجاحها بلا من الاقتصار على الصمت أحيانا والسخرية أحيانا أخرى.

وربما تكمن مسئولية التخلف في الارتكان إلى منطق الاعتماد على التاريخ وحده لاسيما وأن الشباب اليوم غير مهتم بتنمية وعيه التاريخي والتاريخ بالنسبة له لا يتعد كونه صورة لسعد زغلول أو الدبابات وهي تحاصر قصر الملك فاروق لكن دلالة تلك اللحظات الفارقة فلا تهمه، وهنا يأتي دور الإعلام والفن والدراما خصوصا وهذا يعتمد في الأساس على وطنية المنتج والمبدع والمخرج ومدى وعيهم بالانتماء الوطني ودورهم التاريخي في بناء الخطاب الثقافي العام لدى الشباب .ولربما لا أتفق في مقولة إن الفن يعكس الواقع فلابد ألا يعكسه من الأساس لأننا نعيش في جنباته بالفعل بل عليه أن يقدم إحداثيات جديدة لمستقبل يجئ .

وهذا الخطاب العربي الراهن الذي لطالما يقع فريسة لفتنة الحداثة ومصطلحاتها غير المحددة لن يفلح بغير اهتمام واضح ومباشر بتنمية الهوية والأصالة الحضارية للشباب الذي بات مهددا بالإفلاس الفكري نتيجة هوسه بالتكنولوجيا كمستهلكين غير منتجين لها، والأشد غرابة في واقعنا الثقافي الداخلي ظهور عشرات الكتب التي تحمل عبارة " من الأدب الساخر " في الوقت الذي نسخر فيه من الكاتب والقارئ والناشر على السواء، حتى تجاربنا الثقافية المتضمنة بهذه الكتب لا تخرج عن عباءة الأحاديث التافهة بين شاب وشابة في كافتيريا أو مقهى راقٍ نسبيا وهنا نفصل بين هؤلاء وسياقهم الحضاري الذي بالفعل يغيب من بين أيديهم بغير رجعة .

ولكي لا أقع أنا أيضا في فخ التنظير والمبالغة في السرد فالتوجيه الدقيق لهذه المرحلة هو فتح آفاق المشروعات للشباب الواعي الراغب في الاستنارة بدوافع وطنية ، ليس من منظور التنفيذ والبناء المعماري الملموس، بل لنكتفي في هذه المرحلة بإعلان التخطيط لأن التخطيط في حد ذاته هو حجر الأساس والتكوين، من مثل مسابقات لمشروعات ريادة الأعمال بالجامعات، وهذا ليس بمبالغة صحافية، ففي جامعة المنيا على سبيل المثال قام رئيسها الحالي المستنير والمثقف بالفعل الأستاذ الدكتور جمال الدين أبو المجد بتدشين المركز الوطني للإبداع وريادة الأعمال كخطوة استباقية لاستشراف المستقبل الذي يمكن أن نصنعه بأيدينا نحن بغير تبعية لوافد أجنبي أو لفكرة مستوحاة، فقام بإنشاء هذا المركز لاحتضان أصحاب الأفكار الواعدة من الطلاب المتميزين أو الذين يسعون إلى تحقيق التميز واحتضانهم علميا وإبداعيا وتدريبهم على تحقيق وتنفيذ مشروعاتهم وهذه مصر التي نحلم بها .

التوجيه الثاني هو الاكتفاء المرحلي بإعادة قراءة الماضي لاسيما وأن قراءاته النقدية ومناهجه أصبحت متعددة ولا حصر لآليات تناولها، وهذه التعددية للقراءة بالرغم من أهميتها لذوي الألباب المستنيرة إلا أنها ستفتح أبوابا للجدل ومزيدا من التوتر المعرفي، والاهتمام الأولى هو المشاركة في اللحظة الراهنة في نشاطات الوطن القومية بالكتابة أو الإبداع الفني والتشكيلي والموسيقي والإفادة من معطيات مشروعات الدولة في تحقيق مشاركة ناجحة لهؤلاء الشباب .

إنْسَان : جَميل حقًّا أنْ تَنْتَمِي .. الأجْمَلُ أن تَقْبَلَ بِتَنَوُّعِ الانْتِمَاء .. لِوَطَنٍ واحِدٍ .

 

الدُّكْتُورُ بَليغ حَمْدِي إسْمَاعِيل

 

في المثقف اليوم