قضايا

قَهْرُ النَّصِّ

بليغ حمدي اسماعيللا أعرف مسبقاً إذا كان القارئ العزيز سيتقبل عذري واعتذاري عن ارتكاب السطور المقبلة، ولعلها المرة الوحيدة التي استأذن فيها القارئ بأن يغفر لي حماقة الكتابة عن الدولة المدنية والدولة الدينية،،  فهو حديث ذو جدل وجدال وشرك كبير ـ بفتح الشين أي الفخ ـ وهاوية تغوي المقترب منها. وكلما فكرت في مسألة العلاقة بين إقامة دولة مدنية ودولة دينية أحمد الله وأشكر نعمته بأن الأديان السماوية لم تنتشر بفعل المطابع وحدها، بل بحيوية وسر خاص من عند الله.

وإذا حاولنا أن نرصد بعض مخاطر إقامة الدولتين معاً المدنية والدينية فنحن دونما شك سنقع في هذا الشرك أو الفخ الكبير، فإذا كان المد السلفي المتطرف إسلامياً كان أو مسيحياً بعض الوقت يسعى إلى استقطاب عدد لا بأس به من الأنصار فإن ذلك سيؤدي بالضرورة إلى تفكيك بنية المجتمع، بل سيؤدي إلى مغبة مهلكة من خلال تحريض الطبقات المعدمة، ناهيك عن إثارة الخلاف حول القضايا الفقهية وعلى رأسها مسالة تجديد الخطاب الديني الذي لا أملك آملا في تحقيقه على المدى القريب نتيجة الهوس الإعلامي لبعض الشخصيات التي اعتادت احتراف إطلاق العنان للفتاوى غير المضبوطة فقهيا.

هذا بالنسبة للدولة الدينية التي ربما تقام دون تخطيط أو معاناة في التنفيذ ومتابعتها ومراقبتها ومن ثم تحقيق أهدافها المنشودة، أما بالنسبة للداعين إلى إقامة دولة مدنية وترسيخ أعمدتها وأركانها فهم أيضاً سيذهبون بغير وعي نحو هذا الشرك المنصوب لهم . فربط الدين مثلاً بالعلم بصورة مستدامة يوقعنا في إشكال خطير، نظراً لاتسام العلم نفسه بالتغير والتقدم الدائم، بل إن دعوة هؤلاء المناصرين لإقامة الدولة المدنية دون ضوابط ثابتة ستجعلهم يقدمون العقل على ظاهر الشرع عند التعارض، وهذا بدوره يؤدي إلى تحريك الطائفية من جديد.

ولاشك أن فكرة الحوار بين أنصار كل اتجاه مدني وديني يتحرك نحو الصراع والعداء، فكلاهما يرى الآخر على باطل، إلا أن أنصار الدولة المدنية أخف وطأة في الحكم على الآخر، فهم يبتعدون تماماً عن التكفير الذي طال معظم من اشتغل بالتفكير والتأويل والتحليل وإعمال العقل، وربما سندهش أقراني حينما أخبرهم بأن الشيخ الإمام محمد عبده أحد مستنيري القرن التاسع عشر بأنه أشار إلى أن الأصل الخامس للإسلام هو قلب السلطة الدينية والإتيان عليها من أساسها، بل يقر الشيخ الإمام المجدد محمد عبده أن الإسلام هدم بناء تلك السلطة ومحا أثرها، وأن الإسلام لم يعد لأحد بعد الله سبحانه وتعالى ومحمد علية الصلاة والسلام سلطاناً على عقيدة أحد، ولا سيطرة على إيمانه، على أن الرسول عليه السلام كان مبلغاً ومذكراً، لا مهيمناً ومسيطراً . يقول الله تعالى (فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمسيطر) .

ولعل سبب كراهية معظم السلفيين لفكر الإمام ما صرح به بأن الإيمان يعتق المؤمن من كل رقيب عليه، فما بينه وبين الله سوى الله وحده، ولكل مسلم أن يفهم عن الله من كتاب الله، وعن رسوله من كلام رسوله بدون توسيط أحد من سلف ولا خلف.

وفي صدد تجديد الخطاب، تجدر الإشارة إلى ما أثير منذ سنوات ليست بالبعيدة بشأن صدور الحكم القضائي الخاص بإلزام الكنيسة المصرية بمنح الترخيص للمطلق بحق الزواج الثاني و الذي بغير شك ترك، ولا يزال يترك حالة مستمرة من الجدل بين ما هو سياسي مدني وما هو ديني، والمسألة المصرية إن جاز لي وصفها مسألة معقدة نظراً لتشابك علاقاتها وتعدد الاتجاهات والتيارات فيها. وهذا الحكم يترك لدي انطباعاً مفاده الحيرة والدهشة، فهل صدور مثل هذا الحكم في هذا الوقت المحموم بصيحات التغيير والتعديل والتطوير كان انعكاساً لهذا التيار غير الواضح ملامحه، أم أن أكثر من رجل مسيحي مطلق قاموا بما اشتهر تسميته بتجمع الهموم المشتركة فقاموا برفع قضية ضد الكنيسة المصرية يطالبون فيها بحقهم في إقامة حياة زوجية وأسرية جديدة وسط مرأى ومسمع ذويهم وأقرانهم وعشيرتهم.

وعليك أن تكتفي بمطالعة عناوين الصحف والمجلات وموضوعات برامج التوك شو التي أصبحت تشبه القنوات الدينية الفراغية والتي تناولت هذه القضية آنذاك لتدرك على الفور هوس الجميع بالقضايا الدينية الخلافية، ومدى صعوبة الحالة المصرية في الفصل بين الأمور الدينية والأمور الدنيوية . فالبابا شنودة الثالث أصر مطلقاً على رفض التصريح بالزواج، مضيفاً إلى أن من يريد أن يتزوج فعليه ذلك بعيداً عن الكنيسة الأرثوذكسية.

وتشير الإحصائيات الرقمية أن أكثر من مائة وأربعين ألفاً هم ضحايا الطلاق مما يزيد من الحالة المصرية تعقيداً وحيرة. فعلى هؤلاء طبقاً لإعلان البابا من رفضه لقرار المحكمة أن يغيروا ملتهم أو دينهم أو أن يفعلوا ما يريدون دون الرجوع إلى مرجعية دينية . ولأنني رجل مسلم من الطبيعي أولاً ألا أدخل في هذا الجدال المحموم بين الكنيسة المصرية وأحكام الدولة المدنية، ثانياً إن معالجتي لمثل هذه القضايا الخلافية الجدلية تثير مسألة الفتنة الطائفية التي أسعى وغيري دون كلل أو تعب إلى القضاء عليها في مهدها وإقامة علاقات اجتماعية ورسمية دون تفرقة أو تمييز على أساس العرق أو الجنس أو الدين إذا كنا نرغب حقاً في البقاء.

لكن ما يثير دهشتي حقاً أننا نسقط دائماً في أول اختبار حقيقي نحو المواطنة التي لا تعني مطلقاً قهر النص الديني، ولا تعني إلغاء الفوارق والملامح الرئيسة والفاصلة بين الأديان، بل تشير إلى ضرورة الإذعان للقرار السياسي والالتزام بالأعراف المدنية التي تسعى الدولة إلى ترسيخها .

وأيضاً ما يحدث من مشاحنات ومساجلات ذات صوت عال حينما تصطدم المؤسسات الدينية بالقرارات المدنية رغم حرص كل طرف منهما على إظهار روح التعاون والمشاركة من أجل رفعة هذا الوطن الذي لا ولن يرتفع أمره إلا بارتفاع حقوق أصحابه، وأؤمن كما يؤمن غيري بأن النص الديني المقدس لن يتغير ولا يليق به ذلك لرفعته وقدسيته وثباته، لكن من المفجع أن العقول التي تعالج هذا النص وتتعامل معه لا تتغير بل تريد حيناً  أن تفرض سطوتها وحيناً آخر سياطها المغموس في الزيت المغلي لقهر وقمع النص الديني.

والأخطر في تفاصيل هذه القضية التي ستظل معلقة حيناً من الدهر حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً، أنني أستشعر خطراً قادماً من بين ثنايا هذه المسألة المثيرة للجدل، هذا الخطر قد يكمن في زيادة نبرة الاحتقان نحو القرارات المدنية السياسية تجاه الأمور الخاصة بالعقيدة، وقد يدفع هذا الاحتقان إلى ثورة بعض النساء المسلمات المقبلات على الزواج بأن يقمن دعوى قضائية ضد أي جهة أو مؤسسة أو حتى منظمة حقوقية يطالبن فيها بحقهن في إضافة بند أو شرط خاص في وثيقة الزواج تقر بعدم زواج زوجها بأية امرأة ما دامت على ذمته.

ونظراً لأننا نعيش ونحياً في ظل شعارات مسعورة تنادي بالتغيير والتطوير لأي شئ وبأي صورة، ونعاني من حالات فشل وسقوط ندعو الله تعالى بأنها لا تدوم  مثل انتحار شاب لظروف نفسية مبهمة، وانتشار موجات عشوائية من الأغاني، وسلوكات رياضية لا علاقة لها بالأخلاق والقيم، والأزمة الطارئة بين بعض النقابات والهيئات والجمعيات الأهلية، مروراً بالمحاولات الخبيثة للنيل من الدولة المصرية رئيسا وجيشا وشعبا أيضا، وآخرها هذا التهكم البغيض والسخرية المريضة بين جماهير الكرة في مصر، بينما هذا الجمهور نفسه لا يدرك ويفطن أن فريقه الوطني بات مهزوماً وهو يلعب مكشوف الساقين والمهارة أيضاً، ويجري وراء كرة مستديرة وسط جمهور مهووس قام بتلوين وجهه وذراعه وجبهته وربما قدمه بألوان علم بلاده حباً في لاعبيه، إلا أننا نأمل وسط كل حالات السقوط تلك أن نحيا ونستمر في إخراج العقول من حيز البساطة إلى ملكة التميز.

 

الدكتور بليغ حمدي إسماعيل

 

في المثقف اليوم