قضايا

الجِينُوم وفَيروس التَّعلِيمِ

بليغ حمدي اسماعيلأنا لا أصدق أية معلومات تنشر في صحيفة أو تطبع داخل كتاب طبي أو علمي متخصص أو شعبي يصدره أحد المشعوذين المحسوبين على مجال الطب والعلاج والعلوم كرهاً لا طوعاً، لا سيما تلك المعلومات التي تتعلق بكيفية تنظيم عمل الجينات البشرية وخصوصا حينما تأتي مثل هذه المعلومات من أفواه وأقلام عربية لأن واقع تعليمنا لا ينبئ بثقة متبادلة، وربما أبدو في نظر كثيرين أبا جهل القرن الواحد والعشرين في ذلك، وساعات ليست بالقليلة أضحك كثيراً حينما أقرأ خبراً أو أستمتع إلى برنامج أو فيلم وثائقي عربي الصنع يتناول موضوعات مثل رصد الجينات المرتبطة بالأمراض، أو حينما تقفز على شاشة التلفاز إحدى الطبيبات التي تعاني مستشفياتها نقصاً حاداً وصارخاً في الأدوية الأساسية كالمسكنات لتؤلف قصصاً وحكايا افتراضية كالفيس بوك عن كيف توصلت إلى خطة تتحكم في شبكة الموصلات داخل الحمض النووي الريبوزي في مكان تشغيل الجينات .

وظل هذا اليقين تجاه هؤلاء المشعوذين طويلاً حتى فاجأنا مشروع فانتوم 5 الذي انطلق منذ ثلاث سنوات بإشراف مركز رايكن لتكنولوجيا علوم الحياة في اليابان، وما أدراك ما اليابان التي تسبح في أكوان وعوالم أخرى ولا تعترف أبداً بالمنافسة لأنها خارج السياق والتصنيف والسبق والريادة وقل ما شئت عنها حتى في كرة القدم استطاعت أن تصل على الدوام إلى المشاركة في نهائيات كأس العالم رغم قصر القامة وصغر حجم الجسم، هذا المشروع استطاع أن يتوصل إلى بعض الإشارات الطبية والعلمية منها أن الإنسان كائن يتكون من مجموعات معقدة من الخلايا تتألف من 400 نوع أصلي من أنماط الخلايا، وقرروا في نهاية مشروعهم هؤلاء اليابانيون أن هذا التنوع البديع من صور الخلايا يتيح لنا فرصة الرصد والتفكير والتحرك والمتابعة في الجينوم الذي يعد مجموع الجينات أو الموروثات في الكائن الحي .

بالتأكيد مثل هذه المعلومات قد يجدها الطالب في مقرراتنا الدراسية لاسيما المقررات العلمية التي تدرس بكليات العلوم والتربية، وربما في بعض صفحات كتب الأحياء الكيمياء بالمرحلة الثانوية، وسيفاجئوك أحد القائمين على تعليم العلوم في مصر المعنيون بالعلم والمعرفة الاستثنائية ومن قبلهما بالتربية التي فتك التحرش الجنسي والانحلال الأخلاقي في الشارع بها، والمنوط بها أمر التعليم الذي لا صلة له بما سبق من معلومات، بأن تلك الكليات العلمية الفقيرة معرفيا بحق معنية ومهمومة بتطوير المناهج والمقررات، والحقيقة أنها استفاقت على الهجمة السريعة الضارية لفيروس كورونا المصنع ببراءة اختراع .

وفرق خطير وليس كبيراً فحسب بين تصريحات السادة المعنيين بأمر التعليم في مصر حينما يتحدثون عن التطوير والتحديث العلمي وبين ديفيد هيوم مدير معهد روزلين بجامعة أدنبرة البريطانية وأحد كبار الباحثين في مشروع فانتوم 5 حينما يشير إلى أن فريقه حقق قفزة في فهم وظيفة جميع أجزاء خلايا الإنسان، وكيف قطعوا شوطاً كبيراً كي يتفهموا كيفية اتصالها معاً . وفي مصر يردد الجميع أن مشكلة التعليم سواء الجامعي أو ما قبل الجامعي ليست تتمثل في الأستاذ النابه النابغة الاستثنائي، وليست في الطالب النشيط المثابر، إنما في قلة الإمكانات المتاحة ومصادر التعلم المتوفرة .

ومع هذا القفر والفقر والافتقار في الإمكانات المزعومة والتي يعلق عليها أساطين التعليم فشلهم في الرقي والارتقاء بالمنظومة، نجد مئات المدارس الخاصة التي انتشرت كالنار في الهشيم تحت مسميات لا حصر لها مثل الدولية والشعبية والعالمية والمركزية والمتطورة والمتميزة وما تشاء من أسماء تلصق بالمؤسسات الخراسانية التي تتقاضى آلاف الجنيهات كمصروفات تدعي جميعها أنها مدارس لتعليم اللغات وتكفي إطلالة سريعة على لغة أبنائنا وبناتنا بالشارع والنادي والمدرسة أيضاً لتتعرف حجم الأكذوبة التي تمارسها علينا تلك المدارس الوهمية في التربية والتعليم أيضاً، ومثلها الجامعات الخاصة التي أخشى أن أبوح بأنها تجارة علم لا معرفة وبوابة خلفية للهجرة غير الشرعية نحو الجامعة.

ومنذ أسبوع تصدر خبر اعتكاف علماء مركز رايكن لتكنولوجيا علوم الحياة في السنوات المقبلة لكشف ألغاز الجينوم، وتحديد وظائف مختلف الجينات، وكيفية عملها في مجال الإصابة بمجموعة مختلفة من الأمراض مثل السكري والسرطان وأمراض الدم، وأخيراً الاضطرابات النفسية. وهذه الأخيرة أعني الاضطرابات النفسية الأولى أن نعترف بضرورة علاج أنظمتنا التعليمية من بعض الاضطرابات النفسية، لاسيما العقد التي تتوالى وتتراكم عند الظن بأن أبحاثنا الأكاديمية تأتي بجديد نافع والحقيقة أن بعضها بالتأكيد نافع ومثمر والأكثرية نقل وتحريف وتصحيف وأحياناً تزوير ويظن الأستاذ أنه بالفعل عالم وهذا أول علامات الاضطراب والجنوح النفسي ومن ثم وجب التحفظ على هؤلاء وإيداعهم عيادات نفسية خاصة .

وحينما يقرر علماء معهد روزلين بأدنبرة أنهم وضعوا خريطة طريق لخلايا الدم ستعينهم على أن يحددوا بمنتهى الدقة كيفية نشوء الأورام ونموها وهو ما أعلنه أليستير فورست المنسق العلمي لمشروع فانتوم 5 بأن هذا سيساعد الفريق وليس نحن بالتأكيد في فهم ما الذي طرأ على هذه الخلايا كي تحيد عن عن وظائفها الأصلية وبذلك سيكون في مقدورهم هم أيضاً وليس نحن أن يبتكروا علاجات حديثة أكثر فاعلية، نجد أخبارنا التعليمية الراهنة حافزاً جديداً للذهاب إلى عيادات الطب النفسي، فكليات العلوم في مصر على وجه التحديد مغرورقة في معاملها المتهالكة المتصدعة تناقش أفكارا افتراضية تماثل العالم الافتراضي التخييلي الموجودة ببعض صفحات الفيس بوك، تلك التي تتناول العلاقات الإنسانية والمشاعر الفياضة نحو ذوي الاحتياجات الخاصة وكأنها لم تكترث لواقعها الأكثر إيلاما.

وأخبار أخرى تتعلق ببعض كليات العلوم الضاربة في القدم والانتشار أيضا رغم ارتفاع نسب الأمية في مصر ونسب الجهالة أيضا بين المتعلمين أنفسهم، عن فتح شعب جديدة بهذه الكليات أو إنشاء كليات متطورة بأحدث المعامل والتجهيزات أو وجود منح علمية للباحثين المصريين الواعدين للسفر إلى الخارج لبلغاريا والتشيك والمجر ويوغسلافيا واليابان وغيرها من البلدان التي أهدرنا فيها شبابنا وأموالنا وطاقاتنا العلمية، والمدهش ونحن نطالع تلك الأخبار التي تماثل في طبيعتها الكوميديا السوداء أننا لا نزال نجتمع ونناقش أوضاع اللغة العربية ومحاولات تطويرها أجدى وسيلة للتطوير والتحديث بغير مؤتمرات وورش عمل كارتونية من أجل صياغة مجموعة من التوصيات الوهمية والشارع يواصل نزيفه اللغوي ليل نهار ولا يعلمون أنهم سيحاسبون إن شاء الله يوم القيامة عما اقترفوه في حق لغة القرآن. وليتهم علموا وفطنوا أن سر الحفاظ على الهوية وعلى اللغة هو الاهتمام بحفظ القرآن ورعايته والاهتمام بحفظته ليس بصورة استعراضية تخل بالهدف من أجل مطامح شخصية لأصحاب الرعاية .

وهناك صندوق أسود في حياة التعليم العلمي المصري، ربما يئست الصحف والمجلات من الحديث عنه، ألا وهو لماذا فقدت كليات العلوم الصلة بالمجتمع المصري وهمومه ومطامحه وأحلامه بل وبعض أطماعه المستقبلية أيضا، لقد وجدنا أنفسنا ونحن نراقب فيروس كورونا المصنع في حيرة بين تناول الكحول المحلي التصنيع ونصائح الدراويش والمشايخ، ووصايا ربات البيوت، وهؤلاء العلماء في استدامة الغفلة الزمنية عن الحدث حقا، وكأنهم لم يدركوا بعد أو يفطنوا إلى دورهم الحصري في الارتقاء بالوعي الوطني والقومي قبل العلمي بالمجتمع المصري .

ومنذ النشأة وتلك الكليات العلمية في مصر ـ ودعك من الجوائز والأوسمة والتكريمات الوهمية التي حصل عليها الكثير من الأكاديميين بهذه الكليات ـ تعاني من أزمات متعددة منها إهدار المال العام نتيجة البعثات وإنشاء المعامل والتجهيزات التي لم تعود على المجتمع بمصل أو فكرة تواجه الفيروس الفتاك أو بعلاج سريع لعدم اقتراب الكويكب الكبير من الأرض في الأيام المقبلة، وغياب الكتاب العلمي المرجعي ذي الصبغة المصرية الخالصة نهائياً وافتقار بعض الأساتذة للكفاءة والخبرة التربوية رغم وجود عشرات كليات التربية في مصر التي ينبغي أن تعطي دروسا طويلة لبعضهم من أجل الارتقاء بأدائهم التدريسي.

ومشكلة التعليم المصري أنه لا يتعرف بأمراضه المزمنة لذلك لا يهتم أو يكترث بالعلاج، وربما إذا اكتشف مرضه داواه بالمسكنات المؤقتة، بالإضافة إلى أن التعليم بصفة عامة ينبغي ألا يرتبط بالفعل السياسي، لأن الفعل السياسي مرهون بنظام سياسي حاكم وبأوضاع ومستجدات تقفز بغير إشعار مسبق على المشهد السياسي، أما التعليم فينبغي أن يسير وفق رؤية واستشراف مستقبلي،كما فكر من قبل في إصلاحه نابغة عصره علي مبارك، ووضع خطط لا ترتبط بنظام حاكم أو بوزير يعلم مسبقاً أنه موظف في دائرة حكومية، كما ينبغي أن يسير التعليم في مصر وفق رؤية الخبراء الحقيقيين الذين اختفى الإعلام عنه فقنطوا من الظهور لإعلان التصحيح لوضع تعليمي مترهل .

 

الدكتور بليغ حمدي إسماعيل

 

في المثقف اليوم