تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قضايا

تجربة مهنية تربوية.. نقد في المحصلة

عبد العزيز قريشـ تابع ـ

3.1.1. في الانتماء والهوية:

قراءة أغلب الوقائع المعيشة في المنظومة التربوية والتكوينية وقتئذ وحتى حاليا، تفيد حقيقة أو رمزيا بعض الحقائق التي أصبحت مع تكرارها وتكريسها في الحياة التربوية معالم رئيسة لهذه المنظومة، تسمها ب:

ـ تاريخيا كانت مهنة ورسالة التربية والتكوين والتعليم تستقطب محبي المهنة من القلب، الذين يشعرون بالانتماء إليها قبل ولوجها؛ حيث يستأنسون في أنفسهم أنهم أهل للتربية والتكوين والتعليم، ويرتبطون روحيا بهذه المهنة الجليلة والعظيمة. فكانوا يولون تكوين ذواتهم أهمية قصوى حتى يحظون بفرصة التوظيف في هذا القطاع الحيوي، فهم في غالبيتهم عصاميون لا تهمهم الماديات والامتيازات المالية ولا الثروات إلا بقدر ما يحصلون منها قوتهم اليومي ومعيشهم الستر بين طبقات المجتمع. ولم يكن يهم سوى العطاء الفكري وتكوين الأجيال، وبه منشغلون ومهووسون. لذا؛ كنت تجد أكثر الناس طلبا للعلم من أجل العلم هم هؤلاء الشرفاء الأقداس سلوكا وأخلاقا وعملا. فكان الشرف كل الشرف هو انتماؤهم لقطاع التربية والتكوين والتعليم رغم الأجر الزهيد، ورغم المتاعب والمصاعب التي تصادفهم في الممارسة الميدانية، فهم المثال والقدوة في الصبر والتضحية والعطاء. فكان الواحد منهم يتشرف ويسعد بالبوح بأنه من أهل العلم والمعرفة والتربية والتعليم والتكوين، لكونه صاحب هوية جلية واضحة تموقعه داخل فئة مجتمعية اجتماعية معينة، تشكل في حدها الأدنى الفئة المثقفة والعالمة والواعية، التي شكلت حاضنة المقاومة وجيش التحرير ضد الاستعمار الفرنسي وحاشيته من الخونة والمرتزقة بدماء ومعاناة الشعب، وشكلت فيما بعد بصدق رجالها ونسائها الامتداد الطبيعي للصوت المعارض لطبقات الفساد وكوابح تنمية البلاد والعباد. الذي تكتل في وجهه عصابة الانتفاع والفساد والارتزاق بالمال العام محاربة ومقاتلة شرسة تستعمل كل الأساليب المشروعة وغير المشروعة وحتى القذرة منها، وظفتها في ضرب قيمة ومكانة وموقع أهل التربية والتكوين والتعليم في المجتمع، ومعهم مكانة المؤسسة التعليمية العمومية، وفي خلق تناقضات داخل مجتمع التربية والتكوين والتعليم بعدما صيرته طبقات متناحرة متطاحنة متقاتلة فيما بينها، وبعدما أعلت من شأن مكونات دون أخرى، وأوغلت في إفساد المنظومة بظواهر ما كانت لتكون لولا هذا البؤس الذي يعشش في رأس هذه العصابة الفاسدة المفسدة، التي تستغل المنظومة لصالحها ولمصالحها الخاصة. فتمظهرات وظواهر هذا الفساد جلية واضحة لا تتطلب تبيانه إلا عند نكرانها، فالدليل قائم في الميدان وأحداثه ووقائعه الملموسة والمحسوسة.

نتيجة هذا الوضع البئيس والمؤلم في نفس الوقت، تهشم موقع المنظومة التربوية والتكوينية والتعليمية في المجتمع، وتحطمت مكانة أهلها بين خلق الله، فصاروا أيقونات النكتة والتسلية والتضحيك والفكاهة، وربما في مواقف معينة السخرية والاستهزاء، والتحقير كذلك. فصار بعض أهل هذه المنظومة يستحون التصريح بانتمائهم المهني وهويتهم الوظيفية، لما يلاقونه من بعض خلق الله من نظرة دونية أو امتعاض أو تبرم أو تنكر أو استفزاز. ولقد عشنا هذه المواقف وهذه المشاهد أكثر من مرة لولا قوة الشخصية والإعلان عن الاستنكار لتمادى الفاعلون في التجريح أكثر؛ لا لشيء وإنما للحمولة السلبية في الصورة أو التمثل المسبق لهذا الكائن التربوي. وهنا؛ لابد أن نعترف في إطار النقد الذاتي أن بعضنا ساهم في تكريس هذه الصورة السلبية نتيجة ما يأتيه من سلوك وأفعال مستنكرة لا تقرها المنظومة الأدبية للتربية ولا أخلاقيات المهنة ولا القوانين ولا التقاليد، ويستحي منها كل تربوي شريف. وقد حول بعض المنتسبين إلى التربية والتعليم والتكوين عملهم إلى أسلوب ضغط على بعض المتعلمين ليجنوا من ورائهم الأموال والامتيازات خارج المؤسسة التعليمية الرسمية؛ فانتشرت ظواهر قادت أحد المسؤولين الكبار إلى البدء في تصحيح المسار، فاجتمع هؤلاء المنتسبين ودعاة التربية في صعيد رجل واحد ضده وحاربوه، وأفشلوا خططه وتم صرفه من موقعه إلى موقع آخر في الطبعة الثانية للتشكيلة الحكومية، وعادت المياه بعده مع مرور الوقت إلى مجراها الذي اعتاده هؤلاء في قضاء أغراضهم، والذين كانوا عضدا لأولئك في تهشيم وتحطيم موقع المنظومة وأهلها في المجتمع. فالهوية المهنية والوظيفية تتطلب سحنة تتسم في حدها الأدنى بالعلم الرزين والمتين والمعرفة الواعية بالمجتمع ومناحي حياته، وبالتطورات العالمية ومآلات المستقبل، وبالأخلاق والقيم المهنية النبيلة والمسؤولة، وبخدمة الناشئة وأهلها في نكران ذات احتسابا لله وخدمة للوطن، وبالدفاع عن الوطن والمجتمع أمام أي غزو فكري يستعمر الفكر الجماعي الوطني والفردي ويحاول إلغاءه من خريطة الوجود ... فهذا الوضع مازال قائما وكأنه قدر محتوم وسرمدي في صحيفة هذه المنظومة. كل يوم نقف على أزمة جديدة تزيد من تعميق التنكر للانتماء والهوية وتنعكس على الأداء والنتائج سلبا، فقد غدت المنظومة حقلا للتجارب ومقياس درجة التفاعل الاجتماعي في كل جديد تأتيه السياسة العامة والسياسة التربوية كإلغاء التوظيف العمومي، والعمل بالتوظيف المباشر، والتوظيف بالعقدة، والتكوين الأساس وفعاليته، والتعيينات واستحقاقاتها، واعتلاء مناصب المسؤولية والكفاءة، ومتابعة الدراسة الجامعية والواجب المهني، والترقية واستحقاقاتها، والمناهج والكتب المدرسية وفعاليتها وجدواها، والنظام التربوي وعدالته وفعاليته، والأداء الميداني وجدواه، والمساءلة والمحاسبة ... كل هذه القضايا والمواضيع تنعكس نفسيا على المتضرر من أهل التربية والتعليم والتكوين، فيزدادون تدمرا وتألما من وضعهم المهني، ويتنكرون للمنظومة لما وقع عليهم من ظلم وحيف وهم محقون في شكواهم دون تنكرهم. ويجب إنصافهم وإحقاق حقوقهم والاعتراف بالخطإ اتجاههم والاعتذار منهم. لكن هيهات أن يحصل ذلك مادامت المنظومة دخلت في سراديب وأقبية الإفساد.

المهم البارحة كان المنتمي إلى المنظومة يشعر بالفخر والاعتزاز لهذا الانتماء. كان وزملاؤه يشكلون هوية جماعية مهنية سماتها التضحية والعلم والشرف والأخلاق والسلوك القويم، والفعل المنتج المعطاء الفاعل في المجتمع والفرد والمستقبل ... أما اليوم فقد أصبحت المنظومة عند البعض مصب حل المشاكل الاجتماعية وغيرها من القضايا العامة على حساب الناشئة ومستقبلهم من قبيل التالي: عندما كثرت بطالة خريجي الجامعات بمختلف أسلاكها تم توظيفهم مباشرة في المنظومة بعد إجراءات شكلية، فانخرطوا في التدريس دون مهننة ولا تأهيل فكانت النتائج: التجربة بالمحاولة والخطأ في تعليم الناشئة دون الالتفات إلى الحصيلة والمردودية التعليمية لهذه التجربة. كما وجد فيها بعض العاطلين فرصة شغل لا تتكرر في الحياة يجب اقتناصها واغتنامها رغم أنهم لا يرتاحون لهذا القطاع ولا يجدون فيه أنفسهم، وإنما الحاجة للعمل ساقتهم قهرا إليه بدل البطالة وذهاب أعمارهم أدراج الرياح. ووجد في هذه التخريجة المقرر السياسي راحة من الاعتصامات والأصوات وشعاراتها وشكواها الهادرة في الساحات وأمام مقرات الجهات المسؤولة، حيث توقفت وقلت وصمتت، فربح الطرفان بمنطق سياسة رابح رابح، والخاسر الحقيقي في هذه المعادلة هو الناشئ والمستقبل، وهدر الرصيد البشري مع مرور الزمن حيث النتائج بدأت تظهر في المحصلة التعليمية للمتعلم، الفقير في تفكيره وقيمه ومهاراته وقدراته وكفاياته، وما معدلات الإنجاح سوى دليل على الحصيلة التعليمية للمتعلم. وفي سياقه يمكن ترجمة هذه المعادلة ب: رابح + رابح = خاسر. وقس على هذه القضية قضايا أخرى رديفة لها.

وهنا؛ لابد من الإشارة أن السحنة المؤسساتية للمدرس قديما لم تقنن تشريعيا، وإنما شكلت ضمن بعض المعطيات التوصيفية الأدبية، وبعض التقاليد والأعراف التي راكمها التاريخ التربوي. وهي السحنة التي مازالت قائمة في المنظومة التربوية رغم تغير بعض المعطيات من تشريع وأدبيات وتوجيهات، وغدت كلها تركز بالأساس على الجانب التكويني والكفائي للمدرس في بعده المهني الأدائي الصرف دون استحضار البعد النفسي والقيمي. مما أنتج مدرسا يعاني الغربة المهنية يهمه فقط أداء الواجب وبسرعة نتيجة عوامل ذاتية وأخرى موضوعية وثالثة خارجية مفتعلة سقطت من أعلى عليه، فعقدت المشهد وأزمته بما يغرقه في المشاكل. كل هذا الوضع يضعف شعوره بالانتماء إلى المهنة ويقلص فرص نجاحه المهني بإشغال اهتمامه بقضايا جانبية وقضايا ثانوية لم تكن لتطرح لو وفرتها السياسة العامة. ما يستدعي المراجعة الدائمة من أجل تحسين الأوضاع. وهنا لابد من الاعتراف بكل صدق أن بعض مناحي الحياة المهنية لأهل التربية والتكوين والتعليم قد تحسنت وحصلت فيها تغييرات إيجابية جد مهمة، وقلصت الكثير من المعاناة التي واجهت الجيل القديم من رجال ونساء التعليم باستحداث مؤسسات رسمية خدمية، تؤدي دورا مهما في حياتهم العامة والخاصة وتساعدهم على تجاوز الصعاب والمشاكل. وهو اعتراف يحمل الدعاء بالأجر العظيم لمن كان سببا في ذلك، وعمل على تحقيق حياة سلسة لرجال ونساء التعليم، وخفف عنهم عبء الحياة. حيث يجب مقابل هذا الانخراط الإيجابي والجدي في العملية التعليمية التعلمية، والإخلاص لها والتفكير فيها ولأجلها رفعا لقيمتها في المجتمع، وحصادا للنتائج الإيجابية، وتحقيقا للأهداف والغايات. فلن تقوم للتربية والتكوين والتعليم قائمة دون انخراط الجهات السياسية والمجتمعية وأطر المنظومة في مشروعها بكل جدية ومسؤولية لأنها قضية مجتمع لا قضية لجهة معينة. فالجميع معنيون بها وبإنجاحها لأنها المنطلق إلى رفاهية وتقدم الجميع. ومن هذا المبدأ يكون الانتماء إليها مستحقا تشريفا وشرفا وتكليفا.

فالانتماء يشكل الهوية، والهوية هي السحنة الحقيقية للشخصية التي تغذيها بالرؤية عن ذاتها إيجابا وسلبا، وبالمهارات والقدرات والكفايات، وبالقيم والأخلاق، وبالمشاعر والأحاسيس والعواطف، وبالاستقرار النفسي والثقة في النفس. فهي خزان الإرادة والفعل الإيجابي كما هي مورد الفشل والنظرة السلبية عن الذات، والقصور ... فالانتماء إلى منظومة تربوية وتكوينية وتعليمية قوية شحنة إيجابية للإرادة والقرار والفعل الفاعل في مجتمعه، ومدعاة النجاح في المهمة من البداية، لكونها أرضية عوامل إيجابية مساهمة في تحفيز الإنسان على الأداء المعقلن والناجح، المخطط له بعلم ودراية ...

 

عبد العزيز قريش

 

 

في المثقف اليوم