قضايا

سناء ابو شرار: عوالم داخلية.. عالمٌ خارجي

سناء ابوشرارمثلما هناك صوت في العالم الخارجي هناك صوت في عوالم الانسان الداخلية، بل أصوات أكثر تنوع من أصوات العالم الخارجي، صوت خارجي يقول تراجع، لا تستطيع، وصوت ضعيف وخافت من أعماق النفس يقول: حاول ربما تستطيع، والأشد أصغاءً لذاته سوف يستمع للصوت الخافت الضعيف، لأنه هناك في أعماق الضعف والهزيمة قد تنبت بذور الانتصار القادم، ولكن الأصوات الخارجية تبدو دائمة صاخبة رنانة ويكاد يملأ صداها الأرض والسماء ولكنها ورغم سطوتها وقوتها تبدو ضعيفة وهشة، فتأخذ قوتها من ضعف من يتلقاها.

هناك في العالم الخارجي، يوجد دائماً عدوٌ ما ينتصر وتتمدد مساحته لحد خنق الآخر، وبقدر ضعف ذلك الآخر يتضاعف حجم العدو، ليس لقوته ولكن لأنه زرع الخوف في الذات الضعيفة، ولكن في العوالم الداخلية للذات البشرية هناك دائماً منفذ وملجأ وطريق هروب أو معركة مواجهه تقضي على الظلم أو تقضي على الضحية لأنه في العوالم الداخلية لا وجود للظلم فإما العدل وإما الموت، فقط في العالم الخارجي يحيا الظلم والحياة بتمازج مر وسقيم ولكنه يستمر لسنوات وقد يستمر للعمر كله دون أن تلجأ الضحية لعوالمها الداخلية ودون أن تموت .

هناك في العوالم الداخلية يتم استقبال الحياة بشكل مختلف تماماً عن العالم الخارجي، ما نراه في العالم الخارجي ليس سوى صور تتكرر بكل يوم، وجوه نراها كل يوم ووجوه نراها لأول مرة، أشياء كثيرة تحيط بنا، قد نحتاجها وقد لا نحتاجها ولكنها موجودة وقد نتصارع لأجلها حتى ولو كانت كمالية ولا قيمة حقيقة لها بجانب قيمة الحياة، أما في عوالم الانسان الحقيقي الداخلية، فلكل شيء مكان وقيمة وقد لا يكون لأي شيء مادي مكان أو قيمة، لأنها عوالم روحية شفافة ترى العالم من خلال ستائر النور فلا تتمكن من الرؤية إلا بوجود النور، وحين يختفي نور الروح يغرق الوجود كله في الظلام، عوالم الانسان الحقيقي الداخلية لا يمكن إلا أن تكون مضيئة شفافة ناصعة البياض وإلا تحولت إلى صورة عن العالم الخارجي، فتفقد خصوصية الصمت وتفقد ميزة الصدق وينسحب صوتها الخافت ليحل محله كل أصوات العالم الخارجي بضجيجه ونفاقه ومراءاته وعدائيته وبأثره الواهن على الروح والعقل.

فمن منا لديه عوالم الداخلية ؟ بل من منا استطاع أن يعثر على عوالمه الداخلية الدفينة والمختبئة في زوايا نفسه وروحه وعقله تماماً كمتاهه تاريخية لا يمكن أن يدخلها ويجد طريقه بها دون خارطة العقل والتفكير والتعمق الدفين بالنفس والروح ؟ من منا استطاع أن ينسحب من العالم الخارجي وأن يذهب برحلة بعيدة وطويلة في عوالمه الداخلية هناك حيث الصفاء والنقاء والبهجة الصامتة، هناك حيث يستعيد روابطه مع الله الخالق الواحد الأحد، برحلة السكون والهدوء، برحلة عدم البحث عن منفعة ما أو محاولة إيجاد غاية ما، فقط هو وما يشعر وما يفكر وارتباطه بالله تعالى هناك بعيداً عن كل الأصوات والنظرات والكلمات في عوالم روحية تخبره بكل الكلمات دون ضجيج، تمنحه كل المشاعر دون مقابل، تقول له الحقيقة دون ثمن، هناك حيث يتعلم أن يقبل الحقيقة لأنها حقيقة دون ألم ودون توقعات، هناك حيث يتعلم وفي كل يوم حقيقة الوجود وبأنه ليس سوى عابر سبيل بهذه الحياة لا يلبث إلا أن يرحل . هناك حيث يدرك ويفهم ويعقل بأن هذا الكون، كل ما به ليس سوى جرم في ملكوت الله تعالى، هناك حيث يُردم الحقد، ويُدفن الأسى ويُنعى الألم، لأنه في عوالم الانسان الحقيقية الداخلية لا يوجد ألم، لأنها لا تحيا إلا بأنوار الله الخالق، ولا تستمر إلا بذلك النور الشفاف للروح، فهي عوالم لا تستمد عناصر وجودها من العالم الخارجي بل تستمدها من ذاتها ومن الحقيقة الإيمانية بأن الحقيقة الأولى والأخيرة هي وجود الله تعالى، وأن من يريد أن يعثر على النور بهذا الكون لن يجده بضوء الشمس ولا بنور القمر بل عميقاً في عوالمه الداخلية .

مهما بلغ عمق الأسى والحزن في العالم الخارجي، تُداوي العوالم الداخلية للانسان الحقيقي جراحه، يذهب إليها بكل يوم لترى ألمه وتضمد جراحه وتهمس له من جديد، غدا يوم أفضل، وأمس كان جميل رغم الألم، ومن الجميل أن تعرف الحقيقة ولو كانت مرة فلا شيء أشد مرارة من الحياة مع الوهم . العوالم الداخلية فقط ترشد الانسان لطريقه في الحياة وبدونها يبدو تائهاً في متاهه العالم الخارجي رغم محدوديته .

رحلة البحث عن العوالم الداخلية ليست سهلة، لأنها تتطلب وقبل كل شيء الانسلاخ عن العالم الخارجي وإصغاء السمع للنداء الخافت الذي يقود الانسان لذاته الدفينة . الشعور والاحساس والشفافية تعابير قد نعتبرها جزء من عالم الضعف الانساني ولا ندرك بأنها أقوى ما في الوجود الانساني لأنها بوصلة الانسان نحو حقيقة وجوده وبقدر تجاهله لها وإخماده لصوتها بقدر ابتعاده عن عوالمه الداخلية وانجرافه في العالم الخارجي . عوالم الانسان الداخلية ليست سوى واحته الظليلة في صيف قائظ، وجزيرته النائية نحو السلام الداخلي حين تجتاح الحروب النفس والعقل، وهي نسمة العطف تجاه كل ما في الوجود وقبل كل شيء تجاه ذاته البشرية.

 

سناء ابو شرار

 

في المثقف اليوم