قضايا

محمد اسماعيل السراي: العنف والانقراض البشري

بحسب الدليل الاحفوري، ونظرية التطور، وكل النظريات التي بحثت في الجنس البشري، فان جميع الانواع البشرية الاخرى في جنسنا انقرضت ماعدا نوعنا الانسان المعاصر او العاقل، كيف انقرضت هذه الانواع البشرية مع انها اكثر تطورا من الثديات الأخرى في طائفتنا، بل حتى من اكثر القردة تطورا في فصليتنا. بل ان نوع الهومو نياندرتال كان نوعا يشابه نوعنا الحالي من حيث التطور البايلوجي والمجتمعي ويملك نفس ذكاء اجدادنا، فما هو السبب وراء انقراض هذه الانواع البشرية واندحارها؟

التطور لايفرض ابدا انقراض الانواع السابقة او السلف عند ظهور نوع جديد فقد عاشت مجاميع الهومو هابليس النوع الاول في جنسنا لالاف السنين وعاصرت كثيرا من الانواع الجديدة اللاحقة التي تفرعت منها .وكذلك الانسان المنتصب وهو نوع سلف لنوعنا ولانواع اخرى ظهرت بعده وعاصرها حتى انقرض قبل ٥٠ الف عام فقط!

النياندرتال تعاصر مع الانسان العاقل - مع انهما ليسا سلفا لبعضهما- لعشرات الالف من السنين. فما السبب الحقيقي وراء الانقراضات الجماعية لمجاميع البشر الاوائل من الانواع الاخرى وماسبب صمود نوعنا فقط!!؟؟

يطرح المختصين بهذا الجانب نظريات وفرضيات عديدة هي اقرب للتكهنات او الاراء فقط حسب رأيي الشخصي .اغلب الاراء او النظريات تتعلق باسباب لها علاقة بظروف الطبيعة السيئة واسباب تتعلق بالطعام او التنافس بل بعضها يلقي اللوم على نوعنا في ان يكون وراء انقراض الهومو نياندرتال. لانعرف الحقيقة الكاملة مهما كانت النظريات او الاراء حصيفة وتعتمد اقحام الادلة المعتبرة المادية والعقلية في اسناد وجهة نظرها. قد يكون فعلا توحش البشر هو وراء احداث الانقراض البشري.قد يكون اجدادنا من نوعنا الهومو سابيان (الانسان العاقل) كانوا على قدر كبير من الوحشية والانانية والعنف واعتبروا ربما الانواع الاخرى البشرية اقل بشرية او عاملوها مجرد حيوانات اخرى فقاموا بأبادة المجاميع البشرية التي عاصرتهم والتي شاء سوء حظها ان تتواجد معنا في نفس الجغرافية او المحيط البيئي ربما قام البشر باكل بعضهم البعض كما ياكلون الطرائد الاخرى؟

علما ان هنالك اراءا كثيرة عن وجود اكلي لحوم البشر في التاريخ وهنالك ادلة اكثر عن قتل البشر طقوسيا كنوع من تقديم القرابين للالهة، بل في وقت قريب للتأريخ قد حدث ذلك، فقد وجدت جماجم كثيرة في المدن الفينيقة في قرطاج، جماجم للاطفال اعتقد المختصون انها تعود لاطفال كان يضحى بهم في طقوس قربانية. المصريين ايضا فعلوا ذلك، كانت الهياكل العظمية لحاشية الفرعون المتوفى دليل على دفن هولاء البشر بعد انتحارهم الاختياري مع الفرعون لغرض خدمته في العالم الاخر.ويقال ان السومريين ايضا فعلوا ذلك الدفن الجنائزي القرباني. ان قصة النبي ابراهيم في الديانات الابراهيمية في تقديم اضحية بشرية كقربان للالهة -اي ابنه اسماعيل في الديانة الاسلامية او اسحاق في اليهودية و المسيحية- هو اشارة لوجود القربان البشري الى عهد قريب من الحضارة البشرية.

يورد (كولن ويلسون) في كتابه (التاريخ الاجرامي للجنس البشري) بحوثا قام بها مختصين في التاريخ البشري والحفريات البشرية تروي قصة مروعة عن وجود جماجم بشرية في كهوف ومساكن الانسان المنتصب كانت هذه الجماجم محطمة من خلف واستدل الدارسين ان هذه الجماجم لبشر اخرين تم افتراسهم من قبل الانسان المنتصب وان كسر الجماجم هذه يدل على استخراج الانسان المنتصب للادمغة والتهامها وكذلك وجود كسور في عظام بشرية كدلالة لاستخراج نخاعها الغني بالبروتين والمفضل لدى الانواع البشرية القديمة كطعام. لكن مع ذلك يورد المختصين رايا اخرا ايضا ينفي الوحشية هذه بان كسور الجماجم تلك قد يكون سببها الصخور او الطمر السيء. لكن اذا كانت جميع الكسور من نقطة معينه في الجمجمة فهل تصح هذا الصدفة العجيبة بان تكون الصخور او الطبيعة هي سبب تلك الكسور!!؟

ويورد ايضا كولن ويلسون- في كتابه السالف الذكر- قصصا عن تجارب علمية لحيوانات من القوارض والثديات تعرضت للموت الذاتي لاسباب تتعلق بافرازات الادرينالين بغزارة في الدم بسبب التوتر ادئ الى وفاتها ذاتيا، فيذكر ان هنالك مجاميع من نوعٍ من الفئران لما تتعرض للضغط بسبب انعدام او انحسار المساحات بسبب جمعها للتجربة في اقفاص وباعداد كبيرة لاتناسب وضعها الطبيعي في بيئاتها الطبيعة وبسب هذا الاكتظاظ تقوم هذه الفئران وفق نظريته في فقدان السيطرة وغلبة التوتر عليها بافراز الأدرينالين من الغذة الكظرية بكثرة مما يؤدي إلى موتها جماعيا! وكذلك تفعل الغزلان هذا التدمير الذاتي، وثديات اخرى.

وايضا يورد تجربة عن نوع من الفئران توضع في اقفاص متداخلة تقوم الفئران ذات السيادة العالية-وهو مصطلح يُنظّر له الكاتب في كتابه السالف الذكر - بالسيطرةعلى طرفي الأقفاص على الجانبين والدفاع عن اماكنها مع اناثها اما بقية الفئران منخفضة السيادة فستضطر الى استخدام الاقفاص الوسطية المزدحمة والتي سيكون وضعها سيئا والدفاع عن المساحة فيها شبة مستحيل. لكن ايضا هنالك فئران لديها سيادة عالية اصبحت تعيش في هذه الاقفاص الوسطية بيد انها لاتستطيع فرض قيادتها في هذه المساحة، ولكن لاحقا وحسب التجربة تقوم هذه الفئران بسلوك فضيع حتمه عليها الوضع الجديد حيث قامت آخرا باغتصاب الاناث الاخريات جميعا بل حتى الذكور وظهور المثلية بين فئران هذه المساحات واكثر من ذلك مارست هذه الفئرات العنيفة المسيطرة القتل على الفئران الاخرى الاضعف والتهمتها. يستدل الكاتب من ذلك ان ماحدث لنا نحن البشر بعد انشاء الحضارات والمجتمعات والمدن اننا حُشِرنا ايضا في الاقفاص، والاقفاص هنا هي المدن والمجتمعات، وان عنفنا وشراستنا غير المبررة هي بسبب تلك الاقفاص والحبوسات المدنية.

فهل ياترى قد فُعِلَ بالانواع البشرية المنقرضة مافُعِلَ بالفئران ؟ اي ان سبب انقراضها هو التوتر العالي كالذي حدث للقوارض بسبب ضغط المساحة وبالتالي افراز الادرينالين المبالغ به الذي ادى الى وفيات ذاتية جماعية؟

او حتى ان الانواع البشرية قامت بقتل بعضها والتهام البعض الاخر وفق فرضية السيادة العالية لبعض الانواع وضغط المساحة وفرض الوجود والسيطرة على البيئة المختلطة بالانواع البشرية والمواردالطبيعية، بل حتى اعتبار المجاميع البشرية الاخرى موردا للبروتين!!؟

ان تاريخ البشرية مليء بالعنف والشر منذ البدايات القديمة لجنسنا، لكن في الحقيقة ان العنف الذي مورس بعد بزوغ الحضارات هو التاريخ الاكثر عنفا والاشد وضوحا، بل وان العنف الحديث والمعاصر يفوق ذلك العنف باضعاف الاضعاف .علما ان هذا العنف الذي تلا التاريخ وانشاء الحضارات هو عنفنا نحن المنتمين لنوع الهومو سابيان (الانسان العاقل او المعاصر) فقط، انه عنف اجدادنا وعنفنا نحن الابناء، وهو العنف الاسوء والاكثر شراسة والاكثر احصاءا منذ التأريخ، منذ تدوين ذلك التأريخ والى اليوم.

***

بقلم: محمد اسماعيل السراي

في المثقف اليوم