قضايا

مريم لطفي: النحلُ والنملُ في القرآن الكريم

(الحياة والموت) .. روائع الاعجاز

(وأوحى ربكَ إلى النحلِ أن،  اتخذي من الجِبالِ بيوتًا ومن الشجرِ وممايعرشون) النحل68

إن آيات الله جلّ وعلا نزلت لتلفت انتباهنا إلى كل صغيرة وكبيرة، بل إلى أمور متناهية في الصغر أو لاترى بالعين المجردة، أو غيبيات سلط عليها العلم الضوء لاحقًا وهذا مايسمى بالإعجاز.

وفي بحثنا عن النحل في القرآن الكريم وهي من الحشرات الراقية التي كرمها الله بالوحي، والوحي من الالهام وهي صفة للربوبية و آياتٍ لاولي الألباب ليتفكروا ببديع صنعه وروائع إعجازه.

وسنبدأ بالنحل متأملين الآية الكريمة التي تبتدأ ب (وأوحى ربك) وكما ذكرنا فالايحاء من الله يخص به فئة من خلقه ليضع بصمته إقرارا بربوييته (إن هو إلاّ وحيٌ يوحى) النجم4، هذا الوحي الذي جعل النحلة مكرمة الى الحد الذي تسمى بها سورة كاملة في القرآن الكريم، ولندخل هذه المملكة المباركة لنبحث بشيفرتها ونحل رموزها بإذن الله.

- ذكرت سورة النحل بصيغة الجمع دلالة على التكامل والتعاون والعمل الدؤوب  متمثلا بمجتمع النحل، فالنحلة لاتستطيع العيش بمفردها بل داخل تجمع وهذه آية إعجازية بحد ذاتها.

- الشكل الهندسي لبيوت النحل الذي لم يأتِ اعتباطا بل جاء عن دراية وحساب دقيق، فالشكل السداسي للخلية لايترك أي فجوة أوزاوية مهملة هذا البناء الذي يعجز الانسان عن القيام به إلا بواسطة إدواته الهندسية وبحساب دقيق جدا.

- تتوزع الادوار داخل مملكة النحل بشكل دقيق فلاتجاوز ولافوضى ولافساد ولاتقاعس كل فرد يعلم جيدا دوره في الخلية دون زيادة أو نقصان.

- خاطب الله النحلة بصيغة المؤنث فقال جلّ وعلا (اتخذي، كلي، اسلكي، بطونها) وفي حقيقة الامر فان من يقوم بهذه الاعمال في الخلية هي النحلة، اي إن الاعمال تقوم بها الاناث داخل وخارج الخلية، فهي تقوم ببناء الخلية وتصنيع الشمع والعسل وتلقيح الازهاروتمر بآلاف الازهار للحصول على الرحيق،  وينحصر دور الذكور في تلقيح الملكة، فمن كان يعلم بهذه الامور قبل توصل العلماء الى اكتشافها غير الله.

- سخّر الله للنحلة مسالكا محددة في الهواء الطلق (فاسلكي سُبُلَ ربكِ ذُلّلا) فمن الذي ذلل لها الطريق وهداها للسير فيه غير الله جلّ وعلا، هذه المخلوقة الصغيرة التي تملك من الذكاء الحاد المتوقد مايجعلها تكون مسؤولة وعاملة ومخلوقة مطيعة تأتمر بأمر الله، تعلم طريقها جيدا ومهما ابتعدت فلها في حاستي الشم والبصر خريطة مفصلة تعيدها أوابة إلى الخليةالتي خصّها الله بها لتكون دليلا على روعة الاعجاز.

- انتاج العسل على اختلاف ألوانه (يُخرجُ من بطونها شَرابٌ مختلفٌ ألوانه)، فالعسل يختلف باختلاف نوع الازهار التي يُصنع منها، فبعضه أبيض شفاف وبعضه غليظ وبعضه اصفر وبعضه أسود وبعضه بني وهكذا.

- هذه المخلوقة الصغيرة الملهمة جعلها الله سببا لشفاء بعض الامراض (فيه شفاءٌ للناس) فالعسل فيه خصائص عديدة لاتعد ولاتحصى فهو مضاد للبكتريا، ومطهر طبيعي كونه يحتوي على مضادات البكتريا والفطريات وفيه نسبة عالية من الجلوكوز الذي يعتبر مادة دوائية فعالة بصفته مغذيا ومقويا ومضادا للتسمم الناشئ عن المواد الخارجية كالزرنيخ والزئبق والذهب وداخليا ضد التسمم  الناشئ عن امراض الكبد والاضطرابات المعدية والمعوية والتسمم في الحميات مثل التيفوئيد والالتهاب السحائي، وضعف القلب والذبحة الصدرية ولعلاج امراض السكر والسرطان، ومع التقدم قد يصل العلماء الى المزيد من المزايا التي تجعله شفاءا للناس.

- الطهارة والقدسيّة:إن هذه المملكة التي أضفى عليها الله قدسيّة من خلال الوحي (فأوحى إلى النحل) تتميز بالطهارة والعفاف –سبحان الله- فقد يحدث أن يتناول النحل أثناء جولاته بعض المواد المخدرة كالايثانول الناتجة عن تخمر بعض الثمار فيؤدي ذلك الى تخدر النحلة أو بمعنى أصح إنها تصبح (سكرى) وتثمل كالبشر تماما ويقول العلماء إن النحلة تصبح عدوانية ومؤذية وقد تُفسد العسل، لكن من رحمة الله جل وعلا أن وضع خطا دفاعيا تقوم به بعض النحلات وهي تمتلك قدرة استشعارية حيث تتحسس هذا النوع من النحل لتقوم بطرده خارج الخلية حتى يزول المسكر منهالتعود ثانية الى العمل- سبحان الله- وقد استغرقت هذه الظاهرة دراسة عميقة خلال ثلاثين عاما لمراقبة وتحليل هذا السلوك، فالنحل يخطأ ويُعاقب وقد تصل عقوبته إلى كسر أرجله لكي لايعاود الكرّة ويؤدي إلى إفساد العسل الطاهر.

- يعتمد مايقارب من ثلاثة أرباع المحاصيل في العالم على تلقيح النحل .

- انتاج الشمع  وهو مادة قابلة للاشتعال استخدمه الانسان في صناعة الشموع منذ القدم اضافة الى استخداماته الاخرى حيث انه صالح للاكل وغير سام ويستخدم في صناعة المراهم.

هذه الفوائد وغيرها الكثير مما يسهم به نحل العسل مساهمة فاعلة في حياة الانسان طبيا واقتصاديا ويوفر فرص عمل لاعداد كبيرة من الناس انما يعود الى التنظيم المذهل الذي تقوم به هذه المخلوقة الصغيرة المجبولة على العطاء والعمل والتي اتخذت من افاق الحياة سبلا لها فهي تستوطن الاماكن العالية الاكثر طهرا لتحافظ على طهارتها وقدسيتها كالجبال والاشجار وهذا السمو يدل على قدسية الحياة وسموها (أن اتخذي من الجبالِ بيوتًا ومن الشجرِ وممايعرشون).

ومن البديهي لطالب العلم أن يدرك أسرار القرآن ومغزى الايات القرآنية التي تسبرغور أمرما للفت الانتباه الى القوة الاعجازية وروعة الخلق خصوصا إذا كان المخلوق من الصغر مايجعل الانسان عاجزا أمام روعة الخالق.

وبعد أن خضنا غمار بعض آيات النحل بصورة موجزة سنتطرق الى مخلوق آخر وهو النمل وقد سميت أيضا سورة كاملة باسمه لاهميته الاعجازية، قال تعالى (حتى إذا أتوا على وَادي النملِ قالت نَملَة ياأيُّها النَّملُ ادخلوا مساكنكم لايَطمنكمْ سُليمانُ وَجُنودهُ وهم لا يَشعرون)1

لنتامل هذه الاية المباركة وهذا المشهد الجميل الذي يصف جيش النبي سليمان عند اقترابه من وادي النمل سنجد الاتي:

1- ورد في الآية الكريمة كلمة (وادي) كناية عن مكان النمل مع إن النمل يعيش تقريبا في كل الاماكن، فلم ذكروادي النمل تحديدًا؟

إن لكلمة (واد) في القرآن دلالات رائعة فقد وردت ثمان مرات، ثلاث منها تخص سيدنا موسى (ع) بُعيد رؤيته للنار والايات كما يلي:

- (إنّكَ بالواي المُقَدَّسِ طُوى) طه12

- (نوديَ من شاطئ الوادي الأيمنِ في البقعةِ المباركةِ)القصص30

- (إذ ناداهُ رَبُّهُ بالوادي المقدَّسِ طوى)النازعات16

ثم بين القرآن حقيقة وادٍ آخر هو وادي سيدنا إبراهيم (ع) الذي هداه فيه ليبني بيته المحرم:

- (رَبَنا إنّي أسكنتُ من ذُرِّيتِّي بوادٍ غيرَ ذي زرعٍ عند بيتكَ المحرم رَبَنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم)ابراهيم37

كما ذكر القرآان الكريم الوادي الذي كانت ثمود تُقطع صخوره وتنحتها

- (وثمود الذين جابوا الصخرَ بالوادِي)الفجر9 ومن هذه الصخرة أخرج الله تعالى لثمود آية عظيمة وهي( الناقة) فكيف انبجست من الصخر ناقة من لحم ودم لولا قدرة الله جل وعلا.

ثم تخبرنا سورة التوبة بتوصيف لطائفة من اهل المدينة امتدحهم الله تعالى:

- (ولاينفقونَ نفقةً صغيرةً ولاكبيرةً ولا يقطعونَ واديًا إلاّ كُتِبَ لهم ليجزيهُمُ الله أحسنَ ماكانوا يَعلمون)التوبة121

وأخيرا فقد أخبرنا القرآن الكريم عن وادٍ عجيب هو وادي النمل الذي مكن الله تعالى سيدنا سليمان من أن يفقه ماقالته نملة

(حتى إذا أتوا على وادي النملِ قالت نملةٌ ياأيُها النملُ ادخلوا مساكنكمْ لايحطمنكم سُليمان وجنودهُ وهم لايشعرونَ)النمل18

يتبين لنا وبتدبر كلمة (وادي) في القرآن الكريم إن فيها سرا من الاسرار الذي جعله مباركا وقد ارتبطت قدسيته بوجود الانبياء موسى، سليمان، صالح عليهم السلام هذه القدسية نفسها جعلت من الوادي مباركا وعلى قدر من التكريم كما وضحته الايات القرآنية، ومن الجدير بالذكر أن نذكر إن كلمة (وادي) تطلق على المكان الذي يدفن فيه الموتى كما في مقبرة (وادي السلام) في النجف كون المكان مباركا ليحفظ الاجساد في مكان يتسم بالطهر.

 2- الاية تصور نوعين من الجيوش الاول جيش النبي سليمان والذي يتالف من الجن والانس والطيروهم يأتمرون بأمره وهو جيش عظيم لايضاهيه اي جيش في عدده وعدته وتنوع مخلوقاته والجيش الثاني هو جيش بسيط صغير و النملة كقائدة جيوش أو مسؤولة حصن دعتها مسؤوليتها الى تحذير قومها وهذه النملة كانت تعرف تمام المعرفة بأمر من الله أن سليمان نبي وهو يعمل بوحي من الله وخشيت من تحطيم جيش النبي سليمان  (لايحطمنكم سليمان وجنوده) وقد وردت كلمة التحطيم وليس الدهس إذا اخذنا بالاعتبار إن النملة مخلوقة صغيرة سهلة الدهس، بينما التحطيم يعني التكسير، لقد توصل العلماء الى ان جسم النملة مزود بهيكل عظمي صلب يعمل على حمايتها، وهذا الهيكل الصلب يفتقر الى المرونة لذلك حينما يتعرض للضغط فهو يتحطم كما يتحطم الزجاج- سبحان الله- وجسم النملة يتكون من مادة الكيتين وهي سلسلة بوليمرات طويلة ولكنها ليست زجاج، والصوت الذي يصدر عن كسر هذه المادة يشبه صوت الزجاج، وقد ذكرت هذه الحقيقة العلمية و الاية الاعجازية قبل 14 قرنا في بديع الخطاب على لسان نملة!

ثم تقوم هذه النملة بتبرير فعل الجنود بانهم لايشعرون (وهم لايشعرون)

فهل كل النمل مبارك ومن أين أتت هذه البركة؟

لقد حدد الله جلّ وعلا النمل في القرآان الكريم بقوله (وادي النمل) إذن فهو النمل الموجود بالوادي.

وحقيقة فالنمل عالم مبهر وفيه من الاعجاز والاسرار العجيبة في طريقة عيشه وكفاحه واسلوبه في تخزين المؤونة ثم قدرته العجيبة على التمييز بين البذور فالنمل يقوم بكسر البذرة الى نصفين كي لا تنبت ثانية اثناء خزنها، لكن هناك بذورا تنبت ايضا في حال انها كُسرت الى نصفين كبذرة الكزبرة مثلا، فهو يقوم بكسرها الى اربعة اجزاء كي يضمن عدم انباتها –سبحان الله- هذه القدرة الاعجازية على التمييز انما تأتي من خالق مدبر،  فمجتمع النمل اضافة الى تنظيم حياته وقيامه بحفر الانفاق وتوزيع المهام بين الافراد  فهويمتلك ذكاءا لتمييز افراده عن افراد المستعمرات الاخرى  بواسطة الشم، كما ويتسم  بسمة الايثارو التضحية، فعندما يتعرض بيت النمل للفيضان فان النمل يسارع لعمل سد منيع من اجساد النمل الذي يتطوع للتضحية من اجل المجموع،  فهو اضافة الى كل ذلك لديه اعمال اخرى تخص التخلص من الجيف وتهوية التربة ومكافحة امراض النباتات بنوع من العلاقة التكافلية، ومع كل تلك الصفات الا ان النمل بالمجمل يعتاش أي إنه يسعى للحصول على الرزق، ويخطط ويقوم بخزن الغذاء للطوارئ وهو يعمل لنفسه ولمجتمعه، وقد يحمّل نفسه مالاطاقة له بحمله وهي صفة من الصفات الانسانية –سبحان الله

بقي إن نذكر بعد هذه الدراسة الموجزة إن النحل والنمل يشتركان بنفس الحروف ويختلفان بحرفي (الحاء) و(الميم) والحاء كناية عن الحياة فالنحل يحلق في الفضاءات الرحبة متخذا من الاماكن العالية موطنا له و يتنقل بين الازهار والثمار والاشجارليستمتع بما لذ وطاب، افاقه رحبة ولايعمل إلا بالنوروهومنتج وواهب بامتياز، فيما يعيش النمل على أو تحت الارض  ويعمل ليلا ونهارا يحمل اثقالا اكثر من طاقته  كالانسان تماما (ياأيُها الإنسانُ إنَّكَ كادحٌ إلى رَبَّكَ كَدحًا فملاقيهِ) الانشقاق6، وقد يطمع في جمع المؤونة فهو دائم السعي حتى يموت، وهو يعبر عن الكد و الكدح، فقد يكون النحل كناية عن الحياة، فيما يكون النمل كناية عن الموت أو الحياة الدنيا(فتعالى اللهُ الملكُ الحق ولاتعجلْ بالقرآن من قبل أن يُقضى إليكَ وحيّهُ وقل ربِّ زدني علمًا)طه114

***

مريم لطفي الالوسي

في المثقف اليوم