قضايا

قلق المعرفة في عالم متغير

قاسم المحبشيفي الأزمنة القديمة كان المشتغل في الفكر والثقافة يباشر نشاطه بروح واثقة ومطمئنة إذ هو يشتغل على معرفة سابقة متوارثة ومكتمل التكوين من الماضي وكل ما عليه أن يقرأها ويشرحها ويعيد تحريرها وتدويرها باسلوبه الخاص بقدر ثقافته وفهمه فلا جديد في المعرفة يمكن أن يثير قلقه أو يتوقعه وهكذا

كانت الفلسفة العربية الإسلامية أشبه بالنسج على المنوال الثقافي اليوناني أما اليوم في عصر الثورة المعلوماتية وانفجار المعرفة فينام المرء ويصحى وقد تغيرت النظريات والمفاهيم والأفكار في كثير من أنساق العلوم ومجالاتها إذ إن المعارف العلمية والقيم التربوية في عصر العولمة وانكماش الزمان والمكان؛ عصر العلم والميديا الجديدة تعيش حالة من التغيير والتبدل بوتيرة متسارعة في بضع ساعات فقط.أننا نعيش لحظة تاريخية فارقة تجعل التغييرات في الأشخاص عاجزة عن ملاحقة سرعة التغيرات الاجتماعية والثقافية والعلمية المتسارعة في العالم المعولم الذي يشهد انفجار الثورة العلمية والتقنية الرقمية على نحو لم يسبق له مثيل من آدم حتى الآن. والسؤال هو كيف نثق بما لدينا من معارف ومعتقدات وأفكار مكتسبة وكيف نعلمها للأطفال بينما هناك نظريات ومناهج وموضوعات يكون قد عفا عليها الزمن قبل أن يترك التلاميذ مقاعدهم  المدرسية؟ خذ أي مجال من مجالات الحياة اليومية أو أي حقل من حقول المعرفة العلمية ستلاحظ أنها تتغير وتتجدد في كل لحظة حتى في حقل الفقه وأصول الدين لم يعد الفقهاء قادرين على مواجهة اسئلة الحياة وتحدياتها الجديدة بما لديهم من أجوبة نمطية تقليدية جاهزة. فلا شيء يمكن الوثوق به والاعتماد عليه من الخبرة الماضية فهذا المؤرخ الإنجليزي المشهور "جفري باراكلاف" من جامعة اكسفورد يكتب تحت تأثير الإحساس العميق بالأزمة:”إننا مهاجمون بإحساس من عدم الثقة بسبب شعورنا بأننا نقف على عتبة عصر جديد لا تزودنا فيه تجاربنا السابقة بدليل أمين لسلوك دروبه، وأن أحد نتائج هذا الموقف الجديد هو أن التاريخ ذاته يفقد، إن لم يكن قد فقد سلطته التقليدية ولم يعد بمقدوره تزويدنا بخبرات سابقة في مواجهة المشكلات الجديدة التي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً منذ آدم حتى اليوم» هذا الإحساس المتشائم بعدم جدوى التاريخ سرعان ما سرى كما تسري النار في الهشيم بين قطاعات واسعة من الفئات المثقفة الأورأمريكية وهذا ما أفصح عنه المؤرخ البريطاني “ ج. هـ. بلومب “ في كتابه “ حيرة المؤرخ”عام 4691م، بقوله: “ليس للتاريخ معنى أو فاعلية أو رجاء، فقد اندثرت فكرة الرقي والتقدم الصاعد بين المشتغلين بالتاريخ، فــ 09% منهم يرون أن العمل الذي يمارسونه لا معنى له على الإطلاق» وقد بلغ هذا الموقف المتشائم من التاريخ والمعرفة التاريخية عند المؤرخ الأمريكي “ دافيد رونالد”من جامعة هارفارد حد الرفض للتاريخ والتشكيك بقيمته وأهميته في كتاب يحمل الاستفزاز والتحدي صدر عام 7791م بعنوان (تاريخنا بلا أهمية) أكد فيه عدم فائدة التاريخ الحاضر والماضي والمستقبل وأعلن: أن التاريخ يظهر مقدار ضعفنا وأننا لا نتعلم من اخطأ الماضي، وما أقل تأثيرنا فيما ينزل بنا من أحداث وما أشد عجزنا في قبضة قوى طبيعية أساسية هي التي تشكل الوجود الإنساني» ويمكن  تتبع حيرة الفكر المعاصر إزاء ما شهده العالم ولا يزال يشهده من اضطراب شامل في ذلك السيل المتدفق من المحاولات التنظيرية التي ترغب في توصيف ونمذجة وعقلنه المشهد التاريخي الراهن في أطر مفهومية مجردة وكلية، إذ أخذ الفلاسفة والمفكرون منذ أواخر القرن العشرين يتسابقون ويتنافسون في صياغة وإبداع ونحت المفهومة المعبرة أو الصورة الفكرية التي يمكن لها أن تعبر عن العالم المعاش، وتمنح الحقبة الجديدة اسمها ومعناها. ومن تلك التوصيفات يمكن الإشارة إلى أشهرها وهي: العولمة، ما بعد الحداثة، ما بعد القومية، ما بعد الحرب الباردة، ما بعد الأيديولوجيا، ما بعد الاستعمار، ما بعد البنيوية، ما بعد التنوير، ما بعد الشيوعية، ما بعد المجتمع الصناعي، ما بعد التاريخ، نهاية التاريخ والإنسان الأخير»،  عصر الليبرالية الجديدة، عصر التفكيك، مجتمع الفرجة، أو الاستعراض، عصر الكمبيوتر، ثورة المعلومات والاتصالات، أو صدام الحضارات، القرية الكونية، نهاية عالم كنا نعرفه”مجتمع الاستهلاك، عصر الديمقراطية، عصر التقنية، عصر التنوع الثقافية، العهد الأمريكي، أو الأمركة، عصر الإرهاب العالمي، السوق الحرة، والوطن السيبرنيتي، عصر الفضاء، والكوكبية وغير ذلك من التوصيفات الكثيرة في أبعادها المتنوعة.

***

ا. د. قاسم المحبشي

في المثقف اليوم