قضايا

الثقافة هي القاسم المشترك الذي يجمعنا

في الأزمنة القريبة الماضية، قبل ثورة الاتصالات والمعلومات وانكماش الزمان والمكان وتحول السلطة حينما كانت تجتمع بعض النخب العربية المتعلمة في أي عاصمة من عواصم البلدان العربية؛ القاهرة،بغداد،، الخرطوم، دمشق، بيروت، الجزائر تونس، عدن، صنعاء وغيرها كان الهم السياسي العام هو الذي يشغلها، هم التحرر من الاستعمار وهم اصلاح أوضاع الاوطان وهم تحرير فلسطين مم الاحتلال الصهيوني وهم الوحدة العربية وهم تأسيس دول وطنية حديثة. تلك الهموم السياسية العامة هي التي حفزت الضباط الأحرار والنخب المتعلمة في مصر وفلسطين والعراق واليمن والسودان وسوريا والجزائر وتونس وغيرها للثورة ضد النظام الاستعمارية فيما عرف بحركة التحرر الوطني العربية التي اتقدت في منتصف القرن الماضي إذ كان الحلم والأمل والارادة الثورية الوطنية هي المزاج العام الذي يحرك النخب ويدفعها للفعل والمغامرة. تحرت النخب وتحرك الواقع وقامت الثورات وتغيرت النظم وتأسست الجمهوريات الوليدة الجديدة وحدث ما حدث من المتغيرات والأحداث التي نعرفها وصارت من التاريخ. اليوم لم يعد بإمكان النخب العربية المثقفة معاودة تلك الضربة المفعمة بإرادة التغيير والفعل والفاعلية بل اصبحت بالأحول ولا قوة في عالم بات يدار من قوى ومؤسسات دولية واقليمية ظاهرة وخفية. إذ كثرت وزادت اعداد النخب المتعلمة ولكنها اصبحت اليوم بلا حول ولا قوة. فأكثر من مليون يمني نازح في مصر الكنانة ومثلهم من العراق والشام والسودان ليس بمقدورهم فعل ما كان يفعله عشرة طلاب في المؤسسات الأكاديمية فما الذي حدث وكيف يمكن تفسير هذا الأمر وماذا بوسع النخب العربية المثقفة فعله اليوم ذلك هو السؤال الذي طالما وشغلني منذ عدة أعوام وأنا أرى بأم عيني تداعي الأحلام والشعارات الكبيرة في الحرية والعدالة والاستقلال والتنمية والسلام والوحدة العربية؟ إذ سألت هل مازال للمثقف العربي ما يفعله اليوم؟ ذلك هو سؤال مداخلتي البارحة في المائدة المستديرة التي عقدتها السفارة اليمنية ومشروع الدراسات الثقافية العربية المقارنة ومعهد البحوث العربية التابع لجامعة الدول العربية في القاهرة بمناسبة الذكرى التاسعة والاربعين لانتصار أكتوبر المجيد، ذلك اليوم الذي شكل ذروة التضامن العربي ومثالا اعلى للمشترك القومي العربي ضد الكيان الصهيوني وحلفاءه من قوى الهيمنة الدولية.

كانت ورقتي بعنوان (المشترك الثقافي العربي والنخب الثقافية في عالم متعدد الثقافات) إذ تزخر المجتمعات العربية الراهنة بتراث ثقافي وفني وأخلاقي وجمالي مشترك غني ففي كل بلد عربي يوجد مستودع خصيب للهوية الثقافية العربية المشتركة المتمثل في اللغة والعادات والتقاليد والقيم والمعتقدات والنقوش والآثار والأزياء والأطعمة والرموز وغيرها. كل تلك المقومات تجعل الإنسان العربي في كل قطر يقيم به انسانا مندمجا ثقافيا ولا يشعر بالغربة والاغتراب الا حينما يتذكر جواز السفر الذي يحمله بوصفه موطنا من دولة عربية أجنبية. فماذا بوسع النخب العربية عمله اليوم في ظل التحديات الخطيرة التي توجهها الشعوب والدول العربية في اللحظة الراهنة ؛ جملة متشابكة من التحديات بنسب ومستويات مختلفة محلية خاصة بكل قطر على حدة وتحديات إقليمية تهدد الوجود العربي بكليته وتحديات عالمية دولية. وتقترح ورقتنا اعادة التفكير بمفهومي الثقافة والمثقف في هذه اللحظة الراهنة من تاريخ الحضارة الإنسانية، فنحن في عصر العولمة حيث ينكمش الزمان والمكان إلى حدا بتنا فيه نعيش فيما يشبه قرية سبيرانتية، كل شيء بات متاح للجميع المعرفة مجتمعه أو تغيير عالمه، بقدر ما هو منتج أو مبتكر في مجال عمله؛ ويشارك في صنع ذاته وقوّد مصيره  بقدر ما يمارس حريته في التفكير ولا يتخلى عن عينه النقدية في قراءة ما يحدث. ومن لا يتاح لهأن يفعل بصورة إيجابية وبناءة، فإنه يفعل بصورة سلبية ومدمرة". ورغم ما تعيشه مجتمعاتنا العربية اليوم من ضعف وتمزق سياسي إلا أنها تحمل تراثا ثقافيا زاخرا بالممكنات الثقافية الإبداعية المتنوعة المشتركة بين الشعوب العربية الراهنة والثقافة هي ما يبقى بعد نسيان كل شي! إن الثقافات لا تموت طالما ظل حاملها المادي والمعنوي حيا أي الناس واللغة والقيم والعادات والتقاليد والرموز.. لكنها تتغير وتطور أو تتخلف بهذا القدر أو ذاك، وهذا يعود إلى مستوى التفاعل والتواصل والانفتاح والانغلاق، الجمود والحيوية والديناميكية والستاتيكية التي تتسم بها أي يعود إلى قدرة الثقافة على تجديد ذاتها وإخصاب هويتها وتجاوز كأبواتها باستمرار غير أن ما يقتل الثقافات ويهدد هويتها بالتمزق أكثر من أي شيء آخر، هو الانغلاق على الذات والنكوص للماضي والسير وفق مشيئة التاريخ واقداره. وتعد النخب الاجتماعية ظاهرة ملازمة لكل المجتمعات البشرية، إذ لا يوجد مجتمع دون نخب. إذ "أن النُّخب ليست وضعية عارضة في طبيعة المجتمعات الإنسانية، بل حالة جوهرية أساسية راسخة في صلب التكوين الفطري للمجتمعات الإنسانية منذ بدء الحياة الإنسانية حتى اللحظة الراهنة، إذ لا يمكن للحياة الاجتماعية في أي مجتمع كان، أن تتم من غير نخب اجتماعية سياسية وثقافية قادرة على توجيه مساراتها وتحريك دفتها في الاتجاهات المرغوبة والمطلوبة" وتتعدد النخب  وتتنوع بقدر تعدد وتنوع مجالات الفاعلية والعلاقة الاجتماعية. ويمكن للثقافة والمثقف العربي اليوم أن يعمل ويعاود فعله في ظل اللحظة الحضارية العالمية الراهنة وذلك انطلاقا من الآتي: 

بما ان العولمة ظاهرة كونية شاملة وليس لدينا القدرة على دفع تدفقها فإن الانفتاح الثقافي عليها هو الخيار الممكن لنا، ومن ثم الدخول معها في حوار وتفاعل حضاري وإنساني خلاق.

2- في سبيل ذلك لابد من إعادة البحث في شروط إنتاج نهضة ثقافية عربية شاملة، أي مشروع نهضوي حضاري متكامل في البناء والأنساق السياسية والثقافية والأخلاقية والفكرية،وإحداث ثورة في المفاهيم وأدوات الرؤية والتصور.

3- تطوير نظام إعلامي عربي يكون بمثابة النموذج (الفاعل والجاذب والقادر على صياغة الرأي العام العربي وتثقيفه بما يخدم تعميق الثقافة الوطنية وبناء شخصية المواطن والمثقف الملتزم.

4- لما كان حقل التربية والتعليم هو الأرض الخصيبة لتنمية الأجيال وبناء المجتمع، فإن العمل على إحداث تغييرات جوهرية في آلية النظام التربوي التعليمي العربي وتجاوز وضعيته الراهنة بما يمكنه من استيعاب المتغيرات العلمية والقيمية الجديدة، تعتبر مهمة ضرورية وحاسمة.

5- إن إحداث نقلة نوعية في الفكر السياسي العربي وكذا تغيير آلية النشاط السياسي بآلية جديدة تقوم على أساس الفهم الديمقراطي واحترام الإنسان والإقرار الفعلي بضرورة الحوار الديمقراطي هو الشرط الذي يوفر المناخ الأفضل للمشروع النهضوي المأمول .

كانت أمسية ثقافية مصرية يمنية رائعة في قاعة سبأ ادارها بكفاءة واقتدار الأستاذ الدكتور حاتم الجوهري رئيس مشروع الدراسات العربية المقارنة؛ رؤى جديدة في المتون الحضارة. على مدى ساعتين ونصف دار الحوار بين نخبة من الأكاديميين والاكاديميات والمثقفين والمثقفات من مصر واليمن من المشتغلين في حقل الدراسات الثقافية والانسانيات. وقد كانت مصر أم الدنيا وما زالت هي المتن الحضاري العربي الراسخ والجامع. فهي صمام الأمن القومي العربي السياسي والعسكري والاقتصادي والثقافي والتربوي والتعليمي والفكري والثقافي والديني فمن ذا الذي ينكر دور أم الدنيا على كل المجتمعات العربية منذ أقدم العصور؟ وذلك له أسبابه منها: موقعها الجغرافي الاستراتيجي وتاريخها الحضاري التليد ومساحتها الكبيرة وثروتها البشرية فهي الدولة العربية الأوسطية الكبيرة التي تحلق بجناحين أفريقي وآسيوي إذ تقع في الركن الشمالي الشرقي من قارة أفريقيا، ولديها امتداد آسيوي، حيث تقع شبه جزيرة سيناء داخل قارة آسيا فهي دولة عابرة للقارات وفيها لا بغيرها بزغ فجر الضمير الإنساني شيدت أولى عجائب العالم السبع الاهرامات وتعد متحف الحضارة البشرية بلا منازع إذ احتفظت بثلثي كنوز آثار التاريخ البشري. إنها أم الدنيا اسم على مسمى. ولا توجد لدى العالم العربي نقطة ارتكاز محوري غيرها. أعطنِي نُقطةً ارتكاز محوري وعصىً طويلةً بما يكفي وسأحرك العالم” ارخميدس.

***

ا. د. قاسم المحبشي

 

 

في المثقف اليوم