قضايا

محمد الزكري: النظام الإقطاعي الأوروبي والثورة الصناعية.. و"البؤساء" لفيكتور هوغو

تحليل مُفَصّل للتحولات السوسيوسياسية وتجلياتها الأدبية

المقدمة: النظام الإقطاعي الأوروبي، بتداخل علاقات السلطة المعقدة فيه، كان يشكل النظام العالمي السائد حينها، في الداخل الأوروبي ومع العالم الخارجي على حد سواء. كان هذا النظام الهرمي له تأثير عميق على المجتمع والثقافة والوعي الجمعي في ذلك الوقت. توغلت ثقافة الإقطاع عبر أدوات السرد والمنطق والأمثال في الوعي الأوروبي وحيكت خيوطها في نسيج الحياة اليومية جميعها حول النظام الإقطاعي. حتى المنازل شيدت بالقرب من المزارع هنا وهناك مما جعل المدن في أوروبا أقل بكثير من عدد القرى الزراعية المبثوثة في الرقعة الزراعية الأوروبية. التخطيط العمراني الزراعي للقرى يؤكد الترابط المتبادل بين السادة الإقطاعيين والعائلات الزراعية التي تعمل على أراضيهم. كان النظام الإقطاعي يوفر مظهرًا من الاستقرار، مضمونًا الاستمرارية الاقتصادية للمزارعين من خلال ضمان السيد شراء إنتاجهم. ومع ذلك، فإن هذا النظام الموجود تم تقليصه على حين غرة بظهور الثورة الصناعية، التي أعلنت نظام عالم جديد.

ظهور الثورة الصناعية المضطربة

ظهرت الثورة الصناعية خلال فترة مضطربة عندما بدأ النظام التقليدي ينهار بعدم قدرته من مجاراة التطورات الكونية و لم يكن مجهزًا للتكيف مع عالم يتغير بسرعة. أدت هجرة الجماهير الأوروبية من المناطق الريفية إلى المراكز الحضرية النامية، حيث ازدهرت المصانع، إلى ارتكاب ظلمات جسيمة واستغلال للمزارعين غير المهرة وعائلاتهم ومجتمعاتهم. هذه الهجرة الجماعية أخلت بالهياكل الاجتماعية الموجودة، تاركة الأفراد الضعفاء رهن رحمة نظام صناعي يعطي الأولوية للربح على حساب الإنسانية. في هذا السياق، كتب آدم سميث، الذي نشر عمله الأصلي "نظرية الأحاسيس الأخلاقية" في عام 1759، لتغريس القيم في نظام العالم الصناعي الناشئ، والتصدي للمشاكل الأخلاقية التي تنشأ عن هذه التحولات.

استجابة فيكتور هوغو: "البؤساء"

في مواجهة هذا الخلفية من الاضطراب الاجتماعي والاقتصادي، لاحظ فيكتور هوغو، الكاتب الفرنسي الشهير، التغيرات المتتالية وسجلها في أعماله الرائعة "البؤساء" المتكونة من خمسة أجزاء باعتبارها ردًا عميقًا. نُشرت موسوعة البؤساء في عام 1862، وتعتبر هذه الأعمال الضخمة تصويرًا مؤثرًا للواقع القاسي الذي تحمله العمال خلال الثورة الصناعية، حيث يظهر بوضوح ظروف عملهم القاسية والمعايير المعيشية المتدنية. يكشف السرد المتقن لهوغو عن عالم يستغل فيه أرباب العمل العمال، عبر تقديم أجور ضئيلة لا تكفي بالكاد للبقاء على قيد الحياة، مع اللجوء أيضًا إلى استغلال العمالة الأطفال المتفشي. علاوة على ذلك، يفحص بذكاء كيف تزيد إدخال الآلات الجديدة من مشكلات البطالة، خاصة بالنسبة للأفراد من الخلفيات المهمشة.

أهمية "البؤساء" في السياق المعاصر

لا يزال التصوير القوي لهوغو للحياة خلال الثورة الصناعية يرى لحد اليوم في المجتمع المعاصر، مما يجعل "البؤساء" عمل أدبي مهم ودائم الأثر. من خلال استكشاف تجارب الأفراد المتأثرين بهذه التحولات الاجتماعية بصورة شخصية، يقدم هوغو نظرات ثمينة إلى الأسباب الأساسية للثورة الفرنسية، وكذلك الموجات التالية للتقدم الاجتماعي وتحسين ظروف العمل التي نشأت بعدها.

ثورة 1832: حدث تاريخي يتم تصويره في "البؤساء"

أحد الأحداث التاريخية المحورية المصورة بوضوح في "البؤساء" هي ثورة 1832. نشأت هذه الثورة من رغبة في إجراء إصلاحات ديمقراطية، وهدفها الإطاحة بالحكومة القائمة وإقامة مجتمع أكثر مساواة. من خلال شخصية ماريوس بونتميرسي، طالب القانون الشاب الذي ينضم إلى الثوار، يقدم هوغو للقراء نظرة عن قرب على الأفكار المثالية الحماسية والالتزام الثابت لأولئك الذين قاتلوا من أجل تغيير المجتمع في هذه الحقبة المضطربة. تسجل الرواية بعناية تاريخ بداية الثورة وتقدمها وفشلها النهائي، مؤكدة التحديات والتعقيدات الجوهرية في مثل هذه الحركات الثورية.

انتقاد هوغو اللاجئ للأنظمة السوسيوسياسية

من خلال "البؤساء"، ينتقد فيكتور هوغو بلا تردد النظام الإقطاعي الأوروبي والظروف المقمرة التي أحدثتها الثورة الصناعية. يكشف تصويره الحاد عن الفروق الواضحة بين الطبقات الحاكمة والعمال المهمشين، مسلطًا الضوء على الظلم والفساد الذي ينبع من هذا النظام. علاوة على ذلك، يسلط الضوء على الجوانب الإنسانية للأفراد الذين يعانون من الفقر والحاجة، مع توجيه رسالة قوية بضرورة العدالة الاجتماعية والرحمة.

خلاصة

يعد النظام الإقطاعي الأوروبي والثورة الصناعية حقبة مهمة في التاريخ الاجتماعي والأدبي. تتعرض "البؤساء" للتحولات السوسيوسياسية التي نشأت في هذه الفترة بشكل متفائل وواقعي. تمثل الرواية صرخة واعية تدعو إلى العدالة الاجتماعية وتناصر النضال من أجل إصلاح الظروف الاقتصادية والاجتماعية غير المشجعة. وبفضل تأثيرها القوي وتصويرها المؤثر للحياة في تلك الحقبة، تستمر "البؤساء" في الإلهام والتأثير على القراء اليوم.

***

د. محمد الزكري القضاعي

............................

* جزء من محاضرة قدمتها لطلبة الماجستير في ألمانيا

في المثقف اليوم