قضايا

مصْطَفَى غَلْمَان: إعلامي السلطة أو مثقف "اليويو"؟

(يا واد يا يويو يا مهلبية

فوق الصواني

سايحه وطريه

فى كل جلسه تلبس قضيه

وتخيل عليها

يا مشخصاتي

حسب الوظيفة .. ) أحمد نجم فؤاد

ليعذرني شاعر مصر الكبير الراحل أحمد فؤاد نجم، وأنا أتماهى بافتتان وخجل مع عنوان قصيدته الباذخة ( ياواد يا يويو)، حيث ينتقل بنا عبر خيال تصويري شفيف، من وصف ذيل السلطة، المائل المتلون، الخفيف العجيني، الساخر المتذلل، إلى الأدوار السخيفة التي يؤمر بأدائها تحت الطلب، بكل أبعاد العبودية والتبعية والامتثال. فالمثقف "اليويو " هو هو كائن سيروري متغفل لا يتغير، مطبوع على السمع والطاعة، أعمى الرؤية والبصيرة، لا يجد مانعا من تدوير علاقته بالقابض على السلطة، متقمصا أعنة الهش، حتى يصير خوَّارًا ضعيفًا، يقايض ويناقض، يحاذر ويمتهن، بكل إيقاعات التخفي والتقنع بأشكال الكمون والاستعلام...

وهو على هذا النحو من البشاعة، يقارب عين حجة الاعلامي، ربيبه في العته، وناقله في الطريق والطريقة. وإن كان المفهوم الصحيح للاعلامي مخالف لما هو رائج اليوم، وما ينتبد من تشوهات الممارسة الإعلامية وأخلاقياتها الحذيرة.

وإذا كان المثقف يجتز قطائعه المعرفية وأبنية تصريف هذه الملاذات، من واجهة موقعه كفاعل إصلاحي ومجتمعي عضوي، فإن الاعلامي يترجم هذه الفعالية على مبضعين متنظمين، واحدتهما المعرفة بالأخلاق وفهمها وتأسيسها، وثانيثهما نشرها ومراقبة تنفيذها ورصد تأثيراتها على المجتمع والإنسان. وهو على هذا، فإنه الأقرب إلى الفعل العضوي منه إلى العمل المحدود.

فمن يرتضي قلب منظومته إلى مجرد لعبة أطفال، تستعاد نقرتها على المساحة فور انتهاء مهمتها في التحرك والمراوغة، ثم الالتفاف والتخفي؟ هل هو الاعلامي "اليويو" أم لعبة التحفيز على رهن المجتمع والحرية والمساواة والعدالة؟.

عندنا في تاريخ لعبة "اليويو" التي يطلق عليها باللهجة المغربية الشعبية "الطرمبيا"، يقتضي أن يستأثر اللاعب بها، بكل ماجريات الميدان. من واقع الأرضية ومحيطها وزمنها وشخوصها المحتملين.

وإذا انزلقت إحدى ورقاته عن تضمين روح هذه الخريطة، يصبح النفاذ لقاعدة اللعبة منذورا للتشوه والابتذال، والنقص والتقصير في تشكيل المنتوج وتحقيق أهدافه.

فالمثقف الذي لا يستحضر بدائله الإصلاحية، ولا يرتقي بمواقفه وقناعاته لمراتب التأثير وإحداث التغيير والتحول الديمقراطي، هو في مرتبة الاعلامي "اليويو"، المتصنع، الواجهة المدلسة للسلطة الآمرة، يستطيع أن يبيع أصوله الأخلاقية، ويعرض خدماته المحضية لمن يدفع الثمن؟!.

ولا يبقى لمثل النموذجين قائمة، فالتاريخ لا يرحم المدلسين، ولا يفتدي معدومي الضمير وبائعيه.

فانظر كيف رفع شأن الأصفياء القابضين على الجمر، ممن سجلوا مواقف الفخر والعزة والحرية الشامخة، كما هو الشأن بالنسبة لمواقف وآراء لازالت محفورة في ذاكرة التاريخ، نذكر من بينها مثالا لا حصرا، موقف الفيلسوف الفرنسي الفرنسي جون بول سارتر الذي أبدى النظر بكل تجرد من مسألة استعمار بلاده للجزائر، رغم صعوبة وضعه كمثقف مقرب من محيط الحكم، وهو ما اعتبر التزاما حقيقيا، بمحافظته على مبادئه حتى وإن اقتضى منه ذلك الوقوف ضد سياسة الدولة التي تحتضنه.

"إن قول الحقيقة وتصرفها بثبات ودقة يكاد يكون صعبًا، وربما يكون جادًا، مثل التحدث عنه تحت الترهيب أو العقوبة" كما يذهب إلى ذلك جون روسكين، لكن الافق الصعب غالبا ما يخرج من الآلام المبرحة، تلك التي ينتظرها الضمير الجمعي لتصير سلوكا بارا وقدوة يحتذى بها، كبذور الغموض عند لاوزي، بذور "تكمن في المياه الموحلة". يسائلها "كيف يمكنني إدراك هذا اللغز؟ يصبح الماء صافياً من خلال السكون. كيف يمكنني أن أصبح ساكنا؟ عن طريق التدفق مع التيار".

هذا المسار الطاعن في الحكمة هو السبيل الوحيد لضبط بوصلة النخب الثقافية والسياسية والاعلامية، حتى نتمكن من تصفية مياهنا السخيمة بقليل من السكون الذي يتدفق فينا مع تيار لا يرحم ؟!.

***

د مصْطَفَى غَلْمَان

في المثقف اليوم