قضايا

توفيق السيف: عودة لمبدأ الضرر

(تقييد حرية التعبير يؤدي الى إشاعة النفاق والتملق، والقضاء على التلقائية التي هي سمة المجتمعات النشطة والناهضة).

هذه عودة مختصرة الى مسألة يكثر الكلام حولها. وهي دعوى ان حرية التعبير التي ينادي بها بعض دعاة الحداثة، ربما تؤدي لضرر شديد بالتقاليد السارية والقيم الفاضلة، بل لعلها تطيح بالاستقرار والسلم الاجتماعي. اعلم ان بعض القراء سوف يستنكر هذه المبالغة، لهذا يقتضي الانصاف بيان ان الخائفين من عواقب الحرية، أي حرية التفكير والتعبير والاعتقاد، لا ينادون بقمع الأفكار، ولا يعتبرون الحرية - في حد ذاتها – من الرذائل. لكنهم يقولون ان كل ما يحتمل الحسن والقبح، يوجب الاحتياط في التعامل معه، مثل النار التي تستعملها لطبخ طعامك، لكنها قد تحرق البيت أيضا.

ومقتضى هذا الكلام انه يتوجب علينا – قبل منح الحرية لعامة الناس – أن نضع القوانين والسياسات التي تعالج ما سوف يترتب عليها من مشكلات. والمقصود بالقوانين هنا هو تحديد المجالات التي يسمح او لا يسمح بممارسة الحرية ضمن حدودها.

بعبارة أخرى فان الخائفين من الحرية، وهم في العادة الفريق التقليدي في المجتمع، يتفقون مع دعاتها في ان حرية التعبير خصوصا، يجب ان لا تقود الى الاضرار بشخص آخر او أشخاص آخرين. بعبارة أخرى فانهم يعطونك الحق في ممارسة حريتك في التعبير، لكن ليس الى حد الاضرار بغيرك، كما ان لغيرك نفس الحق مشروطا بأن لا يضرك.

كنت قد اشرت في كتابة سابقة الى ان هذي المسألة تحديدا كانت محل جدل في اوربا في منتصف القرن التاسع عشر. وعلى خلفية هذا الجدل نشر الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت ميل رسالته الشهيرة "حول الحرية =  On Liberty" في 1859. وقد أدى نشرها الى توسيع الجدل وتعميقه، لكنها في نهاية المطاف ساهمت في إرساء نقاط استناد او محددات للنقاش في الموضوع. ومن أبرز تلك النقاط أولوية الحرية على غيرها من القيم، واعتبارها حقا شخصيا لكل فرد، لا يجوز للمجتمع تقييده الا إذا أدت ممارستها للاضرار بالآخرين، ضررا موصوفا ومعرفا في اطار القانون.

وقد أثارت هذه القاعدة نقاشا كثيرا. وأطلق عليها اسم "مبدأ ميل" او "مبدأ الضرر  Harm Principle". في اطار هذا المبدأ، صنف ميل الأفعال/التعبيرات المضرة الى قسمين: فعل تقتصر أضراره على نفس الفاعل، مثل التدين او الالحاد، العمل او البطالة، التدخين او عدمه.  فهذه التعبيرات/الافعال وامثالها، قد تزعج الناس، لكن ضررها المادي لا يطال أحدا سوى فاعلها. اما القسم الثاني فهو ضار بالآخرين ضررا ملحوظا، مثل الكلام المؤدي لاثارة الكراهية ضد الملونين او اتباع الاديان الأخرى، او مثل الإشارات النابية التي تنطوي على إيذاء نفسي او اقصاء اجتماعي، مما يصنف تحت عنوان التنمر او التحرش. وقد قرر ميل ان القسم الأول من الأفعال لا يبرر للمجتمع ردع الفاعل أو تقييد حريته، حتى لو كان فعله متعارضا مع اعراف الجماعة او تقاليدها. أما النوع الثاني فينبغي تحديده في قواعد قانونية، تسمح بتقييده، لكن دون ان يصل التقييد الى حد التضحية بحق الفرد في أن يفكر بحرية او يختار نمط العيش الذي يناسبه.

يخشى ميل بشكل جدي، من ان يؤدي التوسع في تقييد حرية التعبير الى إشاعة النفاق والتملق، والقضاء على التلقائية التي هي سمة المجتمعات النشطة والناهضة. كلما كثرت القيود في المجتمع تقلصت سوق الأفكار، وتباطأت الحركة، وضعفت – تبعا لذلك – الرغبة في التقدم. الحرية ليست قيمة بسيطة كي نتساهل في تقييدها لأي سبب، فهي أول القيم واعلاها وهي اكثرها ضرورة لحياة الانسان.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

في المثقف اليوم