قضايا

عبد الأمير كاظم زاهد: اللاهوت القرآني وتاريخية النص

دعاني مركز تجديد للفكر والثقافة للمشاركة بموتمرهم العلمي القراني الأول عن فهم القران الكريم في ضوء مستجدات العلوم الإنسانية مساء يوم 25حزيران 2023 وتكرموا بان خصصوا لي المحاضرة الافتتاحية للمؤتمر وقد قدمت في المؤتمر ورقة علمية اضع ملخصا لها

1- تنطلق الورقة من مشاطرة هدف الموتمر في إمكانية الإفادة من تطور العلوم الإنسانية ومنهجياتها المعاصرة لاستثمارها كاليات للتلقي القراني وتستثمر لكي تفتح افاقا جديدة لم تكن موضع بحث في القرون التفسيرية الأولى على ان تستخدم تلك الادوات البحثية بوجه دقيق في فهم القران الكريم فهما يتسق مع فضاء الحداثة وقضاياها المعرفيه ونزعاتها النقدية ومنهجياتها التي تطبق على عموم نتاج الانسانيات المعاصرة

ويقف في وجه ذلك احد رايين اما توصيف التجارب المعرفية السابقة في تفسير القران تراثا ثقافيا يشكل مرحلة من مراحل الصيرورة الفكرية لعلوم التفسير وانها كانت وفية لعصورها وقدمت ما بوسعها ان تقدمه من علم وتدقيق ولكن ذلك العلم كان نتاج عصره ومعبرا عنه بظروفه العديدة. والثاني انها أي التجارب التفسيرية الماضية تخضع للنقد والمحاكمة والتفكيك بوصفها ثقافة بشرية قاصرة عن ادراك الحقيقة التامه تمهيدا لمسارات التجديد في الدرس التفسيري، وكلا الامرين محاط بمحاذير وصعاب بحثية

2-علينا ان ناخذ بنظر الاعتبار ان الاستخدامات الأيديولوجية لهذه المعرفيات والمناهج سعت لاجراء دراسات كان لها غايات منحازة لاطراف الصراعات بين الشرق والغرب والمسيحية والإسلام واليهودية وصهيونيتها والصراع في الشرق الأوسط وتجارب الاستشراق المبكر الذي تنامى تحت عقد تلمودية وانجيلية لاثبات عدم الوهية النص القراني وانه من صنع النبي محمد فالحذر من ان تستغفلنا هذه الدراسات لتشوه الوعي التاريخي وعلينا ان نتبنى امر الإفادة منها بموضوعية وحيادية صارمة لتحليل جديد للقران والاضاءة على المكنونات القرانية

مراحل التفسير

كانت المرحلة الأولى مرحلة التفسير بالماثور والنص والرواية وكان الطبري والعياشي والقمي نماذج لها وكان النص القراني قد غمر تفكيرهم وثقافتهم ولم تكن لهم علوم بشرية آنذاك فاكتفى عصرهم بتفسير النص من خلاله ومن شروحات لسنة وفهم الصحابة والتابعين

بعد ان وفدت على العالم الإسلامي علوم الاقدمين الفلسفة والمنطق فقد تسربت الى التفسير فظهرت موجة التفسير بالراي والتاويل والمحاكمة العقلية للاراء فكانت المرحلة الثانية التي امتدت لقرون الى جنب الماثور فصار المسار التفسيري يسير بخطين متوازيين ومنهجيتين تلتقي أحيانا وتفترق غالبا والملاحظ ان التفسيرين احتضنا الخلافات الكلامية والفقهية وظهرت في ثنايا التاويل وفي الروايات المتعارضة المنقوله من الماثور وظهر الى جانب التاويل العقلي تاويل حدسي اشاري سمي بمنهجية التفسير الاشاري واستمر الحال على ذلك حتى القرن الثالث عشر الهجري الموافق للتاسع عشر الميلادي فظهرت تفاسير مثل المنار وتفسير طنطاوي جوهري انتهج نهج الإفادة من الإنجازات العلمية التي انتقلت من الغرب بل صاحبت غزو اوربا للعالم الإسلامي واستعماره وكان الغرض منها اسناد القران بادلة علمية

ونحن الان تحت تاثير الصدمة الثانية للهيمنة العلمية الاوربية مثل مناهج الدلالة الالسنية واراء سوسير واراء غادامير والتاويلية والبنيوية ومناهج الانثروبولوجيا والمنهح الفيلولوجي

وهذه هي المرحلة الرابعه التي دخلت فيها المقاربات التفسيرية المتاثرة بالثقافة الغربية عالم الثقافة العربية وكان من ذلك اجتهادات المفسرين الجدد مثل محمد شحرور في كتابه (الكتاب والقران) والجابري في فهم القران ونقد العقل العربي واركون في تاريخية الدين ونصر حامد أبو زيد في النص والسلطة والحقيقة وكتابه التاويل.

1- هناك منهجيتان في التفسير، المنهجية التجزيئية والمنهجية الشمولية وهنا اشير الى ان التجزيئية نوعان احدهما ما يسع الجزء ان ينتظم مع الأجزاء الأخرى فيكون جهدا قابلا ان يكون ضمن مشروع الشمولية فيقبل والا فان التجزيئية ربما تفضي الى تشوهات في الوعي فلا يكون الخيار الا بالالتزام بالمنهجية الشمولية.

2- ان النزعه النقدية في الثقافة الغربية الحديثة قد درست اكثر النصوص التاريخية دراسة نقدية وامتدت الى الكتب الدينية القديمة التوراة والانجيل لاسيما في خضم الصراعات بين العلمانية والكنيسة للوصول الى ان النص الديني ناتج عن الظرف التاريخي الاجتماعي والاقتصادي ولكي ينزل النص من سمة التعالي والقدسية الى انه نص غير متعالي ولا مقدس وزمني تمهيد لمرجعية العقل والعلم التجريبي.

ويبدو لي ان سبب عدم ولوج أئمة الشيعه في ازمة خلق القران حيث لم يبدو رايا بها فلانهم ادركوا ان القول بخلق القران ربما يفضي اعتباره ناتج ظروف تاريخية يعبر عنها او يفض القول بقدم النص الى ان النص ازلي.

3- بودي ان استعين بنموذج تطبيقي لما تقدم بان اشير الى مقاربة مشروع مهم:

اسمه ( قران المؤرخين) للباحث امير معزي مع فريق عمل يشتغل معه يبلغ خمسة عشر باحثا كانوا قد كتبوا قرابة 4000 صفحة تحليلات للنصوص القرانية والتمسوا ما يشابهها من السرديات التاريخية ككتب الأديان التوحيدية والكتابات السريانية لاستثمار التشابه بينها وبين ما ورد بالقران لينتهوا الى ان التشابه يعني ب (ان محمدا اخذ هذه الأفكار من الثقافات السابقة وهي وان كانت تحمل سمة دينية غير انها ناتجة عن ظروفها التاريخية) وهي ليست متعالية ولا معصومة واخرجوا كتابا في تحليل سورتي العلق والطارق وتناولوهما من حيث البنية الموضوعية للسورة وعدد الايات وتحليل لاسم السورة وفواصلها وسبب النزول واستخدموا التناص مع ادبيات متعددة وصولا لهذا الغرض.

بيد ان الايات القرانية قد عرضها النبي محمد بوصفها قراءة لاهوتية كونية للوجود ومشروعا للهداية والعرفان وانها خاتمة النصوص المنزلة ففي مضامينها خلاصة نهائية للاديان المتعاقبة لذا فان ارتباطها بالنصوص الدينية القديمة لايعد امرا غريبا ولعله ارتباط مضموني فقد ورد في اكثر من موضع قوله انه مهيمنا ومصدقا لما بين يديه وانه من قبيل صلة الأجزاء بالعام فقد قال (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ) وقال (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيل) وقال (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) وقد يكون صحيحا القول ان الايات القرانية عبارة عن مجمع التراثات الدينية المتعددة او نقطة التقاء الديانات.

4- ان معرفيات التفسير بوصفها جهدا بشريا ليس حجة على لاهوتية القران ولا على عدمها فلا مسوغ للاستدلال بالتفاسير على امر لاهوتية النص.

5- القران ليس وثيقة تاريخية او مستند تاريخي حتى يجوز لنا ان نطبق عليه المنهج التاريخي ونلزمه بنواتج المنهج.

6- ان إشكاليات التدوين الاول للقران واشكاليات جمع القران وتعدد المصاحف قد حسمت بالعصور الأولى وجرى عليها القبول ونقل قران المصاحف التي بين أيدينا بالتواتر وانتهى الامر علميا فاعادة الخلاف واستغلاله للاساءة للقران امر لا مبرر له

7- ان الرقم والاثار والالواح القديمة لا تشكل في البحث القراني الا قرائن معززة للافتراض وليست ادلة برهانية على دعوى لاهوتية النص او عدمه.

8- ان أي بحث علمي لن يتخلى عن المقاصد الذاتية والغايات الأيديولوجية.

فان قيمته العلمية تنخفض الى درجة عدم الاعتبار العلمي له.

***

بروفسور متمرس

د. عبد الأمير زاهد كاظم

في المثقف اليوم