قضايا

آمال طرزان: الأقواس القهرية في مواجهة النظام الأبوي

عقب الانتهاء من لقائنا مع عالمنا الجليل "الطهطاوي" تواصل معي أستاذي الجليلان د.عثمان ود. راشد من أجل الذهاب لهما في الغد بمقر الجامعة الجديدة. وقد اتفقت مع "نور الهدى" أن نذهب سويًا. ومع الصباح البارد يولد الجمال.

رنت عليا نور لتوقظني قائلةً: قد ذهب زوجي "رمزي" لإيصال البنات إلى المدرسة وعند قدومه سوف يوصلني إليك وهو في طريقه إلى عمله بالبنك وبالفعل وصلنا في الموعد المحدد.

- د. حليم عثمان: في البداية اطلب منكِ تلميذتي أن تسجلي كل ما دار أمس في لقائنا مع عالمنا الجليل وتحتفظي به، ومع ظهور تعبيرات الاستفهام على وجهي قال لي أستاذي: أنه حاجة في نفس يعقوب فاصبري وتمهلي.

- د. نجيب راشد: أما زلتِ على موقفك يا آمال من نقدك لأطروحة النسوية حول النظام الأبوي؟

- بكل تأكيد فأكثر ما يضايقني د. "راشد" استخدام نسويات الموجة الثانية لمصطلح النظام الأبوي منذ أوائل القرن العشرين، بشكل متكرر في عديد من المجلات والنصوص الكلاسيكية والدوريات (1)، للإشارة إلى النظام الاجتماعي القائم على السيطرة الذكورية على النساء، أصبح مفهومًا مهمًا في دراسات الجندر بشكل أساسيٍّ- وما أدراك وما الجندر د. راشد-، مما ترتب عليه تطوير عدد من النظريات التي تهدف إلى تحديد أسس تبعية المرأة للرجل(2).

- نور الهدي: أفهم من ذلك أنه مع الحركة النسوية بدأ النظر إلى النظام الأبوي بوصفة النظام القاهر النساء ولكن كيف تم ذلك؟

- د. نجيب راشد: سأوضح لكِ الأمر أستاذة "نور الهدى"، لقد استندت الحركة النسوية إلى أن الأم كانت تمثل الدور المسيطر في الاقتصاد، في مرحلة النظام الأمومي والتي تعد مرحلة تاريخية فيتطور المجتمع البدائي، حيث وجد النظام الأمومي لدى جميع الشعوب بلا استثناء، فخلال المراحل الدنيا من التطور الاجتماعي لم يكن معروفا من هو أبو الطفل في حين كانت أم الطفل معروفة، ولهذا كان ينسب النسل للأم وكان الاعتراف فقط بالصلة الأنثوية(3). وبناءً عليه أولاد الرجل لا يستطيعون ورثه، فقد كان الأقارب من ناحية الأم هم الذين يرثون مَنْ يموت من القبيلة حتى تكون الملكية داخل القبيلة؛ والسبب في ذلك يعود إلى انتساب الطفل للأم في ذلك الوقت(4). وبذلك يُلاحظ أن معظم التقدم الذي أصاب الحياة الاقتصادية في المجتمع البدائي يُعزى للمرأة أكثر مما يعزى للرجل(5).

- د. نجيب عثمان: لكن مع تقدم الزراعة انتزع الجنس الأقوى ألا وهم الرجال من أيدي النساء زعامتهن الاقتصادية التي توفرت لهن حقبة من الزمان بسبب الزراعة؛ وكانت المرأة قد استأنست بعض الحيوانات؛ فجاء الرجل واستخدم هذه الحيوانات بنفسه في الزراعة، وبذلك تمكن من أن يحل محلها في الإشراف على زراعة الأرض، ومن ثم فرض سيطرته عليها؛ وكذلك ازدياد ما يملكه الرجال من أملاك عديدة، كالماشية ومنتجات الأرض، مما أدى إلى إخضاع النساء للرجال إخضاعا جنسيا؛ لأن الرجال طالبوهن بالإخلاص لهم ليورثوا ثروتهم إلى أبناء من صلبهم؛ وهكذا تم الاعتراف بأبوة الرجال داخل الأسرة، وبدأت الملكية تهبط في التوريث عن طريق الرجال، واندحر حق الأمومة أمام حق الأبوة، وأصبحت الأسرة الأبوية هي الوحدة الاقتصادية والشرعية والسياسية والخلقية في المجتمع(6).

- د. نجيب راشد: بذلك أصبحت المرأة وأبناؤها ملكا لأبيها أو لأخيها الأكبر، ثم ملكا لزوجها، إنها اُشْتُرِيت في الزواج كما كان يشترى العبد في الأسواق سواء بسواء، وأصبح للوالد الحق في أن يعامل زوجاته وبناته كما يشاء(7)، ففي الأسرة الأبوية، أصبحت الزوجة وأبناؤها بمنزلة العبد لرأس الأسرة وهو الرجل(8). وهذا يعنى أنّ النظام أن الأبوي حرفيًا هو حكم الرجل المسيطر على الوحدة الاجتماعية كالعائلة أو القبيلة. وهو عادة ما يكون الأب الذي يوصف بأنه شيخ كبير في السن داخل المجتمع، والذي يمتلك السلطة الشرعية على الآخرين داخل الوحدة الاجتماعية، بما في ذلك الرجال الآخرين (ولاسيما الأصغر سنًا)، وكذلك يسيطر على الجميع من النساء والأطفال(9). وبإيجاز يعني النظام الأبوي حكم الأب داخل الأسرة التي يسيطر عليها الذكور(10).

- وبناءً على ما سبق يا "نور"استند روادُ الحركة النسوية على النظام الأبوي بوصفه سببًا لاضطهاد النساء وقاموا بطرح العديد من التعريفات، ولكن كان أكثر تعريف تأملت فيه: هو ما قدمته "كارول جيليجان "(ã)CarolGilligan (1939- ؟) حيث رأت أن النظام الأبوي هو نظام حياة يميز بعض الرجال على البعض الآخر والأغنياء على الفقراء والبيض على السود والآباء على الأبناء، وهذا الدين على ذاك وهذه الطبقة على تلك وجميع الرجال على النساء. إن سياسة النظام الأبوي هي سياسة الهيمنة وهى سياسة تبرر عدم المساواة(11). ووفقًا لهذا التعريف أستاذي الجليلين فإنه لم يجعل النظام الأبوي نظامًا قاصرًا على تمييز الذكور عن الإناث من خلال طرحه صورٍ أخرى للاضطهاد داخل المجتمعات. ولدي قناعاتي بأن نظرة النسوية للنظام الأبوي بوصفه نظامًا تتعرض فيه النساء للقهر والقمع من جهة الرجال غير مقبولة لأسباب عدة والتي منها: أن هذه التفسيرات تبدو اتجاهًا نحو التأمل (بمعنى آخر)، إنها أخفقت في الاعتراف بالاختلافات التاريخية لتفسير العلاقات بين الجنسين(12).وبناءً على ذلك لابدّ من أن نُحقّق في الفرضيّة المُسبقة للحركة النسويّة المبنيّة على تعميم الظلم والتمييز بين جنسٍ وجنسٍ آخر، فالدعوة الأساسيّة لهذه الفرضيّات هي أنَّ النساء كنّ يقبعن في موقعٍ أحقر مقارنة بالرجال طوال التاريخ بسبب جنسهنّ، ويمكن ملاحظة بعض أشكال هذا الاحتقار على شكل ظُلمٍ وتمييز.(13)

إنّ إثبات انتشار الظلم طوال التاريخ وبهذه السعة لابد أن يكون عبر تقارير وثائقيّة وتاريخيّة، وأمثال هذه التقارير لا تقتصر على أنّها غير موجودةٍ وحسب، بل من غير المُمكن الحصول عليها عمليًا(14).

- د. نجيب راشد: أتذكر تساؤلك يا "آمال" عن سبب اعتبار الحركة النسوية النظام الأبوي سببًا لقهر النساء؟ ألا يمكن اعتباره مصدرًا جَوْهَرِيًا لحماية المرأة والدفاع عنها؟ و تركيزك على أن أية أطروحة تنم عن المجتمع والعصر الذي نشأت فيه؛ ولكون الحركات النسوية غربية فهي تعبر عن بنية المجتمع الغربي الذي يتسم بالفردية والتفكك الأسري، وكذلك تعبر عن التجارب الشخصية لروادها واللواتي إن صادفن رجالًا قادرين على مشاركتهن في تحمل المسئولية ورعايتهن لتحولن إلى القول بأن النظام هو مصدر الآمان والاستقرار. وأتذكر حينما سألتك: تُرَى ما النظام البديل يا آمال؟

- نعم أتذكر تساؤلك؟ واقترحت باستبداله بالأقواس القهرية؛ لسببين الأول أن مصطلح الأقواس القهرية من وجهة نظري هو نظام قائم على وجود علاقة ثنائية تتسم بالتسلط والخضوع لقهر النساء تتمثل في أنماط متباينة من العلاقات كالقهر الطبقي أو التحيز الديني أو التحيز العرقي أو تحيز المجتمعات ذوات البشرة البيضاء ضد ذوات البشرة الملونة من النساء أو الرجال للنساء...إلخ، ومن ثم لا يمكن حصر التعريف على نمط واحد من أنماط القهر الذي يقع على المرأة ألا وهو قهر الرجال للنساء. ثانيًا إن مفهوم الأقواس القهرية تتشكل مبادؤه وفق الخلفية الدينية والثقافية والطبقية والعرقية والأيديولوجية ...إلخ داخل المجتمع، ومن ثم يختلف ويتغير باختلاف الأزمنة والعصور داخل المجتمعات.

- د. حليم عثمان: ولماذا كلمة أقواس قهرية بالذات تلميذتي النجيبة؟

- لأن العديد من النساء تتأرجح في عالم مظلم بين أقواس قهرية، حيث تقيدهن العادات والتقاليد الظالمة وكذلك الفهم الخاطئ لبعض النصوص الدينية...إلخ، فيصبحن أسيراتٍ لا يُسمح لهن بتحقيق ذواتهن الحقيقة . من خلال احتجازهن بين تلك الأقواس التي تحكم حياتهن وتحدد مصيرهن مما يحرمهن من الحرية والاختيار ويئد طموحاتهن الشخصية. من أجل ذلك يظللن في معركة مستمرة لكسر تلك الأقواس القهرية، فيخضن حربًا صامتة ضد الخلفيات الدينية والثقافية والطبقية والعرقية والأيديولوجية. وحتما د.عثمان إذا عالجنا الأسباب الحقيقة وراء ضعف مكانة المرأة عبرالتاريخ فسنصل إلى تحقيق التكامل بين الرجل والمرأة وفقاً لأطروحتنا الشرقية.

- د .عثمان: صدقتِ تلميذتي.

- د. راشد: أنه لحوار مثمر ولكن معذرةً لابد أن أغادر؛ لأنه موعد خروج ابني "أسلم" من المدرسة.

- نور الهدى: وكذلك أنا يجب علىّ الذهاب إلى مدرسة بناتي فاليوم أخبرت زوجي بأنني سأحضر البنات من المدرسة حتى يُضطر إلى الاستئذان من عمله.

- ونحن في طريقنا للذهاب إلى مدرسة بنات قالت "نور"لي: أنَّ دكتور نجيب متشابه مع زوجي رمزي في حرصهما على المشاركة بتحمل مسئولية الأبناء والأسرة.

- إنهما نموذجان للعديد من الأزواج في مجتمعاتنا الشرقية، والتي يكون فيها الرجال قادرين على تحمل المسئولية وتقديم الرعاية لأسرهم بوصفهم مصدرً الأمان لزوجاتهم وأبنائهم؛ من أجل ذلك "يا نور" إن كلمة "الأبوي" تمثل بداخلي معاني إيجابية من حب وحرص على الأبناء وسعي دائم إلى دعمهم المعنوي وتوفير احتياجاتهم المادية، وإن كنت لا أنكر تواجد أمثالٍ كثرة من نموذج "سي السيد" في تعامله المستبد مع المرأة. وعلى أية حال يا نور إنني أنتظر مجيء رائد حركة تحرير المرآة بمصر في لقائنا القادم لمناقشة أهم معضلات "الست أمينة" على أملٍ أن القادم قد يحمل خيراً كثيرًا بين إيزيس وأزوريس .

***

د. آمال طرزان

........................

(1) Finn Mackay: Radical Feminism Feminist Activism in Movement, op.cit, p.104.

(2)Jane Pilcher and Imelda Whelehan: 50 Key Concepts in Gender ...., op.cit, p.93.

(3)) روزنتال (م.) وب.يودين: الموسوعة الفلسفية، ج1، ط2، ترجمة سمير كرم، مراجعة د.صادق جلال عبد العظيم وجورج طرابيشي، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، 2006م، ص 528.

(4)) فردريك إنجلز: من مختارات كارل ماركس وإنجلز أصل العائلة...، مرجع سابق، ص48.

(5)) ول وايريلديورانت: قصة الحضارة "نشأة الحضارة"، ج1، مج1، ط1، ترجمة زكى نجيب محمود، محى الدين صابر، دار الجبل للطبع والنشر والتوزيع، بيروت، د.ت، ص61.

(6)) المرجع السابق، ص61- 62.

(7)) ول وايريلديورانت: قصة الحضارة "نشأة الحضارة"، ج1، مرجع سابق، ص62- 63.

(8)) المرجع السابق، ص71.

(9)Jane Pilcher and Imelda Whelehan: 50 Key Concepts in Gender Studies "Sage Key Concepts Series", Sage Publications Ltd, London, 2004, p.93.

(10) Johanna Martina Wood: Pateriachy Feminism..., op.cit, p.14.

(ã) حصلت على الدرجة العلمية في الأدب الإنجليزي مع مرتبة الشرف الأولى من كلية سوارثمور، ودرجة الماجستير في علم النفس الإكلينيكي من كلية راد كليف ودكتوراه في علم النفس الاجتماعي من جامعة هارفارد.من مؤلفاتها"صوت مختلف" وكذلك شاركت في تأليف أو تحرير خمسة كتب مع طلابها وهم: رسم الخرائط في المجال الأخلاقي 1988م؛ إجراء اتصالات 1990م؛ النساء والفتيات والعلاج النفسي: إعادة صياغة المقاومة 1991م؛ لقاء عند مفترق الطرق: علم نفس المرأة وتنمية الفتيات. كانت عضوًا في هيئة التدريس بجامعة هارفارد لأكثر من 30 عامًا، وأصبحت أول أستاذة لدراسات النوع الاجتماعي في جامعة هارفارد في عام 1997م.

See:https://its.law.nyu.edu/facultyprofiles/index.cfm?fuseaction=profile.biography&personid=19946, In: 6/5/2022, 12:00 AM.

(11)Carol Gilligan, Naomi Snider: Why Does Patriarchy Persist, Polity Press, UK, 2018, p.32.

(12)Carol Gilligan and David A. J. Richards: Darkness Now Visible Patriarchy’s..., op.cit, p.10..

(13) نرجس رودكر: فيمينزم "الحركة النسوية مفهومها وأصولها ..."، مرجع سابق، ص281.

(14) المرجع السابق، الصفحة نفسها.

في المثقف اليوم