قضايا
عبد الله الفيفي: في قراءة النصِّ وفهمه!

(بين اللَّفظ والسَّبب)
كان (ذو القُروح) قد عرَّج بنا في المساقات السابقة على القراءات في التراث العَرَبي، وما يعتورها من أوهام ومبالغات. حتى قال:
ـ وفي مقابل ما حدَّثتك عنه من مغالاة، قديمة ومعاصرة، في شأن «نَهْج البلاغة»، يمكن أن تقف على مبالغات أخرى في تمحُّل الإعجاز اللُّغوي في «القرآن الكريم».
ـ مثل ماذا؟
ـ سمعتُ مرَّةً حلقة من برنامج تلفازي على إحدى القنوات الفضائيَّة، فعَجِبْتُ بعد أن كنتُ أُعجَب بما يطرحه الرجل المستضاف.
ـ وما ذاك؟
ـ كان يزعم أن كلمة «عِبادي» إذا كُتِبت في المصحف بالياء، دلَّت على الكثرة، وإذا كتبت بدون ياء، دلَّت على القِلَّة، وأنَّ تلك ظاهرةٌ قرآنيَّةٌ مطَّردةٌ في المصحف كلِّه، وأنها خاصيَّة لا نظير لها في غيره. واستشهد بآيات منها: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي، فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ.﴾ (البقرة، 186). [كثرة]. ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَحْمَةِ اللهِ.﴾ (سورة الزمر، ٥٣). [كثرة]. ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.﴾ (سورة الإسراء، ٥٣). [كثرة]. ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ. الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ.﴾ (سورة الزمر، 17- 18). [قِلَّة]. ﴿قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ .﴾ (سورة الزمر، 10). [قِلَّة]. ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ.﴾ (سورة العنكبوت، 56). [كثرة]. هكذا قال.
ـ لكن ماذا عن الآية: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُتَّبَعُونَ.﴾ (سورة الشعراء، 52)؟
ـ هنا السؤال!
ـ وإنَّما الحديث هنا عن قوم (مُوسَى) فقط، لا عن كلِّ العباد. فهل قوم مُوسَى كانوا بالكثرة التي تُسوِّغ ذلك؟
ـ حسب «التوراة»، أو بالأصح «العهد القديم»، هم كثرة جِدًّا؛ وذلك لمآرب سياسيَّة معروفة. أمَّا بحسب «القرآن»، فـ«شِرذمة قليلون». وبذلك وصفهم (فرعون)، في السورة نفسها: ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ.﴾ (سورة الشعراء، 54).
ـ فلماذا استعمل هنا «عبادي» بإثبات الياء؟!
ـ اسأل عمَّك، صاحب نظريَّة أنَّ كلمة «عبادي» إذا كُتبت في المصحف بالياء، دلَّت على الكثرة، وإذا كتبت بدون ياء، دلَّت على القِلَّة!
ـ لقد توفي، رحمه الله!
ـ رحمه الله! أعني اسأل من يأخذ بمثل هذا. وكذا في الآية الأخرى من (سورة الدخان، 23): ﴿فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُم مُتَّبَعُونَ.﴾ على أنَّ قوم (مُوسَى)، مهما بلغوا كثرة، ليسوا كعباد الله المؤمنين جميعًا، الذين يدخلون الجنَّة، في قوله تعالى: ﴿يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ ولَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ.﴾ (سورة الزخرف، 68- 96).
ـ ومع ذلك حُذفت الياء من كلمة «عبادي» هاهنا. إذن، لا يمكن تقعيد قاعدة مطَّردة في هذا يُبنَى عليها الزعم بدلالة بيانيَّة، بل بمعجزة لُغويَّة.
ـ أضف إلى هذا أمور، منها: أنَّ التقاء الساكنين يقتضي حذف أحدهما، في مثل: ﴿قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ.﴾ وهذا أظهر سبب لحذف الياء من كلمة «عبادي». فإذا أُثبِتت لَزِم تحريكها، في مثل: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ...﴾. والأمر الآخَر، أنَّ حذف ياء المتكلِّم مألوف في لسان العَرَب. وقد جاء من «القرآن» في آيات، مثل: ﴿رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءْ.﴾ (سورة إبراهيم، 40). أي «دعائي». ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينْ.﴾ (سورة الكافرون، 6). أي «ديني». ومثل هذا في الآية: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادْ.﴾ (سورة الزمر، 17). ثُمَّ إنَّ في «القرآن» مراعاة لجوانب من الجرس الموسيقي، ولاسيما في فواصل الآيات. ويُلحَظ ذلك بين الآيتين: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادْ﴾، ﴿وَعْدَ اللهِ لَا يُخْلِفُ اللهُ المِيعَادْ.﴾ (سورة الزمر، 17، 20).
ـ وهذه في النهاية قضيَّة إملائيَّة.
ـ نعم، وإملاء المصحف معلومٌ أنه لا دلالة فيه، ولا قياس عليه، وإنَّما يمثِّل مرحلة بدائيَّة من تطوُّر الكتابة العَرَبيَّة، ولا علاقة له ببلاغيَّة النصِّ؛ و«القرآن» لم ينزل مكتوبًا.
ـ إذن، ثمَّة أسبابٌ لُغويَّة، تتعلَّق بأعراف العَرَب في كلامهم، وإنَّما نزل «القرآن» بلسانهم، وإلَّا لأنكروه.
ـ صحيح. وثمَّة كذلك أسبابٌ صوتيَّة، تتعلق بالأداء وضرورات الترتيل، كما كانت في الشِّعر ضرورات أدائيَّة موسيقيَّة تخرق مألوف الكلام في غير الشِّعر. أمَّا تكلُّف غير ذلك، فإسرافٌ في التماس ما «القرآن» عنه في غِنًى، وهو فاتح أبواب على الطَّعن، وإظهار المسلمين بمظاهر من الادِّعاء غير العِلمي، هم في غِنًى عنها كذلك.
ـ على أن غُلُوَّ المسلمين في الرجال لا يقلُّ عن غُلُوِّهم في النصوص.
ـ بل يوشك أن يوقعهم هذا في مثل ما وقع فيه (النَّصارى) من غُلُوٍّ وتناقضٍ في (يسوع)، حتى ألَّهوه، ثمَّ زعموا صَلْبه، مع أنه لم يَعرف له أحدٌ قبرًا طوال التاريخ.
ـ بل المسلمون واقعون في ذلك بالفعل كثيرًا، وإنْ أنكروا لفظًا ما هم فيه مؤلِّهة رجالٍ واقعًا وسلوكًا.
ـ ولولا أنَّ دينهم يرفض جذريًّا تأليه غير الله، لنطقوا بما في صدورهم جهرةً لا مجازًا. فمن غُلُوِّ الشِّيعة غُلُوُّهم الأسطوري المتوارث في آل البيت. ومن غُلُوِّ المتصوِّفة غُلُوُّهم الفكاهي في الأولياء والصالحين. ومن غُلُوِّ السلفيِّين من أهل السنَّة والجماعة غُلُوُّ بعضهم في أئمتهم وشيوخهم، وقبل ذلك غُلُوُّهم في (محمَّد، عليه الصلاة والسلام)؛ حتى لقد يُخضِعون كلام الله للحديث المروي، وإنْ لم يكن صحيحًا بالضرورة، وقد يتأوَّلون أحيانًا بعض «القرآن» لرفع الرسول وحديثه إلى مقام الله وقرآنه. فمزَّق هؤلاء وأولئك جميعًا الأُمَّة تمزيقًا بسبب هذا الغُلُوِّ وذاك، وقبل ذلك مَزَّقوا العقل، بعد أن ألغوا عمله.
ـ مثال ذلك، يا (ذا القُروح)؟
ـ ما أكثر الأمثلة! خُذ، مثلًا، قول بعضهم إنَّ كلام الرسول كلَّه وَحْيٌ يُوحَى، مستشهدين استشهادًا، مبتور السياقَين الداخلي والخارجي، ولا يُقرُّه عقل ولا نقل ولا قرآن، بالآيتين من (سورة النجم): ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾. وتحت شعار الأخذ بعموم اللفظ لا بخصوص السَّبب- الغالطة المغالِطة- لا يتورَّعون عن أن يُسقِطوا سياق الآية الداخلي، وسياقها الخارجي. بل هم يُسقِطون العقل، والسيرة النبويَّة، ليتسوَّروا إلى القول، إذن: كلُّ ما جاء عن الرسول، أو نطق به، وَحْيٌ يُوْحَى من السماء!
ـ وإذن، هو وَحْيٌ آخر؟
ـ نعم، هو كذلك لدَى الآخذين بهذا الفهم؛ ولذا ابتكروا مصطلح «الوحيَين». يقصدون «القرآن» و«الحديث». إنَّ قاعدة «الأخذ بعموم اللَّفظ لا بخصوص السَّبب» لا تستقيم بها قراءةٌ لأيِّ نصٍّ ولا فهمٌ لإشاراته.
ـ لستُ أدري في أي عقلٍ اختمرت؟!
ـ والصواب أن يُقال بقاعدة «الأخذ بخصوص السَّبب لا بعموم اللَّفظ». وإلَّا فكم من الضلالات يمكن أن يُؤسَّس لها بقاعدة «الأخذ بعموم اللَّفظ لا بخصوص السَّبب»؛ بحيث تُسقَط أيُّ كلمةٍ وردت في سياقٍ خاصٍّ على كلِّ ما يمكن أن ينصرف إليه ظاهر معناها. وهذا منافٍ لطبيعة اللُّغة أصلًا ووظيفتها ومدار دلالاتها. وعليه:
1- ففي شاهدنا نجد «القرآن» ناطقٌ بنقيض الفهم الاجتزائي الأعور الدجَّال: «وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى، وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى، عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى، ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى، وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى، ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى، فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى.»
2- إنَّنا أمام استدلال أولئك الغُلاة أمام منهاج «ويل للمصلين»، وإلَّا فالكلام في الآيات واضح كلَّ الوضوح عن نُطق الرسول بما أوحاه إليه جبريل من «القرآن» نفسه، لا عن كلام الرسول في ما خلا ذلك، ولو كان القصد كلام الرسول بعامَّة، لجاء النصُّ بصيغة: «وما يتكلَّم عن الهوى».
3- لقد أراد القوم أن يرفعوا الرسول عن مقامه البَشَري المعلوم، وأن يَغْلُو فيه غُلُوًّا، ليزعموا أنَّه لا يَصدر إلَّا عن الوَحي في كلِّ كلامه. وإنَّما تلك سبيل الأوَّلين، ممَّن خلا من الغُلاة، التي بلغت- لا إلى القول إنَّ كلام الرسول كلَّه وَحْيٌ يُوْحَى فحسب- بل إلى القول بعدئذٍ: إنَّ الرسول هو الله نفسه! ومعظم النَّار من مستصغر الشَّرَر!
4- هو استدلالٌ مخالفٌ كذلك لنصِّ «القرآن»، في مثل قوله: «قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ. فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ، فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا.» فالرسول بَشَرٌ مثل غيره، في ما خلا ما يُوْحَى إليه من «القرآن».
5- ذلك الفهم مخالفٌ أيضًا لنصوص «القرآن» المعاتبة للرسول في بعض أقواله وأفعاله، ولو كانت وحيًا، فلِمَ العتاب؟!
6- هو مخالفٌ لسيرة النبي، الذي كان يتبرَّأ من بعض أقواله حين يتَّضح له عدم صوابها، كما في قِصَّة تأبير النخل، وكما في خطَّته في موقعة (بَدْر)، أو اتخاذ الأسرى قبل الإثخان في الأرض [سُورة الأنفال، 67]. وكما في قوله إنه إنما ينطق بالحكم بين المتخاصمين بناء على ما سمعه من حُجََّة، فمن حكم له بغير حقِّه، فإنما حكمَ له بقطعةٍ من النار. إلى غير ذلك. فهل كان هاهنا يتبرَّأ من وَحْيٍ أُوْحِي إليه؟ لو كان كلُّ كلامه وَحْيًا يُوْحَى، كما يذهب هؤلاء الغُلاة، لكان، إذن، يتبرَّأ من بعض ما أُوْحِي إليه، بتبرُّئه من بعض أقواله أو نسبتها إلى طبيعته البَشَريَّة! ولو كان لا ينطق إلَّا عن وَحْيٍ يُوْحَى، لما كان لمثل هذه الأمثلة، من أقواله وأفعاله، من معنى ولا مساغ.
7- نعم، هو لا ينطق عن الهوى في أقواله، لكنه لا ينطق عن وَحْيٍ في كُلِّ أقواله، وذلك بوصفه بَشَرًا، وبوصفه إنسانًا، ابن لُغةٍ وثقافة، وليس بالإله ولا بابن الإله. ولولا الغُلُو، لما ساغ في عقلٍ تصوُّر الحديثيِّين وزعمهم، بحيث يوشكون بدَورهم أن يجعلوا من (محمِّدٍ) (يسوعًا) آخَر، على طريقتهم.
لا خلاف، إذن، في أنَّ محمَّدًا لا ينطق عن الهوى، لكنَّ كثيرًا من المسلمين ينطقون عن الهوى. أعياهم تحريف الكلم عن مواضعه، على نهج (بني إسرائيل)، فانسربوا إلى تحريفه من خلال التأويل. هما أُمَّتان، أُمَّة حرَّفت اللفظ، وأُمَّة حرَّفت المعنى، ولا فرق. هي اللُّعبة الطفوليَّة نفسها التي مَرَّ بها الإنسان في كلِّ زمانٍ ومكان: طفلٌ يلعب باللَّفظ، وطفلٌ يلعب بالمعنى. طفلان لا يرضيهما النصُّ كما هو، ولا يجدان أنَّه يخدم أهواءهما، فماذا يفعلان؟: الأوَّل يحرِّف الكلمات عن مواضعها، والثاني يحرِّف الدلالات عن مواقعها. والأخير أخطر؛ لأنه يُفسِد اللُّغة كلَّها، لا النصَّ المحدَّد وحده.
ولقد كان (أبو بكرٍ الصِّدِّيق) قد أدركَ هذا النزوع المبكِّر إلى تقديس (محمَّد)، لمَّا قال: «مَن كان يعبُد محمَّدًا، فإنَّ محمَّدًا قد مات، ومَن كان يعبُد الله، فإنَّ الله حيٌّ لا يموت.» وفي هذا السياق تصدُق مقولة أبي بكر؛ فمَن كان يعبُد محمَّدًا، فإنَّما محمَّدٌ بَشَرٌ مِثْلُكُم، يُوحَى إِلَيه، ومَن كان يعبُد الله، فإنَّ الله هو الذي أَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى.
***
أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي