قضايا

مجيدة محمدي: النمل الأبيض في جدران الذاكرة

تقويض البنى الأخلاقية والدينية والثقافية في المجتمعات العربية

ثمة صوت خافت، أشبه بطقطقةٍ مستمرة، لا نكاد نسمعه ولكننا نرى آثاره كل يوم. إنه ليس قنبلة تنفجر، ولا انقلابًا عسكريًا، ولا استعمارًا ناعمًا. بل هو شيء أشد خبثًا، وأكثر صبرًا: نظرية التورمايت، أو النمل الأبيض، كما يسميها علماء النفس والثقافة الحديثة.

هذه النظرية لا تتحدث عن هدمٍ مباشر، بل عن تقويضٍ تدريجي، خفي، صامت. كما يفعل النمل الأبيض حين يدخل إلى عروق الخشب، لا يترك أثراً في الظاهر، لكنه يلتهم العمق، حتى إذا ما انهار السقف فجأة، بدت الكارثة كأنها حدثت في لحظة، بينما كانت في الحقيقة ثمرة تراكمٍ طويلٍ من الهشاشة.

البنية الأخلاقية: التآكل من الداخل

إن الأخلاق في المجتمعات العربية لطالما شكلت السياج الذي يحمي الجماعة من التشتت، والمرآة التي ترى من خلالها نفسها. لكنها اليوم، تحت ضغط الحداثة المشوهة، تشهد تآكلاً بطيئًا.

لم يعد الصدق فضيلة، بل سذاجة. ولم تعد الأمانة واجبًا، بل ضعفًا في “الذكاء الاجتماعي”. يتسلل النمل الأبيض إلى مفاهيم مثل “النية الطيبة”، “الحياء”، “النخوة”، فيحوّلها إلى رموز لعصر بدائي يجب تجاوزه. وفي هذا التغيير، لا يأتي العدو من الخارج، بل من داخل العقول التي باتت ترى القيم عبئًا لا درعًا.

إنها نظرية التورمايت تعمل في صمت: تغيّر المفاهيم لا بالقوة، بل بالاعتياد. تجعل الكذب مقبولاً ما دام "ذكياً"، وتُفرغ مفاهيم الإيثار والتكافل من معناها عبر لغة جديدة تعلي من الفردانية على حساب الجماعة.

الدين: الطقوس دون الروح

الدين، في قلب المجتمعات العربية، لم يكن يومًا مجرد منظومة شعائر، بل كان نسيجاً روحياً ومعرفياً يعيد صياغة الحياة. ولكن، تحت مطارق العولمة، تحول الدين عند البعض إلى ملصقٍ شكلي، وفي أحيان أخرى إلى أداة سياسية، تُستخدم لتبرير المصالح، لا لإحياء الضمائر.

النمل الأبيض هنا ليس هجومًا على الدين من الخارج، بل تزييفًا له من الداخل. تحويل المساجد والكنائس إلى مسارح للخطابة الجوفاء، واستبدال التأمل في معنى الصلاة بالحرص على نقل صورها. الدين الذي يُفترض أن يكون ثورة على الظلم، يُعاد تشكيله ليصبح مخدّرًا لوعي الناس، أو قيدًا على حريتهم في التفكير.

إنها ليست حربًا على الله، بل على صورة الإنسان الذي يعبده. على ضوء الرحمة والعدالة الذي حمله الدين، يتم التهام روحه قطعةً قطعة.

الثقافة: من المأثور إلى المستورد

الثقافة، في معناها الأصيل، ليست ترفاً، بل هي بنية تحتية للوجدان. لكنها أصبحت اليوم، تحت تأثير نظرية التورمايت، مجرد استهلاك لصور الآخرين. لم نعد نروي حكايات الجدات، بل نتلقى سرديات "نيتفلكس". لم نعد نحتفل بإنشاد الموشحات، بل نرقص على أنغام مقاطع "الترند".

نعم، التورمايت الثقافي لا يحرق الكتب، بل يجعلها غير مقروءة. لا يهدم المسارح، بل يحوّلها إلى صالات عرض للسطحية. وبدلاً من أن تكون الثقافة مرآة للنفس، تصبح قناعًا يخفي الفراغ.

أسوأ ما في هذا النمل أنه لا يُرى، لأنه يتسلل من خلال اللغة، ومن خلال القيم الجديدة التي تأتي مموّهة بلون التقدم والانفتاح، لكنها في الحقيقة لا تحمل إلا التكرار، والذوبان، وفقدان الهوية.

بين الوقاية والانهيار: هل من سبيل؟

ما العمل؟ كيف نمنع هذا النمل من ابتلاع جدران الروح؟ هل نعيد بناء الحصون؟ أم علينا أن نصنع مضادات جديدة تناسب الزمن؟

الجواب ليس في الرفض الأعمى للحداثة، ولا في الانغلاق داخل قوقعة الماضي. بل في التمييز بين ما هو خشب حي وما هو خشب مسموم. في إعادة إحياء منظومة القيم بروح جديدة، لا تكرارًا لشكلها القديم، بل ترجمة عصرية لمعانيها الأصلية.

نحتاج إلى إعلام لا يغذي الاستهلاك بل يوقظ الوعي. إلى تعليم لا يلقّن بل يحرر. إلى فكر ديني يعيد للروح بوصلة التوازن، لا خطاب التهديد. إلى ثقافة تحفر في الذاكرة وتبني في المستقبل.

خاتمة: صوت النمل لا يُسمع، لكن أثره لا يُنكر

ما أصعب أن تنهار مدينة دون قصف. أن تذبل شجرة دون أن تُقطف أوراقها. أن يختفي المعنى دون أن يُسرق. ولكن هذا بالضبط ما يفعله النمل الأبيض حين يسرق الأخلاق والدين والثقافة من الداخل.

ربما آن لنا أن ننصت جيداً، لا لأصوات الهتاف والضجيج، بل لذاك الصوت الخافت في الزوايا المنسية: طقطقة التحلل البطيء.

فإن أردنا أن ننهض، لا بد أن نحفر عميقًا، نزيل النمل، ونعيد للخشب صلابته... وللروح ضياءها.

***

مجيدة محمدي - باحثة تونسية

في المثقف اليوم