قضايا

غالب المسعودي: السرديات التاريخية.. ميتومانيا فلسفية قاصرة

الميتومانيا تشير إلى ميل أو إدمان الافراد على صياغة وسرد قصص أو أساطير ذات طابع ميتافيزيقي أو خارق للطبيعة، يكون هذا الميل مدفوعًا برغبة في التعامل مع المجهول، ان الرغبة المفرطة في إنشاء نظريات وأفكار فلسفية جديدة دون وجود أساس واقعي أو منطقي قوي يدعمه  دون الاعتماد على البراهين العلمية والحقائق الموضوعية يمثل ظاهرة غير عقلانية، هذه الظاهرة تلقت النقد من قبل فلاسفة ومفكرين عبروا عن جانبها السلبي في التبني معتبرين أنها تقود إلى إنتاج أفكار وتصورات فلسفية لا تتسم بالواقعية والبرهنة الكافية، ويرى هؤلاء أن الفلسفة الحقيقية يجب أن تعتمد على التحليل المنطقي والاستدلال العقلاني، بدلا من الغوص في التخمين العقيم .

المعنى الحرفي للميتومانيا

تشير الميتومانية الى الاختلاق الميتافيزيقي للحقائق، الميتومانية ترتبط أساسًا بالاختلاق الخيالي للحقائق أو الحكايات الميتافيزيقية المختلقة. هناك تناقض بين المعنى الحرفي للميتومانية كاختلاق للحقائق، وبين المبادئ العملية والمعايير الفلسفية التي تهدف إلى تحقيق الموضوعية والنزاهة في البحث العلمي، هذا التناقض يجب أن يؤخذ في الاعتبار عند استخدام هذا المصطلح في التصدي للسرديات التاريخية، التي تعتبر محاولة طموحة تفتح آفاقًا جديدة في الفكر النقدي التاريخي، ولكن تنفيذها في الواقع سيكون تحديًا كبيرًا يتطلب جهدًا وإبداعًا فلسفيًا ونقديا كبيرين وجمعا بين نقيضين لا يمكن تأكيده بشكل قاطع وتوقع إمكانية نجاحه، ولكنها مسالة جديرة بالنظر. ان البحث ومحاولة العثور على أمثلة لسرديات تاريخية وتأثيراتها الميتومانية سيكون عملية تحتاج الى كشف المصادر والغايات والسياق التاريخي والثقافي على الرغم من ان الميتومانيا الفلسفية تنطوي على الحاجة الإنسانية لإيجاد معنى وهدف خلف الظواهر الطبيعية والخبرة الإنسانية. هذه الرغبة تجعل البشر ينخرطون في البحث الفلسفي العميق لتفسير الأصول والأغراض والمصائر الكونية وفي الوقت عينه تنخرط السلطة في تشجيع الروايات الميتومانية لأسباب متعددة منها  التحكم في السرد، ودعم روايات معينة، مما يعزز من موقفها الشرعي ودعم الاستقرار الاجتماعي، الروايات التي تروج لقيم معينة أو تفسيرات تاريخية تساهم في تحقيق الاستقرار الاجتماعي ومنع الفتن، يمكن أن تساهم الروايات الميتومانية في تعزيز الاقتصاديات الدينية، مما يعود بالنفع على الاقتصاد المحلي، تعد هذه الأسباب جزءًا من استراتيجيات السلطة في إدارة الثقافة والمجتمع.

السرديات التاريخية والميتومانيا

السرديات التاريخية يمكن أن تُعتبر ميتومانيا فلسفية، خاصة عندما تركز على روايات مثالية أو ملحمية للأحداث التاريخية وتدخل دوامة التعقيدات السردية لأنها  تفتقر إلى الدقة و الموضوعية، مما يؤدي إلى تصورات مشوهة عن الواقع،غالبًا ما تختار السرديات التاريخية بعض الأحداث أو الشخصيات دون غيرها، لخلق روايات غير مكتملة باستخدام رموز خاصة لتمثيل أفكارها، مما يؤدي إلى نشوء تفسيرات سطحية للأحداث حيث تميل إلى تكييف الأحداث لتتناسب مع اتجاهها الايديولوجي، مما يحد من فهم التاريخ الحقيقي، التركيز على الجوانب  المثالية يقود إلى تجاهل الجوانب السلبية وتبني سرديات ميتومانية قاصرة كونها لا تتضمن معرفة تاريخية ولا تعتمد التوازن بين السرد الذاتي  والحقائق الموضوعية.

السرديات الميتومانية والروايات التاريخية الدقيقة

يمكن التمييز بين السرديات الميتومانية والروايات التاريخية الدقيقة  التي تعتمد على أدلة موثوقة، مثل الوثائق التاريخية، والشهادات المجايلة، والأدلة الأثرية التي لا تعتمد على أساطير أو روايات شعبية غير موثقة،في السرديات الميتومانية يتم تحليل الأحداث من زوايا تميل إلى تقديم رؤية مبسطة، مع تجاهل الجوانب السلبية و التعقيدات التي تهدف إلى تقديم صورة موضوعية للتاريخ دون تحيز، السرديات الميتومانية غالبًا ما تحاول تعزيز أيديولوجيات أو تبرير مواقف سياسية تمتاز بالشمولية وتركز على أحداث معينة، مما يؤدي إلى جعل الرؤية ضيقة وثابتة وصعبة التغيير، حتى عند ظهور أدلة جديدة.

السياق الثقافي ودورًه في تشكيل السرديات الميتومانية

يسهم السياق الثقافي في تشكيل الهوية الجماعية، مما يؤدي إلى استخدام التاريخ لتأكيد هذه الهوية من خلال سرديات ميتومانية تعكس القيم والمعتقدات السائدة في المجتمع، ويجعلها أدوات لتعزيز الأخلاق والثقافة المحلية،يلعب السياق الثقافي دورا مهما ويؤثر على كيفية تفسير الأحداث التاريخية، اذ يمكن أن يتحول الحدث إلى أسطورة أو ملحمة تُستخدم لتبرير مواقف معينة، السياق الثقافي يؤثر أيضا في تشكيل الرموز والأساطير التي تُستخدم في السرديات الميتومانية، مما يجعلها أكثر جاذبية وتأثيرًا على الجمهور، التحولات الاجتماعية والاقتصادية تؤدي إلى إعادة بناء سرديات جديدة، مما يعزز سرديات معينة على حساب أخرى، كون السياق الثقافي يشكل الإطار الذي تُبنى فيه السرديات، مما يعزز من قوتها وتأثيرها في تشكيل الوعي الجماعي،كذلك تلعب السلطة السياسية دورًا مركزيًا في تشكيل وترويج السرديات الميتومانية حيث تسعى الأنظمة السياسية إلى استخدام التاريخ لتثبيت الأيديولوجيات المسيطرة، مما يعزز من شرعيتها ويعكس أهدافها ويساعد في تعزيز روايات تاريخية تتناسب مع مصالحها هذا  يؤدي إلى خلق سرديات جديدة تستخدم الرموز الوطنية والأساطير التاريخية لتعزيز الشعور بالانتماء الوطني و يجعل السرديات الميتومانية أكثر قبولًا .

البحث المعرفي والميتومانيا

البحث في الأسئلة الكبرى حول الوجود والمعرفة والغاية من الحياة، على الرغم من كونها مجردات، يمكن أن تثري الفهم الإنساني، الانخراط في تأملات الميتومانيا يمكن أن يحفز التخيل، مما قد يؤدي إلى ظهور أفكار جديدة ومبتكرة في عملية البحث الفلسفي، حتى وإن بدأت من افتراضات مجردة قد تؤدي إلى تطوير أساليب تحليلية وتأملية قيمة في الفكر الفلسفي،بعض الأفكار الميتومانية المجردة قد تتنبأ بتطورات مستقبلية في العلوم أو المجتمع، مما يجعلها ذات قيمة استشرافية من خلال طرح أسئلة جوهرية حول الواقع والحياة، لكن لا يمكن للميتومانيا الفلسفية أن تحفز التفكير النقدي لأنها تأمل عام في القضايا الاجتماعية والسياسية، مما يؤدي إلى عدم وضوح الرؤيا  وضعف الابتكار،ان الأدوات المنطقية والتحليلية التي يمكن ان تستخدمها الفلسفة في حل المشكلات العملية، تعتمد على تفكيك المسائل المعقدة وتحليلها بطريقة منظمة، الميتومانيا الفلسفية تعتمد على التأمل، والجدل وتفتقر إلى الأدلة التجريبية  في حين البحث المعرفي يعتمد على الأساليب التجريبية،ويسعى إلى تقديم نتائج قابلة للاختبار والتكرار، الميتومانيا الفلسفية قد تؤدي إلى تشكيل أفكار جديدة، لكنها ليست بالضرورة قابلة للتحقق والبحث المعرفي، الميتومانيا الفلسفية، غالبًا ما تكون ذات طابع ذاتي وتعتمد على التجربة الشخصية لذا، فإن التداخل قد يؤدي إلى فهم غير دقيق للمعرفة، حيث يتم استخدام الفلسفة لتفسير ما قد يتطلب منهجًا علميًا صارما،لكن الميتومانيا لا تجاري التأمل الفلسفي في قضايا الأخلاق والعدالة والمسؤولية الاجتماعية .

الميتومانيا الفلسفية والوعي المتكامل

الأفكار الفلسفية التجريدية الميتومانية تشجع على التأمل الخاص وتغيب الاستفسار المنهجي، وقد تصل الى مجرد ادعاءات سفسطائية، تدفع للتساؤل عن الافتراضات والمسلمات الكامنة وراء المواقف والممارسات الحقيقية، كون التشكيك والتأمل النقدي في حد ذاته ليس سفسطائيًا، بل إنه أساسي لعملية البحث والتعلم والتطوير الفكري، الميتومانيا تهدف في محاولتها إلى فهم أعمق وأكثر شمولية للواقع ستنتج جدلا عقيما، لأنها تسعى للكشف عن الحقائق والبناء على المعرفة السطحية والهذيان الذاتي.. بالتالي، يمكن اعتبار الميتومانيا خرفًا فلسفيًا، وليس أداة نقدية مهمة عندما نحاول ان نبني مقاربة فلسفية متوازنة وشاملة، وبالتالي يجب تطوير معايير موضوعية بديلة للسرديات الميتومانية وهي خطوة مهمة لتطوير منظور يكون أكثر اكتمالاً مع تطور وزيادة التجارب العملية.

***

غالب المسعودي

.....................

* الميتومانيا، أو حب الأساطير والخرافات، تم انتقادها من قبل العديد من الفلاسفة والمفكرين عبر التاريخ.

باروخ سبينوزا: انتقد الميتومانيا في عمله "الأخلاق"، حيث دعا إلى استخدام العقل بدلاً من الخرافات في فهم العالم.

فريدريك نيتشه: اعتبر أن الأساطير تخدم أغراضاً معينة، لكنه دعا إلى تجاوزها لتحقيق القوة الفردية.

كارل ماركس: اعتبر الأساطير جزءاً من الأيديولوجيا التي تستخدم للسيطرة على الجماهير.

ميشيل فوكو: تناول الأساطير كجزء من المعرفة والسلطة، حيث رأى أن الأساطير تُستخدم لتشكيل الهويات.

في المثقف اليوم