قضايا

للمفكر المصري الشهير (نصر حامد أبو زيد)، اهتمامات بالغة في طبيعة التعاطي مع النص الصوفي، وقد يعود لطبيعة المنهج الذي حكم أبو زيد في قراءة النص والتراث، العلة الرئيسة في ضرورة البحث عن تراث الشيخ الأكبر. فقد طرح مشكلة النص الأكبري في كتابين مستقلين، الأول والموسوم بـ (فلسفة التأويل-دراسة في تأويل القرآن عند محي الدين بن عربي)، والذي كان لاحقاً لما انتهى إليه أبو زيد من دراسة (قضية المجاز عند المعتزلة)، والذي قدمه كرسالة لنيل شهادة الماجستير، وقد انتهى في الأخير إلى أن المجاز تحوّل في يدِّ المتكلمين إلى سلاح لرفع التناقض المتوهم بين آيات القرآن من جهة، وبين القرآن وأدلة العقل من جهة أخرى. وقد كانت هذه النتيجة هي الأساس الذي حدا بالباحثِ إلى محاولة استكشاف منطقة أخرى من مناطق الفكر الديني، وهي منطقة التصوف، لدراسة تلك العلاقة بين الفكر والنص الديني واستنكاه طبيعتها ومناقشة المعضلات التي تثيرها، وذلك استكمالاً للجانبين الرئيسين في التراث: الجانب العقلي كما يمثله المعتزلة، والجانب الذوقي عند المتصوفة".

أما الكتاب الآخر عن ابن عربي، فقد كان بعنوان: (هكذا تكلم ابن عربي) فبعد أن أتمَّ أبو زيد رسالته المذكورة سلفاً-فلسفة التأويل- أراد أن يعيد كتابتها بطريقة أخرى تبرز قضايا التأويل لتحتل "متن" الرسالة، في حين يكفي "الهامش" للتعامل مع القضايا ذات الطابع الفلسفي البحت. فجاء كتابه الموسوم بـ "هكذا تكلم ابن عربي".

ويُمكن عدّ السبب الرئيس في ضرورة استدعاء نصر حامد أبو زيد للنصوص الروحانية-ابن عربي أنموذجاً، إلى أن الأخير قد يُمثّلُ مطلباً مهماً وملحاً، لعلنا-كما يشير أبو زيد-نجد في تجربته ما يُمكن أن يُعدُّ مصدراً للإلهام في عالمنا الذي سبق أن ألمحنا لبعض مشكلات الحياة فيه. بالتالي فإن التجربة الروحية هي مصدر التجربة الفنية-الموسيقى والأدب وكل الفنون السمعية والبصرية والحركية-فهي الإطار الجامع للدين والفن... وفضلاً عن ذلك، وعن الأهمية التي يلعبها ابن عربي باعتباره همزة الوصل ما بين التراث الصوفي والفلسفي؛ فإن استدعاء ابن عربي في السياق الإسلامي- واستعادته من أفق الهامش إلى فضاء المتن مرة أخرى-يعود إلى سيطرة بعض الاتجاهات والأفكار والرؤى السلفية على مجمل الخطاب الإسلامي.

ويطرح أبو زيد في كتابه (هكذا تكلم إبن عربي) التساؤل التالي: ماذا يمكن أن يقول أبن عربي في القرن الواحد والعشرين، من وراء ستار القرنين الثاني عشر والثالث عشر؟". ونحن نسأل، ما هي الأهمية التي يكتسبها النص الصوفي لابن عربي؟ ويجمل أبو زيد تلك الأهمية بما يلي:

1- أهمية ابن عربي نفسه ودوره في تاريخ الفكر الإسلامي، بالإضافة إلى استكمال الجانبين الرئيسيين في التراث: الجانب العقلي عند المعتزلة، والجانب الذوقي عند المتصوفة.

2- إن دراسة ابن عربي نفسه تثير بشكل واسع معضلة التأويل، كما تنعكس هذه المعضلة في التفسيرات المختلفة والمتعارضة أحياناً والتي طرحت لفكر ابن عربي وقيمته.

3- إن دراسة التأويل عند ابن عربي، ليس مجرد وسيلة في مواجهة النص بل هو منهج فلسفي كامل ينتظم فيه الوجود والنص معاً، ومن ثم فإن ابن عربي يطرح لنا فلسفة في التأويل قد تساعدنا على كشف الجوانب المتشابهة في فكر غيره، سواء السابقين عليه أو التالين له.

هذه الأسباب، بحسب قول أستاذنا الدكتور (علاء جعفر) في كتابه المهم (إشكالية النص الصوفي)، تكشف لنا عن أهمية ابن عربي، بوصفه، كما يقول أبو زيد نفسه، همزة وصل بين السابقين واللاحقين من المتصوفة، فقد تضمنت تجربته، مجموعة من المفاهيم والتطورات عند سابقيه وهو بتجربته قدّم من خلال تلك المفاهيم والتطورات مركّب جديد هو ما يدعى بالتصوف الحكمي، وذلك بتأويل التجارب السابقة عليه، وهذا ما ساعده على تبديد كثير من الغموض الذي يكتنف تجاربهم، ولعل في مقدمتهم (الحلاج)، لهذا تقوم قراءة أبو زيد على هذا المجال الذي يرى فيه، أنه اختزال كل تجربته الصوفية والفلسفية، لذلك يحق لنا، كما يقول الدكتور (علاء جعفر)، أن نصف قراءة أبو زيد بـ تأويل التأويل، فهي قراءة قائمة على تأويل ابن عربي، بوصفه المؤول الأعظم لروحانية الإسلامية.

وفي قراءة أبي زيد التأويلية للنص الأكبري نجد أنفسنا ننتقل في جغرافيا الوجود واللغة والإنسان، وهذه الجغرافيا غير منبسطة، بل هي رحلة في أرض وعرة لا يذلل المسير فيها سوى التأويل، ويبقى شرط النفاذ من الظاهر الحسي المتعين إلى الباطن الروحي العميق، وآليات تأويله لا يقوم بها إلا الإنسان الكامل، فهو الكون الذي اجتمعت فيه حقائق الوجود وحقائق الألوهية في نفس الوقت.

إن الإشكالية الأساسية التي تبرز في القراءة التأويلية لنصر حامد أبو زيد، هي إشكالية الثنائية ما بين التأويل والوجود، وتبعاً لأبي زيد، يحاول ابن عربي أن يسد ثغراتها من خلال مجموع الوسائط التي هي مراتب الوجود، وقد قسمها أبو زيد إلى أربع مراتب كل مرتبة تضمُّ مجموعة من الوسائط، وهذه المراتب هي:

- المجموعة الأولى: وهي البرزخ الأعلى أو برزخ البرازخ أو الخيال المطلق، وتندرج في هذه المجموعة وسائط الألوهية والعماء وحقيقة الحقائق الكلية والحقيقية المحمدية أو العقل الأول أو القلم الأعلى، الألوهية هي الوسيط الذي يجمع بين الذات الإلهية والعالم من حيث إن الألوهية هي مجموع الأسماء الإلهية الفاعلة في العالم... أما العماء، فهو يمثل وسيطاً من نوع آخر بين الوجود المطلق والعدم المطلق، إنه وسيط حالة الإمكان التي توجد فيها بالقوة لا بالفعل أعيان الموجودات... في حين تمثل حقيقة الحقائق الوسيط العلمي الكلي، إنها الحقائق الكلية المعقولة التي تجمع بين القدم والحداثة... أما الحقيقة المحمدية أو العقل الأول أو القلم الأعلى فهي وسيط بين ثنائية الله والإنسان... هذه الوسائط الأربع تتوحد في فكر ابن عربي، وتعد مستويات مختلفة لحقيقة واحدة يطلق عليها البرزخ الأعلى أو برزخ البرازخ أو الخيال المطلق، ووظيفة هذا الوسيط الأساسية هي التوسط بين طرفي الذات الإلهية والعالم.

- المجموعة الثانية: هي ما يطلق عليه أبو زيد بعالم المعقولات أو عالم الأمر كما يسميه ابن عربي، هذا العالم يتوسط بين عالمي الخيال المطلق وعالم الخلق أو العالم المادي بمراتبه المتعددة... ويندرج في هذه المجموعة أربع وسائط تمثل أربع مراتب ينتمي أولها إلى عالم البرزخ، وهو العقل الأول أو القلم الذي هو أول مبدع في العماء، وينبعث عن هذا القلم اللوح المحفوظ أو النفس الكلية ثم الطبيعة والهباء اللذان ينتجان بدورهما أول عالم الأجسام وهو الجسم الكل أو العرش الذي يمثل آخر مراتب عالم الأمر وأول مراتب عالم الخلق.

- المجموعة الثالثة: وتبدأ بالعرش أو الجسم الكل، وهذه المجموعة بدورها تتوسط بين عالم الأمر والعالم الحسي المشهود، وهي في ذاتها تمثل عالم الخلق، وتقع في أربع مراتب، هي: العرش والكرسي والفلك الأطلس و فلك الكواكب الثابتة... وهذا العالم يعد علة لكل ما يحدث في عالم الطبيعة والاستحالة، لأنه يتضمن في إهابة كل التدرجات السابقة عليه، ويستمد علومه ومعرفته من عالم الأمر، ومعنى ذلك أن هذا العالم يمثل بدوره وسيطاً بين عالم الأمر وعالم الحس والشهادة من الناحيتين الروحية والطبيعية على السواء.

- المجموعة الرابعة: وتتمثل في الأفلاك السبعة المتحركة من السماء السابعة إلى السماء الأولى إلى الأرض التي يسكنها الإنسان خليفة الله وآخر الموجودات الحسية، والذي يعد في نظر ابن عربي الكون الجامع الصغير الذي اجتمعت فيه كل حقائق العالم الطبيعية والروحية من جهة، والذي يمثل أكمل المجالات الإلهية لإيجاده على الصورة من جهة أخرى.

وينتهي أبو زيد إلى أن هذا التصور لترتيب الموجودات من أرقاها (عام الخيال المطلق)، إلى أدناها (عالم الكون والاستحالة)، لا يقوم على أي تدرج زماني أو مكاني في نظر ابن عربي، بل الأحرى القول أنها كلها مراتب مختلفة وتعينات متعددة لحقيقة وجودية واحدة تنقسم بالنظر والاعتبار، ولكنها في ذاتها غير منقسمة أو متعددة.

***

د. حيدر عبد السادة جودة

أحيانا اتامل بذرة التفاح اجدها رمزا في العديد من السياقات، بما في ذلك الفلسفة. في مزرعة الفلسفة، تمثل بذور التفاح القيم الأساسية أو الأفكار التي تُزرع، هل يمكن اعتبار بذرة التفاح كما يخيل لي رمزا يثمر عن معرفة جديدة...؟، تنمو البذور إلى أشجار مثمرة، كذلك الأفكار ايضا تنمو وتتطور مع الوقت الى مفاهيم، الأفكار الفلسفية المختلفة تنمو مثل بذور التفاحة، تتنوع كاشكال التفاح تُنتج ثمارًا عدة وتنتشر عبر الزمن، أنواع التفاح تتنوع، كما تتنوع الأفكار والفلسفات، الفلسفة رمز للبحث عن المعرفة، كذلك بذرة التفاح يمكن أن تُعتبر رمزًا للبحث عن المعرفة كما في البدايات. البذور تُشير إلى بداية رحلة البحث، حيث تبدأ الأفكار في النمو والتطور على شكل بذرة. البحث عن البداية والمعرفة تتطلب التنبيه، من...! والتفاعل مع العالم. البداية تبرز قيمة المحيط، لا توجد الا افعى في عالمه. الانسان...! والشيطان قد تعلم وإدراك العديد من الثقافات، شجرة التفاح تمثل المعرفة والحكمة، مثلما يتضح في الأساطير والسرد، ما عزز من دورها كرمز كون التفاح متنوع حتى في شجرة واحدة مثل أنواع المعرفة تعكس تنوع الأفكار، ما يُثري حواري حول المعرفة وبذرة التفاح كونها رمزا معرفيا قديما وحديثا، يحمل دلالات عميقة على إيقاع الزمن الآتي، بذور التفاح تمثل القدرة على الاستمرار والنمو في أوقات التغير، في عالم مليء بالتحديات تظل المعرفة ركيزة أساسية للتكيف في عالم متشظي. تنوع المعرفة هو القدرة على التكيف مع الظروف المختلفة، ما يعكس أهمية الفهم الشامل.  بذور التفاح تحمل في طياتها فكرة نقل المعرفة من جيل إلى جيل لذا يمكن لبذور التفاح أن تكون رمزًا قويًا للمعرفة التي تتجاوز الزمن وتتكيف مع التغيرات، وتبرز أهمية البحث المستمر. يمكن ربط رمز بذرة التفاح بمفهوم الابتكار والتجديد، تمثل بذور التفاح نقطة انطلاق لشيء جديد، حيث يمكن لكل بذرة أن تُنتج شجرة جديدة تحمل ثمارًا والوان مبتكرة. هذا يعكس فكرة الابتكار ممكن ان يكون مصدر للفرص الجديدة، كلما تنمو البذور لتصبح أشجارًا تنتج ثمارا جديدة، الأفكار الجديدة تتطور وتنمو من خلال البحث والتجريب، ما يعزز من مفهوم التجديد ويعكس القدرة على النمو.

التفاحة كرمز للخطيئة الأولى

يحمل هذا المفهوم أبعادًا فلسفية عميقة، خاصة في السياقات الاسطورية والأدبية. يُعتقد أنها تعكس رغبة الإنسان في فهم العالم من حوله وهو يخوض الصراع بين الفضيلة والرغبة في المعرفة ومفهوم حرية الإرادة، مما يعكس فكرة المسئولية، ان التفاحة تُجسد الصراع الداخلي بين الخير والشر تطرح تساؤلات حول طبيعة الإنسان ورغباته الأساسية. تطرح  الخطيئة الأولى فكرة الفضول و التعلم ، تجربة التفاحة تظهر أن التجربة والخطأ جزء من رحلة النمو الشخصي، التفاحة تشير إلى التحول من حالة البراءة إلى حالة الوعي وهنا مكمن الخطر...!، لأنها تعكس كيف يمكن للمعرفة أن تؤدي إلى تغييرات جذرية في الحياة  وتُثير تساؤلات حول معنى الوجود، وما إذا كانت المعرفة تستحق العواقب التي تأتي معها ،كذلك يكمن ان يعكس رمز التفاحة أبعادًا فلسفية متعددة تتعلق بالحرية، الاختيار، والتعلم، مما يجعلها رمزًا معقدًا وعميقًا في الفلسفة ،ويجعلها رمزا مرتبطا بمفهوم العدمية بعدة طرق، يتجلى ذلك في عدة أبعاد ،منها اعتبار التفاحة رمزًا لتحقيق المعنى و الخلود لكنه محروس بالتابوات وبعيد المنال. المعرفة، التي تؤدي إلى إدراك نفسها لا تعطي حياةً ذات معنى مثلما اختار آدم وحواء، تؤدي الى العدمية قدر تعلقها بالاختيار والحرية، العواقب تُثير تساؤلات وجودية منذ البدء...! هذا يتماشى مع العدمية، التي تستكشف كيف أن الأفعال قد تكون غير مجدية أو عديمة الفائدة في النهاية. حالة الوعي، عندما يشعر الانسان أن الحياة قد تكون خالية من المعنى او عند اكتشاف الحقائق القاسية، التي ستقوده إلى المعنى وتحاصره نهايات بلا معنى، مما يتماشى مع العدمية التي تُظهر كيف يمكن أن تكون هذه التجارب غير مُرضية أو غير مُجدية بهذه الطريقة. الزمن الذي يتسرب هو فكرة ازلية الزمن وفقدانه للمعنى يعكس صورة الذات الحائرة، وهي فكرة عدم القيمة التي تمثلها الظلمة والفراغ، ويُعبر عنه عدم وجود الهدف، اللاوجود يمكن أن يكون رمزًا للغموض والفراغ ويمثل الفشل أو عدم وجود مخرج، ويعكس اليأس وفقدان الأمل. التظاهر في عدم القدرة على الكشف عن الذات الحقيقية، يعكس الشعور بالانفصال.

فقدان الخصوبة والعدمية

يمثل فقدان الخصوبة النهاية وعدم التجدد والجمود، ويبرز الجوانب المختلفة لمفهوم العدمية يقدم رؤى فلسفية متجزأة عن الوجود، والمعنى، والصراع. بذرة التفاح تمثل التمرد ضد الفناء بطرق عميقة ومعقدة، تمثل بذور التفاح القدرة على النمو والتجدد، من خلال زراعة بذور جديدة، يُمكن مواجهة الفناء وتقديم فرصة لحياة معرفية متجددة. المعرفة تُعتبر وسيلة للتمرد ضد الجهل والفناء. تمكن الإنسان من فهم حياته ووجوده ويمكن ان تعتبر بذور التفاح رمزًا للإبداع والابتكار، حيث تظهر التمرد على الفناء من خلال الابتكار المستمر الذي يسعى إلى خلق شيء جديد دائم وتجارب انسانية تتجاوز الفناء وتجسد الفكرة أن كل وهناك بذور تحمل إمكانية جديدة للحياة. بذره قد تُشير إلى الموت والفناء المعرفة، تبرز أهمية التعلم والتطور وتشير إلى الصراع مع الموت، لكن دون التركيز على المعرفة والإبداع سنتجاوز مفهوم التجدد الطبيعي ونكون بالاستمرار مثل العلامة التي تُشير إلى الانكسار والفقد، وينظر الى عدم القدرة على الإبداع والإجابة على السؤال المركزي كيف يمكن للحياة أن تستمر رغم الفناء...؟ الفناء أو التغيير توضحه بذ ور التفاح، يشكل الابداع جسرا يُعبر عن التوازن بين الموت او الحياة الموت والحياة مثل التي تنجو صدفة من خلال تمثيل إمكانية الاختيار الاختيار...!، حيث يمكن للإنسان اختيار زراعة البذور أو تركها. هذا يعكس مفهوم الحرية في الفلسفة، حيث يُعتبر الاختيار جزءًا أساسيًا من التجربة الإنسانية في المعرفة والتمرد ضد الجهل والمصير المحدد. يمكن أن تُعبر بذور التفاح عن الرغبة في تجاوز العدمية من خلال تحقيق الذات والنمو، تمثل البذور الأمل في المستقبل، مما يُعبر عن التمرد ضد اللا معنى. بعض الفلاسفة يرون في الإبداع مقاومة للعبثية، مما يعكس قدرة الإنسان على خلق معنى في عالم قد يبدو خاليا من المعنى، بهذه الطريقة، تُعتبر بذور التفاح رمزًا غنيًا للتمرد في الفلسفة، حيث تعكس الصراعات الإنسانية، في الاختيار، والمعرفة، والتغيير، مما يُبرز الأبعاد العميقة للوجود في كيفية تُفسير هذه الرموز في سياق الفلسفة الحديثة، يمكن تفسير بذور التفاح والرموز الأخرى للتمرد بطرق متعددة، تعكس تعقيد الفهم الإنساني وتحدي المفاهيم التقليدية وتُبرز كيفية تشكيل الهوية من خلال التجارب الفردية، مما يتماشى مع فكرة أن كل بذرة تحمل إمكانية مختلفة تعتبر رمزًا للتعددية الفكرية مختلفة البنية والماهية، حيث تجسد فكرة أن كل بذرة تُعبر عن تجربة فريدة وماهية جديدة قد تعبر بالفكر الإنساني الى مصاف حضارات كونية. بذور التفاح تعكس فكرة الدورات الطبيعية والنمو المستمر، مما يُظهر كيفية أن التعاطي مع الماضي والحاضر والمستقبل مترابط في ظل الاهتمام المتزايد بقضايا الانسان، تُعتبر بذور التفاح رمزًا للاستدامة والتمرد على الأنماط التقليدية. هذا يتماشى مع الفلسفات ما بعد الحداثية التي تدعو إلى إعادة التفكير في علاقة الفلسفة بالإنسان وهي علاقة غنية مليئة بالمفاجئات وتعبر عن التعددية، والاختيار، والتحدي، مما يعكس التعقيد والعمق للفهم الإنساني في عالم معاصر مضطرب.

***

غالب المسعودي

 

في المساقات الماضية ناقشْنا مع (ذي القُروح) محطَّات في رحلة الثقافة العَرَبيَّة من الشِّفاهيَّة إلى التدوين، مشيرين إلى بعض تقنيات الطَّورَين الشَّفوي والكتابي، وما اعترى جدليَّاتهما من عقبات وعثرات. ثمَّ قلت له:

ـ قلتَ لنا، يا (ذا القُروح): إنَّه قد يُطلَق مصطلح «كِتاب» في التُّراث العَرَبي على المكتوب عمومًا، وإنْ كان رسالةً في بضع صحائف، أو حتى في صحيفة واحدة. ومثَّلت على ذلك بكتابٍ مخطوطٍ منسوبٍ إلى (الجاحظ)، عنوانه «مئة كلمة من كلام أمير المؤمنين عَليِّ بن أبي طالب»(1)، وقد يُعَدُّ في جملة مصادر «نَهْج البلاغة». ومع هذا فقد ذكرتَ أنَّه لا يعدو، في مخطوطه، نحو 7 صحائف! ولقد وجدتُ هذا الذي سُمِّي كتابًا مضمَّنًا في كتاب (الثعالبي)، «الإعجاز والإيجاز»(2)، في أقل من ثلاث صحائف!

ـ أفادك الله! ولو حذفتَ حواشي الشارح لصار في صحيفتين!

ـ لكن بعيدًا عن هذا، ألا ترى كيف جاء اختيار عنوان «نَهْج البلاغة»، في ذاته، دالًّا على أنَّ (الشَّريف الرَّضِي) إنَّما أراد أن يقول إنَّ تلك مدرسة (عَليٍّ، كرَّم الله وجهه) في الخطابة، وذلك نَهْجه في التعبير، فسَمَّى كتابه «نَهْج البلاغة»؛ لمن أراد أن يحذو حذو الإمام في النَّهْج المأثور من خطابته. ولو كان موقنًا أنَّ ما ضمَّنه كتابه هو من كلام عَليٍّ، بلا شَكٍّ، لسمَّاه «خُطَب أمير المؤمنين ورسائله ووصاياه وحِكَمه»، في عَزْوٍ صريح إليه؟

ـ نعم، وقد ألمحتُ إلى هٰذا في المساق الماضي. لقد بدا (الشَّريف) حريصًا على أن يَظهر بمظهر الراوي، تاركًا العُهدة على من أخذ عنهم.  وهذا ما نَصَّ عليه شارحه (ابن أبي الحديد)(3)، حيث قال: «إنَّ الرَّضِىَّ، رحمه الله تعالى، نقلَ ما وجدَ، وحكَى ما سمعَ، والغَلَط من غيره، والوَهْم سابقٌ له.» لولا أنَّه، في الوقت نفسه، كان ينازعه شغفٌ قَهريٌّ، نفسيًّا ومذهبيًّا، لإثبات تلك النصوص، على أنَّها لـ(عَليٍّ)، ولو تخيُّلًا ومحاكاة. ولقد ذكر ابن أبي الحديد(4)، بشأن الخطبة السادسة عشرة- من خُطَب «النَّهْج» المنسوبة إلى عَليٍّ، التي قيل إنها خطبته لمَّا بُويع في (المدينة المنوَّرة)- أنَّها كانت فيها «زياداتٌ حذفَها الرَّضِيُّ، إمَّا اختصارًا، أو خوفًا من إيحاش السامعين.»

ـ ومَن هذا شأنه، فحَريٌّ أن يُضيف كذلك، ومَن هذا شأنه، فليس بأمين في نقله!

ـ وما اتِّهام الأُمَّة العَرَبيَّة والإسلاميَّة، من السَّلَف والخَلَف، بأنَّهم حاسدون حاقدون متعصِّبون، بل ربما نواصب، حينما يثيرون مثل هذه التساؤلات العِلميَّة المشروعة، إلَّا عَين النَّصب والتعصُّب، ودَسِّ الرؤوس في الدُّغمائيَّة المذهبيَّة، حتى لكأنَّ الشاكَّ في صِحَّة نِسبة «النَّهْج» بحذافيره إلى عَليٍّ- الذي عاش قبل نهاية النِّصف الأوَّل من القرن الأوَّل للهجرة بعشر سنوات- قد شكَّ في نسبة «القرآن» إلى الله سبحانه! مع أن «كثرة الوِفاق نِفاق، وكثرة الخِلاف شِقاق»، كما تعلِّمنا الحِكمة المنسوبة إلى (عليِّ بن أبي طالب) نفسه. أ فيريد هؤلاء أن ننافق، موافقين على ما نسبه (الشَّريف) إلى عَليٍّ، مغمضي الأعين والعقول، لنترنَّم معهم بأنَّ كل ما في «النَّهْج» صحيح النِّسبة إلى من نُسِب إليه، مئة بالمئة؟!

ـ توارُث الغُلُوِّ قد يبلغ مبلغه، حتى ينتهى- كما رأينا عن (القبانجي)- إلى القول بتفضيل بلاغة «النَّهْج» على بلاغة «القرآن»، هكذا، بغير عِلْمٍ ولا هُدًى ولا كِتابٍ مُنيرٍ. والغُلُوُّ يُعمِي ويُصِمُّ أكثر من الحُب؛ فكيف إذا أصبح تراث دِينٍ متوارثًا؟!

ـ ومن طرائف الغُلُوِّ عن (الشَّريف الرَّضِي)، في هذا السِّياق، ما رواه (ابن خلِّكان)(5) في ترجمته- وهي طُرفة ذات دلالةٍ بليغةٍ على تشرُّب هذا النَّهْج في نفسه منذ نعومة أظفاره- قال: «وذكر أبو الفتح ابن جِنِّي النحوي... في بعض مجاميعه أنَّ الشَّريف الرَّضِي المذكور أُحضِرَ إلى ابن السيرافي النحوي، وهو طفلٌ جِدًّا، لم يبلغ عمره عشر سنين، فلقَّنه النحو، وقَعَدَ معه يومًا في حلقته، فذاكره بشيءٍ من الإعراب على عادة التعليم، فقال له:  إذا قلنا: «رأيتُ عُمَر»، فما علامة النَّصْب في عُمَر؟ فقال له الرَّضِي: بُغْضُ عَليٍّ! فعَجِب السِّيرافي والحاضرون من حِدَّة خاطره. وذُكِر أنه تلقَّن القرآن بعد أن دخل في السِّنِّ فحفظه في مُدَّةٍ يسيرة».

ـ الحقُّ أنَّ هذه ليست بحِدَّة خاطر، بل هي حِدَّة انغلاقٍ تربويٍّ تلقينيٍّ، تَعرَّض لها هذا الطفل منذ نعومة أظفاره، وهو دون العاشرة. فلقد لُقِّن أنَّ اسم (عُمَر) إنَّما هو (عُمَر بن الخطَّاب)، وأنَّ عُمَر هذا وَحْشٌ شَبَحيٌّ كاسِر، وكان يُبغض (عَليَّ بن أبي طالب)، هكذا ضربة لازب، وأنَّ «النَّصْب» لا معنى له إلَّا معناه الاصطلاحي الطائفي، من العداء لعَليٍّ وآل البيت! فما لهذا الطفل، المبرمَج عقلًا وروحًا، ولمسائل النحو والإعراب؟!

ـ مع أنَّ هؤلاء مطمئنون- تحت الشعار الوارد في «النَّهْج»(6): «اسْأَلُوني قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي، فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ تَسْأَلُوني عَنْ شَيْءٍ فِيَما بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ السَّاعَةِ... إِلَّا نَبَّأْتُكُمْ»- أنَّ (عَليًّا) هو واضع عِلم النَّحو! كيف لا، وقد زعموا أنه كان منبع العلوم كلِّها؛ فهو «باب مدينة العِلْم»، حسب الحديث الموضوع. ولذا زعموا أنَّ (أبا الأسود الدؤلي) إنَّما نحا ذلك النحو من وضع اللَّبِنات الأُولَى لعِلم النحو بتوجيهٍ من عَليٍّ. بل إنه قد أملى عليه مباشرةً جوامع النحو وأصوله، وأقسام الكلام وأبوابه، ومنها التعريف والتنكير، وتقسيم وجوه الإعراب إلى: الرَّفع، والنَّصْب، والجَرِّ، والجَزْم!(7) فأنَّى لهذا الطفل- يا (ابن السِّيرافي)- أن يرى (عُمَر) أو (عَليًّا) على حقيقتيهما، دون خيالات مؤدلِـجة مسيِّسة، تنامت في سراديب التعصُّب، التي قُذِف فيها المسكين من قِبل أبويه وعشيرته الأقربين. وإذا كان هذا الخاطر الحادُّ قد طفحَ منه، وبراءة الأطفال في عينَيه، فكيف ستكون حِدَّته لمَّا يكبر، وتُصبح في يده نقابة الطالبيِّين، ويؤلِّف لهم «نَهْج البلاغة»، أو يُشارك في تأليفه أخاه (المرتضَى)، الذي لا بُدَّ أنَّه كان لا يَقِلُّ عن أخيه حِدَّة خاطر؛ فالمرتضَى كان أكبر منه سِنًّا، وقد عاش أطول عمرًا. أمَّا بعد، فأمامنا كتاب عنوانه «نَهْج البلاغة: نسخة جديدة محقَّقة وموثَّقة تحوي ما ثبتت نسبته للإمام عَليٍّ (رضي الله عنه وكرم الله وجهه) من خُطَب ورسائل وحِكَم»، تحقيق وتوثيق: صبري إبراهيم السيد، (الدوحة: دار الثقافة، 1986).

ـ ماذا عنه؟

ـ هو دراسة أصلها أطروحة دكتوراه. بذلَ فيه المؤلِّف جهدًا ملحوظًا. ونَجِد، بعد تقديم المحقِّق المشهور (عبد السَّلام محمَّد هارون) للكتاب، ومقدِّمة مؤلِّف الكتاب، تمهيدًا حول «نَهْج البلاغة» وما يحيط به من شُبهات، وما قيل في الردِّ عليها، وملحوظات على ما يشار إليه من مصادر «النَّهْج»، وما كُتبت له من شروح. ليُقدِّم المؤلِّف بعدئذ توثيقه لنصوص النَّهْج، بدأً بالقِطع والخُطَب، ثمَّ الرسائل والوصايا، ثم الحِكَم والغريب.

ـ الزُّبدة، يا (ذا القُروح)؟

ـ لقد ذكرَ المؤلِّف أنه توصَّل، في نتائجه لتمحيص ما يمكن أن تثبت صحَّته للإمام (عَليٍّ)، إلى أنَّ النصوص التي اتَّفق جُلُّ علماء المسلمين، سُنةً وشيعةً، على صِحَّة نسبتها إليه من الخُطَب هي أقل من النِّصف، ولا تعدو: 44.5%، ومن الرسائل: 65.8%، ومن الحِكم: 26.9%، ومن الغريب: 44.4%. على أنَّ ثمَّة نصوصًا منسوبة إليه لم يَرْوِها أحد، ولم تَرِد في أيِّ كتاب. ثمَّ ذكرَ المؤلِّف النصوص المشكوك في صِحَّة نِسبتها، والنصوص التي ثبتت نِسبتها لآخَرين. ويخلص من ذلك إلى القول: «إنَّ نِسبة تدخُّل أقلام أخرى في النصوص الواردة بالكِتاب تعلو في الحِكَم، ويليها الغريب من الكلام، ثم الخُطَب، وتأتي الرسائل في نهاية الخطِّ البياني.»

ـ تُرى لماذا كانت الرسائل في نهاية الخطِّ البياني؟

ـ طبعًا لأنها موثَّقة كتابيًّا، فلا مجال للتلاعب فيها، غالبًا، بخلاف الأقوال الشفويَّة. عَقِب هذا يَعرض المؤلِّف كشفًا يُحاكِم فيه كلمات النصوص على المعجم الموثَّق لكلمات الإمام.

ـ أراك راضيًا عن الكتاب! وهذا نادرًا ما أجده منك!

ـ ومع هذا، كُلٌّ يُؤخَذ من كلامه ويُرَد.

ـ هاتِ ما لديك!

ـ ممَّا يُلحَظ على هذا العمل أنه كثيرًا ما يعتمد على تقميش المقولات من هنا وهناك، بلا تمحيص، أو تأصيل. ومن عاقبة هذا أن تجده، مثلًا، ينسب كلام الأوَّل السابق إلى المتأخِّر اللَّاحق، بل التَّابع المردِّد.

ولكن «ضاق فِتْرٌ عن مَسِيرِ».. فسوف أُنبِّئك برأيي في الكتاب في المساق المقبل، بعون الله!

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

..............................

(1) منه نسخة مخطوطة في (مكتبة مكَّة- مخطوطات)، التابعة لوزارة الحجِّ والأوقاف، سُجِّل على غلافها تصنيفًا: أدب 7.

(2)  تُنظَر طبعته: (1897)، بشرح: إسكندر آصاف، (مِصْر: المطبعة العموميَّة)، 28- 30.

(3)  يُنظَر: (1959)، شرح نَهْج البلاغة، تحقيق: محمَّد أبي الفضل إبراهيم، (القاهرة: دار إحياء الكتب العَرَبيَّة)، 1: 143. 

(4) م.ن، 1:  275.

(5)  يُنظَر: (1968)، وفيَّات الأعيان وأنباء أبناء الزَّمان، تحقيق: إحسان عبَّاس، (بيروت: دار صادر)، 4: 416.

(6)  (1990)،  نَهْج البلاغة، شرح: محمَّد عبده، (بيروت: مؤسَّسة المعارف)، 260.

(7)  يُنظَر: ابن أبي الحديد، شرح نَهْج البلاغة، 1: 20.

 

منذ سنوات عديدة، يشهد قطاع التعليم الجامعي في العراق تفاقما مطردا في مركزية الاجراءات، مما ادى الى تجريد الجامعات من صلاحياتها، فلم يعد لها اي قرار او دور ذي اهمية الا بتدخل من الوزير او الوزارة. هذا الوضع اثّر سلبا على اداء الجامعات وكفاءتها، واعاق تطورها ونموها. ونشهد يوما بعد يوم كيف تكبل الاجراءات البيروقراطية والتعليمات المتكررة طاقات الاكاديميين.

لقد ارهقت كثرة التعليمات التي تصدر من قبل الوزير ودوائر الوزارة العميد ورئيس القسم والتدريسي، حتى باتوا غارقين في هموم ما تصدره الوزارة، مما شل قدرتهم على التفكير الاداري الفعال.

ويبقى السؤال لماذا لا تثق الوزارة في قدرة الجامعات على تسيير شؤونها التعليمية، وتمنحها الحرية اللازمة للتركيز على بناء جيل المستقبل؟ ومتى ستتوقف الوزارة عن فرض سيطرتها على الجامعات بتعليماتها واوامرها في كل صغيرة وكبيرة، وتتركها تؤدي مهامها الاساسية في التعليم؟

مظاهر المركزية المفرطة في الاجراءات

تتجلى هذه المركزية المفرطة في العديد من المظاهر، منها:

- اخضاع العملية التعليمية، بما في ذلك الامتحانات وتقييم الطلاب لضغوط غير اكاديمية، مثل منح درجات اضافية بشكل تعسفي يتعارض مع المعايير الاكاديمية، مما يقوض مصداقية العملية التعليمية.

- التحكم الكامل من قبل الوزارة في المناهج الدراسية: تقوم الوزارة بتحديد المناهج الدراسية وتوزيعها على الجامعات من دون الاخذ بالنظر ما يتناسب مع احتياجات هذه الجامعات وظروفها المحلية او علاقاتها العربية والعالمية.

- تعيين القيادات الجامعية من قبل الوزارة: يتم تعيين رؤساء الجامعات وعمداء الكليات من قبل الوزارة، مما يقلل من استقلالية الجامعات ويجعلها تابعة للوزارة بشكل كامل.

- الرقابة الشديدة على الانشطة العلمية والثقافية: تخضع جميع الانشطة العلمية والثقافية التي تنظمها الجامعات لرقابة شديدة من قبل الوزير والوزارة وتدخلها بكل صغيرة وكبيرة، وهو ما يقيد حرية التعبير والابداع لدى الطلاب والاساتذة.

- القيود المالية: تعاني الجامعات من قيود مالية شديدة، بحيث يتم تحديد ميزانيتها من قبل الوزارة، فلا تستطيع الجامعات التصرف في هذه الميزانية الا بموافقة الوزارة.

اثار المركزية المفرطة على الجامعات

تترتب على هذه المركزية المفرطة العديد من الاثار السلبية على الجامعات، منها:

- تراجع مستوى التعليم: يؤدي التحكم الكامل من قبل الوزارة في المناهج الدراسية الى تراجع مستوى التعليم، مما يجعل المناهج غير متوافقة مع التطورات العلمية والتكنولوجية.

- اعاقة البحث العلمي: تحد القيود المفروضة على الانشطة العلمية والثقافية وعدم توفر الاموال اللازمة من قدرة الجامعات على اجراء البحوث العلمية، مما يؤثر على تطور البحث العلمي في العراق ويزيد من السرقات العلمية.

- تدهور الاداء الاداري: يؤدي تعيين القيادات الجامعية من قبل الوزارة الى تدهور الاداء الاداري في الجامعات، حيث لا يتم اختيار القيادات على اساس الكفاءة والخبرة، بل على اساس الولاء السياسي.

- فقدان الثقة في الجامعات: يؤدي تراجع مستوى التعليم وتدهور الاداء الاداري الى فقدان الثقة في الجامعات العراقية من قبل الطلاب واولياء الامور والمجتمع بشكل عام.

- عندما تقوم الوزارة بتغيير درجات الطلاب بشكل غير عادل، فأن ذلك يدمر مصداقية نظام الامتحانات ويجعل الطلاب يعتمدون بشكل متزايد على تدخل الوزارة بطرق غير قانونية.

- وعندما يمنع الوزير اقامة الماراثونات المختلطة في الجامعات، فأنه يستولي على حق رئيس الجامعة في ادارة النشاط الرياضي في جامعته.

الحلول المقترحة

للتغلب على هذه المشكلة، يجب على وزارة التعليم العالي العراقية اتخاذ عدة اجراءات، منها:

- منح الجامعات المزيد من الاستقلالية: يجب على الوزارة منح الجامعات المزيد من اللامركزية في اتخاذ القرارات المتعلقة بالمناهج الدراسية والانشطة العلمية والثقافية، وكذلك في تعيين القيادات الجامعية.

- تطوير الاداء الاداري: يجب على الوزارة العمل على تطوير الاداء الاداري في الجامعات من خلال تدريب رؤساء الجامعات والعمداء ورؤساء الاقسام والشعب وتطبيق اساليب الادارة الحديثة.

- زيادة الدعم المالي: يجب على الحكومة زيادة الدعم المالي للجامعات، حتى تتمكن من تطوير بنيتها التحتية واجراء البحوث العلمية الرصينة والهادفة لخدمة المجتمع.

- التوقف عن اصدار التعليمات والقرارات خارج اطار هيئة الرأي والامتناع عن التدخل في النتائج الامتحانية للطلبة.

خاتمة

ادى تفاقم المركزية المفرطة في الاجراءات الى تدهور مستوى التعليم الجامعي وتراجع كفاءة الجامعات العراقية. لذا، لا بد لوزارة التعليم العالي العراقية من تبني سياسة لامركزية فاعلة، تقوم على تفويض الجامعات بصلاحيات اتخاذ القرارات وتنفيذها، مع إعطاء الثقة الكاملة لكفاءتها في تسيير شؤونها التعليمية والإدارية. فبدون هذه الاستقلالية، لن تتمكن الجامعات من تحقيق اهدافها في خدمة المجتمع وتخريج اجيال قادرة على مواجهة تحديات المستقبل.

***

ا. د. محمد الربيعي

بروفسور متمرس ومستشار دولي، جامعة دبلن

 

دائماً ما يطرح سؤال حول العلاقة بين العقل والإيمان وهل هما متناقضان أم متكاملان؟ فمنذ القدم دار جدل حاد بين من يرى أن الإيمان يعتمد على الإيمان الاعمى، وبين من يرى أن العقل هو أساس الإيمان، وفي هذا المقال سنحاول تسليط الضوء على هذه العلاقة المعقده، وعلى دور العقل في بناء منظومه إيمانية متينه، حيث أن العقل هو أداة الإنسان الأساسية لفهم العالم، وهو يلعب دوراً محورياً في تشكيل الإيمان والمعتقدات، وفي العديد من الثقافات والأديان يعتبر العقل وسيله للتفكير النقدي والتأمل في القضايا الروحية والفلسفة، ولا يمكن إنكار دور العقل في فهم النصوص الدينية وتدبير أياتها، فالعمل يمكننا من استيعاب المعاني المختلفة، وفهم السياقات التاريخية والثقافية، والإيمان هو ليس مجرد تقبل أعمى للأفكار، بل هو عملية معرفية تتطلب البحث والتدقيق والفهم العميق، وعن طريق العقل ممكن أن نحلل النصوص الدينية ونفهم تعاليمها ونطبقها في حياتنا اليومية. مثال على ذلك، نحن عندما نقرأ أيه قرآنية تتحدث عن خلق الكون فأن العقل يمكننا من التساؤل عن أسرار هذا الخلق، وعن دقة التوازن في الكون، وعن قدرة الخالق، وهذا التساؤل لا يناقض الإيمان، بل يعززه ويعمقه. وهنا أنصح المتلقي أن لا يتردد في طرح الأسئلة، والبحث عن الإجابات المقنعة، وأن لا يقبل أي فكره دون تدقيق أو فهم، وكذالك أنصح بالاطلاع على آراء العلماء والباحثين المختصين في مجال الدراسات الدينية.

العقل يساعدنا أيضاً على التميز بين الإيمان الصحيح وبين الشبهات التي قد تشوه تعاليمه، حيث أن العقل يمكننا من نقد الأفكار المضللة ورفض المعتقدات الخاطئة والتميز بين الحق والباطل، والإيمان الحقيقي لا يتعارض مع العقل بل يتوافق معه ويقويه. فباستخدام العقل نستطيع أن نميز بين الإيمان المعتدل والإيمان المتطرف. مثال على ذلك بعض الأفكار المتطرفة تحاول تفسير الفصوص الدينية بطريقة مغلوطه، وتستخدم هذه التفسيرات لتبرير العنف والكراهية، وهنا يأتي دور العقل في رفض هذه التفسيرات والتمسك بالإيمان. وهنا أنصح المتلقي أن يحرص على دقة مصادر المعلومات وتجنب الانجراف وراء الأفكار المضللة والطلاع على آراء العلماء والباحثين المعتدلين، واستخدام العقل في كل ما يقدم له من أفكار أو معلومات .

فيما سبق تناولنا العلاقة بين العقل والإيمان من منظور عام. والأن سنتعمق في بعض الجوانب الأخرى لهذه العلاقة. ومن هذه الجوانب دور العقل في تعزيز الإيمان. وفي هذا الجانب بالتحديد قد يبدو الشك مناقضاً للإيمان، ولكنه بالواقع ممكن أن يكون محفزاً قوياً لنموه، فالشك يدفعنا إلى البحث عن إجابات مقنعة وإلى التعمق في فهم معتقداتنا، وهنا ليس من الضروري إن يكون الإيمان خالياً من الشك، بل أن الشك الصحيح ممكن أن يقوي الإيمان ويجعله أكثر رسوخاً فالسؤال والبحث عن الحقيقة هما جزء أساسي من رحلة الإيمان. مثال على ذلك شخص ما قد يشك في وجود الله، لكنه يواصل البحث عن الأدلة والبراهين، ويقرأ الكتب ويناقش العلماء، وفي النهاية يصل إلى يقين راسخ إلى أن هذا الشك لم يدمر إيمانه بل يعززه. وهنا أنصح الشاك أن لا يتردد في طرح الأسئلة حتى لو كانت صعبه من وجهة نظره، والبحث عن إجابات مقنعة، ولا يتردد في طلب المساعدة من الأخرين.

أضافه إلى ما سبق هناك جانب ثاني وهو العقل والانفتاح على الأخرين، حيث يساعد العقل في الانفتاح على الأخرين وفهم وجهات نظرهم المختلفة، فالإيمان الحقيقي لا يفرض بالقوة بل يقنع بالحجج، والعقل يمكننا من الحوار البناء مع أصحاب المعتقدات المختلفة، وفهم خلفياتهم وفهم أراءهم، وهذا الانفتاح لا يعني التنازل عن معتقدنا بل هو احترام الأخرين والبحث عن أرضية مشتركة مع باقي المذاهب. مثال على ذلك مناقشة هادئة مع شخص من ديانة مختلفة تمكننا من فهم معتقداته وتقدير ثقافته وربما نجد ثقافة مشتركة بيننا. وهنا انصح بالاهتمام والاستماع إلى وجهات نظر الأخرين ومحاولة فهم خلفياتهم، ولانحكم عليهم بناءً على معتقداتهم، وأن أكون محترماً وبعيداً عن النقاشات الحاده.

كذلك هناك جانب ثالث وهو العقل والإيمان في موجهة التحديات حيث أن في الحياة العامة يساعدنا العقل والإيمان في التغلب على الصعاب، فالعقل يمكننا من تحليل المشكلات وإيجاد الحلول المناسبة لها، والإيمان يعطينا القوة والصبر والثقة بالنفس، حيث أن العقل والإيمان يعملان معاً كفريق واحد يساعدنا على مواجهة الحياة بكل ثقة وأمل. مثال على ذلك شخص ما يواجة مرضاً خطيراً يمكنه استخدام عقله في البحث عن أفضل العلاجات، وفي نفس الوقت يمكنه اعتماده على إيمانه ليعطيه القوة والصبر. وأنصح في هذا الموضع أن لا استسلام للصعاب، واستخدام العقل في إيجاد الحلول وفي نفس الوقت الاعتماد على الإيمان لكسب الطاقة الإيجابية، وتذكر أن الله معك في كل الظروف. وفي الختام نجد أن العقل والإيمان ليسا متناقضان بل متكاملان، فالعقل يساعدنا على فهم الإيمان وتدبيره ويحافظ على نقائه من الشبهات، والإيمان يلهمنا بالبحث والمعرفة ويبحث في أسرار الكون العميق، والعقل هو أساس الإيمان وهو أداة قوية لبناء منظومة إيمانية متينة ولا يمكن أن يكون هناك إيمان حقيقي دون استخدام العقل، ولا يمكن أن يكون هناك عقل سليم دون إيمان بالحق.

***

 م.م قائد عباس حمودي

 جامعة واسط / كلية الآداب

 

من الرغبة العاطفية والعلاقات الرومانسية الى الترابط العاطفي ضمن العائلة، هناك عدة تعريفات لمفهوم الحب. ماهو الحب؟ في الحقيقة لا يوجد جواب واحد لهذا السؤال ولهذا كان لدى اليونانيين القدماء ستة مفردات مختلفة لوصف الحب. معرفة هذه الأنواع الستة قد تغيّر حياة الفرد.

اذا كنا نبحث عن علاج لثقافتنا الحديثة المرتكزة على الحب الرومانسي، فيمكننا ان نتعلم من الأشكال المختلفة للانجذاب العاطفي التي ركز عليها اليونانيون القدماء. ثقافة المقهى الحالية تنطوي على مفردات معقدة. هل تريد كابتشينو، عصائر مثلجة او غيرها؟ اليونانيون القدماء كانوا ايضا معقدين في الطريقة التي يتحدثون بها عن الحب، مؤكدين على ستة انواع مختلفة من هذه العاطفة الانسانية ذات الأهمية العظيمة. هم سيُصابون بالصدمة لو علموا باستعمالنا لكلمة واحدة نقولها في كل من الهمس "انا احبك" اثناء تناول الطعام تحت ضوء الشموع وايضا في آخر عبارة عند إرسال ايميل "الكثير من الحب".

ما هي أنواع الحب الستة لدى اليونانيين القدماء؟

كيف يمكن لليونانيين القدماء إلهامنا للانتقال الى ما وراء إدماننا الحالي على الحب الرومانسي، الذي ينخرط فيه 94% من الشباب وعادة يفشلون في العثور على رفيق الروح الذي يمكنه إشباع حاجاتهم العاطفية.

1- الايروس Eros او العاطفة الجنسية

وهو النوع الاول من الحب نسبة الى إله الحب والخصوبة اليوناني، وهو يمثل فكرة العاطفة الجنسية والرغبة. لكن اليونانيين لم يؤمنوا به كشيء ايجابي. في الحقيقة، نُظر الى الايروس كشكل خطير وغير عقلاني للحب الذي قد يستولي على المرء ويمتلكه بالكامل، وهو الموقف الذي يسانده العديد من الفلاسفة والمفكرون الروحانيون مثل الكاتب المسيحي C.S.Lewis. والفيلسوف شوبنهاور(1). ايروس يستلزم فقدان السيطرة (شيء شاذ، كيف ترغب بشيء يفقدك السيطرة على نفسك) وهو ما أثار خوف اليونانيين لأن فقدان السيطرة هو بالضبط ما يبحث عنه العديد من الناس في العلاقة. هل نرغب الوقوع بجنون في الحب؟

2- Philia او الصداقة العميقة

النوع الثاني من الحب هو الصداقة التي نظر اليها اليونانيون بتقدير أكثر من الأساس الجنسي للايروس. الصداقة تهتم بالرفقة العميقة التي تطورت بين اخوة السلاح الذين قاتلوا جنبا الى جنب في ساحة المعركة. انها كانت حول تجسيد الولاء لأصدقائك والرغبة في التضحية لأجلهم بالاضافة الى مشاركة عواطفك معهم. (هناك نوع آخر من فيليا، احيانا يسمى storge كما في الحب بين الآباء واطفالهم).

يمكننا ان نسأل أنفسنا كم لدينا مثل هذا النوع من الرفقة في حياتنا. انه سؤال هام في عصر نحاول فيه جمع أكبر عدد من الأصدقاء في الفيسبوك او متابعين في تويتر، وهو الإنجاز الذي يصعب القبول به من جانب اليونانيين.

3- Agape حب كل الناس

وهو النوع الرابع من الحب والأكثر راديكالية، - حب نكران الذات. هذا الحب يمتد الى كل الناس سواء كانوا أفراد عائلة او غرباء بعيدين. هذا النوع من الحب تُرجم لاحقا الى اللاتينية كـ "caritas" وهو الأصل لكلمة إحسان "charity" الحالية.

أشار C.S.Lewis الى هذا النوع بـ "هدية الحب" وهو أعلى أشكال الحب المسيحي. لكنه ايضا يظهر في المعتقدات الدينية مثل فكرة الميتا او "رقة الحب العالمية" في نيرفانا البوذية. هناك دليل متزايد بان "حب الكل" هو في تراجع خطير في عدة دول. مستويات التعاطف في الولايات المتحدة انحدرت بشدة في الاربعين سنة الماضية مع هبوط حاد في العقد الماضي. يُعتقد ان الناس بحاجة ماسة لإحياء قدرتهم على الاهتمام بالغرباء.

4- الحب الطويل الأمد Pragma

وهو نوع آخر من الحب اليوناني. هو الفهم العميق الذي ينشأ بين الزوجين لفترات طويلة. البراجما هو حول عمل تسويات لإبقاء العلاقة حية بمرور الزمن وإظهار الصبر والتسامح. المحلل النفساني اريك فروم قال اننا صرفنا المزيد من الطاقة على "الوقوع في الحب" ونحتاج ان نتعلم الكثير حول كيفية "الحفاظ على الحب طويلا". البراجما هي بالضبط حول بذل الجهد في عمل الحب لمنح الحب بدلا من مجرد استلامه. حوالي ثلث الزيجات في الولايات المتحدة تنتهي بالطلاق او الانفصال في العشر سنوات الاولى من الزواج، اليونانيون مقتنعون باننا يجب ان نستخدم جرعة هامة من البروجما في علاقاتنا.

5- حب الذات او Philautia

أدرك اليونانيون الأذكياء هذا النوع من حب الذات وهو على نوعين: الأول نوع غير صحي مرتبط بالنرجسية التي يصبح بها الفرد مهوسا بذاته ويركز على الشهرة الذاتية. اما النسخة الأكثر ملائمة هي تعزيز أوسع قدرة على الحب. الفكرة كانت انه اذا كنت تحب ذاتك وتشعر بالأمان في نفسك، فسوف تمتلك الكثير من الحب للآخرين (كما ينعكس في المفهوم البوذي لـ "تعاطف الذات"). وفي تأكيد آخر لأرسطو "كل المشاعر الرقيقة تجاه الآخرين هي امتداد لشعور الفرد تجاه نفسه".

6- حب المرح Ludus

هذا النوع من الحب يُشار له بالعاطفة بين الاطفال او الشباب. كل الناس مارسوا هذا الحب من حالات الانجذاب العفوي او التنمّر في المراحل المبكرة من العلاقات. لكن الناس ايضا يعيشون المرح عندما يجلسون في المقاهي يمزحون ويضحكون مع أصدقائهم او عندما يشاركون في الحفلات. المرح والتفاعل مع الغرباء(الرقص) ربما هو أرقى انواع هذا الحب، وغالبا ما يكون بديلا عن الجنس ذاته. العادات الاجتماعية عادة ما تكبح هذا النوع من سخافة البالغين، لكن القليل منه ربما يكون مطلوبا لإضفاء الإثارة على حياة الافراد.

اليونانيون القدماء وجدوا انواعا مختلفة من الحب في العلاقات بين نطاق واسع من الناس – أصدقاء، أفراد عائلة، أزواج، غرباء، وحتى أنفسهم. هذا يتعارض مع تركيزنا الاساسي على علاقة رومانسية واحدة نأمل فيها العثور على كل انواع الحب المختلفة في شخص واحد او رفيق واحد للروح. رسالة اليونانيين هي الاهتمام بمختلف انواع الحب. لا نبحث فقط عن الايروس وانما نرعى الصداقة العميقة عبر صرف المزيد من الوقت مع الأصقاء القدامى او ترسيخ العلاقة بين الزوجين.

كذلك، نحن يجب ان نتخلى عن هوسنا بالكمال. لا نتوقع شريكنا ان يعطي كل انواع الحب في جميع الأوقات، هذا من السهل ان يقود للتخلص من الشريك الذي يفشل في مسايرة الرغبة. يجب ادراك ان العلاقة قد تبدأ بمزيد من الايروس والمرح، ثم تتطور لتتضمن المزيد من الحب الطويل الاجل او حب الجميع.

الفهم اليوناني المتنوع لأنواع الحب الانساني يمكن ان يقدّم لنا العزاء. عبر إنفاقك الوقت في ترتيب وتنظيم المدى الذي تكون فيه جميع انواع الحب الستة حاضرة في حياتك، ستكتشف انك لديك الكثير من الحب قياسا بما كنت تتصور – حتى لو كنت تشعر بغياب الحب الفيزيقي. ربما حان الوقت لإدخال انواع الحب الستة في حياتنا اليومية سواء أثناء التفكير اوالكلام.

***

حاتم حميد محسن

.......................

الهوامش

(1) يرى شوبنهاور ان الحب هو ليس أكثر من قناع جميل للرغبة الجنسية، وان رغبات الانسان تقوده للاعتقاد ان شخصا آخر سيجعله سعيدا، وان الانسان مخدوع من قبل الطبيعة التي تدفعه ليتكاثر. فعندما يشبع الانسان رغباته الجنسية، يعود الى وجوده المعذب، والشيء الوحيد الذي ينجح فيه هو الحفاظ على الجنس البشري واستدامة دورة الشقاء الانساني

اللوحة كمخلوق ليس لها علاقة بالخالق لكني أحبها، بعيدًا عن الروحانية والخلق، اللوحة تعكس تجاربي ومشاعري، لها تأثير عميق على حياتي، الجمال في الفن يكمن في التعبير دون كلمات، اللوحة لها قدرة فريدة على نقل المشاعر والأفكار بطرق غريبة، تكشف عجز الكلمات، من خلال الألوان، والأشكال، يمكن للفنان خلق تجارب حسية تلامس القلوب وتثير الخيال. الفن له دور مركزي في حياتي، هو وسيلة تعبيرية تتجاوز الكلمات. الفن يعكس ثقافة المجتمع الذي نشأت فيه وهو مصدر للمتعة الجمالية في الحياة. يُمكن للفن أن يُثير المشاعر، يحفز الناس في تجاربهم الروحية، يُمكن أن يُعيد اتصال الروح بالوجود، من خلال التأمل والتفكر في جمالية الحياة، يُمكن الناس من فهم مكانتهم في العالم ويثير شغفهم باللحظات الجمالية، بالرغم من التعقيدات الإنسانية، يُعزز التفكير النقدي، ويُسهم في التغيير الاجتماعي والروحاني. الفن هو جزء لا يتجزأ من التجربة البشرية والفكرة الإنسانية الجمالية. تناول الفلاسفة الجمال الفني وأثره على المشاعر والعواطف وكيف يُعبر عن التجربة الإنسانية ومعاني الوجود، ويظهر صراع الفرد مع المعنى والحرية. العلاقة بين الفن والوجود تتيح للفنان التعبير عن مشاعره وأفكاره وتجاربه بشكل غير مقيد، تعكس تفرده وهويته، من خلال تجارب القلق والضياع في عالم معقد وغير متوقع. لوحتي ترفض القوالب النمطية، تعبر عن حريتي واختياري وارادتي الفردية، تشجع الآخرين على التفكير ولو بشكل نقدي في هويتهم وخياراتهم كون الفن يُعتبر وسيلة لتأكيد الذات. من خلال الإبداع، يكتشف الفنان معاني ومعاني جديدة لحياته ويُعزز من شعوره بالوجود والمعنى ويُساعد الفنان على استكشاف المعنى في ضوء تجاربه الفريدة. من خلال هذا الصراع ومحاولة تعزيز الفهم العميق للوجود وتحفيز التفكير النقدي حول القضايا الوجودية تتجلى علاقتي بلوحتي انها بين الوجود والحرية الفردية في ضوء قدرتي على التعبير عن التجارب الإنسانية الفريدة..! يُعتبر الفن وسيلة قوية لتأكيد الحرية الفردية في عالم يتسم بالضبابية والقلق، بالرغم من ذلك يمكن للفن أن يُوفر مساحة آمنة للتعبير عن الأفكار والمشاعر التي قد تكون محظورة أو مقموعة في ظل اليات مجتمعية استثنائية. الكتابة، الرسم، أو الأداء، تمكن الفنان من التعبير عن معاناته وتجاربه الشخصية، يُمكن أن يطرح أسئلة عميقة حول الحرية والوجود، مما يُشجع على إعادة تصوير الظلم والقمع، يُمكن للفنان أن يُلفت الانتباه إلى القضايا الاجتماعية والسياسية و يُساعد في إنشاء وعي جماهيري حول قضايا الحريات الفردية، التي تعزز من حرية الاختيار وتشجع على التمرد ضد الضغوط الاجتماعية، وتساعد الأفراد في تحقيق ذواتهم من خلال الإبداع، هكذا تكلمت لوحتي. هل يُعتبر هذا تحقيقًا للحرية الفردية...؟، حيث يُمكن للفنانين أن يُعبروا عن أفكارهم ورؤاهم الخاصة، مما يمكن للفن أن يُعبر عن الأمل والتطلعات نحو مستقبل أفضل. و أن يُلهم الأفراد للعمل من أجل التغيير ويُشجعهم على الإيمان بقوة الإرادة الفردية. تهتم لوحتي كونها مخلوقة بالفن بين علم البدايات وعلم النهايات، تساعد الأفراد على استكشاف مفاهيم جوهرية، حيث تعبر عن مشاعر القلق والضياع الناتجة عن التفكير في عدم وجود بداية أو نهاية واضحة. لوحتي تحاول أن تعيد تشكيل المفاهيم التقليدية عن الزمن والوجود. من خلال كونها مخلوق فني تقدم رؤى جديدة حول كيفية التعامل مع عدم يقينية البدايات والنهايات، مما يُعزز من الفهم الشخصي للمعنى، لان الفن يُقدم تجربة جمالية تعبر عن اللحظة الحالية، مما يُساعد على العيش في الحاضر وتقدير الجمال الموجود فيه. هذه تجربتي مع لوحتي المخلوقة يمكن أن تُخفف من القلق الناتج عن التفكير، في فوضى البدايات والنهايات، كما تساعد على تأكيد هويتي الشخصية في عالمٍ غير مؤكد...! من خلال هذه التجارب الفريدة، يشعر الأنسان فيها أنه جزء مهم، حتى في غياب بداية أو نهاية محددة انه جزء من قصة أكبر، واللوحة مساحة للتأمل في مفاهيم الحياة والموت، مرهونة بالعدم.. هذا حوار مونوكرامي انا ولوحتي وانا، يُعزز من تقليل الشعور بالوحدة، يُظهر كيف يُمكن للفن أن يُبرز كقدرة على التكيف والتماهي مع معاني الحياة، ويُمنح الأنسان شعورًا بالحرية، يمثل الفن وسيلة فعالة للتعامل مع عدم يقينية البدايات والنهايات، من خلال استكشاف الوجود، خلق تجارب جمالية، وتقديم معاني جديدة. يُساعد الفن الأنسان على العيش في الحاضر، وتحفيز الحوار حول قضايا الوجود، ويساهم في تعزيز الفهم الشخصي والجماعي للوجود. يمكن للفن أن يلعب دورًا مهمًا في خلق معنى في مواجهة مفهوم اللانهاية، رغم أنه قد لا يداعب المعنى النهائيً. وعلى الانسان إيجاد معانٍ وإيجاد شخصية في حياته. من خلال التعبير عن المشاعر والأفكار بحرية، يُمكن أن يساعد الفن في اعطاء إحساسً بالمعنى حتى في عالم يبدو بلا نهاية، الفن فرصة لاستكشاف الأسئلة الوجودية حول الحياة والموت، البدايات والنهايات. هذا الاستكشاف يمكن أن يؤدي إلى فهم أعمق للواقع، ويُعزز من الشعور بالمعنى، يُعبر عن الأمل والتطلعات نحو المستقبل، مما يُساعد على رؤية إمكانيات جديدة، ويجعل الأمل مصدرًا للمعنى في عالم غير مؤكد، . حتى في مواجهة الأبعاد اللامتناهية. يُحفز الفن هذا التأمل ويمكن أن يُساعد الأنسان على فهم تجاربه بشكل أفضل، يمكن للفن أن يتجاوز القيود الزمنية من خلال خلق لحظات خالدة تُعبر عن تجارب إنسانية مشتركة. هذه اللحظات تُعطي الحياة طابعًا مستمرًا رغم عدم وجود نهاية، و يُشجع على الحوار حول مواضيع ومفاهيم إشكالية تعنى بالحياة والوجود، هذا الحوار يُساعد على إيجاد معاني جديدة، بينما لا يستطيع الفن خلق معنى نهائي في مواجهة اللا نهاية، فإنه يُساهم في بناء معانٍ شخصية واجتماعية تُعزز من الوعي والتجربة الإنسانية. من خلال استكشاف الوجود، التعبير عن الأمل، وتوفير روابط اجتماعية، وأن يُعطي حياة الأفراد طابعًا غنيًا ومليئًا بالمعاني، هذا بالضبط ماتفعله معي لوحتي المخلوقة. يمكن للفن مواجهة التعامل مع مشاعر الضياع والقلق من خلال الاستمتاع بالأعمال الفنية، يمكن للأنسان الهروب من شعور الفراغ بالارتباط بشيء أكبرووسيلة قوية للتعبير عن المشاعر المعقدة التي قد تنجم عن الفراغ الوجودي. من خلال الإبداع، يُمكن للأنسان فهم نفسه بشكل أفضل، مما يُخفف من شعور الفراغ، يساعد الفن في خلق معاني جديدة في حياته. التعبير الفني يساعد على إعادة تشكيل التجارب وإيجاد معاني جديدة في الحياة اليومية ويمكن أن يعزز من الروابط الاجتماعية، من خلال المساهمة في خلق لوحات ترتبط روحيا بخالقها وبذلك يُمكن للناس بناء علاقات قوية، مما يُساهم في تقليل شعور الفراغ ويُتيح الفرصة للتأمل والتفكر في الحياة. والاستغراق في تجربة خلق فنية، يُمكن للأنسان أن يتحدى الأفكار التقليدية حول الحياة والمعنى. من خلال طرح أسئلة صعبة حول الوجود، يُشجع الفن الأنسان على التفكير بشكل أعمق واستكشاف أفكار جديدة. هذا الإلهام يُساعد الأفراد على رؤية إمكانيات جديدة في حياتهم، مما يُخفف من شعور الفراغ ويمكن أن يُواجه شعور الفراغ الوجودي من خلال تقديم تجارب جمالية، وتعزيز التعبير عن المشاعر، واستكشاف الهوية. اللوحات المخلوقة تُعتبر وسيلة قوية للتعبير الفني، حيث يمكن أن تعيد تشكيل التجارب الشخصية والجماعية من خلال الألوان والأشكال والتفاصيل. الفن ليس مجرد تمثيل بصري، بل هو وسيلة لنقل المشاعر والأفكار. من خلال اللوحات، يمكن للفنانين استكشاف مواضيع مثل الحب، الفقد، الفرح، والقلق، مما يتيح للمتلقين الارتباط الروحي بتجاربهم الخاصة.

***

غالب المسعودي

 

السلبيات والإيجابيات

مدخل: بين التوجيه والتوجيهية:

كلنا نعلم ان عصرنا يهيمن عليه التدفق المعلوماتي السريع، وتلعب وسائل الإعلام والثقافة دورًا جوهريًا في تشكيل وعي الأفراد والمجتمعات. لكن هذا الدور يتراوح بين الإعلام والثقافة الموجهة، التي تعمل على إيصال رسائل محددة ضمن إطار معين، والإعلام والثقافة التوجيهية، التي تهدف إلى التحكم في السلوك والتفكير وفقًا لمصالح فئات معينة. ورغم أن كلا النموذجين يسعيان إلى التأثير، فإن الفارق الجوهري بينهما يكمن في درجة الحرية المتاحة للمتلقي، ومقدار الوعي النقدي الذي يتم السماح به أو التلاعب به.

الإعلام والثقافة الموجهة: أداة تأثير أم وسيلة توعية؟

الإعلام والثقافة الموجهة هما شكلان من أشكال التأثير المقصود، لكن مع درجة معينة من المرونة تتيح للمتلقي إمكانية الفهم النقدي والاختيار. يمكن أن يكون هذا التوجيه إيجابيًا، حين يهدف إلى نشر قيم إيجابية مثل التسامح، الديمقراطية، أو التوعية البيئية. كما قد يكون سلبيًا، حين يصبح مجرد وسيلة للتلاعب بالعقول، بغية تحقيق أهداف أيديولوجية أو اقتصادية محددة.

إيجابيات الإعلام والثقافة الموجهة:

* نشر الوعي المجتمعي: يساهم الإعلام الموجه في نشر القضايا الهامة مثل حقوق الإنسان، الصحة العامة، وقضايا البيئة، ما يساعد على خلق مجتمع أكثر وعيًا ومسؤولية.

* تعزيز الهوية الثقافية: يمكن لوسائل الإعلام الموجهة أن تحافظ على التراث الثقافي، وتعزز الشعور بالانتماء عبر إبراز القيم الوطنية والاجتماعية.

* محاربة الجهل والتطرف: عندما يكون التوجيه هادفًا، فإنه يمكن أن يشكل درعًا ضد الأفكار المتطرفة والمعلومات المضللة.

سلبيات الإعلام والثقافة الموجهة:

* التحيز والإقصاء: حتى الإعلام الذي يبدو حياديًا قد ينحاز لمجموعة على حساب أخرى، مما يؤدي إلى غياب الأصوات البديلة.

* التبسيط المخل: قد يتم اختزال القضايا المعقدة في شعارات سطحية، مما يقلل من قدرة الجمهور على الفهم النقدي والتحليل العميق.

* الاعتماد على مصادر محددة: قد يؤدي التوجيه الإعلامي إلى هيمنة مصادر بعينها، مما يقلل من تنوع المعلومات ويعزز وجهات نظر معينة دون غيرها.

الإعلام والثقافة التوجيهية: من التلاعب إلى السيطرة:

في حين أن الإعلام الموجه يترك مجالًا للوعي النقدي، فإن الإعلام التوجيهي يتسم بقدر أكبر من التحكم والتلاعب. فهو لا يسعى فقط إلى نقل المعلومات، بل إلى إعادة تشكيل الواقع وفقًا لمصلحة فئات محددة، وغالبًا ما يكون هذا النوع من الإعلام خادمًا لمراكز القوة السياسية أو الاقتصادية.

إيجابيات الإعلام والثقافة التوجيهية:

* القدرة على ضبط المجتمعات في أوقات الأزمات: قد يكون الإعلام التوجيهي ضروريًا أحيانًا عند الأزمات الكبرى، مثل الحروب أو الكوارث، حيث يكون ضبط تدفق المعلومات مهمًا للحفاظ على الاستقرار.

* التعبئة الجماعية: يمكن أن يكون الإعلام التوجيهي أداة لحشد الجماهير وراء قضية معينة، سواء كانت وطنية، دينية، أو اجتماعية.

سلبيات الإعلام والثقافة التوجيهية:

* القمع الفكري: يتم استبدال التفكير النقدي بالدعاية، مما يؤدي إلى خلق مجتمع يعتمد على المعلومات المعلبة بدلًا من التحليل المستقل.

* تزييف الوعي: يتم تشكيل الحقائق بطريقة تتناسب مع مصالح معينة، مما يؤدي إلى خلق صورة زائفة عن الواقع.

* هيمنة السلطة على الحقيقة: في النظم التي تعتمد الإعلام التوجيهي، يصبح الإعلام مجرد بوق للسلطة، مما يؤدي إلى طمس الأصوات المعارضة وفرض سردية واحدة لا يمكن مساءلتها.

الإعلام بين الحرية والتوجيه: أين نرسم الخط الفاصل؟

المعضلة الأساسية تكمن في التوازن بين التوجيه المسؤول والتوجيهية القمعية. هل يمكن للإعلام أن يكون مؤثرًا دون أن يكون متحكمًا؟ هل يمكن أن ينقل رسالة دون أن يمارس وصاية على الفكر؟

في المجتمعات الديمقراطية، يُفترض أن يكون الإعلام حارسًا للحقيقة، أي أنه يلعب دور الناقل للمعلومات مع الاحتفاظ بمساحة للنقاش والتعددية. لكن حتى في هذه السياقات، نجد أن رأس المال والإيديولوجيا يلعبان دورًا كبيرًا في صياغة الأجندات الإعلامية، مما يعني أن الإعلام الحر ليس دائمًا مستقلًا.

أما في المجتمعات غير الديمقراطية، فإن الإعلام يصبح مجرد أداة توجيهية، مما يؤدي إلى تدجين الجماهير بدلًا من تثقيفهم، وخلق مجتمع يتلقى بدلًا من أن يفكر.

خاتمة: نحو إعلام مسؤول وثقافة نقدية:

إن الحل لا يكمن في إلغاء التوجيه، بل في تحويله إلى عملية شفافة وواعية، حيث يتم تقديم المعلومات مع مساحة كافية للنقد والنقاش. ينبغي أن يكون دور الإعلام هو خلق مجتمع يعي التوجيه ولا يقع ضحيته.

كما يجب أن تكون الثقافة وسيلة تحفيز للفكر، لا أداة قولبة للعقول. فالمجتمع الذي يمتلك ثقافة نقدية وإعلامًا حرًا، هو المجتمع القادر على مواجهة التحديات، دون أن يكون ضحية للدعاية أو التضليل.

***

مجيدة محمدي – شاعرة وباحثة تونسية

بقلم: لورين بيري

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

عندما أحاول النوم ليلاً، لا أستطيع أن أحلم إلا باللون الأحمر.

" بيتر جابرييل، بيكو"

***

تماماً كما كان الحال عندما كتب توماس مور يوتوبيا، كانت مزحته الصغيرة أن "ou" تنفي إمكانية وجود مثل هذا المكان، فإن اختيار البادئة "dys" للإشارة إلى المجتمعات التي تخرج عن السيطرة كان دائمًا يبدو لي غريبًا. لقد ارتبطت دائمًا هذه البادئة بـ "عسر الطمث" - فترات الحيض المؤلمة للنساء - بحيث إن إضافة معنى "سيء" إلى "dys" تحمله أيضًا إحساسًا بالمرض أو الألم؛ لأن الكلمة الأولى التي أرتبط بها مرتبطة بالحيض، فإن "ديس" في ذهني تثير أيضًا فكرة فقدان الدم. بالنظر إلى الظروف التي تحتفظ فيها الدستوبيا بقوتها على المواطنين - والتعذيب الذي يُستخدم للحفاظ على هذه القوة - فإن الدستوبيا تتماشى أيضًا مع فكرة مجتمع يُحافَظ عليه بالدم والألم.

بينما كنت أشاهد الهوس الحالي بالدستوبيا في الأدب أو في النقاشات السياسية، لفت انتباهي كيف أن مفهوم ما يشكل الدستوبيا ومدى قربنا من العيش في واحدة منها هو فهم قد يتأثر بتجارب الكاتب، والتي قد تكون مشفرة أيضًا حسب الجنس أو العرق. أصر جوتفريد لايبنيز على أنه يجب علينا أن نؤمن بأننا "نعيش في أفضل العوالم الممكنة"، وهي محاولته للتعامل مع مشكلة التفسير اللاهوتي: كيف يمكن لله العليم السماح للشر بوجوده؟ كتب فولتير كانديد كإجابة ساخرة على مدى ضخامة عقال الحصان الذي كان لا بد أن يكون لايبنيز يرتديه ليؤكد مثل هذا الشيء.

لا يمكن للمرء إلا أن يلاحظ أن وضع الدستوبيا في بعض المستقبلات غير الزمنية أو على كواكب بعيدة جدًا لا يأخذ في اعتباره تجارب المجتمعات الدستوبية في ماضينا أو حاضرنا القريب المرتبطة بالجنس والعرق.

بالنسبة لي، كان تهديد الدستوبيا موجودًا منذ أن كنت صغيرة بما يكفي لتكوين أفكار سياسية. كطفلة تعيش في شمال الولايات المتحدة مع والدي، كنت أستمع إلى قصص عن الأطفال السود الذين تعرضوا للاعتداء بواسطة الكلاب، أو عن قتل الرجال السود، وكان لدي شعور بدائي بأنني كنت أعيش في بلدين مختلفين. في عام 1970، عندما قُتل الطلاب في جامعة جاكسون ستيت، كنت قد بلغت السابعة من عمري فقط، لكنني أتذكر بوضوح أنني بكيت على وفاتهم. كان والدي على وشك أن يُنقل إلى ولاية أخرى من أجل عمله، وأتذكر أنني قلت: "أبي، من فضلك لا تنقلنا إلى الجنوب. كل ما يفعلونه هو قتل السود هناك." بينما كان الشعور مفرطًا في العاطفة، إلا أنه تحدث عن شعوري الخاص بأنني كفتاة بيضاء كنت أعيش في بلد حيث يعني لون الجلد أن الشخص يعيش في نظام مختلف. لم أكن أعرف كلمة "دستوبيا" حينها، لكن النظام القائم على المراقبة والعنف المستخدم لمنع الأشخاص ذوي البشرة الملونة من النضال من أجل حقوقهم كان بوضوح جزءًا من نظام دستوبي.

كامرأة بيضاء ناضجة، أدرك أن الشمال كان متواطئًا ومتورطا في العنصرية التي كانت تنكر أيضًا على الأشخاص الملونين حقوقهم كاملة. كنسوية بيضاء، أعلم أنني ما زلت أستفيد من مستويات كاملة من الامتياز في عام 2017 التي كان يجب أن تتمكن أخواتي النسويات من الأشخاص الملونين من الوصول إليها، لكنهن لا يستطعن. أنه رغم أنني كنت طفلة من الطبقة العاملة نشأت في بيئة غير مستقرة في المنزل، فإن بشرتي البيضاء منحتني حمايات لا تتعلق فعليًا بالامتياز كما يُفهم عادة على أنها حق مكتسب، بل هي مجرد توقعات أساسية لكيفية معاملة الإنسان.

كما جعلتني النسويات من ذوات البشرة الملونة أراها بشكل مختلف، فإن المستقبل الدستوبى الذي أخشاه أكثر - وهو المستقبل الذي تفقد فيه النساء كل سيطرة على تكاثرهن - هو في الواقع كابوس من الماضي الذي عاشته النساء السود. النساء السود اللواتي جلبن كعاملات مستعبدات إلى أمريكا تم اغتصابهن من قبل الرجال البيض في المزارع، وأُجبرن على العمل - سواء العمل الذي تم استخراجه منهن لصالح المزرعة، أو العمل المرتبط بالإنجاب - الذي تم استخراجه منهن أيضًا، والذي أنتج أطفالًا مستعبدين، مما وفر فائدة اقتصادية إضافية لمالك المزرعة، وكان العديد منهم مستعدين لبيع أطفالهن من أجل الربح.

نسخة من هذا السيناريو الكابوسي تم تجربتها من قبل النساء في يوغوسلافيا السابقة، حيث تم احتجازهن في معسكرات اغتصاب. كانت النساء والفتيات المسلمات البوسنيات يتعرضن للوحشية الجنسية كل ليلة لكي يتمكن الرجال العسكريون الصرب الذين اغتصبوهن من حملهن وإنجاب أطفال صرب، وهو شكل من أشكال الإبادة الجماعية من خلال الاغتصاب.

في جمهورية الكونغو الديمقراطية، استمرّت الحرب الأهلية لمدة عشرين عامًا تعرضت خلالها النساء للاغتصاب على يد جنود روانديين وجنود كونغوليين وجنود أوغنديين وميليشيات مختلفة، الذين أرادوا تدمير روح أعدائهم عبر انتهاك نسائهم. ولم يقتصر الأمر على اغتصاب النساء، بل تعرضت العديد من النساء لإصابات دائمة عندما تم إدخال أفواه البنادق في أعضائهن التناسلية وإطلاق النار. ومن نجين من القتل يواجهن سنوات من العمليات الجراحية لإصلاح الأضرار.

لذا فإن المستقبلات الديستوبية التي تخيلها الكتاب مثل مارجريت أتوود لها سوابق تاريخية—وفي بعض الحالات، تكون هذه الأحداث قد حدثت في السنوات العشرين الماضية. لكن إذا أردت تخيل ديستوبيا حيث تم تجريد جزء من السكان من إنسانيتهم، ومنعهم من الخروج دون إخفاء وجودهم ككائنات بشرية، ومنعهم من العمل، ومن المعالجة من قبل طبيب ذكر، أو من عزف الموسيقى، أو من الذهاب إلى المدرسة، أو حتى من الضحك بصوت عالٍ—بإيجاز، يتم إنكار جميع حقوقهم ويُجبرون على الاختفاء أو مواجهة عواقب العقوبات القاسية والإعدامات العامة، حينها أدرك أنني قد وصفت حياة النساء تحت حكم طالبان، وهو نظام يحاول إعادة تأكيد نفسه في أفغانستان عبر تفسير للقرآن تم تبنيه من قبل داعش وبوكو حرام، كما يتضح من شهادات الناجيات من حالات الاختطاف.

إذا تخيلت ديستوبيا حيث يتم إعاقة نصف المجتمع في مرحلة الطفولة لمنعهم من الشعور باللذة الجنسية، فأنا أصف عمليات الاستئصال الجزئي للأعضاء التناسلية، والختان، وتشويه الأعضاء التناسلية للبنات الصغيرات التي تمارسها بعض الشعوب في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى والشرق الأوسط. وفي حالات أخرى يتم خياطة المهبل بإحكام باستثناء مرور صغير للدم الطمثي، هناك حياة من التفريغ وإعادة الخياطة للسماح بمرور الطفل عبر المهبل، ثم إعادة خياطة الفتحة في كل مرة.

إذا أردت وصف ديستوبيا حيث يجب أن تبقى نصف السكان الإنجابي حوامل بشكل دائم ويجب عليهن أن يكن مستعدات للتضحية بحياتهن—على الرغم من أنه إذا كانت النساء غير مستعدات للقيام بذلك، قد نعتبره جريمة قتل من أجل تفضيل حياة الأجنة—حيث يكون الإجهاض غير قانوني تمامًا، فأنا أصف حياة في أيرلندا الكاثوليكية في عام 2017.

قد يكون هذا فشلًا في خيالي، لكن أي ديستوبيا أحاول تخيلها للكتابة عنها كجزء من مستقبل خيالي علمي، تستند إلى تاريخ موثق لانتهاك حقوق النساء في ثقافات متعددة.

عندما يتخيل الكتاب الذين يُشَاد بهم ويُعترف بمكانتهم في الأدب الكلاسيكي — مثل جورج أورويل وألدوس هكسلي — مستقبلاً سياسياً حيث تتغلغل رقابة الحكومة في الحياة الخاصة، كان الخيال يدور حول أن الحكومة ستتمكن من معرفة ما تقوله في محادثاتك الخاصة. ولكن القيود المفروضة على الإجهاض في مختلف الولايات المتحدة تحدد ما يمكن أن يقوله الأطباء للنساء اللاتي يطلبن وسائل منع الحمل أو الإجهاض. في ولاية تكساس، لا يثق المشرعون في النساء لدرجة أنهم يريدون قانونًا يفرض على الأطباء أن يكذبوا على النساء بشأن نتائج الفحوصات التي قد تكشف عن تشوهات خلقية، حتى التشوهات الكارثية التي تجعل الحياة خارج الرحم مستحيلة. في يوتا، من المفترض أن يخبر الأطباء المرضى أن الإجهاض يمكن التراجع عنه.

دائرة الصحة في ولاية ساوث داكوتا، المدفوعة من أموال الضرائب، تحتوي على صفحة ويب مخصصة لحالة نفسية مختلقة تدعي أنها شديدة مثل متلازمة ما بعد الصدمة—مما يربط بين قرار الذهاب إلى الحرب، حيث يُتوقع من الجنود قتل الجنود الأعداء—على أنه المعادل الأخلاقي للإجهاض. هذه الحالة، التي تسميها جماعات مناهضة للإجهاض في جميع أنحاء البلاد "متلازمة ما بعد الإجهاض"، هي حالة من "الشلل" أو "الخدر بعد الإجهاض" التي يُقال إنها تصيب 40 إلى 60 بالمئة من النساء اللاتي أجرين عمليات إجهاض. وفقًا للموقع الذي أقتبس منه، يصبح الإجهاض عملية تُحرم النساء من اللذة الجنسية—عملية تؤدي إلى "فقدان المتعة من الجماع، وزيادة الألم، وكراهية الجنس و/أو الرجال بشكل عام أو تبني أسلوب حياة العاهرات".

يستخدم الموقع مصطلح "النساء المُجهضات"، لكن النساء لم يُجهضن—بل الأجنة والأجنة المبكرة هي التي تم إجهاضها. في لغة التحقير التي يستخدمها مروجو المعلومات المضللة ضد الإجهاض، أصبحت المرأة نفسها هي الجنين المُجهض. تدور ادعاءاتهم حول الإجهاض حول الرجال—قدرتهم على تقديم المتعة الجنسية للنساء وتحكمهم في أجساد النساء. سيكون من المثير للاهتمام معرفة ما إذا كانت هذه "الدراسة" التي استندت إليها هذه الأرقام قد شملت النساء اللواتي تعرضن للاغتصاب، واللواتي قد يكن قد شعرن ببعض العداء تجاه مهاجميهن، أو النساء المثليات أو ثنائيات الميول الجنسية اللواتي يكن أقل احتمالاً للرغبة في ممارسة الجنس العادي مع الرجال.

يُدرج الموقع أيضًا سلسلة من العقوبات الأخرى التي ستطال النساء اللاتي يختارن الإجهاض، ولكن الربط بين فقدان اللذة الجنسية والإجهاض والوعود بالمعاناة النفسية التي تشبه تلك التي يعاني منها الجنود في الحروب. يظهر أن أولئك الذين يريدون فرض نوع من المرسوم 770 كما كان في رومانيا تحت حكم تشاوتشيسكو—الذي سعى لزيادة عدد السكان من خلال فرض مرسوم يحظر الإجهاض ووسائل منع الحمل، باستثناء النساء فوق سن الـ45 اللواتي لديهن خمسة أطفال في رعايتهن—فهم لا يتجاوزون إصرارهم على فرض إتمام جميع حالات الحمل، مهما كانت الظروف.

في رومانيا كانت توجد دكتاتورية حيث كانت النساء يذهبن للعمل ويخضعن لاختبارات الحمل من أجل تحديد ما إذا كن يحملن أجنة كل شهر. وكان ذلك لمنع النساء من الإجهاض. مُجبرات على حمل الأطفال حتى الولادة، كانت النساء الرومانيات يتركن الأطفال المولودين حديثًا على أبواب دور الأيتام، التي سرعان ما أصبحت مثقلة بالأعداد الكبيرة من الأطفال الذين إما لم ترغب هذه النساء فيهم أو لم يكن بإمكانهن رعايتهم. وعندما سقط تشاوشيسكو وتم إعدامه، غطت الصحافة دور الأيتام التي كان الأطفال فيها، محصورين في أسرّتهم منذ وصولهم، يعيشون في ظروف غير إنسانية. جاءت المآسي الأكبر لاحقًا، حيث وصل بعض هؤلاء الأطفال إلى بيوت التبني وهم محطمون بسبب فشلهم في النمو وعدم قدرتهم على التعلق.

الدولة الديستوبية هي تلك التي يجب السيطرة فيها على الغالبية العظمى من البشر من أجل منفعة القلة التي تدير المجتمع. ولكن في الدول الديستوبية التي كانت موجودة تاريخياً والتي لا تزال موجودة حالياً، تعتمد السيطرة على أعداد كبيرة من السكان على الاختلاف. ويتحدد الاختلاف على أساس العرق أو الجنس.

في بعض الحالات، يكون العرق والجنس غير قابلين للفصل. يخبرني النسوية التداخلية أن أنواع الاضطهاد التي تستهدف النساء تتقاطع مع الاضطهادات التي تستند إلى العرق، والجنسانية، والهوية الجنسية، والقومية، والعمر والفئات التي تُستخدم لخلق الاختلاف. في أمريكا، جزء من القلق المتزايد بشأن وسائل منع الحمل والإجهاض يعود إلى مخاوف عرقية لدى الرجال البيض، الذين يشعرون بالخوف من ضرورة تقاسم السلطة، ومن احتمال أن يصبحوا "أقلية" أمام الأشخاص ذوي البشرة الملونة، وهو ما يُتوقع حدوثه بحلول عام 2044. الأطفال المولودون لآباء من ذوي البشرة الملونة أصبحوا اليوم يفوقون عدد الأطفال المولودين لآباء بيض.

كما قد يتوقع المرء من مثل هذه الإحصائيات، لا يتطلب الأمر سوى بحث بسيط على جوجل لاكتشاف المواقع التي تنتقد فشل النساء البيض في الحفاظ على العرق. تتحدث مواقع مرتبطة بالنازيين الجدد، مثل ديلي ستورمر، وكذلك الصحف اليمينية مثل بعض الصحف الشعبية البريطانية، عن كيف أن سعي النساء البيض لبناء مسيرات مهنية وتأجيل الإنجاب يؤدي إلى "كوارث" ديموغرافية في كل من الولايات المتحدة وأوروبا. وتُصوَّر النساء البيض كخائنات لعرقهن، اللواتي يفضلن السعي وراء طموحات شخصية مثل التعليم الجامعي أو الوظائف المهنية على حساب الزواج وتكوين الأسرة منذ وقت مبكر.

الحجة القائلة بأن النساء البيض يدمرن عرقهن تُوجَّه أيضًا ضد النساء السود. في ولاية آيوا وبعض الولايات الأخرى، تُتهم النساء السود بارتكاب "الإبادة الجماعية السوداء" لاختيارهن الإجهاض. في مجموعة من "الحقائق غير الدقيقة" التي تروج لها جماعات معارضة للإجهاض، تظهر منظمة "بلاند برنتهود" كمنظمة تدعو إلى تفوق العرق الأبيض، ويكمن في قلبها رغبة في القضاء على الأطفال الذين ليسوا من ذوي البشرة البيضاء.

لكن القلق الآخر المرتبط بالضغط على النساء للحمل والاستمرار في الحمل يتعلق أيضًا بقلق الرجال البيض حول اضطرارهم لمشاركة مكانتهم المفضلة في الثقافة الأمريكية والأوروبية. في عشاء حديث، التقيت برجل أبيض عبّر عن هذا القلق بصوت عالٍ. كانت عمتي وعمّي قد دعواني للانضمام إلى أصدقائهما بعد عرض مسرحي كان يقام في المدينة التي أعيش فيها. وبما أنني لا أرى عائلتي كما أود، قبلت الدعوة. خلال العشاء، سألني هؤلاء المعارف الجدد عن مهنتي، فذكرت أنني كاتبة. سألوني عما أكتب. لم أرد الانخراط في أي نقاشات سياسية على طاولة العشاء، بما أن معظم أعمالي سياسية بطبيعتها، لذلك تحدثت عن كتابتي حول الكتب واللغة. ذكرت أنني كتبت مقالًا لصحيفة الجارديان عن استخدام "هم" كضمير مفرد عندما لا يكون الجنس معروفًا، وهو ما تبناه مؤخرًا دليل شيكاجو للأسلوب. فوجئت عندما رفع الرجل الأبيض المقابل لي صوته قائلاً: "هذا هراء سياسي"، وأضاف: "لا يوجد سبب لتغيير اللغة".

كنت على علم أن  جميع من على  الطاولة قد توقفوا عن الكلام. فقلت:

- ربما، كرجُل، لم تجرب شعور الإلغاء عندما تصنف اللغة الجميع على أنهم 'هو' عند الحديث عنا جميعًا .

ثم أضفت:

- لكنني أرى أن هذا الموضوع لن نتفق عليه، لذا أقترح تغيير الموضوع .

قال:

- حسنًا، يمكننا تغيير الموضوع.

لكنه أراد أن يسجل آخر تعليق له فقال:

-  ومع ذلك أخبرك الآن، أكثر الناس تعرضًا للاضطهاد في أمريكا الآن هم الرجال البيض. هم من يُظلمون

فضلت عدم الرد، على الرغم من أنني لاحظت أن معظم النساء على الطاولة، واللاتي كن في نفس سن هذا الرجل وبيضاوات البشرة مثله، رفعن أعينهن لي للتعبير عن اعتقادهن بأن كلامه سخيف.

قد يبدو هذا سخيفًا، لكنه ترديد شائع. في يوليو 2016، أثناء مناقشة جريمة القتل القضائي لفريدي جراي، الرجل الأسود في بالتيمور الذي قُتل على يد الشرطة أثناء نقله إلى السجن، أنكر مراسل فوكس بيزنس لو دوبيس أن البيض يشكلون الأغلبية في الولايات المتحدة، على الرغم من أن الذين عرّفوا أنفسهم بـ "البيض فقط" شكّلوا 77.1 في المئة من السكان الأمريكيين. ولكن وفقًا للروايات اليمينية، فإن الرجل الأبيض ليس فقط أكثر الفئات تعرضًا للاضطهاد في أمريكا، بل هو أيضًا جزء من الأقلية العرقية.

في خضم هذا القلق، لا يستطيع الرجال البيض الحصول على فرصة في عالم الاقتصاد لأن النساء البيض وأشخاص الملونين يُدفعون إلى المقدمة. هذه الهوس بالتوظيف التفضيلي—والذي لا تدعمه الإحصائيات—تحول إلى شعور عام بأن الرجال البيض هم مجموعة مهددة بالانقراض حرفيًا، مهددة بالإلغاء من أمريكا من خلال فهم للمنافسة حيث يصبح "عدم الفوز" إلغاءً.

انتخاب دونالد ترامب، الذي حصل على أغلبية الأصوات بين كل من الرجال البيض والنساء البيض، يشير إلى أن القلق الأبيض بشأن كونهم أقلية مضطهدة في أمريكا أقوى مما توقعه الكثير منا.

من الجدير التساؤل: هل يمكن أن توجد دُستوبيا داخل ثقافة لا ترى نفسها كذلك؟ في الولايات المتحدة، يتمسك معظم الناس بفكرة الاستثنائية الأمريكية، معتقدين أنه لا يوجد بلد آخر يشبه أمريكا على وجه الأرض، وأن ديمقراطيتنا يجب أن تكون قدوة للعالم. لكننا نعيش في ثقافة تفهم نظامها الديمقراطي، الذي يُفترض أنه قائم على الجدارة ومتاح لكل من "يبذل جهده" لتحقيق النجاح، كنظام يطغى فيه الفرق البيولوجي على المواطنة. في تشريعات العديد من الدول، يعني أن تولد الفتاة أن حقوقها في الخصوصية، وسيادة جسدها، والتمتع الكامل بحريتها الجنسية، وقدرتها على مناقشة أفكارها ورعايتها مع المهنيين الطبيين، يجب أن تُقيَّد عندما تصل إلى سن الإنجاب، "لصالحها" كما تقول الدولة. لكن "المصلحة الشخصية" تنتهي بأن تكون في خدمة الدولة، التي تكتسب القوة الاقتصادية مع كل عامل يُنتج أو جندي ينشأ لينهض بمطالبة موارد أمة أخرى. إذا كانت النساء حُرَّات في ممارسة السيطرة الكاملة على أنظمتهن التناسلية، فإن القائمين على الدولة يخشون فقدان سلطتهم.

توجد الدُستوبيا حيثما تمارس الدولة سيطرتها على وسائل العنف، كما فسرها ماكس ويبر، لتمنع البشر - من لحظة ولادتهم - من اختبار الحقوق الكاملة للإنسانية. ورغم أنني أستطيع أن أجادل بوجود أشكال أخرى من الدُستوبيا حتى هنا في الولايات المتحدة، إلا أنني أعلم أن فهمي للدُستوبيا، وهو نظام غارق في الدم ومبني على الألم، هو ما تعيشه النساء في الحاضر والمستقبل. فلا يمكن لأي خيال دُستويبي أن يفوق ما ارتكب بحق النساء.

(تمت)

***

.......................

الكاتبة:  لورين بيري/ Lorraine Berry  تكتب لورين بيري عن مجموعة متنوعة من الموضوعات تتراوح بين الأدب، والتاريخ، والجندر، و"سياسة الألم". نُشرت أعمالها في عدة منصات، منها الجارديان، وليثاب، وماري كلير، وتوكينج رايتينج وغيرها. وهي مراجعة كتب مساهمة في سيجنيتشر. تدير لورين وشريكها أمبرساندز كرييتيف.  ويمكن متابعتها على تويتر:  @BerryFLW.

ليست الصورةُ أرشيفًا جامدًا للواقع، بل فعلًا وجوديًّا (un acte existentiel) يختزلُ الزمنَ في ومضةٍ ميتافيزيقية، يعيدُ تشكيلَ أسئلته كلَّما ظننّا أننا أمسكنا بجوهره. إنها تصعيدٌ للعابرِ إلى ملكوتِ الخُلود، حاملةً في طيّاتها تناقضًا جوهريًّا، حيث تُظهر الماديّ عبر تجميده، وتُحرّرُ الرمزيَّ عبر حبسه. هذا الانزياحُ يُثيرُ إشكاليةَ الثنائيات: هل تُشكّلُ الصورةُ انفصالًا عن أصلها الواقعي (l'origine réelle) أم ولادةً لكونٍ موازٍ؟ وهل يمكنُ لعملية "تجميد اللحظة" أن تكونَ وقفًا لزمنها الحيوي (le temps vital) أم تحويلا إلى كيانٍ تأويليٍّ؟ 

إذا استحضرنا مفهومَ "المدّة" (la durée) لدى هنري برجسون (Henri Bergson)، بوصفها ذلك السيلَ الوجوديَّ الذي يرفضُ التجزئة، فإن الصورةَ تتعارضُ جوهريًّا مع فلسفته. فالصورةُ تختزلُ التدفقَ الزمنيَّ في وحدةٍ متصلبة، كأنها تقتلعُ اللحظةَ من جسدِ الزمنِ لتقدّمها مثل"جثةٍ جمالية". لكنْ، أليست هذه "الجثة" بالذاتِ مفتاحًا لفهمِ الأبعادِ الخفيةِ للوجود؟ هنا يَتصادمُ الفيلسوفُ مع الفنان: الأولُ يرى في التجميدِ تشويهًا للطبيعةِ الزمنية، بينما يرى الثاني فيه اكتشافًا لِما تخفيه الحركةُ من أسرار. 

ولا تقتصرُ الإشكاليةُ على الزمنِ فحسب، بل تمتدُّ إلى السلطةِ المعرفية للصورة، خاصةً في عصرِ "المحاكاة الافتراضية" (la simulation virtuelle)، على نحو ما نجد لدى جان بودريار (Jean Baudrillard)، حيث تتحولُ الصورةُ إلى "وهمٍ متجدّد" (un simulacre) يطمسُ الحدودَ بين الحقيقةِ (la vérité) والافتراض. هذا الانزياحُ يُلقي بظلالِ الشكِّ على الميثاقِ الأخلاقي للفن: أينَ يبدأ وينتهي حقُّ الفنانِ في إعادةِ التشكيلِ؟ وهل يتساوق ذلك مع خطرِ التزييفِ (la falsification)؟ وهل تُعَدُّ الصورةُ الرقميةُ الحديثةُ شكلًا من "المقاومةِ الجمالية" (la résistance esthétique ) ضدَّ سطوةِ الواقع، أم انزياحًا نحوَ اغترابٍ وجوديٍّ؟ 

تكمنُ مفارقةُ الصورةِ في كونها خيانةً مزدوجة؛ تخونُ الواقعَ بانفصالها عنه، وتخونُ الذاكرةَ بتحويلها إلى سرديةٍ متخيّلة. إنها تسرقُ "اللحظةَ الحيةَ" من سياقِها العاطفيِّ لتصهرَها في بوتقةِ الجمال، مُحوّلةً الألمَ إلى لوحةٍ، والفرحَ إلى منحوتةٍ. هكذا تتحولُ الذاكرةُ إلى "فنانٍ خفيٍّ" (un artiste invisible) يخلطُ ألوانَ الماضي بفرشاةِ الحاضر، فيسرقُ منا "الحقيقةَ" ليهبَنا "مجدَ الحكايةِ". 

لا ينحصرُ تأثيرُ الصورةِ - في تقديري- على الفردِ، بل يكونُ أشدَّ إيلامًا على المستوى الجمعي. إن سؤالَ مَنْ يمتلكُ الصورةَ يخترقُ تاريخَ الفنونِ، ذلك أن لوحة مثل "غرنيكا" (Guernica) لبيكاسو، لا تزالُ تتوحّدُ مع مأساةِ الحربِ رغمَ تحررها من سياقِها التاريخي. لكنَّ هذا "الخلودَ الرمزيَّ" (l'immortalité symbolique) يُخفي اغترابًا مزدوجًا؛ فالصورةُ تستعيرُ وجعَ الواقعِ لتخلقَ منه أسطورةً، ثم تتنكرُ لأصلِها الإنسانيِّ لتصيرَ "أيقونةً ثقافيةً" (une icône culturelle). أليست "الموناليزا" (La Joconde) -بابتسامتها المُلغزة- شاهدةً على هذا الانزياحِ؟ لقد تحررتْ من مالكِها (ليزا) لتصيرَ مِلكًا للعالمِ، لكنها خسرتْ هويتها لتصيرَ لغزًا. لتظل الصورةُ بذلك"مفارقةً وجوديةً" (un paradoxe existentiel) تمنحُنا وعدا بالخلود، لكنها في مسارها التراجيدي تسرقُ منا "حرارةَ اللحظةِ". تختزلُ الإنسانَ في "لقطةٍ" (un instantané)  لتُطلقهُ مثل طائر حر في سماء التأويلِ الفسيحة. ربما تكمنُ هويتها في عَدِّها جسرٍا بين الموتِ والحياة، لتُذكّرنا بفنائنا عبرَ خلودِها، وتُحررنا من ثِقلِ الواقعِ عبرَ إدخالِنا إلى مملكةِ المتخيّلِ، فالصورةُ مثل طائر الفينيقِ، تموتُ في الواقعِ كي تُولدَ في التأويلِ.

***

د. عبد السلام دخان

 

في ذكرى مرور خمسين عاماً على بداية الدراسات القرآنية في اليابان حول البنية الأساسية لعالم الأفكار القرآنية، ورؤية القرآن الكريم للعالم التي شهدها معهد الدراسات الثقافية واللغوية بجامعة كيو بطوكيو، ثمة حاجة لأن نسأل أنفسنا ماذا نعرف عن جهود اليابانيين في دراسة القرآن الكريم؟ وهل استفدنا من المقاربة اليابانية للإسلام؟

تسعى المدرسة اليابانية بالدراسة العلمية اللغوية للقرآن الكريم إلى فهم جديد للإسلام، على حدّ تعبير توشيهيكو إيزوتسو Toshihiko Izutsu (1914-1993) رائد الدراسات القرآنية في اليابان، غاية ما نريد هو "الإسهام بشيء جديد في سبيل فَهْم أفضل لرسالة القرآن لدى أهل عصره الأوّل ولدينا نحن كذلك"، فعلى الرغم من أنّ كثيراً من العلماء المتمكنين قد درسوا القرآن الكريم من زوايا عديدة، منها اللاهوتي والفقهي والنحويّ والتفسيريّ، إلّا أنّ القرآن الكريم ما يزال قابلاً لأن يُقارب من زوايا أخرى متنوعة، فلم يُقارب القرآن الكريم دلاليّاً في ضوء منهجيات علم اللغة الحديث، لذا اختارت الدراسات العربية في اليابان هذا الجانب، "فكشفت على نحو علمي التحوّل الجذري الذي أحدثه القرآن الكريم في حياة العرب والمسلمين بوصفه نظاماً مفهومياً جديداً أعاد صياغة المفاهيم السابقة، وأضاف إليها مفاهيم جديدة، وربط في ما بينها بعلاقات معقدة، فأنتج رؤية للعالم مختلفة تمتاز بمعمار مفهومي عظيم من حيث تماسكه ومرونته وتنظيمه".

وفي إطار بحث المدرسة اليابانية عن رسالة القرآن الكريم لعصرنا الحالي انتهت إلى أنّ رسالته أخلاقية، فصدر عن معهد كيو للدّراسات الثقافيّة واللّغويّة في طوكيو عام 1959 دراسة لإيزوتسو بعنوان "بنية المصطلحات الأخلاقية في القرآن" The Structure of the Ethical Terms in the" Koran"، تم فيها تحري منهج علمي يعتمد التجريب والاستقراء؛ لتحليل البنية الأساسية للحقل الدلالي للتعابير الأخلاقية، ولتحقيقِ علمية التناول، تفادى إيزوتسو التأثّر بالأحكام القبْلية لأيّ موقف نظري للفلسفة الأخلاقية، وقد أعاد نشر الدراسة عام 1966 بعد أن أدخل عليها تعديلات، مستفيداً من إجاباته على الأسئلة الجدلية التي أثارتها الدراسة في الأروقة العلمية داخل معهد كيو، ومعهد الدّراسات الإسلاميّة في جامعة مكل، وحمل الإصدار الجديد عنوان "المفاهيم الأخلاقية الدينية في القرآن" "Ethico- Religious Concepts in the Qur'an".

أصدر إيزوتسو" كتابه الثاني بالإنكليزية عام 1964 بعنوان: "الله والإنسان في القرآن: دراسة دلالية لنظرة القرآن إلى العالم"، "  GOD AND MAN IN THE KORAN: Semantics of the koranic weltanschauung"، طبعه معهد جامعة كيو للدراسات الثقافية واللغوية بطوكيو، الذي أصدر كتابه الثالث عام 1965، "مفهوم الإيمان في عِلم الكلام الإسلاميّ ـ تحليل دلاليّ للإيمان والإسلام THE CONCEPT OF BELIEF IN ISLAMIC THEOLOGY – A SEMANTIC ANALYSIS OF IMĀN AND ISLAM ، الذي أثار هو الآخر جدلاً علمياً تبعه تنقيح لمضمونه وإعادة نشره في نسخة جديدة عام 1966، وهذا ما أثنى عليه "إيزوتسو" بقوله: "أسهموا في جعلي أستوضح أفكاري أكثر بأسئلتهم الحيوية وتعليقاتهم القيّمة"، وهذا يُؤكد أنّ دراسات "إيزوتسو" لا تُعبّر عن رُؤية بحثية فردية، وإنما تعكس تصوّراً بحثياً جمعياً.

ولا تدخل جهود الباحثين اليابانيين في إطار الدراسات الاستشراقية بما يحمله بعضُها من مواقف سلبية، فالمستعربون اليابانيون أنفسهم لا يُفضلون نعت دراساتهم بالدراسات الاستشراقية، ويستبدلون بها مصطلح "الدراسات العربية في اليابان"، وينظرون إلى نتاجهم الفكري بوصفه قراءة شرقية مستقلة ومنفصلة عن القراءة الغربية الاستشراقية، كما تُؤكد المدرسة اليابانية احترامها لمصادر التراث الإسلامي سيما كتب التفاسير المعتمدة، وتُشيد باللغة العربية كإحدى اللغات المعروفة عالمياً، التي تمتلك معاجم لغوية ونظاماً نحوياً دقيقاً استفادت منه في درسها الدلالي، إلا أنّها لا ترى خصوصية وتميزاً للغة العربية؛ إذ اعتبرت مجيء القرآن الكريم بها يرجع إلى كونه أنزل على العرب.

اعتمدت الدراسات العربية في اليابان على تطبيق منهج التحليل الدلالي أو المفهومي لمواد مستمدة من المعجم القرآني، فعملها له وجه منهجي يُمثّله علم الدلالة، ووجه تطبيقي ميدانه القرآن الكريم، بعبارة أخرى عملُها دراسة دلالية للقرآن الكريم تقوم على تحليل للمفاهيم المفتاحية في القرآن الكريم، وهي عدد معيّن من الكلمات ذات الأهمية الخاصة، فالكلمات ليست ذات قيمة متساوية في تشكيل البنية الأساسية للتصور الأونطولوجي ليس من الناحية اللغوية فحسب، بل من جهة التاريخ الثقافي للعرب، فمثلاً كلمة قرطاس لا تُسهم في تمييز الرؤية القرآنية الكلية للكون إذا قُورنت بكلمة شاعر، وستُصبح كلمة شاعر ذات أهمية ضئيلة إذا قُورنت بكلمة "نبي"، فكلمات مثل "الله"، "إسلام"، "إيمان"، "كافر"، "نبي"، "رسول" تُؤدي دوراً حاسماً وحقيقياً في تشكيل البنية المفهومية للرؤية القرآنية للعالم، وهذا ما يجعلها كلمات ذات مفاهيم مفتاحية في القرآن الكريم، تُقدّم مقاربة لمسألة العلاقة الشخصية بين الله تعالى والإنسان في الرؤية القرآنية للعالم.

والتحليل الدلالي من منظور اليابانيين ليس تحليلاً آلياً للكلمات المفتاحية، معزولة من حيث هي وحدات جامدة، بل يتعرف على استمعالها الحيّ ومعناها السياقي كما استعملها القرآن الكريم، وجاءت في لغة العرب قبل الإسلام؛ فالكلمة في حقيقتها ظاهرة اجتماعية ثقافية معقّدة، "فكل الكلمات، وبلا استثناء، تتلون قليلاً أو كثيراً بطابع مميز خاص يتأتّي من البنية الخاصة للوسط الذي تُوجد فيه".

ومن أهم ما يُميّز دراسات المدرسة اليابانية للقرآن الكريم هو اعتمادها المباشر على اللغة العربية في دراسة المفاهيم القرآنية، ودقة وعلمية لغة التناول، والعقلانية والموضوعية والابتعاد عن التعقيد في العرض، والتركيز على دور اللغة في تشكيل رؤية الإنسان لعالمه من خلال إعادة تنظيم المفاهيم القديمة والمستحدثة وإدخالها في أنساق جديدة يترتب عليها فهم جديد للعالم، ودور الإنسان فيه، وتعاطيها مع الثقافة العربية الإسلامية كوِحْدة مُتماسكة متشعبة في التفسير وعلم الكلام والفلسفة الإسلامية واللغة العربية والأدب العربي القديم، وتحليل مظاهر الحضارة العربية والإسلامية ودراستها بعناية، وكذلك التفاعل مع منهجيات الثقافة الغربية الحديثة دون أن تجمد عندها، فاستفادت من مناهجها العلمية المتنوعة، بعد أن عدّلتها وطوّرت منها بخلافنا، فما نزال ما بين منبهر متجمد أمام المنهجية الغربية، ومتجمد عاجز عن الانفصال عن مناهج القدامى ينظر إلى القرآن بعيونهم، ووفق مناهجهم فحسب.

فممّا يُؤسف له أنّ الدراسات اليابانية حول القرآن الكريم لم تلقَ اهتماماً لدى المسلمين إلا متأخراً فنشرت مؤسسة "الكتاب الإسلامي في ماليزيا" "Islamic Book Trust" ثلاثة منها باللغة الإنجليزية 2002، وتأخرت الجامعات والمراكز العربية في ترجمة الدراسات اليابانية أربعين عاماً فترجم منها الدكتور عيسى علي العاكوب ثلاثة كتب من الإنجليزية إلى العربية، خلال عامي 2007، 2008 صدرت تباعاً عن دار المُلتقى، وصدرت ترجمة ثانية لكتاب "الله والإنسان في القرآن، علم دلالة الرؤية القرآنية للعالم" عن المنظمة العربية للترجمة عام 2007، أعدّها الدكتور هلال محمد الجهاد، لكن هذا لا ينفي أن بعض المفكرين البارزين تواصلوا معها في نسختها الإنجليزية مثل د.نصر حامد أبو زيد الذي تأثّر في دراسته "العالم بوصفه علامة" التي نشرها في منتصف التسعينات بمنهجية "إيزوتسو".

مضى نصف قرن على محاولة اليابانيين بناء تصور حول الرؤية القرآنية للعالم في ضوء المنهجية الدلالية وما تزال الدراسات العربية تُواجه قصوراً في هذا الجانب، فمن المؤسف أنّ علاقة العقل العربي بالمنهجية اليابانية في دراسة القرآن الكريم اقتصرت على مواقف الإعجاب والتقدير أو الانتقاص والتحذير دون التعمق في دراستها والاستفادة من آلياتها، أضف إلى ذلك واقع الدراسات التي كتبت حول علم الدلالة، فكثير منها يفتقر إلى الدقة والاتساق والتناغم، ولعلّ ذلك يعود إلى "الطبيعة المعقّدة لعلم الدلالة التي تجعل من الصعب تماماً على غير المختص إن لم يكن مستحيلاً أن يأخذ ولو فكرة عامّة عن ماهيته. وهذا يعود بشكل عام إلى حقيقة أنّ "علم الدلالة" (Semantics) كما يُوحي الأصل الاشتقاقي الدقيق للمصطلح، علم يُعنى بظاهرة "المعنى" بأوسع معاني الكلمة، وهو واسع في الحقيقة إلى درجة أنّ كلّ شيء تقريباً مما يُمكن اعتباره ذا معنى - أيّ معنى، سيكون مؤهلاً تماماً لأن يُصبح موضوعاً لعلم الدلالة".

أخيراً دراسات اليابانيين حول القرآن الكريم أثارت أسئلة كثيرة، وفتحت الأعين على منجزات علم اللغة الحديث بكل فروعه ومنهجياته التي سيؤدي حتماً تطبيقها على القرآن الكريم؛ إلى نتائج مُثمرة، فما قدّمه اليابانيون يحتاج إلى استجابات من الباحثين العرب المهتمين بتطبيق مناهج الدَرْس اللُّغوي الحديث في دراسة القرآن الكريم، فرغم أهمية ما قدمته المدرسة اليابانية إلا أنّها بدايات منهجية لرؤية علمية قابلة للتنمية والتطوير والتمهيد لدراسات قرآنية دلالية أكثر عمقاً.

***

د. عبد الباسط سلامة هيكل - كاتب مصري

 13/02/2025

 ..............................

المقال منشور في موقع حفريات أيضا

 

حين تمكن الفيلسوف الألماني (كارل ماركس) من إعادة موضعة المنهج (الجدلي) المؤمثل، وذلك بجعله يقف على قدمية بعد أن كان قائما "على رأسه. كان قد حقق نقله ثورية في عالم الفكر وقوانين المنطق، ليس لأنه (فضّل) الواقع على الفكرة على عكس ما كان ينظّر له أستاذه ومثاله (هيجل) في طروحاته، التي مضمونها أن الفكرة هي التي تقود الوقع وهي التي تتحكم بسيروراته وتحدد مساراته فحسب. وإنما أعاد صياغة العلاقة القائمة ما بين الأول والثانية بصورة جذرية، بحيث أنها لا تقوم على أساس (الأسبقية) في الوجود و(أفضلية) التأثير في الوعي، والتي كان من شأنها الإفضاء الى الفصل التعسفي بين كلا المعطيين الجدليين، بقدر ما تتمأسس على نمط من البنى (التركيبية - التفاعلية) التي من خصائصها استدعاء عناصر كل من الواقع والفكرة معا"، في حال تحديد طبيعة ظاهرة من الظواهر أو تعيين واقعة من الوقائع، ومن ثم بيان السيرورات التي ستتفاعل وستتمفصل في أتونها خلال ديناميات التطور. 

وفي إطار البحوث والدراسات التي تهتم بهذا الشأن من المواضيع السوسيولوجية، فقد ذهبت آراء الكتاب والباحثين مذاهب شتى بخصوص تحديد العامل / العنصر المسؤول عن صيرورة أو تشكيل ظاهرة من الظواهر الاجتماعية والإنسانية، لاسيما على صعيد الأولوية أو الأفضلية التي يتمتع بها هذا العامل أو ذاك مقارنة ببقية العوامل الأخرى. والحال، انه قلما أصاب هؤلاء وأولئك في تشخيص العامل / العنصر الذي هو بمثابة المحور الذي ترتكز عليه الظاهرة والمعنية وتدور في فلكه، ذلك لأنه – ببساطة - لا وجود لمثل هكذا عامل يستطيع - لوحده - تفعيل ديناميات الظاهرة المقصودة أو توجيه مسارها. وإنما يتوجب على كل باحث مراعاة حقيقة سوسيولوجية غاية في الأهمية مفادها؛ ان أية ظاهرة اجتماعية / إنسانية هي حصيلة تضافر عوامل عديدة ومتنوعة، سمتها الأساسية التفاعل البنيوي والتخادم الوظيفي. قد نلاحظ - في إطار السيرورة الإجمالية - أن هذا العامل / العنصر يتقدم على نظرائه في سياق تاريخي معين، إلاّ انه في سياق آخر يتخلى عن مركزه المتصدر لعامل / عنصر ثان كان يشغل مراتب ثانوية في تلك السيرورة، وهكذا دواليك. ولكن في المحصلة النهائية تبقى الظاهرة الاجتماعية / الإنسانية مدينة بصيرورتها لجميع العوامل، حتى ولو كان دورها ثانوي وإسهامها نسبي.

وفي خضم هذه التباينات في الرؤى والتصورات التي يبدو أنها لم ولن تحسم، طالما كان الهاجس (الإيديولوجي) هو من يقود مواقف الكتاب والباحثين مثلما يؤطر توجهاتهم ويحدد خياراتهم، فقد تم تجاهل حقيقة سوسيولوجية أخرى تتعلق بالكيفية التي تتفاعل بموجبها عناصر الظاهرة الاجتماعية / الإنسانية، ومن ثم تتشكل ملامحها وتتبلور طبيعتها. فعلى خلفية سيادة الإيديولوجيات الليبرالية والراديكالية والطوباوية، تناسى القوم ان طبيعة وحراك الواقع الاجتماعي يختلفان جذريا" عن ماهية وتطور النماذج الفكرية التي يحملها هذا الكاتب / الباحث أو ذاك، الأمر الذي يتطلب تجريد الظاهرة المراد دراستها من كل ما ينسب إليها من تصورات ومسبقات لا تمت إليها بصلة، أو تفسير دورها ووظيفتها بما لا يتناسب وطبيعة الخلفيات والمرجعيات التي استوجبت حضورها في الوعي ووجودها في الواقع.

ولعل من أهم الأمور التي ينبغي أخذها بنظر الاعتبار حين نعتزم دراسة الظاهرة دراسة علمية وموضوعية، هي البدء بحقيقة أن الجدليات السوسيولوجية التي تتفاعل مكوناتها على أرض الواقع، لا تجري وفقا "لمخطط جرى إعداده مسبقا"، أو بناء على تسلسل تم ترتيبه من قبل، بحيث لن يكون هناك ما يحرجنا عندما نلجأ (للمفاضلة) بين هذا المكون أو ذاك، هذا العامل أو ذاك. كأن نفترض ان العامل (السياسي) هو ما يحدد طبيعة الظاهرة المعنية ويسبغ عليها قيمه، أو أن نرشح العامل (الاقتصادي) كفاعل أساسي في كينونة تلك الظاهرة وما يتمخض عنها من معطيات، أو أن نختار العامل (الديني) كمؤشر لمعرفة خصائصها النوعية وأنماط تداعياتها الاجتماعية والثقافية، الخ.

وبضوء ما كشفت عنه البراديغماتيات والمنهجيات المعاصرة، بصدد تكوين الظواهر الاجتماعية والإنسانية وبيان ديناميات اشتغالها وأنماط تفاعلها وسياقات تمفصلها، فقد تبين أن القاعدة الأساسية التي ترتكز عليها تلك الظواهر، والتي يجب مراعاتها دائما"مع كل خطوة نخطوها في مسار البحث أو الدراسة ؛ وهي أنها تقوم على مبدأ (التركيب) التفاعلي ليس فقط بين (العوامل) المسؤولة عن صيرورة ظاهرة من الظواهر فحسب، بل وكذلك بين (الظواهر) ذاتها من حيث موقعها في البنية الاجتماعية، ووظيفتها في النسق الثقافي، ودورها في السياق التاريخي، وتأثيرها في المهاد السيكولوجي. وإذا ما أخذنا كل هذه الأمور بنظر الاعتبار، واحتكمنا إليها في استخلاص الاستنتاجات، سنجد انه لم تعد أمامنا مغاليق سوسيولوجية يصعب فتحها، أو عوائق فكرية يتعذر تخطيها.

***

ثامر عباس – باحث عراقي 

  

مقدمة: نعي جميعا أن حاضر ومستقبل العالم يصور رؤيتين متباينتين من حيث الخلفيات والأساليب، إلا أنهما تشتركان في قدرة التأثير على الأحداث العالمية من خلال خططهما الاستراتيجية لإدارة القوة والنفوذ. مثل هذه الرؤى الطموحة تبدو وكأنها موجهة نحو تحقيق التقدم والتغيير، لكن النظر إلى ذلك بشكل أعمق يكشف نوايا أقل إشراقا وأكثر تركيزا على السيطرة والنفوذ. هاتان الرؤيتان وإن اختلفتا في أساليبهما إلا أنهما تشتركان في رغبة لفرض السيطرة على العالم حتى لو كان ذلك على حساب المصالح العامة أو الحقوق الفردية.

1) الرؤية الأولى: الطموح التكنولوجي والهيمنة الاقتصادية

تُعرف الرؤية الأولى بقدرها الكبير من الطموح وتجاوز الحدود التقليدية للسياسة، فهي تعتبر العالم كسوق ضخم يمكن استغلاله لتحقيق الإبداع والتقدم التكنولوجي. بالنسبة لهذه الرؤية فإن المستقبل يكمن في دمج الإنسان مع التكنولوجيا لتحويل طريقة حياته بشكل جذري، وفي الأخير بناء إمبراطورية تكنولوجية تهدف إلى تغيير وجه الاقتصاد العالمي. تعمل هذه الرؤية على توسيع نطاق نفوذها من خلال الاستثمار في مجالات مثل الفضاء، الطاقة النظيفة، والنقل السريع، وتؤمن بأن الحلول للتغلب على المشاكل العالمية تكمن في الابتكار وليس فقط في السياسة، من تم تتميز بالجرأة والمخاطرة وخلق ثقافة جديدة قائمة على الكفاءة والإنتاجية.

هذا مجرد "ادعاء" ... فعلى الرغم من أن ذلك قد يبدو مستقبليا ومثيرا إلا أنه يخفي رغبة (واضحة) في الهيمنة على الأسواق العالمية والاستحواذ على الموارد التقنية. وذلك من خلال: (السعي إلى جمع بيانات هائلة عن الأفراد والمجتمعات بغرض التأثير على السلوك الإنساني، استخدام التكنولوجيا كأداة للسيطرة إذ يمكن أن تصبح المجتمعات معتمدة بشكل كامل على منتجاتها وخدماتها من تم جعلها رهينة لقرارات هذه الرؤية، العمل على بناء شبكة ضخمة من الشركات والمشاريع التي تهيمن على مجالات حيوية كالذكاء الاصطناعي والفضاء والطاقة). بالنتيجة يؤدي هذا النهج إلى تقليل التنوع الاقتصادي والتكنولوجي عندما تصبح الشركات الصغيرة والمتوسطة غير قادرة على المنافسة، ويؤدي الاستخدام المفرط للتكنولوجيا إلى تآكل الخصوصية وتقويض الحريات الشخصية، كما يتم خلق حالة من عدم المساواة حينما تتمركز الثروة والقوة في أيدي قلة قليلة.

2) الرؤية الثانية: القومية والسيطرة السياسية والعسكرية

في المقابل هناك رؤية أخرى تتخذ من السياسة أداة لتحقيق أهدافها، وتؤمن بأن الأولوية يجب أن تكون فقط لصالح أقوى بلد في العالم الذي يرى أن القوة الاقتصادية والعسكرية هي الأساس لتحقيق الاستقرار العالمي. تركز هذه الرؤية على تعزيز القوة من خلال سياسات تهدف إلى زيادة الإنتاج المحلي لذلك البلد القوي وتقليل الاعتماد على الأسواق العالمية، وتسعى إلى إعادة تشكيل النظام الدولي بما يتماشى مع مصالحها، حتى لو كان ذلك على حساب العلاقات الدولية، وتدعي الدفاع عن حقوق المواطنين ضد ما تسميهم بالأعداء الخارجيين.

هذا بعينه "اعتداء".. فما تتميز به هذه الرؤية يؤدي إلى زعزعة الاستقرار العالمي من خلال زيادة التوترات وخلق بيئة من عدم الثقة بين الدول مما يجعل التعاون الدولي أكثر صعوبة، بالإضافة إلى تهميش حقوق الإنسان والحريات الديمقراطية بإضعاف الشفافية والمساواة، واستخدام اللغة المباشرة والقوية والأساليب الاستقطابية للأنصار، كما تركز على تحقيق نجاحات سريعة ومرئية لتثبت للعالم مدى قوتها، واستخدام الخطاب الشعبوي لتعزيز الولاء في حين تعمد على تطبيق سياسات الانقسام والعزلة على المستوى الدولي.

خاتمة:

يبدو جليا أن في الرؤية الأولى ادعاء بالتقدم وفي الثانية اعتداء مباشر وكلاهما لا يبشر بخير. في نهاية المطاف يبقى السؤال المهم: أي هاتين الرؤيتين ستكون الأكثر تأثيرا على مستقبل العالم؟ وهل ستتحقق غايتهما المتمثلة في الاتحاد من أجل السيطرة على كل الدول؟ الإجابة ليست واضحة في الوقت الحالي، لكن ما هو مؤكد أن العالم سيظل مراقبا لهاتين الرؤيتين أو بالأحرى "الشخصيتين" ومدى تأثيرهما على مجريات الأحداث في العالم وقضايا السلام بين الدول.

***

بقلم: الدكتورة بورزيق خيرة

أستاذة جامعية، محامية ومتخصصة في مجال المسؤولية الاجتماعية / الجزائر

 

(ما مدى قدرتنا على تصور مستقبل جماعي يتجاوز الإمكانيات الرهيبة للحاضر؟)... جاك دريدا.

(كل عام ينقضي يأخذ معه جزءًا منا، وتظل الذكريات المفقودة تلاحقنا، وكأننا نعيش في غياهب الحنين، حيث لا شيء يعود كما كان)... محمود درويش.

من البدهي أن تكون عملية الاتصال والوصول في مجتمع الشبكة اليوم، فارقة ثقافية اجتماعية موقوتة، تعيش مرحلة التعايش الحذر، أو ما يسمى ب"مرحلة الكتلة الحرجة"، أولا لأنها انخلقت من عوائد تقليدية نمطية، ليست لها جذور إعلامية ذات أسس أخلاقية ومهنية متينة، وثانيا لأنها انبرت عن فواعل نخبوية محدودة، تشكل كتلة النخب المعلوماتية والثقافية والاجتماعية جزءا من مكوناتها.

من هذا المنطلق، كان الوصول إلى الشبكة بكفاياتها المحدودة والمنمطة، يشغر جانبا من الفهم لا يتعدى المسلكيات الأولية للاتصال، ما جعل من مسألة التوجيه والامتداد في المجتمع يأخذ منعطفا محذورا في انتشار المعلومات وضبطها واستيعابها.

وفي بؤرة تطور المجال واختراقه لحواجز البث التكنولوجي والانتشار المتسارع للشبكات الإعلامية والثقافية والاجتماعية، صارت الأغلبية المتأخرة متساوقة ومتطلبات العصر الجديد، وصار من السهل الحكم على الانتشار إياه، يأخذ أبعادا، خصوصا في بنية اقتصاد الهواتف المتنقلة، التي أضحت تغزو العالم الثالث بشكل مخيف، يسائل مصير قلقنا المشروع حيال بروز مشكلات "عدم المساواة البنيوية في مجتمع الشبكة".

وصورة عكسية متباينة، حيث يعيش مجتمع الرفاهية في العالم الآخر، وضعا أقل توجسا وتعاندا، حيث تنحصر استعمالات الشبكة في الحدود المعقولة للترفيه والتسلية وملء الوقت الشائط، رغم امتلاكها لأدوات الترديد والتعبئة، حيث إن عددا منها يعيش عبر مسافات نائية على إيقاع استخدام علاقاته وفق أساليب الحياة المتنقلة، وبمهارات تتقاطع فيها درجات التعلق والتفاعل والاكتراث.

صحيح أن الفضاءين، يتخلفان في معايير مركزية تحليل مثل هذه الظواهر، فنوازع تبيين الشبكة في الأولى غيرها في الثانية، وهما معا يشكلان علامات استقطاب وتداخل كبيرين، ويحيلان على مديات تنظيمية وقيمية متقاطعة، كما هو الشأن بالنسبة لقياس درجات الاحتكار والقابلية، ووقوعهما ضمن مفاهيم معقدة في "الاقتصاديات الرأسمالية" مثلا، والتي تحتاج منا وقفة ليس هذا وقتها.

ولعل أكثر التحليلات معقولية وتجردا، ما ذهبت إليه نظرية تأثير قانون القوة (تأثير ماثيو)، التي تشير إلى أن "التوزيع الذي يوجد به عدد صغير من الجهات الفاعلة التي لها روابط قليلة فقط، غير متكافئ يزداد عادة في الشبكات، ما يزيد الأثرياء ثراء".

ومن الإنصاف ها هنا إعادة تجسيد مقولة ابن خلدون التي تشير إلى أن أطوار البناء البشري تقوم على أضلع خمسة بثلاثة أجيال فقط، فالجيل الأول يقوم بعملية البناء والعناية، والجيل الثاني يسير على خطا الجيل الأول من التقليد وعدم الحيد، أما الجيل الأخير فيمكن تسميته بالجيل الهادم، في تقاطعها مع (تأثير ماثيو)، مع التمييز المنهجي لمفهوم "الجيلية" وعلاماتها واستتباعاتها في بنية المجتمع القديم والحديث.

لكن، وبإزاء هذه التدافعية الفكرية بين ماثيو وابن خلدون، ثمة ما يؤسس طفرة الوثوقية الجديدة في العالم التكنولوجي، الذي يجعل من التأثير قوة قاهرة لاستدامة التقليد وإنعاش الهدم الحضاري والثقافي على حساب تخلف العقل وتداعيه. فالبناء والعناية الماضيين، ينحرفان تحت واقع (التأثير) الاستبدالي المراوح لقوة التكنولوجيا والاقتصاد والإعلام، وهيمنة السياسات الرقمية المدعومة من أجهزة التجسس والعسكرة والسلاح.

فهل تشحن ثقافة الشبكية الجديدة، أنفاق الشك غير المستقرة، والمتناقضة أحيانا، كأمور مسلم بها، بعبارة دريدا؟ أم أن عالما آخر، أكثر عدوانية من ثقافة الترحال الافتراضي، سيتشكل بإيقاعات فتاكة ومروعة، ستحيل الصداقة الإنسانية والتعايش الكوني، إلى كابوس "فناء الروح" و"موت الرحمة" ؟.

***

د مصـطـــفَى غَـــلْمَــان

الدلالة، الرمز والاستعارة

على الرغم من المواقف السلبية للّسانيات التوليدية من الفلسفة السيميائية، إلا أن الأخيرة تبقى علامة فارقة في تاريخ التفلسف حول اللغة، لأنها أسهبت في مناقشة الموضوعات الرئيسة لفلسفة اللغة (العلامة، الدلالة، الاستعارة، الرمز). فضلاً عن كون (العلامة) تشكّل أهمَّ القضايا الفلسفية التي طرحها العقل الإنساني، فهي شيء مادي محسوس، ولكنها ترتبط في نفس الوقت بالدلالة من حيث أنها تصور ذهني لأشياء موجودة في العالم الخارجي. على أن مفهوم (العلامة)، ليس وقفاً على اللسانيات، وإنما يضرب بجذوره في تاريخ التفكير الفلسفي بجميع مشاربه الثقافية.

ويُعدُّ الفيلسوف الإيطالي (أمبرتو إيكو)، من أكثر المهتمين والمؤسسين لـ(السيمياء)، ففي كتابه عن السيميائية وفلسفة اللغة، يرى أن إدراك الأشياء بأنها علامات يحيل المرء إلى ممارسة فلسفية لا محالة، باعتبار أن الفلسفة تأمل في واقع، وهذا الأخير لا يدرك إلا بواسطة علامات تعد وسيطاً بين الواقع المادي والعوالم الميتافيزيقية؛ وهو ينظر، تحديداً في كتابه (العلامة-تحليل المفهوم وتاريخيه) إلى العلامة بأنها: المادة الإنسانية التي يستعملها من أجل التواصل مع الكائنات الأخرى. أو هي أداة لتنظيم التجربة الإنسانية، مرتبطة بكل الأشياء، وفي حدود أن كل الأشياء يمثل أما جوهراً كونياً وأما فردياً خالصاً. وهي كل ما يحمل مفهوماً محدداً عن موضوع في أي شكل من الأشكال بمقدارها تكون حاملة للفكرة المألوفة لنا، والتي بواسطتها تتركب الموضوعات وتتفكك باستمرار، وهي ذلك الشيء الذي ينفتح دائماً على شيء آخر.

ولا يمكن الحديث عن (العلامة/السيمياء) ما لم يتم الحديث عن (الدلالة)، باعتبار الأخير إحدى المفاهيم المركزية التي تنظم النشاط السيميائي. ولها معانٍ عدة، لا تخرج عن كونها تشير إلى المعنى، فهي علم المعنى، أو علم معاني الكلمات، وهي –بحسب جيرار دولودال- ذلك العلم الذي يدرس المعنى؛ أو ذلك العلم الذي يدرس الشروط الواجب توافرها في الرمز، حتى يصبح قادراً على حمل المعنى.

ويرى (إيكو) في الدلالة، المكوّن الثانوي للعلامة، وهي ليست إلا حصيلة تفاعل مجموع تلك المكونات التي تمتلك طبيعة الفكرة، وبالتالي يقترح (إيكو) تقييد الدلالة ضمن حدود (المؤول) ومراعاة الدلالة داخل فعل العلامة، وحيث يجد فعل العلامة في العالم الداخلي والخارجي مجالاً للممارسة التي تفصل بين دلالات الرمز ومعاني العلامات على التوالي، وبهذا تتحقق التفكيكية للمدلول المتعالي، على أن تبقى الدلالة بهذا مرادفة لـ(المؤول) العام للعلامة، كل ذلك قد لا يناقض حقيقة وجود دلالة أولية إدراكية كانت أو سلوكية، تتبلور عنها الدلالات المفتوحة شيئاً فشيئاً.

ويحدّها (أيكو) بعدة تعريفات توضيحية، منها: ما هي قابلة للتأويل، أو هي التي تحدد على أكثر تقدير المكان الذي يمكن أن يحتله الحساب الاستعاري. وهي سيرورة في المقام الأول، دالة لوجود علاقات فيما بينها؛ وهي مستويات في المقام الثاني، لأنها محكومة في وجودها بالسياقات التي تخلقها هذه الممارسة. وهي تمر عبر النصوص التي هي الموضع المُولَد منه المعنى، ويولَد فيه الممارسة الدلالية.

أما الرمز، في ترسانة الفكر السيميائي، فهو تجسيد رابط دلالي بين عنصرين، وهو كلمة تمثل شيئاً بموجبه علاقة تقاربية، وهو من طبيعة أيقونية تصويرية، وإن مشاركة الوعي في هذا العالم لا تتم إلا من خلال الرموز التي تحدد عمق إنسانية الإنسان؛ وهو التصور الذي تحتضنه المقاربة السيميائية. ولقد كان اهتمام (إيكو) واضحاً بالرمز والرمزية، ويتضح ذلك جلياً في تخصيصه باباً حول الصيغة الرمزية في كتاب (السيميائية وفلسفة اللغة)، وقدّم من خلاله الرمز في مختلف آفاقه، ويعتبر (أيكو) الرمزية سيميائية. فيقول (إيكو): إن الإنسان لا يستطيع التفكير إلا بواسطة الكلمات، أو رموز أخرى خارجة عنه، فكذلك تستطيع هذه الرموز أن تردد له قائلة: "إنك لن تستطيع أن تقول شيئاً ما لم تكن قد لقناك إياها، ولا تستطيع أن تنتج دلالة إلا بمقدار قدرتك على تعبئة كلمة هي بمثابة مؤول لفكرك. وقبل كل شيء-بحسب إيكو-  توجد هناك نظريات تماثل فضاء الرمز مع الفضاء الذي نسمعه اليوم، على أن يُعرف بـ(السيميائية).

ويؤكد (الزواوي بغورة) في كتابه عن (العلامة والرمز في الفلسفة المعاصرة) على أن الرمز عند (إيكو) هو صفة العلامة ذات التكوين الصعب، بحيث أن أي تحويل في الطبيعة الشكلية للرمز قد يؤدي إلى تحوير في مدلوله، ومن ثم فإن كل رمز هو علامة توحي بمعنى غير مباشر ومتخيل؛ لذلك يذهب البعض إلى أن الرمز هو انفصال عن الواقع، وليست الدلالة وطرق إنتاجها وسبل تداولها سوى حصيلة حركة ترميزية قادت الإنسان إلى التخلص من عبء الأشياء والتجارب والزمان، ليخلف أشكالاً هي أداته في إدراك الكون.

إلّا أن الرمز لا يكون-بالضرورة- طريقة إنتاج، لكنه في جميع الأحوال طريقة استعمال النص، ويمكن تطبيقه على أي نص وعلى أي نوع من العلامة، بمقتضى قرار تداولي، ويحدث على مستوى الدلالة وظيفة سيميائية جديدة، تضيف إلى عبارات ذات مضمون تسنن أجزاء جديدة من المضمون، لم يحددها المتلقي تماماً، ولم يضعها، وتكمن خصوصية الرمز-كما يحددها إيكو في السيميائية- في أنه إذا ما عدّلنا في تطبيقه، فإن النص يحتفظ بمعنى مستقل على المستوى الحرفي والمجازي والبلاغي.

وتتميز السيميائية بحديث (أمبرتو إيكو) عن نظام (الاستعارة)، كونها تشكّل المفصل الأساس في الحديث عن العلامة، ويشترط (إيكو) في الناطق بالاستعارة أن يكون واعياً بالمعنى الحرفي، حتى يتمكن من الإمساك بالمعنى الاستعاري، خاصة إذا تعلق الأمر بتلك الاستعارات المشتركة في الاستعمال.

ويميز (إيكو) بين الاستعارة المغلقة والاستعارة المفتوحة، إذ تفتقر الأولى لطاقة معرفية، في حين توفر الثانية معرفة واسعة بإمكانات السيمياء في قدرتها على الإحالة، من هنا يبدو سعي (إيكو) في انتقائه للاستعارة التي تقود إلى إبداع دلالي، لا سيما تلك التي تغذي مقولة الانفتاح، لذا الاستعارة تجد اللامعقول في النص وتظهر المدلولات. ويُمكن إيجاز رؤية (أمبرتو إيكو) للاستعارة بالآتي: الاستعارة تستند إلى التأويل، ولا تعوض عبارات بعبارات أخرى، لأنها تضع تعبيرين، كلاهما حاضر، داخل النص. وتُنتج الاستعارة من خلال التفاعل بين المؤول والنص الاستعاري، إذ تأويل الاستعارة لا علاقة له بنوايا المتكلم، ذلك أن الدور الذي يلعبه المؤول في تأويل الاستعارة هو دور هام جداً، بحيث يستطيع أن يؤول محتوى أي ملفوظ استعاري بالطريقة التي يراها مناسبة، شريطة أن تسمح بذلك معارفه الموسوعية. كما وتلعب الاستعارة في قضية الخلق والتأويل، إذ بقدر ما يمكن الابتكار الاستعاري بقدر ما يؤدي إلى طرق العادات البلاغية السابقة، إذ من العسير ابتكار استعارة جديدة مستندة إلى قواعد معروفة. والاستعارة بمجرد ما تؤول فإنها تفرض علينا النظر إلى العالم بطريقة جديدة، ولكن من أجل تأويلها، علينا أن نتساءل كيف ولماذا ترينا العالم بهذه الطريقة الجديدة؟. ففهم الاستعارة شكلٌ لاحق لفهمنا. وأخيراً، تُعدُّ الاستعارة حيلة تمكّن من الحديث مجازياً، فتبعاً لـ(ايكو)، لا يمكن الحديث عن الاستعارة إلا استعارياً، إذ هي أداة معرفية، وهي التي تُمكننا من فهم أفضل السنن.

***

د. حيدر عبد السادة جودة

القول بأن عصر التقنية الرقمية هو عصر مادي، لا يعني انه عصر يرفض الجانب العاطفي والإبداعي في مجالات الفن والأدب والموسيقى، لكن المقلق في الأمر هو ان يعكس المثقف شعوره العاطفي على واقعه المادي، فبدلاً عن توظيف العاطفة والإبداع في تخفيف وتلطيف الجو المادي لطبيعة العصر، نراه يقلل من الشأن الوجداني للفن والأدب أو يعمل على إدخال العاطفة والخيال والإبداع في خط إنتاج السلعة من اجل مزيد من الأرباح المالية المدافة بحس ثقافي، ظهر هذا الشعور أو تلك الرغبة عند بعض المثقفين الذين أخذوا يقيّمون الإبداع الأدبي والفني وعموم الإنتاجات الثقافية في مجالات المعرفة الإنسانية المتنوعة، من خلال الأرباح المالية التي تحققها مبيعات الكتاب. من شأن هكذا نظرة مادية ان تقلل من فاعلية خط الإبداع لصالح خط الإتباع، فيحول المثقف مشروعه الثقافي الى مشروع خاضع لحاجة السوق لا لحاجة المجتمع، وهو بذلك يهدّد حرف السين في كلمة إنسانية بالرحيل عن الكلمة لتتحول الى أنانية.. إذا أصيبت الثقافة بهذا الوباء اعتل المناخ العام للمجتمع، وفي اعتلاله تستوي ردّة الفعل امام قصيدة كتبها شاعر من وحي خاطره، أو كتبها حاسوب ذكي من رصيد ابجدياته الرقمية فيقل حظ الحضور الإنساني الى حدّ التساوي أو التنافس مع الآلة الذكية في حركة الحياة اليومية.

من المشاكل التي تعانيها ثقافتنا اليوم ان بعضهم راح يقيّم حاضره على وفق ما كان عليه الماضي، فمال نفر منهم الى نقد الواقع لعدم مطابقته او لعدم تواصله مع الماضي. ومال نفر آخر الى استحضار الماضي في أنشطة الحاضر الثقافية. نفر ثالث نظر الى حاضره من خلال تجارب مجتمعات اخرى تميزت بالتفوق العلمي والتقدم الصناعي وراح يصوّر المشهد الحياتي على وفق ما يرجوه لواقعه، مع علمه باختلاف الطبيعة البشرية والطبيعة المكانية بين بيئته والبيئات الأخرى التي تأثر بها وأراد ان يرى واقعه من خلالها، لكنه مع علمه بهذا الإختلاف، فإنه لا يراه إختلافاً طبيعياً، بل يصفه بالتخلف في مجتمعات أمام مجتمعات أخرى متطورة.

ومن مشكلات الثقافة العربية المعاصرة انها لم تعمل على تقريب المسافة بين المثقف والمجتمع بإتجاه تمكين المجتمع ثقافياً، بل وجدت نفسها بحاجة الى تطويع ثقافة المثقف بحيث تكون في مستوى تقبل الناس في مشهد حياتي لا يكترث لوجود ثقافة هادفة بقدر إهتمامه بوجود مادة تغازل مشاعر المتلقي وتنال إعجابه، فأضحت العلاقة الإجتماعية في جو الثقافة، علاقة مجاملات  يظهرها بعضهم مع المثقف عبر مواقع التواصل الإجتماعي. انه امر لا يدعو الى القلق في هذه الحدود، لكن مشكلة بعضهم انهم أخذوا يعتمدون تلك المجاملات كمصادر قوة يستندون اليها في حركتهم كمثقفين حقيقيين في المجتمع، حتى إذا ما وجهت اليهم إنتقادات من مختصين لم تحملهم هذه الإنتقادات على مراجعة الذات وإنتقادها، بل حملتهم على إعتبار ما يوجه اليهم من نقد يندرج ضمن حرية الرأي التي عليهم تقبلها كمثقفين لهم رصيد من عبارات التفخيم والإعجابات التي تسببت في تعرض بعضهم الى الإصابة بتورم الذات.

من مشكلات ثقافتنا وبحكم هيمنة المشهد السياسي على الحياة العامة للمجتمع العربي لوقت طويل، اننا اعتدنا على ان القيم والمثل العليا والأخلاق متعلقة بالعلوم الإنسانية كالتراث والتاريخ والادب واللغة، ولم نتجاوز هذا الإعتقاد حتى بعد دخولنا عصر التقنية المتطورة، فوقعنا في مشكلة التوفيق بين ما ورثناه من منظومة قيم عظيمة، وبين ما تحاول آلة العصر فرضه كثقافة جديدة، فلو غادرنا فكرة الثقافة المقتصرة على الأدب والفن الى فكرة الثقافة المنفتحة على طبيعة حياة الناس لأمكننا ان ننقل منظومة القيم والمثل العليا التي تركها لنا الآباء والأجداد الى واقعنا التقني العلمي المتطور، فمن المؤكد ان لا تقاطع بين التوجه العلمي التقني وما يذهب اليه علم الإنسان..

عن الثقافة في العصور القديمة يمكننا القول ان ثقافة العرب كانت ثقافة إلهام، بينما كانت ثقافة الروم والفرس ثقافة إلمام. فالعرب في الجاهلية لم يكن لديهم علم قائم، بل كانوا يستنتجون الحكم والأمثال والضوابط من تجاربهم الحياتية، بينما كانت ثقافة الفرس والروم متعلقة بالتأمل وقراءة الكتب والدراسة..

 بعض مثقفي عصر العولمة وعصر التقنية والتغريب الثقافي  يصف الذين لا يزالون مرتبطين أو لا يزالون وثيقي الأرتباط بالتراث، بأنهم مرضى، لأنهم يطلبون من تراثهم ومن حضارتهم السابقة ومن كتب أسلافهم القديمة أن تجيبهم عن اسئلة افرزها واقعهم الحياتي الجديد..

في تقديري ان هؤلاء ليسوا مرضى، لأنهم لا يبحثون في الكتب القديمة عن أجوبة لأسئلة جديدة، بل هم يبحثون في الكتب القديمة عن الطرق التي كان يستخدمها أسلافهم في تعاملهم مع المتغيرات التي واجهتهم في ذلك الوقت .

هناك مثقف مع ثقافة الوضع الراهن، وليس مع ثقافة تغيير الوضع الراهن، لذا نجده يتحرك بنشاطه الثقافي من أجل ان يصبح على مقربة من أصحاب السلطة والنفوذ، أو ان يكون جزءأ من ثقافة السلطة السياسية.

اما المثقف الذي يريد من نشاطه الثقافي ان يسهم في تغيير الواقع للإرتقاء بالمجتمع الى ما ينبغي أن يكون عليه، فهو مثقف مثقل بالهم والعمل الفردي، يكتب لعدد محدود من القرّاء، يكتب وينشر ويطبع كتبه بجهده الذاتي، يوزع كتابه مجاناً في أغلب الأحيان، فلا تستضيفه ثقافة السلطة في إحدى مؤسساتها الثقافية ولا تكرّمه كما تفعل مع مثقفيها، وحتى إذا لجأ الى منصات التواصل الإجتماعي وأخذ ينشر أفكاره ومقالاته فلا تجد له من المتابعين بقدر عدد متابعي المثقف الرسمي.

لم يتفاعل رجل السياسة مع مشروع تمكين المجتمع ثقافياً خوفاً من ان يتسبب ذلك التمكين في توليد قوة دافعة في المجتمع تحرك الناس بإتجاه تغيير ذلك السياسي، لذلك اقتصرت اهتمامات رجل السياسة بالأنشطة الأدبية والفنية في مجال الثقافة، مما حرم الثقافة العربية من فرصة التطور بالرغم من كثرة مدارس الموسيقى والمكتبات الرسمية والمعارض الفنية.

كما ان رجل الدين لم يتفاعل مع تمكين المجتمع ثقافياً خوفاً على الدين مما تحتمله كلمة ثقافة من إنفتاح على الغرب خصوصاً بعد سنوات الإستعمار والإحتلال والبعثات الدراسية والسفر والعلاقات التجارية، لذا تركز إهتمام رجل الدين على التزام الطقوس الدينية وحث الناس عليها، فمداومة الإلتزام تورث التطبع والإعتياد، وفي هذا الإعتياد ما يبعث على إطمئنان رجل الدين من ديمومة حضور الدين في طقوسه وبسبب هذا القلق فقد تأخر تطور ثقافة المجتمع.

ولعل الناقد يلمح عند بعض المتحدثين في التجديد الثقافي وهم يناقشون دور الدين الحضاري في عصر التقنية، ان لديهم توجهات مدعومة، أو توجهات ملغومة، أو توجهات منضوية ضمن خط سير إنتاج المشاريع الإقتصادية الصناعية السياسية العالمية، ترمي الى تعويق أي محاولة لإعادة تشغيل خط إعادة إنتاج الحضارة. ويبدو لي ذلك من خلال طروحاتهم التي تتحدث عن إنقضاء ذلك الزمن الذي يسمح بتعدد الحضارات، ففي عصر الآلات الذكية لا مكان إلا لحضارة واحدة تندرج فيها كل الثقافات المختلفة، تلك الحضارة التي نجحت على مدى اربعة قرون تقريباً في الغرب، هي اليوم الحضارة الوحيدة التي يتم فيها تحديد السمات والصفات والمزايا لكل مجتمع حسب قوة استجابته وحسب قدرة استهلاكه وحسب طاقة استثماراته في النظام العالمي الجديد الذي يتجه نحو امركة العالم ثقافياً.

من المخاطر التي تواجهها ثقافتنا اليوم هو ظهور اشخاص يدعون مسؤوليتهم الكاملة عن صحة وعن دقة تصريحاتهم التي ينالون بها من قيم المجتمع، كونها تعيق التحاق الناس بركب العالم المتطور اليوم. يحدث هذا في وقت لم يعد فيه كثير من الناس يمتلكون من الصبر والحكمة ما يكفي لتدبر الأمر وإعطاء إحتمال أن يكون اولئك الأشخاص يتحدثون من واقع إنتماءاتهم لجهات داعمة هدفها إثارة روح الضجر والملل بدل روح الصبر والأمل.

ومن الصعوبات التي يواجهها المشروع الإنساني للثقافة في العالم العربي في عصر الآلات الذكية هي ان الثقافة لم تعد في نظر كثيرين تمثل ضرورة مثلما يرونها تمثل حاجة يكتمل بها مشهد الحياة الشكلي الإجتماعي. كما إن العلاقة بين المال والنجاح أصبحت أقوى في ظل التطور العلمي والتقني المتسارع من العلاقة بين الثقافة والنجاح، وأصبحت معادلة المال والنجاح تساوي السعادة، حيث المال يقود الى النجاح، والنجاح يحقق السعادة . ولم يعد مجدياً عند كثير من الناس، التفكير بالدخل الثقافي قدر إنشغالهم بالدخل المالي، خصوصاً وان مشاريع الإقتصاد العالمي نجحت من حيث فشلت مشاريع السياسة في حل كثير من مشاكل العالم في العقود الأخيرة، كما ان الشاشات الملونة وأزرار التحكم حفزت على التفكير في تحسين وتطوير وزيادة الدخل المالي على حساب الدخل الثقافي، بل اعتبرت الدخل الثقافي من نتائج تحقق الدخل المالي وليس العكس.

وصارت الثقافة العربية المعاصرة أمام تحدٍ خطير جداً قد يلقي بها الى رصيف الوجود البارد لحياة المجتمعات، يكمن هذا التحدي في ان الشباب العربي في عصر التطور التقني الرقمي والشاشات الملونة، لم يعد يملك مزيداُ من الوقت مع حاجة به شديدة الى الثقافة، وهنا يأتي دور المثقف في تقديم لائحة من الكتب العربية البارزة ذات الصلة بحاجة الشباب الى القراءة بما يتناسب مع الوقت القليل الذي يسمح به ظرف الحياة اليومي. فأي كتاب ستختار الثقافة اليوم؟ ومن سيحدد هذا الكتاب؟، لا شك انه تحدٍ خاسر، خصوصاً وان الثقافة نفسها لم تسلم من التسليع في خطوط انتاج شركات النظام العالمي الجديد.

ومن الصعوبات التي تواجهها ثقافتنا العربية اليوم هو ان ثقافة المجتمع العربي التقليدية قامت على فهم الأشياء والكلمات عن طريق العقيدة وليس عن طريق المعرفة. فالعربي يعطي معنى وتعريفاً للكلمة بناء على ما يتولد عنده من إحساس نحو تلك الكلمة وذاك الشيء، لذا قد تأتي أكثر هذه التعريفات بعيدة عن حقيقتها، ومما يجعل مهمة الثقافة في عصر التقنية مهمة معقدة هو ان اللغة لم تتطور في المجتمع العربي وهو ما يجعل دور اللغة في تطوير ثقافة المجتمع دوراً محدوداً، لأن فاعلية دور اللغة مرتبط بتطورها، ولأن هذا التطور لم يحدث بشكل يدعو الى توظيفها في خدمة مشروع تمكين المجتمع ثقافياً، لذلك تواجه الثقافة العربية المعاصرة مشكلة كبيرة تسببت في انحسارها واقتصارها على فئة من المثقفين، وكان ينبغي ان تكون  كل جغرافيا العالم العربي هي مساحة تحركها.

ومن تحديات الثقافة اليوم هو ان الضغط النفسي الشديد الذي يتعرض له الإنسان العربي بسبب ظروف الحياة المتقلبة والصعبة، خصوصاً ما يتعلق منها في تأمين الدخل اليومي ودخول الفقر في عصر الآلات الذكية مرحلة فقر الرفاهية.

لقد قيل في تشخيص الذين يمشون في منامهم ويرتكبون اخطاءً وربما يلحقون أضراراً بأنفسهم والآخرين دون وعي منهم، انهم واقعين تحت ضغوط حياتية عنيفة مكتومة في نفوسهم يمنعهم واقعهم او اوضاعهم الخاصة، وربما طبيعة المجتمع من التعبير عنها، لذلك تظهر آثار ذلك الغيظ المكتوم في النوم.

في واقعنا اليوم يرتكب كثيرون في يقظتهم ما يرتكبه النائم من أضرار خلال نومه فقد نجد كثيرين يرتكبون اخطاء فادحة فاضحة وربما جرائم، حتى إذا ما جوبهوا بها ووجهت لهم أصابع الإتهام والإدانة قالوا انهم لا يعلمون لماذا أو كيف فعلوا ما فعلوا، وهنا تبلغ مهمة الثقافة العربية المعاصرة درجة من الصعوبة البالغة في كيفية مداواة هذا الغيظ المكظوم في النفوس والمحبوس في الصدور.

تواجه الثقافة اليوم نمطاً غريباً من انماط الحياة بسبب وقوعها تحت ضغوطات كثيرة ومتنوعة تكاد ترهق المواطن اكثر مما كانت ضغوطات حياة الأمس، وليس السبب في ان اعتقاد الجيل السابق كان اصح من معرفة الجيل الحالي، وانما لأن اعتقاد الجيل السابق كوّن لهم فهماً مقبولاً متسقاً مع طبيعة حياتهم في ذلك الوقت، أما معرفة الجيل الحالي فلم تكوّن لهم فهماً واضحاً يتناغم مع طبيعة حياة اليوم، لذلك كثرت هموم ومشاغل ومشاكل أبناء جيل اليوم، وبالتالي ضغوطات الحياة عليه أكثر مما واجهه جيل الأمس فقد كان المفهوم المتشكل في أذهان الناس في السابق يستند الى قاعدة عقائدية فكانت مفاهيم القدر والرزق والسعادة والقناعة مستمدة من اعتقاد ديني هيء لهم مناخاً آمناً تتحرك في اجوائه حياتهم البسيطة الطيبة آنذاك، أما هذه الكلمات نفسها فإنها اليوم تأخذ عدّة مفاهيم إستناداً الى المعرفة التي يعتقدها كل شخص أو كل فئة، فلم يعد هناك فهم عام. بتعدد المفاهيم تتعدد الاجواء وبتعدد الاجواء إضطرب المناخ. وبوجود شبكة اتصالات بهذه المساحة الكبيرة التي يوفرها عصر التقنية الرقمية فقد تشعبت طرق البحث عن فهم عام وشامل للكلمات والأشياء، وبسبب هذا التشعب أو التنوع أو التعقيد بدت حياة اليوم غير مستقرة، وبدت حياة الأمس جميلة في أذهان وتصورات كثير ممن يعيشون دوامات الحياة اليومية وضغوطاتها.

لهذا السبب ظهرت المخدرات بشكل ملفت مع انها كانت موجودة في السابق لكنها لم تكن لتشغل الا مساحات ضيقة في بعض النفوس المنهارة، أما عامة الناس فقد كان الفهم العام للكلمات والأشياء يحفزهم على الصبر والقناعة والعمل.

من الصعوبات التي تواجهها ثقافتنا اليوم هي تأثير التقنية الرقمية في الخبرة الإنسانية تأثيراً يحمل العقل العربي المعاصر على إعادة تشكيل خبرته بعيداً عن الموروث الثقافي للدين، والموروث الثقافي للقيم بعدما ظهرت عليه علامات الشك بقدرة هذا الموروث الثقافي على معالجة مشاكل الفرد العادي ومواكبة مشاغله بكفاءة عالية، الأمر الذي انعكس سلباً على الثقة بالموروث الثقافي للدين كقوة فاعلة قادرة على تحريك عجلة الحياة اليومية كما تفعل ماكنة الإنتاج الرقمي الصناعي اليوم حول العالم.

هناك مشكلة اخرى وهي ان التطور العلمي التقني حول العالم يسير بسرعة أكبر من سرعة النضج النفسي للفرد، واكبر من التطور الجمعي للوعي. وتأتي حالة اللاتوافق او حالة اللاتوازن هذه لصالح ميكانيكية الآلة الرقمية على حساب ميكانيكية النفس والمشاعر.

يقول هـ. أ. أوفر ستريت في كتابه (العقل الناضج) في صفحة 222 (الإنسان الحديث يتميز عموماً بإحساس بالعجز في مجال السياسة، فهو لا يحس في نفسه القدرة أو الكفاية في هذا المجال. ولا يقتصر الأمر على ذلك وإنما يتعداه الى ميادين أخرى سادها هذا الإحساس بالعجز - من هذه الميادين ميدان العمل..).

من الصعوبات التي تواجهها ثقافتنا هي ان التصادم الذي كان يقع بين الأنبياء والسلاطين من أجل دعوة الناس الى توحيد الله ووحدة الإنسان، تحول اليوم الى مواجهة بين الجماهير والحكومات. فالجماهير تعيش عقيدة توحيد الله وتناضل في سبيل حرياتها وكراماتها.

أما الحكومات فقد دخلت على خط إعتقاد الجماهير ووظفت ذلك الإعتقاد لصالح عقيدة السلطة بقدرتها على احتواء عقيدة الجماهير وتسخيرها لمصلحة البقاء في المناصب والظفر بالمكاسب. واستمر هذا الصراع والتصادم حتى عندما دخلت العلاقة بين الجماهير والحكومات مرحلة صناديق الإقتراع مما نتج عنه تعقيداً في فهم أسباب تأخر المجتمع العربي. هل يكمن في المجتمع أم في السلطة أم في الدين؟.

***

عدي عدنان البلداوي

 

انتهت قبل يومين في باريس أعمال قمة الذكاء الاصطناعي التي شارك فيها ممثلون عن مئة دولة فضلاً عن المئات من ممثلي المنظمات الدولية والباحثين والشركات الكبرى، وبغض النظر عن هدف القمة بجعل الذكاء الاصطناعي في خدمة التقدم الاجتماعي والمصلحة العامة، فإنها تعبر من جانب آخر عن قلق عالمي تجاه تحديات البرامجيات الذكية التي قد لا تنافس العقل البشري فحسب، بل ربما تهدد بفناء البشر. فالمخاوف من سيطرة الآلة على الإنسان قديمة وتعود إلى ما قبل عصر الذكاء الاصطناعي الذي حولها من خيال علمي مجرد إلى واقع يفرض نفسه بقوة في عالمنا المعاصر.

في كتابه " أخلاقيات الذكاء الاصطناعي" يشير مارك كوكلبيرج أستاذ فلسفة الوسائط والتكنولوجيا بقسم الفلسفة في جامعة فيينا إلى ما يسميه "عقدة فرانكشتاين" وهي العقدة التي تحدث عنها كاتب الخيال العلمي أيزاك أسيموف لوصف خوف الإنسان من الروبوتات الذكية، ومن فكرة انفجار الذكاء الاصطناعي التي تعني أن ذكاء الآلة فائقة الذكاء سيصبح أقوى من كل الذكاء البشري مجتمعاً، وذلك يذكر برواية ماري شيلي زوجة الشاعر الانكليزي الشهير شيلي مبتدعة شخصية فرانكشتاين قبل أكثر من مائتي عام حيث يبتكر العالم فيكتور فرانكشتاين كائناً شبيهاً بالإنسان من أجزاء الجثث، لكنه يفقد السيطرة عليه، وهذا ما يُخشى أن يكون عليه مصير الإنسان الذي سيفقد السيطرة على الذكاء الاصطناعي يوما ما، بل أن عالم المستقبليات الأميركي راي كورزوايل يتوقع أن ذلك اليوم سيأتي حوالي عام 2045 !. أما ستيفن هوكينج عالم الفيزياء المعاصر فقد صرح قبل عام من وفاته في 2018 بأن خلق الذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون أسوأ حدث في تاريخ الحضارة الإنسانية!.

***

د. طه جزاع – كاتب أكاديمي

 

لكي نكون مواطنين حقيقيين، بغض النظر عن شكل ديننا وتفريعاته الطائفيّة والمذهبيّة مسلمين كنا أم مسيحين في عالمنا العربي، علينا جميعاً أن نعمل على توظيف الدين خدمة للإنسان ورقيه وخلاصه من أزمته، لا توظيفه خدمة لمصالح أنانيّة ضيقة تصب في خانة هذه القوى الاجتماعيّة أو تلك، مهما تكن طبيعتها سياسيّة كانت أو طبقيّة أو عقديّة.

هذه بعض الأفكار التي تصب في هذا التوجه، من رجل علمانيّ يعرف أن العلمانيّة ليست ضد الدين، بل هي دعوة لبناء المجتمع المدنيّ والدولة المدنيّة، دولة القانون والمؤسسات والمواطنة واحترام الآخر والتعدديّة والتشاركيّة، واحترام المرأة.. واحترام الدين بما يحمل من فضيلة وجعله لله والوطن للجميع. أي فصله عن السياسة حتى لا تلوثه السياسة وتبعده عن مقاصده الأساسيّة في المجتمعات المتعددة الديانات والمذاهب والطوائف والمكونات السياسيّة.

فقه الواقع والمواطنة:

هناك علاقة جدليّة بين الدين والمواطنة، فلا وجود للدين أصلاً دون المواطنة/ دون الإنسان، ولا مواطنة أصلاً دون التمسك بقيم الدين المثلى وفضيلته التي تؤكد على إنسانية الإنسان ورقيه والارتفاع به إلى مرتبة الخلافة، كل منهما يغني الأخر يؤثر به ويتأثر به. وعلى هذا العلاقة الجدليّة بينهما نؤكد على التالي:

1- علينا أن نقر بأن الكتب المقدسة، ومنها القرآن بالنسبة لنا كمسلمين هو أحد المصادر الأساسيّة للتشريع، وأن هناك الكثير من التشوهات والانحرافات التي أبعدته عن مقاصده، جاءت من الذين في قلوبهم زيغ، ووظفوا الدين لمصالح أنانيّة ضيقة، فراحوا يُفسرون ويُؤولون النص المقدس ووضع الأحاديث وفقا لهذه المصالح ..

2- إن الوحي قد توقف بعد موت الرسول، وبالتالي لا تنزيل أو مقدس قد نزل بعد ذلك... وأن كل ما جاء في المراحل التالية لوفاة الرسول، مهو تفسير وتأويل لهذا النص المقدس، وهي أراء أفراد وظفت لأهداف متعددة منها ما هو عام ومنها ما هو خاص، أي منها ما يعمل لمصلحة المجتمع بعامة، ومنها ما يعمل لمصلحة فرد أو جماعة محددة طبقيّاً كانت أو سياسيّاً أو اقتصاديّاً أو دينيّاً.

3- إن باب الاجتهاد يجب أن يبقى مفتوحا خدمة لتطور المجتمع، وهذا ما يؤكد عليه فقه الواقع. فالنص المقدس نزل للواقع من أجل تغييره وتنميته، ولم يأت الواقع خدمةً النص، والذين يقولون بأن على الواقع أن يرتقي للنص، هم يعملون على ليّ عنق الواقع، ورفض حركته وتطوره وتبدله، وبالتالي تحويل الجديد إلى بدعة من جهة، وتحويل التعامل مع النص إلى مبدأ سرير بروكست من جهة ثانية. أي إذا كان الواقع أوسع من النص يجب تضيق الواقع ورفض كل جديد فيه وتبديعه، وإن كان النص أوسع من الواقع فعلى الواقع أن يتسع وفقاً لسعة النص، وفي كلا الحالتين يظل النص هو القابض على الواقع، وليس للإنسان أي دور سوى تطبيق هذا النص وفق ما يفهمه صاحب سرسر بروكست، أي رجال الدين الذين في قلوبهم زيع، أو الذين.  (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم | الآية 7 من سورة البقرة).

4- إن العقل قبل النقل .والنص الذي لا يتفق والعقل يجب أن لا يؤخذ به والاستسلام له.. والأمر العقلاني في التفسير والتأويل والفقه وعلم الكلام والسير، هو ما يتفق ومقاصد الدين الخيرة. والشك باب المعرفة ( وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي..).(البقرة – 260).

5- علينا أن نلغي تقديس أقوال الناس والأشخاص... فهم بشر يصيبون ويخطئون، وأن لا وساطة بين الناس وربهم، وإن مسألة عدم تقديس أقول الناس لا تلغي في الحقيقة الجوهر الإنساني الوارد في هذه الأفول  التي تتفق ومقاصد الدين الخيرة، فكل قول إيجابي من الضرورة أخذه والبناء عليه، أما اعتبار كل ما قاله مشايخ السلف في القرون الهجريّة الثلاثة الأولى، هو حقيقة مطلقة وهو القول الحق، فهذا لا يتفق وجوهر الدين ذاته الذي يؤمن بالحركة والتطور والتبدل. فالعلم يتطور، ومناهج البحث تتطور، والوصول إلى الحقيقة أصبح علما قائماً بذاته، لا تتخلله الأهواء والمصالح الخاصة.

6- إن تغير الأحكام مرتبط بتغير الأحوال... وإن الضرورات تبيح المعذورات، وإن في الأصل الاباحة.

7- وعلينا أن لا نعوّل كثيرا اليوم على الفقه وحده كما حدده أأمتنا الفقهاء في حل قضايا الناس المتطورة والمتجددة دائما، فأمور دنيانا نحن أدرى بها، فهناك  قوانين وضعية تأخذ بها اليوم كل دول العالم تقريباً وفي مقدمتها الإسلاميّة.. فباب المعاملات يجب أن يترك للقانون الوضعي الذي يضعه الإنسان وفقاً لمصالحه، عدا الأحكام المتعلقة بقضايا المحاكم الشرعيّة الوارد فيها نص مقدس..

8- وأن لا نجعل من الدين وسيلة للتكسب وخدمة للسلطان وتبرير ظلمه وفساده، واعتبار كل ما يقوم به هو أمر مقرر من الله حباً بالناس أو عقاب لهم من الله، وبالتالي لا بد من طاعته.

9- وأن نقر بأن مناهج التفكير التي نُظر من خلالها إلى النص الديني في العصور الوسطى، قد تجاوزها الزمن وتطور العلوم.. وقد قدم لنا العلم الحديث مناهج علميّة تتعامل مع الظواهر ماضيها وحاضرها بعقلانيّة وليس بعواطف وذاتية ورؤى أسطوريّة وخرافيّة...

10- وأن نخرج من فقه الحيض والنفاس وسفاسف الامور التي لا تغني ولا تقدم فضيلة.. لأن الفضيلة لا تتحقق بالخطب الرنانة أو بالدعاء، وإنما بالعمل وإزالة أسباب الفساد والقهر وظلم الناس..

11- وأن القرآن فيه آيات محكمات وأخر متشابهات، والله نهانا عن اتباع المتشابهات..

12- وأن نأخذ من الحديث ما يتفق ومقاصد الدين التي تؤمن بالإنسان وحريته وعدالته ومساواته وكرامته، وأنه خليفة الله على الارض.. أي نأخذ من الحديث المتواتر والمشهور وكل حديث يتفق وجوهر النص القرآني الداعي لتحقيق مصالح الناس.

13- وأن لا نظل نعتمد على سير السلف، واعتبارها قدوة لنا في كل ما نقوم به.. (فتلك أمّة لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يفعلون) البقرة .134...

14- وأن نتعامل مع النص المقدس وفقا لخصوص السبب قبل عموم اللفظ، حتى لا نلوي عنق التاريخ والنص معاً، ونجبر الناس على عمل أشياء لم تعد توافق العصر..

15- وأن لا نستخدم العقل لتثبيت النص كما فسره وأوله السلف، وإنما للحكم عليه وفق مقاصده الخيرة التي تخدم الإنسان ورقيه، مقتدين باجتهاد عمر بن الخطاب في المؤلفة قلوبهم وتوزيع الغنائم وغيرها...أي علينا أن لا نخاف الفلسفة والمنطق.. وأن نأخذ بالقياس العام لا الخاص فحسب.. أي أن لا نقف عند قياس الجزء على الجزء .. بل التعامل فقهياً من خلال  قياس الجزء على الكل حيث في الكل تكمن مقاصد الدين ..

16- وأن ليس كل من ربى دقنا ولبس جبة وعمامة وحمل مسواكا وسبحة وقصر دشداشته أصبح رجل دين وفقيه وأمام... فالدين معرفة، والمعرفة ملك لكل فرد يسعى إلى اكتسابها، بتربية الدقن أو بدونه، بلبس العمامة أو بدونها. (إقرأ باسم ربك الذي خلق)، فالدعوة للقراءة هنا مفتوحة على كل الناس والمعرفة حق للجميع.

17- وأن نحيّد الدين عن السياسة في الدول أو المجتمعات المتعددة الطوائف والمذاهب.. فالدين لله والوطن للجميع.

18- وأن نقنع أنفسنا أولاً والآخرين ثانياً، بأن الدين ليس مذاهب وطوائف وفرق، بل هو عقيدة توحيد ومقاصد خيرة للناس، والصادق من رجال الدين عليه أن لا يظهر مذهبيته في لباسه وطقوسه (كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون..) ..

19- وأن نحرم قتل المختلف وزندقته وتكفيره لأن الله يقول من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.. والأنبياء ليسوا أوصياء على الناس، والله يهدي من يشاء، ولو شاء ربك لآمن الناس أجمعين. في الوقت الذي علينا أن نحاسب من يدعوا إلى الفتنة عبر القول والممارسة بالطائفيّة والمذهبيّة والفرقة الناجية، أو القول بالالحاد.

20- وأن نحترم المرأة التي خلقنا الله وإياها من نفس واحدة، وأنها ليست ضلعاً ناقصاً أو قاصراً او شاردة إبل. بل هي إنسانة من لحم ودم، لها ما للرجل من حقوق وواجبها. وهي في المحصلة الأم والأخت والابنة والزوجة.. فالأم مدرسة إذا أعددتها. (۞ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ۖ فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ ۖ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189). فالمرأة ليست ضلع قاصر أو كشاردة الأبل، او ناقصة عقل ودين.

21- وأن لا نتعامل مع القرآن ككتاب علم، فالعلم يتطور ويتبدل وهذا لا يتفق مع قدسيّة القرآن الذي جاء كتاب عقائد وشرائع)، والأخلاق لا تقتصر على المعاملات بين أفراد المجتمع فحسب، وإنما الأخلاق شموليّة في دلالاتها، فالدعوة إلى محو الأميّة أخلاق والدعوة إلى اكتساب المعرفة أخلاق، والدعوة إلى تحقيق التنمية التي تخدم الناس بكل اتجاهاتها أخلاق... إلخ. القرآن ليس له علاقة بالنظرية النسبية، وتطور الأجناس، والمعادلات الكيميائية، والمعطيات الفيزيائية.

22- وأخيرا أن فقه المواطنة لا يقوم إلا في الدولة المدنيّة.. أي دولة القانون والمؤسسات والتعدديّة وتداول السلطة واحترام الرأي والرأي الآخر..

هذا غيض من فيض يمكننا أن نبين من خلاله ما هو الدين الصحيح، وما نريد منه لبناء إنسان سوي يحترم نفسه والآخرين ويعمل على إعمار هذه الأرض.. وبالتالي ما يساهم بالوقوف بوجه تجار الدين ومرتزقته، وما علاقته بالمواطنة.

***

د. عدنان عويد

كاتب وباحث من سورية

 

تختلف دلالة كل مفهوم من هذا العنوان في ثقافة كل بلد ومجتمع له فيها فلسفة خاصة، وقد لا تكون هذه الدلالة مكتوبة بقدر ما هي مفعولة. واحيانا تترك الدلالات لمن يجدها بائنة او من يوجدها في فهمه. وهنا تتطور الدلالات تبعا لزمن التمعن والقراءة. مما يجعل تعريف كل مفهوم متغيراً وفقا لفلسفة المجتمع فيها. ونعني بذكرنا للمجتمع دون السلطة، لأن السلطة هي من تنتج هذه المفاهيم التي تكون قيمتها بعد زوالها، فيكون للمجتمع فيها الأثر الأكبر في إعادة النظر مما انتج من وثائق، وما تكون من أرشيف، وما يتفاعل معه من ذاكرة.

ونقصد هنا بـ (الوثيقة، والارشيف) ما أنتجته السلطة من وثائق وما خلفته من أرشيف، لا سيما ما خلف لديهم من ذاكرة سلبية عن طبيعة الحكم والسلطة المعتدية عليهم.

الوثيقة:

تختلف دلالات الوثيقة بمفهومها العام عن الوثيقة بمفهومها السلطوي. فالوثيقة الشخصية، أو الوثيقة الإدارية، أو الوثيقة القانونية، تعبر عن الهوية المعنوية للفرد والمجتمع والسلطة. وهذا ما نتج من تطور في حياة الإنسان الحديث والمعاصر، الذي يمكن أن نحصر دلالات الوثيقة بنشاطه المقترن مع نشاط الدولة الحديثة.

فإذا ما رجعنا تاريخيا، فيمكن أن نعد كل ما خلفه الإنسان بمثابة وثيقة عن تاريخه القديم، فتكون هنا دلالة الوثيقة بمعناها التاريخية هي غير الدلالة الوظيفية للوثيقة التي تعبر عن النشاط الفعال للإنسان الحديث.

وإذا ما قصرنا الأمر على الدلالة السلطوية للوثيقة، فسوف نضطر للخوض في تحليل متعدد الأركان لها، أبتداء من تشكل الصورة الأولى للوثيقة، أو من فكرة إنشاء وثيقة، بقصد ما او ضمن سياق متبع.  فتتطور الدلالة المرحلية للوثيقة (من الفكرة الى المسودة، والى الإكتمال، والى التوقيع، والى الإصدار، والى التنفيذ، والى الإلزام). فالوثيقة الواحدة لا يمكن أن تكون أرشيفها متكاملا، بقدر ما توحي إلى أرشيف متكامل وإلى نظام إداري وسلطوي متكامل. فضلاً عن الهرمية الإدارية في صورة الوثيقة من الأعلى إلى الأدنى. من المحرر الى الموقع، ومن الشعار الى المشار أليه، ومن العام إلى الخاص، ومن الموجه الألى إلى الموجه أليه الأدنى، ومن العنوان الأعلى إلى العنوان الأدنى، ومن التعميمات إلى الخصوصية، حيث السرية، والسرية للغاية، والسري والشخصي. إلى جانب الهامش الذي يمثل في كثير من الأحيان دلالات التراتبية الإدارية، والسلطوية في الإلزام، والإذعان في التنفيذ.

فهي تعكس ايضاً سلطة القرار في التكوين، والإصدار، والتوقيع، بل وتلخص ايضا الأوامر التي تحملها هذه الوثيقة، فتتحول من وثيقة ناقلة للمعلومات والتوجيهات الى وثيقة الطاعة والإذعان والتنفيذ، حتى لو لم تحمل تأكيد كافي على التنفيذ، وهنا تبرز النفوس الضعيفة في تنفيذ السلطة، وممارستها، واستعمالها ذريعة تعسفية على الآخرين.

فالوثيقة الآمرة تنقل لنا السلطة وقوتها من قوة الموقع إلى قوى وسلطة أخرى، تتمثل بقوة المنفذين، وهنا تظهر لنا سلطة وقوة ثالثة، هي سلطة المذعنين في تطبيق مضمونها.

كما قد تظهر لنا قوة أخرى، هي قوة المعارضة لسلطة الموقع، وسلطة المنفذ، وسلطة المُذعنين، بالامتناع عن الآخذ بما جاء بها من توجيهات، وتعليمات، وأوامر، وقرارات.

فالوثيقة لها مصدريتها المنشئة، والمطبقة، والمنفذة، ولها تأثيرها المادي والمعنوي، الا أن الآثار المادية للوثيقة قد تزول باستيفاء الحقوق والتطبيق والإلزام، ولكنها تترك أثراً معنوياً على المعنيين المباشرين فيها والمعنيين غير المباشرين.

فضلاً عن كونها صورة كاشفة عن السياق الإداري، والانضباط الإداري، والهيكلية الإدارية، والهرمية الوظيفية، والنماذج الإدارية الفنية، والسياق اللغوي الإداري. والإمكانيات الإدارية المادية.

وكاشفة ايضاً عن المستوى السياسي المتبع، فهي تعبر عن طبيعة النظام، اذا كان ديمقراطيا او ديكتاتوريا شموليا او عسكرياً او مدنياً.

أما اذا اخذنا وثائق النظام البعثي البائد بكل اشكالها، فهي تعطي صورة واضحة عن طبيعة النظام، من حيث شعار الحزب، وأقوال صدام التي ترافق الكتب الرسمية، ومركزية الإصدارات، ووحدة النماذج الورقية... وغيرها من الصور التي توحي بخلط العناصر الإدارية للوثيقة مع الأمني مع السياسي!

وإذا تحدثنا عن أنواع الوثائق او الوثيقة، فيمكن القول بأن كل نشاط للإنسان يمكن أن يكون وثيقة لأثره فيما يفعل.  وعلى هذا فهي متكثرة ومتنوعة تبعا لما يريد الإنسان توثيقه لنفسه أو لغيره.

أما صور الوثيقة فيمكن أن تكون كالآتي:

1-  الوثائق الحية: وهي تلك الوثائق النشطة التي يمكن استعمالها وتوظيفها تبعا لنشاط الإنسان في مجاله .

2- الوثيقة الميتة: هي تلك الوثيقة الفاقدة لعناصر الاستنطاق والقراءة والتوظيف.

3- الوثيقة المزيفة: وهي الوثيقة المختلقة والمحاكية لوثائق اصيلة او مبتكرة، يقصد بها تزيف حقيقة معينة او تظليل العامة.

4- الوثيقة الأصيلة: وهي الوثيقة الموثوقة المصدر والمحفوظ من عناصر التزوير بكل مقومات أصالتها.

5- الوثيقة المشفرة: وهي الوثيقة التي يشفر جزء من معلومات واردة فيها، او تشفيرها كلها تبعا لآليات وطرق التشفير بقصد اخفاء معلوماتها.

6- الوثيقة المرمزة: وهي الوثيقة التي يشفر جزء من معلوماتها برموز معينة، بغية المحافظة على سريتها أو الحد من آثارها الأمنية والقانونية.

7- الوثيقة المؤرشفة: وهي الوثائق المحفوظة في سجلات أو أماكن خزن عبر نظام أرشفة معين يحمل أرقام أو رموز أو تسلسل وتبويب موضوعي لها.

8- الوثائق غير المؤرشفة: وهي الوثائق غير محفوظة بطرق وأساليب فنية للأرشفة، وتكون معرضة للتلف والضياع وفقدان الموضوعية والتسريب.

9- الوثيقة الناقصة: وهي الوثيقة الفاقدة لأحد عناصر وضوحها وموضوعها، أما بسبب التلف المتعمد او غير المتعمد، أو المستلة من ترتيبها الأرشيفي والموضوعي.

10-        الوثيقة الكاملة: وهي الوثيقة المحافظة على عناصرها الصحيحة، والمكملة لوحدة صورتها وموضوعها ومضمونها.

ما تقدم من صور للوثيقة يمكن ان يمثل قيمتها المادية، وجزء من قيمتها المعنوية، الا أن للوثيقة قيمة اعتبارية دقيقة الأبعاد يمكن ان نوضحها اختصارا بالآتي:

1- من حيث الجهة الصادرة عنها (المكان).

2- من حيث زمن الوثيقة وتاريخها.

3- من حيث التوقيع الذي تحمله .

4- من حيث الختم .

5- من حيث المضمون .

6- من حيث الصفة .

7-  من حيث القيمة القانونية والإدارية.

8- من حيث قوة التوجيهية.

9- من حيث القدم.

10- من حيث الخصوصية.

وللمقال تتمة، مع مفهوم الإرشيف ...

***

د. رائد عبيس

كتب: روى وليمز

ترجمة: علي حمدان

***

وُلِد بول ميشيل فوكو في بواتييه بفرنسا في الخامس عشر من أكتوبر عام 1926 لعائلة برجوازية من الطبقة المتوسطة العليا. تفوق في تعليمه لكنه رفض الكثير من أساليب تربيته. كان لعمل فوكو كفيلسوف ومؤرخ للأفكار تأثيرًا جذريًا على المنهج التاريخي بالإضافة إلى العديد من المجالات الأخرى إضافة الى الفلسفة. كان تأثير فوكو على الأدب والفلسفة والتاريخ وعلم النفس غير مسبوق وكان سببا في العديد من التغييرات في تخصصات متعددة. في حين لم يلتزم فوكو بالتصنيفات فيما يتعلق بفلسفته، كان لعمله دور فعال في التأثير على ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية. كانت اهتماماته المركزية في فهم السلطة والمعرفة. زعم أن المعرفة تُستخدم كشكل من أشكال السيطرة الاجتماعية.

درس ميشيل فوكو الفلسفة وعلم النفس في المدرسة العليا تحت إشراف الأستاذ لويس ألتوسير، الذي كان من بين طلابه أيضًا جاك دريدا وبيير بورديو. كان ألتوسير، العضو القديم في الحزب الشيوعي الفرنسي، مؤثرًا إلى حد ما على فوكو؛ وعلى الرغم من أن فوكو لم يظل نشطًا في الحزب، إلا أن ميوله الإيديولوجية ظلت قوية نحو الاشتراكية. كما تأثر بماركس وهيجل في صياغة منهجه التاريخي للبحث الفلسفي. عمل فوكو لفترة تحت إشراف الأستاذ جورج كانويلهام، الذي رعى أطروحته للدكتوراه حول تاريخ الجنون. كان عمل كانويلهام نفسه حول تاريخ علم الأحياء بمثابة نموذجا لأبحاث فوكو.

في كتابه الأول "تاريخ الجنون" (1961)، حلل فوكو مفهوم الجنون من منظور تاريخي. وفي هذا الكتاب زعم أن المفهوم الحديث لـ "الامراض العقلية" كان في الأساس وسيلة للسيطرة على أولئك الذين قد يتحدون الأخلاق البرجوازية وبنية السلطة القائمة.

كان بحث فوكو رائداً في محاولته تحدي المؤسسة التي بررت عزل المرضى العقليين وإجبارهم على العلاج الطبي. نظر فوكو إلى البنية التحتية الطبية الحديثة باعتبارها فرضاً مجتمعياً للسلطة، مع اعتبار المرضى العقليين ضحايا للقمع المؤسسي. في تحليله، قارن فوكو بين التفسير التاريخي للجنون، حيث كان المجانين يُعتبرون إلى حد ما حكماء بطريقة مختلفة، وبين العصر الحديث لعلاج الصحة العقلية. تم استخدام "المنهجية التاريخية": سعى تاريخ الجنون إلى تحليل التجربة المكتوبة في الماضي لفهم كيفية نشوء الوضع الحالي والمواقف في الطب.

وقد استخدم عمل آخر لفوكو، وهو تاريخ الجنسانية (أربعة مجلدات، 1976-2018) حجة مماثلة ــ وهي أن المؤسسة تستخدم في نهاية المطاف المعايير الجنسية كشكل من أشكال الإنفاذ والسيطرة الاجتماعية. ويلخص هذا المقتطف حجة فوكو المركزية:

"لا شك أن ظهور سلسلة كاملة من الخطابات حول الأنواع والأنواع الفرعية من المثلية الجنسية، والانعكاس، و"الخنوثة النفسية" في الطب النفسي، والقانون، والأدب في القرن التاسع عشر، جعل من الممكن تحقيق تقدم قوي في الضوابط الاجتماعية في مجال "الانحراف"؛ ولكنه جعل من الممكن أيضا تشكيل خطاب "معكوس": بدأت المثلية الجنسية تتحدث نيابة عن نفسها، وتطالب بالاعتراف بشرعيتها أو "طبيعتها"، غالبا بنفس المفردات، وباستخدام نفس الفئات التي تم استبعادها طبيا بموجبها. "لا يوجد من جهة خطاب للسلطة، وفي مقابله خطاب آخر يتعارض معه. الخطابات هي عناصر تكتيكية أو كتل تعمل في مجال علاقات القوة؛ ويمكن أن توجد خطابات مختلفة وحتى متناقضة داخل نفس الاستراتيجية؛ ويمكنها، على العكس من ذلك، أن تتداول دون تغيير شكلها من استراتيجية إلى أخرى، استراتيجية معارضة."

(تاريخ الجنسانية، المجلد الأول، 1976)

منذ عام 1969 عمل فوكو أستاذاً لتاريخ الأنظمة والفكر في كلية فرنسا. وكان أيضاً محاضراً زائراً في جامعة كاليفورنيا في بيركلي.

على مدار حياته كتب العديد من الكتب، شملت مجالاً ضخماً من البحث التاريخي والفلسفي. ومن بين أكثر كتبه تأثيراً كتاب "تاريخ الجنسانية"، و"ميلاد السياسة الحيوية"، و"يجب الدفاع عن المجتمع". وقد استخدم منصته ككاتب وأستاذ لانتقاد الهياكل المجتمعية الحديثة من خلال عدسة البحث التاريخي. ومن القيود الاجتماعية المفروضة على الجنسانية، إلى بنية السجن الحديثة، استمر موضوع فوكو المركزي حول علاقة القوة والمعرفة والسيطرة الاجتماعية من خلال عمله. هذا المقتطف من كتاب "ميلاد السياسة الحيوية" (2008) الذي نُشر بعد وفاته يعرض الطبيعة الاستفزازية لاستنتاجات فوكو بشأن طبيعة القوة فيما يتعلق بالسياسة وسلطة الحكومة:

"إن العقل الحكومي الجديد لا يتعامل مع ما أسميه الأشياء في ذاتها التي تشكل الحكم، مثل الأفراد والأشياء والثروات والأراضي. فهو لم يعد يتعامل مع هذه الأشياء في ذاتها. بل إنه يتعامل مع ظواهر السياسة، أو المصالح، التي تشكل على وجه التحديد السياسة ومخاطرها؛ فهو يتعامل مع المصالح، أو ذلك الجانب الذي يهم فيه فرد معين أو شيء معين أو ثروة معينة أفراداً آخرين أو هيئة جماعية من الأفراد... وفي النظام الجديد، لم يعد من المفترض أن تمارس الحكومة سيطرتها على الرعايا والأشياء الأخرى الخاضعة من خلال هؤلاء الرعايا. بل أصبحت الحكومة تمارس سيطرتها الآن على ما يمكننا أن نسميه جمهورية المصالح الظاهرية. والسؤال الأساسي الذي يطرحه الليبراليون هو: ما هي القيمة النفعية للحكومة وكل أفعال الحكومة في مجتمع حيث يحدد التبادل قيمة الأشياء؟".

إن عمل فوكو يمثل استكشافاً عميقاً للعلاقة بين السلطة والمعرفة والطريقة التي يتم بها تنفيذ السيطرة الاجتماعية. وقد أصر على أهمية إعادة تفسير التاريخ من أجل فهم منظور العصر الحديث، ورؤية الطرق التي تملي بها الأحداث السابقة والمعايير الاجتماعية الحاضرة. وكان اكتساب القبول الواسع النطاق لقيمة هذا النهج في حد ذاته إنجازاً رائداً.

في حين زعمت النماذج السابقة للتحليل التاريخي عمومًا أن التاريخ البشري ذو مخطط تقدمي، أو "سرديات كبرى"، فإن فوكو، مثل غيره من فلاسفة ما بعد الحداثة الفرنسيين في عصره، كان يعتقد أن مسار التاريخ لم يكن مسارًا هادفًا أو حتميًا. وزعم أن التاريخ والحاضر كانا متأثرين بشدة بالعلاقة بين السلطة والمعرفة. وتم الترويج لمصالح الدولة والرأسمالية وهياكل السلطة المؤسسية لممارسة السلطة على بقية المجتمع ولكن غالبًا بطرق خفية وغير واضحة. ومن خلال تحليل العصور السابقة من منظور الحاضر، ومقارنة المعايير المجتمعية المعاصرة بتلك الموجودة في العوالم الحديثة المبكرة والعصور القديمة، تمكن فوكو من إرساء طريقة جديدة جذرية لفهم التاريخ والفلسفة.

والواقع أن فوكو أحدث تغييراً جذرياً في العديد من التخصصات بفضل نهجه المتعدد التخصصات، بما في ذلك علم النفس والتاريخ والعلم والفلسفة. وكان تحليله لهياكل السلطة والمعرفة وعلاقتها بالسيطرة قادراً على تطبيقها على نطاق واسع للغاية. ورغم أنه لم يعتبر نفسه من أتباع ما بعد الحداثة أو ما بعد البنيوية، فإن أعماله تشكل بعضاً من أهم المساهمات في تلك التيارات الفلسفية.

إن المنظور الفريد الذي تبناه فوكو في فهم العلاقة بين السلطة والمعرفة والسيطرة يمكن الاستفادة منه في أي مجال تقريبا. والواقع أن مفاهيمه عن "السلطة الحيوية"، وسياسات السيطرة التي تمارسها الدولة في تحديد من يحق له العيش أو الموت، فضلاً عن النهج الأساسي المتمثل في تحديد من يجب أن يعيش ومن يجب أن يموت، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بأبحاثي الخاصة. وبصفتي باحثاً في مجال الإبادة الجماعية، أستطيع أن أقدر فهم فوكو للعلاقة بين السلطة والمعرفة والسيطرة. وعلى نحو مماثل، يشكل مفهومه عن "السلطة الحيوية" أهمية أساسية لأبحاثي الخاصة في تدمير البيسون في أميركا الشمالية: فخلال القرن التاسع عشر، عملت حكومة الولايات المتحدة والرأسمالية الاستخراجية على تدمير وإخضاع السكان الأصليين في السهول من خلال القضاء على أهم مواردهم، البيسون.

إن إرث فوكو كأستاذ وباحث يشكل مثالاً مذهلاً للإنجاز والاكتشاف الفكري، كما أن اتساع نطاق مساهماته الفكرية متعددة التخصصات يشكل شهادة على أحد أعظم الفلاسفة في القرن العشرين.

***

روى ويليامز 2022

...........................

* روي ويليامز هو مؤرخ متخصص في دراسات الإبادة الجماعية مع التركيز على الإبادة الجماعية للأرمن، وتدمير البيسون في أمريكا الشمالية في القرن التاسع عشر.

إنَّ الخروج من حالة القصور المفروضةُ علينا ذاتياً، والذي عدّهٌ (إيمانؤيل كانت) تنويراً، لهو تمردٌ في الدرجةِ الأساس، لِكونه قد يؤسس لمرحلةِ الإبداعِ والابتكار بعيداً عن وصايا الآخرين، والتي من شأنها أن تَخلُق قطيعاً أهوجاً، يُردِّد ما يتلقّاه من وصايا، فتؤسس بذلك لثقافة التلقي وصناعة العقل المطيع، ذلك الذي لا يفقه الرفض والاعتراض، ويقبل بجميع أنواع الهيمنة والإكراهات؛ ولا سبيل إلى الخلاص من تلك الهيمنةِ إلّا بالتمرد على أشكال الوصايا المفروضة على الإنسان...

ومن ثمَّ فالتمرد خلاص طبيعي من أمراض الهيمنة، والتي تُمارِس سطوتها بفعل السلطة، دينية كانت أم سياسية أم غير ذلك.

ومن شأن التمرد أن يخرق فضاء الإتّباع، ليبني بذلك صرحاً من الإبداع، والذي يتحدد مع ثقافة الفصل والتخلص من ثقافة الوصل مع تراث الماضي. وإذا ما أردنا أن نناقش الفصل والوصل من جهةٍ معرفية، فنجد إنّ الإبداع الأول، والذي لازم ثقافة التمرد في تاريخ الفكر الفلسفي قد نشأ مع المدرسة السفسطائية، تلك التي أنزلت الفلسفة من السماء إلى الأرض، وليس كما ادعّى (شيشرون)، والذي لصق هذا المُنجز بـ(سقراط)، الذي كان سفسطائياً فتمرد سلباً على الحقيقة السفسطائية، والتي رجّحت سلطة الإنسان بعدِّه مقياساً لجميع الأشياء.

ومنذ ذلك الحين-وباستقراءٍ ناقصٍ في جميع الأحوال- لم نجد شيئاً عن ثقافة الفصل وإعلان ميلاد العبقرية، وكل ذلك يعود إلى الافتقار لحملات التمرد في تاريخ الفلسفة، والتي سطع نجمها بميلاد الفلسفة المعاصرة، وسواءٌ ابتدأت الحقبة المعاصرة للفلسفة مع الفيلسوف الدنماركي (سورين كيركيجارد) أم مع الفيلسوف الألماني (فريدريك نيتشه)، فإن بوابة الدخول نحو العبقرية قد بدأ مع ميلاد التمرد، ومع إنّ (كيركيجارد) قد تجبّر في ثورته الكبرى على فلسفة الأنساق الهيغلية، إلا أنّ الانقلاب القيمي عند (نيتشه) كان بمثابة الأصل الأصيل في ديمومة فلسفة التمرد، فلم يكن أمام أحدٍ من الفلاسفة فرصة التجاوز لذلك التمرد، سواء كان على الدين أم على الأخلاق والفلسفة.

ومن هنا يُجاز لنا أن نصف الفلسفة المعاصرة بعصر الإبداع والعبقرية، لإنّ معيار الحكم على الفيلسوف ومنظومته المعرفية تُقاس بمدى خروجه عن السائد المألوف؛ ولكن-وكما هو معتاد- قد يدفع المُتمرد ضريبة العمر  نتيجة الخروج عن ذلك المألوف؛ وقد لا يُقاس الأمر على الفلسفة المعاصرة، لأنها، بفضل (نيتشه)، قد تحولت إلى ظاهرة، أما إذا أردنا أن نناقشها كحالة متفردة، فإن ذلك يستتبع أن نعود أدراجنا نحو التمرد بصورته البِكر، في الحلقة الأولى من الوجود، وسواء ابتدأنا مع (آدم) الذي عصى أمر ربّه، أم مع (سيزيف) الذي هتك أسرار الآلهة، فإن النتيجة واحدة، وهي التمرد وفضح المسكوت عنه، وتلك جريمة بمقاسات العدل الإلهي، وإن الحكم على شناعتها لم تخرج عن سراج الأبدية... وهكذا يصطدم التمرد بحاجز السلطةِ الصلد، عموديةً كانت تلك السلطة أم أفقية، وبذلك يُولد القطيع المردد لمسلّمات الدين والسياسة، ويندثر أمر الإبداع والعبقرية باندثار مفهوم التمرد.

***

د. حيدر عبد السادة جودة

 

تعكس رائحة القهوة في هدوء الليل لحظات التأمل والتفكير العميق. الكتابة في مثل هذه الأوقات قد تكون وسيلة للتواصل مع الذات، حيث يتم التعبير عن التجارب الداخلية والتحديات. استخدام الكتابة كوسيلة للتغلب على التحديات الداخلية يمكن أن يكون فعالًا جدا لكن التغلب على صعوبة البدء يمكن أن يكون تحديًا آخر الكتابة الحرة والفلسفة يمكن أن تكونا منهجين متكاملين في مثل هذه الاوقات، حيث يمكن أن تعزز الكتابة الحرة الفهم العميق للفلسفة وتجعلها أكثر حيوية. تساعد الكتابة الحرة في استكشاف مفاهيم مثل الوجود، المعرفة، والأخلاق بشكل أكثر عمقًا. استخدم الكتابة الحرة لطرح تساؤلات فلسفية، يمكن أن يؤدي ذلك إلى اكتشافات جديدة حول العديد من القضايا المقلقة. الربط بين الكتابة الحرة والبحث الأكاديمي يمكن أن يوفر تجربة غنية تعزز من الفهم العميق للفلسفة. من خلال دمج الكتابة الحرة مع البحث الأكاديمي يمكن تعزيز القدرة على التفكير النقدي والإبداع، مما يجعل تجربة البحث أكثر ثراءً وعمقًا. دراسة العلاقة بين الحرية الفردية والواجبات الأخلاقية، وكيف يؤثر ذلك على مفهوم المسؤولية يؤدي احيانا إلى الشعور باليأس والإحباط. بعض المفكرين يرون ان التأكيد على عدم وجود معنى يمكن التعامل معه كقلق وجودي يتم من خلال الوجود والعبث، في حالة الموت واختفاء الجوهر وجوديا. في الفلسفة الوجودية، يُعتبر القلق والعبث من المفاهيم المركزية التي تتعلق بفهم الموت واختفاء الجوهر. يُعرّف القلق الوجودي بأنه شعور عميق بعدم اليقين والخوف المرتبط بفهم الفرد لوجوده. إنه قلق ينشأ من الوعي بالحرية والمسؤولية، وكذلك من الإحساس بفناء الذات. يُعتبر الموت أحد أكبر مصادر القلق الوجودي، حيث يواجه الأفراد فكرة مقاومة الفناء وما يعنيه ذلك لحياتهم. هذا الوعي بالموت يظهر عدم القدرة على ضمان المعنى، ما يجعل الأفراد إلى الاعتراف بواقع موتهم وهو ما يدفعهم إلى البحث عن معنى شخصي في حياتهم يشير العبث إلى الشعور بأن الحياة تفتقر إلى معنى أو الهدف، هذا المفهوم، كما طرحه ألبير كامو، يعكس الصراع بين رغبتنا في البحث عن المعنى وواقع أن الحياة التي تبدو عشوائية وغير منطقية. في حالة الموت، يُعتبر أن الجوهر (أو المعنى) قد تلاشى، مما يجعل من الصعب على الأفراد العثور على معنى ثابت. إذا كان الموت هو النهاية، فإن كل ما يُعتبر جوهرًا يصبح غير ذي جدوى. بدلاً من الاستسلام لليأس، يُشجع كامو على مواجهة العبث بقبول الواقع والبحث عن المعنى في الحياة اليومية ويعتبر أن الأفراد يمكنهم خلق معانيهم الخاصة بالرغم من العبثية. تُعتبر مواجهة الموت جزءًا أساسيًا من الوجود الإنساني. الفلاسفة الوجوديون يرون أن الاعتراف بالموت يمكن أن يُحرر الأفراد، مما يدفعهم لتقدير حياتهم وخلق معنى خاص بها. يُظهر القلق المرتبط بالموت حرية الأفراد في اتخاذ قراراتهم، حيث إن الوعي بالموت يدفعهم لتحديد ما يعتبرونه مهمًا. في الوجودية، يُعتبر القلق والعبث جزءًا من التجربة الإنسانية التي تُحتم مواجهة الموت واختفاء الجوهر. يُنظَر إلى القلق كفرصة للوعي بالحرية، بينما يُعتبر العبث دعوة للبحث عن المعنى في الحياة، رغم عدم وجوده بشكل مطلق. هذا التفاعل بين القلق والعبث يشكل أساسًا لفهم الوجود الإنساني. هناك مفارقة تأملية بين القلق الوجودي وعدم الشعور بالقلق ...! وهو سؤال كثيرا ما يؤرقني.. هل يعني ان التأمل مع قهوتي وحروف كلماتي يبعدني عن القلق الوجودي...؟ تناول القهوة يمكن أن يكون فرصة للتواصل مع اللحظة الخيالية وهي لحظة هاربة. عندما أركز على طعم القهوة، رائحتها، وتجربتي معها، يمكنني الهروب من التفكير في القلق الوجودي الذي يتعلق بالمستقبل أو الموت، يمكن أن تُعتبر لحظة تناول القهوة نوعًا من التأمل الذاتي الهارب من سندان الوعي. هذا الوعي باللحظة يمكن أن يساعد في تقليل مشاعر القلق، حيث يُركز العقل على التجربة الحسية بدلاً من الأفكار المقلقة في اللحظات البسيطة، مثل الاستمتاع بفنجان من القهوة، يمكنها أن تعيد للأفراد شعورًا بالهدوء والسكينة، مما يُخفف من مشاعر القلق. قد تُعتبر لحظة تناول القهوة فرصة لإعادة تقييم الأفكار والمشاعر، هذا يمكن أن يساعد في معالجة القلق بدلاً من الهروب منه، عندما تقضي وقتًا في تقدير اللحظات البسيطة، قد تجد نفسك أقل انغماسًا في التفكير العميق في الوجود. هذا لا يعني أنني أتجاهل القلق، بل أعيد توجيه انتباهي، بينما لا يُمكن لتناول القهوة وحده أن يُزيل القلق الوجودي بشكل كامل، فإن استخدام هذه اللحظات كفرصة للتأمل والوعي يمكن أن يُقلل من تأثير القلق. تجربة اللحظات البسيطة تعزز من الوعي باللحظة الحالية، مما يساعد في التعامل مع القلق بطريقة أكثر فعالية. التأمل يُعتبر عملية حيوية تتطلب وعيًا وتجربة، مما يجعل من الصعب تصوره الموتى، وهم كأشخاص يمارسون التأمل بنفس الطريقة التي يمارسها الأحياء. من من منظور فلسفي، يُعتبر الموت نهاية للوجود الشخصي، مما يعني أن الشخص المتوفى لا يمكنه التأمل أو التفكير. الفلاسفة الوجوديون، مثل سارتر، يرون أن الوجود ينتهي بالموت، وبالتالي لا توجد تجربة تأملية بعد ذلك لكن يمكن للأحياء أن يتأملوا في حياة الموتى، مما يؤثر على كيفية تذكرهم وفهمهم لتجاربهم. هذا النوع من "التأمل" يُعتبر وسيلة لتكريم الذكريات والتعلم من التجارب السابقة. بعض الفلاسفة يطرحون فكرة أن الموت قد يُغيّر مفهوم الزمن والوجود، مما يجعل من الصعب التفكير في التأمل كعملية مستمرة بعد الموت. لا توجد إجابة قاطعة حول ما إذا كان الموتى يتأملون. يعتمد ذلك على المعتقدات الشخصية والثقافية، وكذلك على ما يعتبره الأفراد تجربة التأمل. بالنسبة للأحياء، يُمكن أن يكون التأمل في حياة الموتى وسيلة للتواصل مع ذكراهم وفهم تجاربهم بشكل أعمق.

تأمل الأحياء وتأمل الموتى

تامل الاحياء يتضمن الوعي الكامل والإدراك الحسي. الأحياء قادرون على التفكير، التحليل، والتفاعل مع أفكارهم ومشاعرهم، مما يسمح لهم بالتأمل في تجاربهم، أهدافهم، ووجودهم وهذا يفترض أن الموتى لا يمتلكون وعيًا أو إدراكًا. إذا كان التأمل يُعتبر عملية تتطلب الوعي، فإن الموتى لا يمكنهم المشاركة فيه بنفس الطريقة يتمتع الأحياء، مثل البحث عن معنى، تخفيف التوتر، أو تعزيز الوعي الذاتي. يمكن أن يكون التأمل وسيلة للنمو الشخصي إذا اعتبرنا أن الموتى يمكن أن يتأملوا، فإن أهدافهم قد تكون غير واضحة أو غير موجودة. قد يُفهم تأملهم كاسترجاع للذكريات أو تقييم لتجارب الحياة، ولكن دون توجيه أو نية واضحة ويتم خارج إطار الزمن الحاضر، حيث يمكن للأفراد استرجاع تجارب الماضي أو التفكير في المستقبل، ولكن دائمًا في سياق اللحظة الحاضرة يمكن أن يُنظر إلى الموت كعملية زمنية غير متصلة، حيث يُفترض أن الموتى لا يعيشون في زمن ولا يختبرون اللحظة الحاضرة بنفس الطريقة التي تضمن استرجاع الذكريات أو التجارب الحياتية، كما انه يفتقر إلى التجربة الشخصية الحية. يُعتبر تأملهم افتراضيًا يتجسد في خيال الأحياء، لأن الموتى لا يتفاعلون مع العالم، مما يجعل تأملهم غير مسموع أو غير محسوس، بينما يتطلب تأمل الأحياء الوعي والإدراك والنية، فإن تأمل الموتى افتراضياً يُعتبر عملية خيالية أو تأملية تنتمي إلى مجال الفلسفة أو الروحانية. يُعتبر تأمل الأحياء تجربة حيوية، بينما تأمل الموتى يبقى فكرة تتعلق بالذكريات والتجارب دون وجود فعلي. موضوع تأمل الموتى هو موضوع غني ومعقد، وقد تناولته عدة دراسات فلسفية ودينية وأدبية. تتداخل العديد من الفروع الفلسفية والدينية في تناول موضوع تأمل الموتى، مما يُظهر تنوع الآراء والتصورات حول الموت والحياة. هذه الدراسات تعكس كيف أن مفهوم الموت يمكن أن يكون مصدرًا للتأمل والتفكير العميق عبر الثقافات والفلسفات المختلفة. يبقى الوجود هو الشاهد الحقيقي على فعالية التأمل، كفنجان قهوة امام ناظريك في لحظة هاربة، تترافق غالبًا مع تأملات عميقة حول الوجود والموت.

 ***

غالب المسعودي

خصص جان جاك روسو الفصل الأخير من كتابه «العقد الاجتماعي» لاقتراح غريب نوعاً ما، وهو «الدين المدني». كان مقدراً لروسو (1712 - 1778) أن يصبح قسيساً، لكن أقداره ساقته نحو الفلسفة السياسية، فدوَّن واحداً من أهم النصوص في تاريخ العالم الحديث، أعني «العقد الاجتماعي» الذي أطلق مدرسة في علم السياسة، كتب فيها وحولها مئات الدراسات، بمختلف اللغات.

في أول الأمر، أجمع الكل على رفض الفكرة: الكنيسة اعتبرتها حيلةً لإلغائها كلياً، من خلال إقصائها عن مبرر وجودها الوحيد. العلمانيون اعتبروها مناورة لترسيخ هيمنة الكنيسة على المجتمع، من خلال تبني الدولة للدين (ولو بنسخة مخففة). أما عامة الناس فتساءلوا: ما الداعي لدين جديد، طالما لا تزال الكاثوليكية على قيد الحياة؟

في المقابل، قال روسو إنه لا يتحدث عن دين الكنيسة. ثمة أربعة مستويات للإيمان: أولها «دين الكهنة»، الذي يجهّز الإنسان لما بعد الموت، وهذا ليس موضع نقاش في حقل السياسة؛ لأنه – من حيث المبدأ – لا يتعلق بالدنيا. الثاني هو «دين الإنسان» الذي يركز على الفضائل الأخلاقية وتزكية النفس. وهذا ما تسعى إليه الأديان كافة، في مختلف البلدان والأزمان. الثالث هو «دين المواطن»، وهو قريب جداً من فكرة القانون الذي تفرضه الحكومة على الناس، فهو محدد جغرافياً بمدى سلطة الدولة، وليس له وجود خارجها. هذا الدين تحرسه الدولة وتفرضه على مواطنيها بقوة القانون. أما الرابع فهو «الدين المدني» الذي يمثل خلفية يرجع إليها المشرّع حين يدعو المواطنين للالتزام بالقانون. هذه الفكرة تشابه كما أظن مفهوم «نظام الملة» الذي يذكر أحياناً في سياق الحديث عن التجربة التاريخية الإسلامية. وهو يشير إلى مجموعة الأعراف والنظم التي جاء بها الدين أو التي ابتكرها المجتمع وطبَّقها لتنظيم حياته اليومية، واعتُبرت جزءاً من النظام الذي يجب على كل الناس رعايته؛ كي لا ينفرط الجمع أو يتضرر المجتمع.

السؤال الذي كان يشغل بال روسو حين كتب عن «الدين المدني» هو: إذا قالت الدولة للناس إنهم أحرار في التفكير والتعبير عن آرائهم، أحرار في الاعتقاد وممارسة العبادة، فما الذي يحملهم على الالتزام بالقانون الذي يقيدهم؟

كان روسو قد قال أولاً إن الإنسان ميال بطبعه نحو فعل الخير، وإنه سيلتزم – بمحض إرادته - بالقانون الذي اختار أن يشارك في إنشائه من خلال «العقد الاجتماعي». لكن يبدو أنه شعر لاحقاً بأن المجتمع لن يخلو من خلاف، ربما ينال تفسير القانون أو مقاصده. وبالتالي، فقد لا يكون القانون سلاحاً حاسماً، إلا إذا سمحنا للدولة أن تفرض سلطانها على الجميع، حتى لو كانت هي طرفاً في الخلاف، بمعنى أن تكون الخصم والحكم في آن.

لحل هذا الإشكال؛ وضع روسو فكرة «الدين المدني»، الذي يشكّل خلفية تدعم القانون من جهة، وتشجع الناس على المشاركة في الحياة السياسية من جهة أخرى. إن مشاركة عامة الناس في الحياة العامة، سوف تضمن قدراً معتبراً من الالتزام بالقانون وتطويره أيضاً.

إذا أخذنا هذا المعنى في الاعتبار، فإن «الدين المدني» الذي تحدث عنه روسو ليس نظيراً للدين الذي نعرفه، ليس شبيهاً ولا مزاحماً له. إنه أقرب ما يكون إلى تبرير أخلاقي للقانون، يستلهم الروحية العامة للدين، أي كونه دعوة للفضيلة وسمو النفس ومحبة الغير وعدم الاستئثار بالمنافع. ومن هنا قال روسو إن ديناً كهذا، ينبغي أن يكون بسيطاً، مرتبطاً بالقيم الأساسية التي يعرفها المجتمع ويرغب فيها، غير قابل للاحتكار ولا مزاحمة الانتماءات الدينية الأخرى.

لا بد أن بعض القراء يبتسمون الآن في سرهم، ويتساءلون: هل يمكن لدين كهذا أن يوجد في واقع الحياة؟

لعل روسو سيجيبهم لو كان حياً. لكنه - للأسف - لم يعد معنا.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

دانتي اليغيري هو شاعر ايطالي من أواخر القرون الوسطى، اشتهر بقصيدته الملحمية (الكوميديا الالهية). في هذه الملحمة، يناقش دانتي أفكارا مثل العدالة، كيف يجب ان يُحكم البلد، وكيف يمكن الوصول الى مجتمع مثالي – وهي أفكار لازال السياسيون يناقشونها حتى اليوم. يستخدم دانتي القصص الرمزية ليعبّرعن رؤاه حول موضوعات مثل السلطة، وما اذا كنا نستطيع الثقة بالقادة ام لا، وكيف يمكن ان يعيش جميع أفراد المجتمع مع بعضهم بانسجام. اذاً، ما الذي يخلق نظاما جيدا للحكم، طبقا لدانتي؟

منْ هو دانتي؟

ولد الشاعر الايطالي دانتي عام 1265 في فلورنسا، حين كانت جزءاً من الامبراطورية الرومانية المجيدة. ورغم ان هناك القليل ما يُعرف عن حياته المبكرة، لكن لا شك انه أصبح من أشهر الكتاب الايطاليين. أفضل عمل له هو (الكوميديا الالهية) بالأصل سميت (الكوميديا). تلقّى دانتي تعليمه في الادب الكلاسيكي وكان مشاركاً بعمق في السياسة المعاصرة – هذا المزيج خلق تناقضا ثريا طوال حياته وأعماله.

ومع ان دانتي ساند بقوة استقلال فلورنسا وكان عضوا في جماعة جيلف Guelph (التي ساندت البابوية ضد الامبراطور الروماني)، لكن نشاطه السياسي قاده للنفي عن فلورنسا بدءاً من عام 1302. هذه الفترة خارج بلده الأصلي أثّرت بعمق في رسم ملامح حياته، وهو ما تجلّى في الكثير من كتاباته. أثناء نفيه، سافر دانتي لمختلف الأماكن في ايطاليا. هنا، هو أنهى معظم أعماله الهامة بما في ذلك الكوميديا الالهية. انجازاته الادبية لعبت دورا كبيرا في تأسيس اللهجة التوسكانية التي كتب فيها كنموذج للّغة الايطالية.

يمكن ايضا العثور على نقاشات مفصلة في اللغة والعلوم والفلسفة السياسية في أعماله الاخرى، مثل (حول الفصاحة في الحديث العام) و (حول الملكية). توفي دانتي عام 1321 في رافينا التي أمضى بها السنوات الأخيرة من حياته.

السياق التاريخي والسياسي لعصر دانتي

في ايطاليا وأثناء القرنين الثالث عشر والرابع عشر، لم يكن هناك بلدا موحداً بل هناك أقاليم وامارات. هذا يتضمن فلورنسا والبندقية وميلان والتي كانت في صراع مع بعضها. كانت الاقاليم تُدار من قبل العوائل التجارية الثرية او الجماعات السياسية – الجماعتان الرئيسيتان كانتا الجلفيون والغيبليون. الجلفيون ساندوا سلطة البابا في المسائل الايطالية. اما الغيبليون ارادوا ان يكون القول الفصل لامبراطور الامبراطورية الرومانية . هذا الانقسام اثّر كثيرا على الحياة السياسية الايطالية، حيث استبدلت المدن حكامها بانتظام. كانت هناك الكثير من الصراعات بين الاقاليم. الدين لعب دورا حاسما في السياسة، وكذلك بالنسبه لمنْ يريد ان يصبح امبراطورا للامبراطورية. الكنيسة والامبراطور ايضا كانت لهما الكثير من السلطات على المناطق ذاتها (ليس فقط على القادة).

في تلك الاثناء، كان يمكن للبابوات ابلاغ الملوك بما يجب عمله – هم ايضا نظموا انفسهم في معركة ضد بعضهم البعض حيث كانت لهم خلافات مع البابوات او الرؤساء المحليين، بينما الاباطرة نُظر اليهم كأصحاب سلطات مشابهة على الشؤون اللادينية للحياة. دانتي كان عضوا في جماعة الجلف، وعلى الرغم من امتلاكه موقعا سياسيا في فلورنسا وانخراطه النشط في حكومتها، لكن تجربته الخاصة هناك شكلّت بوضوح رؤاه حول الموضوع. في عام 1302، وبعد ان استلمت السلطة جماعة الجلف السوداء المدعومة من البابوية، كان دانتي قد نُفي من مدينته الأصلية بتهمة الفساد وهي التهمة التي نفاها بشدة. هذه الكارثة الشخصية توضح لماذا الكثير من كتاباته السياسية تتعلق بالكيفية التي أساء بها الحكام لسلطاتهم ومسؤولياتهم تجاه الأخلاق ذاتها.

رؤية دانتي للملكية العالمية

يقترح دانتي خطة لحوكمة عالمية تتجاوز السياسة التافهة لبلده الأصلي ايطاليا. هو يدعو لحاكم علماني واحد للعالم الى جانب آخر يتولى المسائل الروحية، وبهذا يمنع الاحتكاك بين البابوات وأباطرة الامبراطورية الرومانية المجيدة، والذي يراه دانتي مدمراً.

طبقا لدانتي، مثل هذا الملك ستكون لديه قدرة أفضل للحكم بعدالة وفاعلية. اهتمامه سيكون لكل الانسانية وليس فقط لمدينة او جماعة واحدة. يرى دانتي ان هذه الشخصية ستساعد في حل الصراعات التي تبرز عندما تطالب مختلف الاقاليم بمناطق او سلطات متداخلة كما حصل في ايطاليا دانتي. هذه الفكرة تتعارض بشدة مع الطريقة التي عملت بها السياسة في ذلك الوقت. كانت ايطاليا تتألف من عدة ولايات متحاربة. كل من البابا والامبراطور يشاركان في السياسة. رؤية دانتي في الحكم الملكي لا تعني ملكا قمعيا وانما ملك فيلسوف مشابه لنموذج افلاطون – الذي سيكون منصفا عند عمل القرارات والحفاظ على السلام. هذا الهدوء سيمكّن الناس من التفكير حول ما هو خير والعمل المشترك لتحقيقه كمجموعة: شيء يدل على قدراتهم التي وهبها الله لهم.

أراد دانتي هذه الخطة الجديدة ليس فقط لأنه اعتقد انها ستكون أفضل مما كان في السابق ( سميت راديكالية) وانما ايضا بسبب انه اعتقد ان ايطاليا اعتادت بالضبط على هذا النوع من الحكم – وان هذا الحكم نال موافقة الله.

دور البابا والامبراطور

يعبّر دانتي في كتابه (حول الملكية) عن فلسفة سياسية تساعد في تقسيم المسؤوليات بين سلطات علمانية وروحية – تمثلت بالبابا والامبراطور – لكي يُسمح لكل طرف للعمل بفاعلية دون تعدّي على الآخر. في رؤية دانتي، سيكون البابا هو السلطة الروحية النهائية مع سلطة قضائية في المسائل الدينية وتوجيه أرواح الانسانية نحو خلاص أبدي. الامبراطور، بالمقابل، سيكون له نفوذ باعتباره أعلى قائد علماني مسؤول عن الحفاظ على الشرعية والنظام والعدالة هنا في الارض.

هذا الحكم المزدوج لم يكن فقط عمليا وانما هو ايضا مطلوب الهياً. كلا السلطتين لهما مهام متميزة كل واحدة تكمل الاخرى، تماما مثلما هناك مجالان منفصلان تغمرهما الشمس (تمثّل البابا) والقمر (يرمز الى الامبراطور)، حتى عندما يكون كلاهما كوكبان مضيئان في السماء.

ان أصل رؤية دانتي تكمن في فهمه للكتاب المقدس المسيحي والطريقة التي أسّس بها الله النظام الطبيعي. هو اعتقد انه بواسطة هذا النوع من الحكم الثنائي، يمكن للملكية بالنهاية تحقيق السلام والوحدة – شيء هو اعتقد يجب ان يكون هو الهدف. مثل هذا الفصل سوف يقلل من فرص الصدام الناجم بين شكلي السلطة، بما يمكّن كل طرف من الحكم بمزيد من العدالة والفاعلية قياسا بما لو كان كل طرف يقوم بكل شيء.

طبّق دانتي هذا البناء كنقد للطريقة التي كانت عليها الاشياء في زمانه. كان هناك احتكاك وتداخل بين الحكام العلمانيين والكنيسة، لكن نموذجه يقدّم حلا لهذه المشاكل.

العدالة والحوكمة في "الكوميديا الالهية"

في الكوميديا الالهية، يدمج المؤلف بذكاء قناعاته السياسية ضمن نسيج رحلته الرمزية عبر الجحيم، التطهير، الجنة. هذا الكتاب الاخلاقي المرشد هو أكثر من مجرد قصيدة ملحمية حول اللعنة والخلاص، هو يعكس افكار دانتي الشخصية حول الحكم الصحيح في كل مستوى من مستويات المجتمع. الجحيم تحت الارضInferno-hell (1) تسكنه الارواح المحكوم عليها بالعقوبة التي تتناسب مع جرائمها على الارض. من بين تلك الارواح العديد من القادة السياسيين ايام دانتي ذاته. هذا ليس مصادفة، يؤمن دانتي في العدالة التناسبية. البابوات الفاسدون والمسؤولون الآخرون الذين "باعوا" الامتيازات السياسية او انهم خانوا ثقة الشعب يمكن العثور عليهم في الحلقات السفلى من منطقة الجحيم، حيث يقاسون العذاب الملائم لأفعالهم الفاسدة. تعليقات دانتي كانت حول كل من الاخلاق الشخصية وكيف يتصرف أصحاب السلطة بعدالة.

منطقة التطهير purgatory هي المكان الذي يحصل به التطهير الاخلاقي لكي يمكن الوصول الى الجنة. الناس هناك يعملون لتصحيح عيوبهم في الحياة على الارض. هذا يبيّن ان دانتي يؤمن بانه بإمكان الناس التغيير نحو الأفضل ويرى ان الحوكمة الجيدة يجب ان تكون حول الاصلاح وكذلك العقوبة.

الجنة توصف كمكان للعدالة الالهية حيث تنعم الارواح بسعادة تامة في حضور الله. انها المكافأة النهائية للعيش الصحيح والحكم طبقا لقانون الله. هنا، يتحدث دانتي لشخصيات تاريخية تجسد الفضيلة المطلوبة للحكم العادل والحوكمة الجيدة – مقترحا ما يجب ان يقوم به القادة اذا ارادوا ان يكون لسلطاتهم وزنا أخلاقيا. عبر استعمال صور رمزية لهذه الأماكن، ينتقد دانتي الحكام الحالين بينما يقترح ايضا ان السلطة السياسية المثالية يجب ان تأتي دائما بالعدالة والاخلاق.

نقد دانتي للقادة السياسيين المعاصرين

لم يتراجع دانتي في نقده للسياسيين والممارسات السياسية في زمانه. هو استخدم أعماله الادبية خاصة الكوميديا الالهية كمنصة لكشف وإدانة الفساد. وصف دانتي الشخصيات السياسية بشكل واضح وصريح ، أحيانا يقرر لهم عقوبات تعكس آثامهم. هدفه هو التأكيد على ما رآه كتخريب في القيادة الأخلاقية. في ارض الجحيم مثلا، يضع دانتي البابا يونيفاس الثامن (رمز لكل من الفساد الكنسي والخداع السياسي) في الجحيم قبل ان يواجه موته الحقيقي. هذا يكشف عن احتقار دانتي للطريقة التي يستخدم بها البابا السلطة البابوية. ونفس الشيء، وُضع قادة فلورنسا تحت النار. دانتي يتهمهم بالجشع والطعن بالظهر والخيانة وتدميرهم لنسيج المدينة التي أحبها كثيرا. ادانات دانتي القوية كانت تشكل تحذيراً أخلاقيا في اصراره على ان الناس يفضلون حوكمة عادلة مرتكزة على الاخلاق بدلا من المصلحة الذاتية. هو دعا قرائه لفحص سلوكهم وشرح كيف يجب ان يتصرف القادة طبقا لأفكار المسيحية حول الصحيح والخطأ.

جرأة دانتي في نقد الأفراد علناً كان لها تأثير كبير تمثّل في نفيه من بلدته فلورنسا. وكان هذا مدمرا على الصعيد الشخصي، لكنه ايضا جعل أعماله النثرية أكثر حدة. ايضا، فقدانه لبلده كان يعني انه اصبح اكثر عالمية في وجهة نظره، بصرف النظر عن المكان الذي يعيش فيه.

***

حاتم حميد محسن

.......................

الهوامش

(1) Inferno او الجحيم تحت الارض هو الجزء الاول من الكوميديا الالهية لدانتي في القرن الرابع عشر، تبعه التطهير purgatorio ثم الجنة paradise. في الجحيم نجد وصفا لرحلة خيالية لدانتي ذاته عبر الجحيم من أجل إنقاذ روح المرأة التي أحبها باتريكا مسترشدا بالشاعر الروماني القديم فيرجيل virgil. في الملحمة، توصف الجحيم على شكل تسع دوائر من العذاب متحدة المركز تقع في باطن الارض، انها عالم اولئك الذين رفضوا القيم الروحية عبر خضوعهم للشهوات او العنف، او بسبب تشويههم لعقولهم البشرية وارتكابهم الاحتيال او الحقد ضد رفاقهم البشر. كل دائرة من الدوائر التسع تمثل اثما مختلفا وكل دائرة لها درجتها من الشر. العقوبة الملائمة لكل اثم يتم تطبيقها في الدائرة المقابلة، وعندما يسافر دانتي خلال كل دائرة هو يلاقي شخصيات هامة من التاريخ كانوا مدانين في الإثم. الكوميديا الالهية، صورة رمزية تمثل رحلة الأرواح نحو الله.

 

مقدمة: في إطار تطور مفاهيم الاقتصاد الحديث، أصبحت الشركات والمؤسسات أو نقول الأشخاص الاعتباريون لاعبين أساسيين كمستهلكين في الأسواق. فعندما يبرم المستهلك المعنوي عقدا استهلاكيا مع شركة عادية أو شركة ذات مسؤولية اجتماعية أو عون اقتصادي أو محترف، لا يكتفي فقط بشراء المنتج أو الخدمة بناء على السعر أو الجودة التقليدية بل يتعدى ذلك إلى التحقق من التزام البائع بالمعايير الاجتماعية والبيئية، مما يجعل هذا النوع من العلاقة التجارية جزءا من الاستهلاك العادل.

ويعد الاستهلاك العادل بمثابة فلسفة شاملة تسعى إلى تحقيق التوازن بين الاقتصاد والمجتمع والبيئة، من خلال اتخاذ قرارات شرائية واعية. إذ يمكن للمستهلكين أن يكونوا جزءا من حلول طويلة الأمد للتحديات العالمية مثل الفقر، عدم المساواة، والتغير المناخي. مثال ذلك: شراء منتجات تحمل شعار "التجارة العادلة" التي تضمن دفع أجور عادلة للمنتجين، أو التعاقد مع شركات تستخدم تقنيات صديقة للبيئة وتقلل من بصمتها الكربونية.

إن الاستثمار في الاستهلاك العادل هو استثمار في مستقبل أفضل لنا جميعا، فنحن في عصر يشهد تزايدا ملحوظا في الوعي المجتمعي والبيئي، مما يستدعي تحديد ملامح الأسواق وتوجيه الشركات نحو اتباع ممارسات أكثر شفافية وعدالة.

وسبب تركيزنا في هذا المقال على المستهلك وبالتحديد عندما يكون شخصا معنويا هو قوته التأثيرية، والذي قد يتمثل في المؤسسات والإدارات العمومية (عندما تقتني السلع والخدمات قد تضع شروطا صارمة على الموردين تتعلق بالمعايير الاجتماعية والبيئية، أو يمكن أن تتطلب الحكومة من الشركات الموردة استخدام طاقة متجددة أو توفير فرص عمل). أو قد يكون هذا المستهلك المعنوي شركات خاصة أو منظمات (فمثلا بعض الشركات الكبرى تلتزم بسياسات مشددة فيما يتعلق بالمشتريات، على سبيل المثال قد تختار شركة متعددة الجنسيات التعاون فقط مع الموردين الذين يلتزمون بممارسات التجارة العادلة).

لذا يتميز المستهلك المعنوي في أن دوره يتجاوز الأبعاد الفردية لاتخاذ قرارات استهلاكية قائمة على المعايير الاجتماعية والبيئية، وله من القوة مالا نجده في الشخص الطبيعي (الذي عادة يبرم عقود الاستهلاك بكونها عقود إذعان، وإن كان في غالبية التشريعات له مفهوم مقيد وليس مطلق كاستثناء على عقود الإذعان الإدارية). هذا النهج يعكس التزاما أعمق بالاستدامة والمسؤولية الاجتماعية، وذلك من خلال وضع آليات اتخاذ القرارات الاستهلاكية بعدالة ضمن استراتيجيات المستهلك المعنوي.

أولا- أهمية تعزيز الاستهلاك العادل من قبل المستهلك:

يشكل المستهلك المعنوي رافعة قوية لتغيير ممارسات السوق نحو الأفضل. فهناك عدة أسباب تجعل هذا الدور محوريا:

1- القوة الشرائية الكبيرة:

بسبب حجم المشتريات الكبير الذي تقوم به الشركات والمؤسسات، يمكن لهذه الكيانات أن تؤثر بشكل كبير على سياسات الشركات البائعة. فعلى سبيل المثال إذا قررت شركة كبيرة عدم التعامل مع موردين لا يلتزمون بالمعايير الاجتماعية والبيئية، فإن هذا القرار يمكن أن يدفع العديد من الشركات الأخرى إلى إعادة النظر في ممارساتها.

2- السياسات المسؤولة اجتماعيا:

إن الشركات والمؤسسات التي تعمل كمستهلكين غالبا ما تكون لديها التزامات اجتماعية وبيئية اتجاه مجتمعاتها، وبالتالي فإن اختيارها للمنتجات أو الخدمات يكون مدروسا ليتماشى مع هذه الالتزامات. هذا يعكس نموذجا جديدا من الاستهلاك القائم على القيم وليس فقط على المصالح الاقتصادية.

3- تعزيز الشفافية في السوق:

من خلال مطالبة البائعين بالإفصاح الكامل عن ممارساتهم، يساهم المستهلك المعنوي في تعزيز الشفافية في السوق. هذا يؤدي إلى بناء علاقة ثقة بين الشركات والمستهلكين، مما يعزز من كفاءة السوق وتحقيق أهداف التنمية المستدامة.

ثانيا- الآليات المسؤولية لاتخاذ القرارات الاستهلاكية:

عندما يبرم المستهلك المؤمن بالاستهلاك العادل عقدا استهلاكيا مع شركة عادية أو شركة ذات مسؤولية اجتماعية، فإن أولوياته تختلف عن تلك الخاصة بالمستهلك العادي الذي يركز فقط على السعر أو الجودة، حيث يقوم هذا المستهلك العادل بفحص مدى التزام البائع بالمعايير الاجتماعية والبيئية قبل إتمام الصفقة والتي تكون على الخصوص من خلال:

1- التحقق من الالتزام بالمعايير الاجتماعية والبيئية:

قبل الشراء، يقوم المستهلك المعنوي بإجراء تقييم شامل للبائع لمعرفة إذا كان يتبع سياسات مستدامة وممارسات عادلة. ويشمل ذلك مثلا التأكد من أن الشركة المنتجة تلتزم بدفع أجور عادلة للعمال، وتحافظ على البيئة من خلال استخدام مواد خام صديقة للطبيعة، وتتجنب أي ممارسات تمثل استغلالًا للإنسان أو الأرض. والتأكد من أن الشركة توفر معلومات دقيقة عن منتجاتها أو خدماتها دون إخفاء أي بيانات حساسة.

2- الحق في الإفصاح والإشهار غير المظلل:

للمستهلك المعنوي الحق في طلب الإفصاح الكامل عن جميع المعلومات المتعلقة بالمنتج أو الخدمة المقدمة. يجب أن تكون الإعلانات والإشهارات واضحة وغير مضللة سواء حول المنتج أو ممارسات المسؤولية الاجتماعية، بحيث لا تغطي على الحقائق أو تضخمها بشكل غير صحيح، هذا الأمر يعزز الثقة بين الطرفين ويضمن أن القرار الاستهلاكي يتم بناء على معلومات دقيقة وشفافة.

3- بنود الإذعان المتبادلة:

غالبا ما تحتوي العقود الاستهلاكية على بنود الإذعان التي تفرض شروطًا مسبقة على المستهلك دون السماح له بإدخال تعديلات. ومع ذلك، للمستهلك الشخص المعنوي الحق في مناقشة هذه البنود وإجراء التعديلات اللازمة لضمان أنها تتوافق مع معايير الاستهلاك العادل. هذا يضمن أن العلاقة بين الطرفين قائمة على الشراكة والمساواة وليس على الهيمنة أو الإجبار. كما أن شرط احترام المعايير المسؤولة الذي يفرضه المستهلك في هذا العقد يعد شرطا أخلاقيا وبندا من بنود الإذعان الذي لا يقبل المناقشة، ويبقى للمنتج أو البائع هو الآخر وضع البنود الإذعانية المتعلقة بسلعته أو خدمته ضمن ما هو مقرر قانونا ويخدم مصالحه الاقتصادية.

خاتمة:

من خلال ما تقدر نلاحظ بأن المستهلك يمكنه أن يلعب دورا حاسما في تعزيز مفهوم الاستهلاك العادل من خلال التزامه بمعايير اجتماعية وبيئية قبل إتمام الصفقات، سواء كان ذلك من خلال مطالبة البائعين بالإفصاح الكامل، أو مناقشة بنود الإذعان، أو التركيز على الممارسات المستدامة، فإن هذا النهج يساهم في تحقيق توازن بين المصالح الاقتصادية والاجتماعية والبيئية. في النهاية، يصبح الاستهلاك العادل ليس مجرد خيار بل ضرورة لتحقيق تنمية مستدامة وبناء مجتمعات أكثر عدالة وإنصافا.

***

بقلم: الدكتورة بورزيق خيرة

أستاذة جامعية، محامية ومتخصصة في مجال المسؤولية الاجتماعية / الجزائر

الحُبّ المؤطر بإطار أخلاقي معلِّم يهب الإنسان قدرةً استثنائية لمنح مَن يحبّه الحقّ في الاختلاف، والحقّ في الخطأ، والحقّ بالاعتراف بالخطأ، والحقّ بالاعتذار. الحُبّ يمكن أن يكون طاقة توليدية تزوّد الإنسان بما يغتسل به قلبه ويتطهر من الكراهية، ويتحرّر من دوافع الانتقام والثأر. عندما يملأ الحُبّ قلب الإنسان، فإنه يُعيد تشكيل نظرته للعالم، ويعيد بناء علاقاته بالآخرين، ويجعله أكثر دفئًا وعطفًا ورقة ورحمة، وتصير شخصيته منبعًا للصفح. هذا التغيير ينبع من طبيعة الحُبّ بوصفه عاطفة فعّالة تحفّز على العطاء والغفران، بدلاً من التشبث بالأحقاد والإحن والضغائن.

معادلة الحُبّ والرحمة والصفح ثلاثية العناصر، الصلة بين عناصرها جدلية تفاعلية تكاملية. تبتني هذه المعادلة على أصل هو الحُبّ تنبثق عنه الرحمة، وفي الوقت نفسه تعود الرحمة لتحتضن الحُبّ وتعيد توليده وتكريسه، ويتألف من اتحادهما الصفح، ليعود الصفح مجدّدًا وهو العنصر الثالث في المعادلة ليحتضن التوليفة المنصهر فيها الحُبّ والرحمة، ليحتضن هذا المتحد من العنصرين ويتكامل معه في مركب واحد، فتحدث توليفة واحدة من الحُبّ والرحمة والصفح، وهي تجليات متنوعة لحقيقة واحدة، وكأنها ثلاثة روافد تغذي نهرًا واحدًا، تمتزج مياهها معًا لتصير مياهًا واحدة، بذلك تتجلى فاعلية الحُبّ والرحمة بإنتاج الصفح. بهذه المناسبة أود أن أشير إلى أن الذين تشبعوا بالمنطق الأرسطي والفلسفة في تراثنا ربما يسارعون للقول بأن هذا يلزم منه الدور، إلا أن الدور لا معنى له هنا على وفق الجدل الهيغلي.

  بعض الفلاسفة تناولوا الحُبّ بوصفه قادرًا على تطهير الذات من مرارات الكراهية، وإطفاء شعلة الانتقام. نظرة هؤلاء الفلاسفة للحُبّ تختلف تبعا لفلسفاتهم، غير أن ما يجمعهم هو الاتفاق على أن الحُبّ قوة متسامية تحرّر الإنسان من عنف الأحقاد والضغائن. الحُبّ يمنح الإنسان ثقة هائلة بذاته، وبقدرته على إخماد ما يؤجّج الغضب في نفسه، وبعث السلام الداخلي الذي يمكّنه من التغلب على انفعالاته الحادة. الحُبّ طاقة إيجابية فعّالة، تعمل على تفكيك دوافع الانتقام عبر تحرير الإنسان من العبء النفسي للغضب، وإطفاء نار الكراهية، ومنحه القدرة على التسامي والاستغناء عن الاقتصاص بالعفو، والابتعاد عن التشفي بما يصيب الغير من نكبات.

الحُبّ لا يجعل الإنسان ضعيفًا، بل يجعله قويًا بما يكفي، ليتحكم بما يغرقه من انفعالات متّقدة، قد تزجّه في الفتك بمَن يؤذيه. الحُبّ يجعل الإنسان يتنبه إلى ما تتركه هذه الانفعالات من آثار مريرة على سلامه الداخلي، عندما ترتدّ إليه لاحقًا فتعذّب ضميره. الحُبّ قوة تطهر قلب الإنسان من سموم الكراهية، الحُبّ يكفل تحقيق التوازن في الشخصية بين العاطفة والعقل والروح، ويعمل الحُبّ بفاعلية على إحداث الانسجام العميق بين الفرد والآخر، وبين الإنسان وعالمه. الحُبّ طاقة تغذّي الأخلاق والمعرفة والتنوع الديني والإثني والثقافي. الحُبّ يحرّر الذات من شعورها بوحشة الوجود، وبغربتها في العالم الذي يعيش فيه الإنسان. بالحُبّ يتكشف جمال الوجود في تجلياته المتنوعة، وتسود علاقات تبتني على الاحترام المتبادَل مع المختلِف في المعتقَد، بدلًا من نبذه، أو التسلط والهيمنة عليه. الحُبّ ينقذ مشاعر الإنسان من دوافع الانتقام، ويجعله قادرًا على الصفح عن كلِّ من أساء إليه، والبداية من جديد، حتى لو لم تندمل الجروح التي أحدثها المعتدي في داخله.

  كثيرٌ من الاعتداءات وانتهاكات القيم والقانون تحدث بدوافع الانتقام والثأر، وأحيانًا يقود ذلك إلى سلسلة مريعة من عمليات العدوان تطال أبرياء لم يرتكبوا أيّ عدوان أو جريمة بحقّ أي إنسان، كما يحدث في مسلسل عمليات الثأر لدى القبائل أمس واليوم. حرب البسوس القديمة مثلًا تواصلت 40 سنة1، وعكست سلسلة مواقف ثأرية مقيتة. قتلَ فيها جساسُ بن مرة كليبًا بن ربيعة، بسبب ناقة امرأة تُدعى البسوس بنت منقذ التميمية، كانت لديها ناقة ترعى في أرض كليب بن ربيعة زعيم قبيلة تغلب، وكليب كان يرى كلّ ما يرعى في أرضه من حيوانات تجاوزًا عليه، فأمر بقتل الناقة. غضب ابن أخ البسوس جساس بن مرة، الذي رأى في قتل الناقة إهانة لأهله، فقتل كليبًا ثأرًا لقتل ناقة عمته. المهلهل بن ربيعة انبرى لأخذ ثأر قتل أخيه كليب، واستمرت الحرب بين القبيلتين 40 سنة، وكانت كما يقال من أطول الحروب بين القبائل العربية. المؤسف في بلادنا أن حروب الثأر مازالت تسفك فيها دماء بريئة في مسلسل أعمال قتل انتقامية عبثية بين القبائل. الانتقام فعل يعمل باتجاهين متعاكسين، فمثلما يفتك بالضحية أولًا، يفتك بالمُنتقِم أيضًا، وان تأخر الفتك الثاني.

 لغة السلام والتراحم والمحبّة والتعايش السلمي في فضاء التنوع والاختلاف ضرورة لحماية التنوع الإثني والديني والمذهبي في المجتمع، وتحريره من ترسبات العنف الكبيرة المختزنة في اللاشعور الجمعي والفردي. بسبب الحروب المريرة في بلادنا منذ أكثر من خمسين سنة، ‏وتسخير الإعلام المرئي والمسموع والثقافة والأدب والفن والمنابر الدينية للتعبئة لهذه الحروب، تفشت شحنة عنف عالية في لغتنا وأصواتنا وحتى في تعبيرات أجسادنا، ‏بحيث صار التعبير عن الجمال أحيانا بكلمات غريبة، يقال مثلًا في توصيف ما هو جميل: "رهيب"، "كارثة"، "يقتل"، وأمثال ذلك. تحرير اللغة وهكذا أصواتها ولغة الأجساد من شحنة العنف يحرّر الفضاء العام من العنف، وذلك يتطلب إعادة بناء اللغة وطرائق التعليم في مقرّرات مدارس التعليم الأساسي، ابتداء من الروضة، وكلّ مقررات التربية والتعليم، واستبعاد الكلمات العنيفة والصور التي ترسم مشاهد دامية. وينبغي أن يواكب ذلك المزيد من توكيد مقرّرات التربية والتعليم على قيمة الحقّ في الاختلاف، والحقّ في الخطأ، والحقّ بالاعتراف بالخطأ، والحقّ بالاعتذار، وتهذيب أداء وسائل الإعلام السمعي والبصري، وتطبيقات وسائل التواصل، والثقافة، وحتى المخاطبات الإدارية والشعارات المتبناة في مكاتبات الحكومة.

 الشخصيات المتعجلة في ردود الأفعال العدوانية مزعجة جدًا، غير أن الإنسان يتعلم من هذه الشخصيات أشياء لا يتعلمها من الشخصيات المهذبة. الشخصيات المهذبة تشعرك بالأمن والدفء والحنان والمحبّة. الشخصية العدوانية تستفز كلَّ شيء فيك، عندما يُستفَز الإنسان يكون قادرًا على اكتشاف ذاته وإنقاذها، وتتطور مهاراته في التعامل مع أصعب البشر. أخطر ما يقوض الحُبّ ردود الأفعال العدوانية المتعجلة، ‏وظيفة الحُبّ تحرير الإنسان وتطهير قلبه من الانفعال العدواني والانتقام والتشفي.

الصفح ممكن، لكن النسيان صعبٌ للغاية، وأحيانًا يتعذّر تمامًا، خاصةً إذا كانت الانتهاكات والجروح التي تركها المعتدي عنيفة. الصفح غير النسيان، النسيان لا إرادي، الصفح قرار يتخذه الإنسان.كلُّ جرح عميق وشم للذاكرة لن يموت أو يُنسى، الصفح يعني امتلاك القدرة على تجاوز الأثر الذي تحدثه الإساءة، والتحرّر من دائرة ردّ الفعل التي يلبث الإنسان في الغالب أسيرها وعيًا وسلوكًا. إلا أن خلاصًا كهذا لا يمحو ذاكرة الانسان، ولا يقوم على محو الأثر الذي لا يمحى. إن ذاكرة كهذه تحمي الإنسان من الشر الأخلاقي، فحين تنعدم تُفقِد الإنسان القدرة على التمييز، وتُعجِزه عن بناء الوعي اللازم للعيش في المجتمع. أن أعرف الناس شيء، وأن أصفح عنهم شيء آخر. الصفح ليس سهلًا، وإن كان ضرورة للعيش المشترَك، لأنه صوت غفران. الصفح أصعب من الثأر، لأن ما ليس من نوع الفعل أصعب مما هو من نوعه. الصفح فعل أخلاقي يتحرر من سطوة الغضب وتغلبه على إرادة الإنسان. الثأر ردّ فعل من نوع الفعل، لكن الثأر بالقدر الذي يفرغ غضب الإنسان يمثل تحديًا لقدرته على التسامي الأخلاقي والنجاح في تجاوز الأحقاد والضغائن.

لا يظفر الإنسان بالسلام الداخلي والقدرة على الصفح ما لم تتحقّق ذاته بالمحبّة والرحمة، لو تسامى الإنسان يستطيع أن يعفو عن الإنسان الذي يؤذيه ويطعنه من الخلف، بل يمكنه أن يُحسن إليه ويكرمه، إلى الحدّ الذي يخجله في خاتمة المطاف، وربما يُقبِل على مَن يصفح عنه بمحبّة. الصفح عن الصديق الذي مارس الغدر معك أشقّ على النفس من الصفح عن العدو. يتفوق الإنسان بقدرته على التعامل الأخلاقي النبيل، وقدرته على العفو والغفران. الإنسان الذي يستطيع أن يغفر ما أمكنه ذلك، يحمي سلامه الداخلي، ويحمي الإنسان الذي يؤذيه من ردود أفعاله الانتقامية. الغفران تجربة للعيش تطهر روح مَن يدرب نفسه على ممارستها، في كلّ مرة يمارسها يتذوق ثمرتها المطهرة للروح من الضغينة والانتقام. ممارسة الغفران ضرورة لحماية أواصر العلاقات الإنسانية داخل العائلة والمجتمع، وتنمية روافد المحبة والتراحم. حتى لو تعلم على الغفران والصفح، يظلّ يتألم الإنسان ممن يؤذيه، غير أن هذا الأذى يكون مؤقتًا، لأنه يستطيع أن يعفو عنه بعد مدة ليست طويلة، لئلا يتصدع سلامه الداخلي، ولئلا يمسّ غيره سوء من غضبه.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

...........................

  يرى مؤرخون أن هذه الحرب حدثت قبل ظهور الإسلام، في النصف الأول من القرن الخامس الميلادي، بين سنوات 494م و534م تقريبًا.

 

حدَّثنا (ذو القُروح)، في المساق السابق، عمَّا زعمه افتراءً على (الجاحظ، ـ255هـ)، من خلال رواية معنعنة عن (زكي مبارك)(1)، الذي قال: إنَّ «الجاحظ يحدِّثنا أنَّ خُطَب عَليٍّ وعُمَر وعُثمان كانت محفوظة في مجموعات. ومعنى هذا أنَّ خُطَب عَليٍّ كانت معروفة قبل الشَّريف الرَّضِي.» مع أنَّ الجاحظ لم يقل: «إن خُطَب عَليٍّ وعُمَر وعُثمان كانت محفوظة في مجموعات»، كما زعم (زكي مبارك)، بل قال: «هذه خُطَب رسول الله مدوَّنة محفوظة، ومُخلَّدة مشهورة، وهذه خُطَب أبي بكر، وعُمَر، وعُثمان، وعَليٍّ، رضي الله عنهم.»(2)، وسكتَ. ثمَّ أردفَ ذو القُروح:

ـ كما زعم مؤلِّف كتاب «مصادر نَهْج البلاغة وأسانيده»(3) أنَّ (الجاحظ) قد ذكر: أنَّ «خُطَب عَليٍّ، عليه السلام، كانت مدوَّنة محفوظة مشهورة»! فبدَّل كلام الجاحظ السابق تبديلًا؛ فحين قال الجاحظ: «خُطَب رسول الله مدوَّنة محفوظة، ومُخلَّدة مشهورة»، جعل صاحب «المصادر» مكان «رسول الله»:  «عَليًّا، عليه السلام»!

ـ لكن هل صحيح أنَّ «خُطَب رسول الله مدوَّنة محفوظة، ومُخلَّدة مشهورة»، كما قال (الجاحظ)؟

ـ يظلُّ كلام (الجاحظ) كلامًا تعميميًّا، لا يصحُّ أن يُفهَم فهمًا حرفيًّا؛ وإلَّا فأين «خُطَب رسول الله المدوَّنة المحفوظة، والمُخلَّدة المشهورة»؟! كما تساءلنا من قبل. بل ستجد في بعض الكتب تصحيف «مُخلَّدة» إلى «مُجلَّدة»! وقد ذكر محقِّق كتاب الجاحظ أن الكلمة كذلك في بعض النسخ. بالرغم من أنَّ ما دُوِّن منها في التراث لا يعدو مقاطع من خطبته في حجَّة الوداع، إضافةً إلى مقطوعات، معظمها ممَّا ورد في ثنايا الحديث النبوي. وقد سبق كلامنا حول هذا. أمَّا خُطَب (أبي بكر)، و(عُمَر)، و(عُثمان)، و(عَليٍّ)، فلم يقُل الجاحظ إنها: (لا مدوَّنة، ولا مخلَّدة، ولا مجلَّدة)، وإنَّما ألمحَ إلى أنها مرويَّة، أو مرويٌّ عنها، على كلِّ حال؛ تشجيعًا لصاحبه على التأسِّي والإقدام على الخطابة. هٰذا، وكثيرًا ما يتجوَّز الجاحظ في كلامه؛ حتى لقد اتَّهمه (المسعودي)(4) بأنَّه لا ثقة بما يروي؛ واصفًا إيَّاه بأنَّه: «إنَّما كان حاطبَ ليل، ينقل من كُتب الورَّاقين.» على أنَّه- بالنظر إلى كتاب الجاحظ نفسه، الذي نُسِب إليه ما نُسِب، وهو «البيان والتبيين»- لم يورِد لعَليٍّ غير أربع خُطَبٍ موجزة.(5) هي من «النَّهج»، بحسب ترتيبها في كتاب الجاحظ: الخطبة السادسة عشرة، والثامنة والعشرون، والسابعة والعشرون، والتاسعة والعشرون. مع اختلاف بين الكتابَين في بعض الصِّيغ، ونقصٍ أو زيادةٍ في بعض الفقرات، وتفاوتٍ في الترتيب. وعَرَضَ في أجزاء متفرقة من كتابه لفِقَرٍ مقتضبةٍ من بعض خُطَب عَليٍّ، وذلك في أربعة مواضع.(6) وأشار مرَّتين إلى بعض أدعيته في زيارة المقابر. وأحيانًا كان، كغيره من المؤلِّفين، يورد عَرَضًا بعض العبارات الحِكْميَّة المنسوبة إلى الإمام، وفيها تكرار.(7)

ـ على أنْ ليس المهمَّ أن يكون قد أخذ (الشَّريفُ الرَّضِيُّ) عن مصادر ما، بل المهمُّ مدَى موثيقيَّة تلك المصادر!

ـ صحيح. أمَّا الاسترسال إلى القول: لقد كانت ثمَّة مصادر «للنَّهْج» قَطْعًا، وهي موثوقة جِدًّا، قَطْعًا أيضًا، لكنَّا لا نعرفها، فقد اخترمتها عوادي الأزمان؛ لما نال المكتبة العَرَبيَّة الإسلاميَّة، كما تعرفون، من تلفٍ وإتلاف، فجوابه أن يُقال:

وما نَفْعُ المصادرِ حِين تُمسي  :::  حديثَ خُرافةٍ، يا أمَّ عَمْرِو؟!

ثمَّ إنَّ علينا، قبل التغنِّي بـ«المصادر»، أن نُحرِّر معنى هذا المصطلح في تراثنا العَرَبي، وكذا المصطلح المرادف له، وهو مصطلح «كتاب». ذلك أنَّه يَقِر اليوم في السمع وفي المخيال، عندما نقرأ مصطلح «كتاب»، أنه كتاب، كما نعهد الكُتب،  في مئات الصحائف، أو كُتيِّب في عشراتها. وهذا غير صحيحٍ، بالضرورة، فقد يُطلَق مصطلح «كتاب» في التراث العَرَبي على المكتوب عمومًا، وإن كان رسالة في بضع صحائف، أو حتى في صحيفة واحدة.

ـ هل من شاهد؟

ـ الشواهد كثيرة. لكن الشاهد على ذلك- في هذا السياق- يمكن أن يتمثَّل من خلال ما يشار إليه بكتابٍ منسوبٍ إلى (الجاحظ) أيضًا، عنوانه «مئة كلمة من كلام أمير المؤمنين عَليِّ بن أبي طالب»(8)، وقد يَعُدُّون هذا «الكتاب» في جملة مصادر «نَهْج البلاغة».

ـ فما حجم هذا الكتاب؟

ـ إنه لا يعدو، في مخطوطه، نحو 7 صحائف! إذا استبعدنا الشروح المرافقة. تتضمَّن مقولات حِكميَّة منسوبة إلى (عَليٍّ)، مع شرحها باللُّغة الفارسيَّة. وعلى كلِّ صحيفةٍ بضعة أسطر فقط، على كلِّ سطر جملةٌ واحدةٌ من مقولات عَليٍّ، تختلف طولًا وقصرًا، كعبارة «قيمة الإنسان ما يحسنه»، أو «الناس نيام، فإذا ماتوا، انتبهوا»، أو «الناس بزمانهم أشبه من آبائهم». فهذا الكتاب، إذن، مع الشروح الفارسيَّة، يقع في أربع عشرة صحيفة، لا أكثر!

ـ هذا كلُّ ما في هذا المسمَّى كتابًا؟!

ـ نعم. بل إنَّ السؤال، قبل ذلك كلِّه، هو سؤالٌ ثقافيٌّ حضاري: عن رحلة نصوص شفويَّة، قيلت منذ ما قبل 21 رمضان 40هـ= 27 يناير 661م- وهو تاريخ وفاة (عَليٍّ، رضوان الله عليه)- إلى ما بعد 380هـ تقريبًا؛ لأن (الرَّضِي) وُلِد 359هـ وتوفي 406هـ؟ فأنت هنا أمام قُرون متطاولة، تعاقبت فيها أجيال وأجيال، بل توالت دُوَل على العالم الإسلامي شرقًا وغربًا، في مدَى ما بين (340 سنة و350 سنة). أمَّا إنَّ كان واضع «النَّهْج» هو (الشَّريف المرتضَى)، فربما كانت المدَّة أطول؛ لأنه توفي بعد أخيه بثلاثين سنة، 436هـ.

ـ إنْ صحَّ ذلك، فتلك معجزة!

 هذا كلامٌ لهُ خَبِيءٌ  :::  معناهُ ليسَ لنا عُقولُ!

ذلك أنَّ كتاب الله- الذي قال الله عنه: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ»، ومع أنَّ بعضه كان مدوَّنًا فعلًا، وكان للرسول كَتَبَة وَحْيٍ يُملي عليهم، ثمَّ هو، إلى ذلك، ما ينفكُّ يُتْلَى آناء اللَّيل وأطراف النهار- ما أن مرَّت عشرون سنة من وفاة الرسول (يوم الاثنين، ربيع الأوَّل 11هـ)، حتى نَذِر الصحابة بخطورة ضياعه واختلاطه، فبادروا إلى جمعه بين دفَّتَي مصحف، في عهد (عُثمان، ـ35هـ)، واستبعاد ما سواه من أن يُعَدَّ قرآنًا.

ـ بل كان استشعار ذلك قبل عهد (عُثمان)، في عهد (أبي بكر) و(عُمَر)، وإنْ لم يتمَّ ذلك إلَّا في عهد عُثمان.

ـ فكيف بسِواه من الكلام البَشَري الشَّفوي؟!

ـ سيقولون لك: لا «النَّهْج»، ويا لله العجب، لا يقاس على غيره، فلقد كُتِب له الخلود بسهولة، وقُيِّض له خَرْق نواميس التاريخ والذاكرة البَشَريَّة على نحوٍ إعجازي!

ـ لك أن تقارن 350 سنة، في قِصَّة رحلة «النَّهْج» من الشَّفويَّة إلى الجمع والتدوين، بعشرين سنة فقط في رحلة «القرآن» من طَور الشَّفويَّة- مع وجود وثائق مخطوطة عن الرسول مباشرةً- إلى طَور الجمع والتدوين! وأمَّا تصرُّف (الشَّريف الرَّضِي) في النصوص التي كانت بين يدَيه، فهو بنفسه، في مقدِّمته، يشهد بوقوعه منه، ولا يحتاج منَّا إلى تبيان. حيث ذكر أنَّ الروايات التي كانت بين يديه من كلامٍ منسوبٍ إلى عَليٍّ كانت «تختلف اختلافًا شديدًا»!(9)

ـ فكيف صار الاختلاف، إذن، بين روايةٍ وروايةٍ وروايةٍ، وصياغةٍ وصياغةٍ توفيقيَّة، أو تلفيقيَّة، اجتهد (الشَّريف) في إخراجها؟!

ـ صار ذلك كلُّه «نَهْج البلاغة»! وقد قلنا إنَّ هذا أمرٌ طَبَعيٌّ في كلِّ نصٍّ منقولٍ بالمشافهة، ولاسيما إذا كان نثريًّا. وضَرَبْنا على ذلك مثلًا بخطبة (أبي بكر الصِّدِّيق) في (سقيفة بني ساعدة)، التي تبدو في مصادر التراث المختلفة خُطَبًا مختلفةً لا خطبة واحدة. ومن هنا يبدو مكابرةً الزعمُ أنَّ خُطَب (أبي الحَسَن) كانت وحدها استثناءً في هذا الأمر التداولي؛ فبقيت معنًى ومبنًى عبر القرون، ومن ثمَّ فهي «نَهْج بلاغته» هو، لا نَهْج بلاغة الرَّضِي، الذي اشتغل على تحريرها في كتابٍ تعليميٍّ لطلبة البلاغة.

ـ وإنْ صحَّ القول: إنَّه كان يتكئ على معاني عامَّة بَلَغَتْه عبر المرويَّات الشَّعبيَّة من أخبار الإمام.

ـ وهنا موطن الشكِّ، ولُبُّ الخلاف مع من يَعُدُّ «نَهْج البلاغة»: نَهْج بلاغة (عَليِّ بن أبي طالب) حرفيًّا. وهذا ما لم يزعمه (الشَّريف) أصلًا في عنوان كتابه، بل وَسَمَه بـ«نَهْح البلاغة»، دون تقييد بعَليٍّ، كأنْ يقول: «نَهْح بلاغة عَليِّ بن أبي طالب». وهذا يشي، من خلال العنوان، أنَّه أراد القول: هذا الكتاب طريق البلاغة لمن أراد تعلُّمها والدُّربة على أساليبها، من خلال تلك المرويَّات من النصوص التطبيقيَّة المختارة. ثمَّ كتبَ في مقدِّمته- لو كان هؤلاء يقرؤون-: «ورأيتُ من بَعدُ تسميةَ هذا الكتاب بـ»نَهْج البلاغة»؛ إذ كان يَفتح للناظر فيه أبوابها، ويُقرِّب عليه طِلابها، وفيه حاجة العالِـم والمتعلِّم، وبُغية البليغ والزاهد.»(10)  على حين بلغ الحماس ببعض إخواننا إلى القول: بل هو لعَليِّ.. ولو طار، من ألفه إلى يائه، مبنًى ومعنًى، بلا مثنويَّة، ومن زعمَ غير هذا، أو شكَّ، أو تساءل، فلا يلومنَّ إلَّا نفسه، فقد نَصَبَ، أو هو سَلَفيٌّ وهَّابي، في أهون الأحكام عليه!

[للحديث بقيَّة].

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

...............................

(1) (1957)، النثر الفنِّي في القرن الرابع، (مِصْر: مطبعة السعادة)، 1: 69.

(2) الجاحظ، (1998)، البيان والتبيين، تحقيق وشرح: عبد السلام محمَّد هارون، (القاهرة: مكتبة الخانجي)، 1: 200- 201.

(3)  لـ(الخطيب، عبد الزهراء)، (بيروت: دار الأضواء، 1985)، 1: 50.

(4)  المسعودي، (1978)، مُرُوْج الذَّهب ومعادن الجوهر، عُني بفهرسته: يوسف أسعد داغر، (بيروت: دار الأندلس)، 1: 67.

(5)  يُنظَر: الجاحظ، م.ن، 2: 50- 56.

(6)  يُنظَر: م.ن، 2: 77- 78، 101، 190- 191، 3: 301.

(7)  يُنظَر: م.ن، 3: 148، 155.

(8)  منه نسخة مخطوطة في (مكتبة مكَّة- مخطوطات)، التابعة لوزارة الحجِّ والأوقاف، سُجِّل على غلافها تصنيفًا: أدب 7.

(9) (1990)، نَهْج البلاغة، شرح: محمَّد عبده، (بيروت: مؤسَّسة المعارف)، 80.

(10)  م.ن، 81.

 

"ثمة عبودية متفوقة على النمط الثقافي السائد، حيث تتقاطع ذاكرة قوة التأثير، إلى حدود تصبح فيها الفردية جزءا من الشكل المعبود، مثلما هو التغيير الذي اجترحته قوة الشبكة العنكبوتية في بنية المجتمع الاستهلاكي"

تصر شبكات التواصل الاجتماعي، المفتوحة على كل فرضيات الإنتاج، في علاقتها بالمحتوى وروابط الاختلاف البنيوي والديمغرافي، ونمو النزعات المادية والشخصية، على تعميق الفجوة الرقمية دون إرادة لتأمين الفرص أو استباق أخلاقي منظم للعلاقة، وبدون تدخل سياسي قادر على إحداث التوازن، محدثة بذلك ترسبا ثقيلا من جانب كونها فشلت بشكل خطير في إرباك مبدئية اللامساواة الاجتماعية، الشيء الذي عجل بشرخ تمييزي في قياس مفهومي "الشبكة" و"المعلومات".

هذا التصور السوسيولوجي لنسق التقاطع بين المجتمعين المذكورين، ضمن انفضاح صورة القوة الهرمية المأفونة والمدعمة بفعل واقع الفجوة إياها، يستبق أسئلة الأزمة المحدثة، في تلك اللامساراة المغلفة التي أقبرت ما يسمى بنظامية الأخلاق على المستوى التعليمي والاجتماعي والمادي.

هناك أبعاد انعكاسية متمنعة عن الفهم، خصوصا في ما يتصل بسرديات السوسيولوجيا الكلاسيكية، التي تذهب إلى أن مجاورة الفجوة الرقمية للتكنولوجيا، قد تجعل من سؤال الأزمة نوعا من التماهي مع تحليل الخاصية الشبكية البديلة، التي تنظر للامساواة المادية في مجتمع المعلومات، كوحدة منفصلة تماما عن المجتمع الجديد، دون تجاهل محددات هذه الوضعية، التي تطالب بدارسة نسق التحولات فيه، إن على مستوى الزمان أو الثقافة أو الفضاء أو النفسي والاجتماعي.. إلخ.

لا مراء أن المجتمع التكنولوجي الجديد أعاد تشكيل صورة الإعلام في دنيانا الراهنة، مع تحول قيمي في ترتيب أدوار الفاعلين (المؤثرين) الجدد، وعلاقتهم بالوسائط الرقمية المتسارعة، ودرجات قابلياتها داخل المجتمع نفسه، حيث أضحت الوسائط الاجتماعية المستخدمة بقوة الاعتياد والرغبة الجامحة والتنفيس السيكولوجي، جزءا من السلوك الصيروري، الذي يرهن الذات ويستقوي بها على حساب كل ما هو عام، مركزا على التأليبيات الاجتماعية والتحشيد لها، حتى تصير صورة دافعة لامتلاك وهم "المادة". وهي مواضعة مهمة في النقد الاجتماعي التكنولوجي، بل محطة مفصلية في مسار علم الاجتماع الذي يبحث عن طبائع التغير التكنولوجي، في حالة يتعذر فيها تفكيك مفاهيم التنوع الرقمي واشتباك مجتمع الوسائط وعلاقتها بالظواهر الاجتماعية المتحولة.

ومن تداعيات هذه الأسئلة المجترحة، بروز تنظيرات سوسيوثقافية واعية بتضخم الذات الرقمية، وانكشافها على مساحة عظيمة من القبح الأخلاقي.

يكمن جوهر فعل النرجسية في الذات الرقمية، في انتظام ممارستها للفعل ككيان، متناغمة بذلك مع ما يسميه لين جيميسون ب"التفاعل الجسدي والعاطفي"، رأبا لكبت مستديم، واصطراعا لتغيير مرتقب، وإفلاتا من وازع الأخلاق أو الدين أو المجتمع.

هل نسوم أنفسنا هذا الإرهاق المبتذل والعبثي، من أجل الخروج من قوة قهرية باطنية، أو لأن قابليتنا للارتداد عن صحوة الوعي، لا تنفك تؤخر إيماننا بالأشياء الجديدة، أو الصادمة لما تكرسه أعباء الحياة ؟.

السؤال نفسه، يلتقي في اختصاره لكل هذا التأويلات، لظواهر عديدة سبق لعلم النفس التحليلي، أو التفاعلية الرمزية وعلم الظواهر، أن أبدى تأطيرا لمذهبياتها، في قدرتها على ابتداع المفهوم وتأصيله، أو التنظير لقيمته وتحوله التاريخي. كما لو أن بروز بنية "الذات الشبكية" أو "الفردية الشبكية" ضمن هذه الفجوة، هو نتيجة طبيعية لانبثاق أنترنيت منمط ومحشو بترتيب محكم ودقيق، تبرز فيه مدارة "تشكيل العلاقات" كنوع من التدبير المحكوم بأنساق السوق والتجارة والبيزنس؟.

هو كالكائن السايبورغي، ينبثق عن استيهامات آلية مسيرة بالتوابع التكنولوجية عالية الكفاءة، أو هي مزيج من واقع اجتماعي وسرديات أسطورية لا وجود لها. ينكمش في عز تراجع الإحساس بالحقيقة في الموتورات التفاعلية الجديدة، تختفي فيها عواطف القيم والأخلاق والتقاليد والأعراف، وكذا الحميميات الاجتماعية المنضبطة لإيقاع السلوك الإنساني ومنطقياته، في مقابل بروز طفرات الاستهلاك والتخمة والمحاكاة الجوفاء والتفاعل الشهواني والانسياق خلف تقاطعات الأهواء الشخصية وتخرصاتها.

***

د. مصـطـــفَى غَـــلْمَــان

هناك لحظةٌ يتوقف فيها المثقف، لا لأنه وجد الإجابة، بل لأنه أدرك أن الأسئلة ذاتها قد تغيرت. لم يَعُد السؤال: “ماذا يجب أن نفعل؟” بل صار: “أين يمكن أن نفعل؟ وفي أي مساحة؟”

في زمنٍ تتضاءل فيه المساحات أمام الفكر المستقل، ويصبح فيه التأثير مقيدًا بشروط السوق أو السلطة، يجد المثقف نفسه في مأزق جديد: هل هو صانعُ وعيٍ، أم جزءٌ من ماكينة إنتاجه؟ هل هو فاعلٌ مستقل، أم مجرد ترسٍ في آلةٍ تُعيد تدوير الأفكار داخل منظومة لا تسمح بخروجها عن النص؟

إن أزمة المثقف اليوم لم تَعُد مجرد ترددٍ بين الفعل والتنظير، بل أصبحت أزمة دور: “أين يقف؟ وكيف يمارس تأثيره في عالمٍ لم يَعُد ينتظر الأفكار، بل يستهلكها كمنتجٍ سريع الذوبان؟”

لقد كان المثقف يومًا صانعَ الأسئلة الكبرى، لكنه أصبح الآن محاصرًا بين خطابٍ يُطلب منه أن يكون مستساغًا وسهل الاستهلاك، وبين منظومات تُعيد إنتاجه كصوتٍ لا يتجاوز حدود “الممكن”.

لم يَعُد السؤال: “كيف نغيّر العالم؟” بل: “هل لا يزال مسموحًا لنا بالتفكير في تغييره أصلًا؟”

هذا التحول في وضعية المثقف لم يحدث فجأة، بل هو نتاج لتطورات طويلة المدى. عبر التاريخ، لعب المثقف أدوارًا محورية في تحولات المجتمعات، سواء في الفلسفة الإغريقية، حيث كان الفيلسوف مرآةً للعقل السياسي، أو خلال عصر التنوير، حين قاد المثقفون معارك فكرية أعادت تشكيل مفهوم الدولة والمجتمع، أو في الحركات التحررية في القرن العشرين، حيث لعب المفكرون دورًا في صوغ الأيديولوجيات التي قادت الثورات والاستقلالات الوطنية.

لكن اليوم، يبدو أن هذا الدور قد تآكل، وأصبحت المعركة ليست بين الأفكار، بل بين قوة التأثير وآليات الاحتواء التي تعيد تدوير كل خطاب داخل منظومة تُفرغه من قدرته على التحريض والتغيير.

ولعل ما يعمّق هذا المأزق هو أن المثقف لم يَعُد يقف في موقع المسافة الحرجة بين السلطة والجماهير، بل بات محاصرًا بخيارين لا ثالث لهما:

- إما أن يكون جزءًا من المؤسسة، فيتم استيعابه وتدجينه.

- أو أن يظل خارجها، فيخسر تأثيره ويصبح مجرد صوتٍ معزول.

فالسلطة لم تَعُد تقمع المثقف كما في الأزمنة الماضية، بل طوّرت أدواتٍ أكثر ذكاءً: منحته منابر ومساحات، لكنها مساحات مضبوطة الإيقاع، تتيح له الكلام، لكن ليس إلى الحد الذي يُهدد بنية القوة.

إن عملية الاحتواء هذه لم تأتِ فقط من السلطة السياسية، بل إن السوق ذاته أصبح عاملًا محوريًا في إعادة تشكيل وظيفة المثقف.

فمع سيادة الرأسمالية الثقافية، لم تَعُد الأفكار تُقدَّم بوصفها أدواتٍ للتحول، بل كسلعٍ تُباع داخل منظومة تتحكم في إنتاجها وتوزيعها.

لقد رأينا كيف تحوّلت بعض الأفكار الراديكالية، التي كانت في الماضي تُهدد بنية الأنظمة، إلى منتجات ثقافية يتم استهلاكها في المهرجانات الفكرية، أو داخل الأوساط الأكاديمية، دون أن يكون لها أثرٌ حقيقي خارج هذه الدوائر.

بهذا الشكل، لم يَعُد الاحتواء يأتي عبر القمع المباشر، بل عبر إدخال المثقف في ماكينة إنتاج المعرفة، التي تُحدد له إطار حركته، وتُقدّم له منصات يعتقد أنها مساحات حرة، لكنها في الواقع مُكبّلات فكرية تحكمه بسقف غير مرئي.

في ظل هذا الواقع، لم تَعُد الأكاديميا، ووسائل الإعلام، وحتى الثقافة الشعبية، سوى دوائر مغلقة، تعيد إنتاج الفكر كمادة استهلاكية، وليس كأداةٍ للتحوّل.

أصبح النقد نفسه جزءًا من العرض، وأصبح المثقف نجمًا يُحتفى به طالما لم يتجاوز الخطوط المرسومة له.

هذا الشكل الجديد من الاحتواء جعل المثقف يظن أنه مؤثر، لكنه في الواقع مجردُ عنصرٍ آخر في منظومةٍ تتقنُ امتصاصَ التغيير قبل أن يولد.

إن المثقف، الذي كان يومًا صانعَ التحولات، أصبح الآن مجرد مفسّرٍ للأحداث، يلاحقها بدلاً من أن يصنعها، يفسّر انسداداتها لكنه عاجز عن فتح آفاق جديدة.

ولكن، هل هو عاجزٌ بالفعل؟ أم أن العجز ناتج عن شبكة معقدة من القيود التي لا يدرك بعضها؟

لقد أصبح المثقف في كثير من الأحيان مدركًا لأسره داخل المنظومة، لكنه يجد نفسه عاجزًا عن الفكاك منها.

إن إدراكه لحدود تأثيره لا يعني قدرته على تجاوزها، بل قد يجعله في حالة دائمة من الوعي المشلول، حيث يعرف المشكلة جيدًا، لكنه لا يمتلك الأدوات اللازمة لكسر الدائرة.

وفي هذه الحالة، هل يمكن اعتبار عجز المثقف مجرد انعكاس لحالة فردية؟ أم أنه جزءٌ من أزمة أكبر تتعلق بالبنية الفكرية والسياسية للمجتمع الحديث؟

قد يكون المثقف اليوم واقعًا بين سندان القيود المؤسسية ومطرقة التشكيك الذاتي المستمر، حيث يؤدي تفكيكه الدائم للسرديات إلى شلل فكري يمنعه من تبني موقف حاسم أو اتخاذ خطوة جذرية.

وهذا يقودنا إلى سؤال آخر: هل المثقف المعاصر، بتكوينه النقدي الحاد، أصبح رهينةً لوعيه الخاص؟ هل أدى وعيه المتشظي إلى استنزاف قدرته على الفعل؟

هذه التساؤلات تجعلنا نعيد النظر في ما إذا كان المثقف ضحية المنظومة فقط، أم أنه متواطئٌ معها بشكل غير مباشر، بسبب خوفه من المواجهة الحقيقية؟

في النهاية، ليس السؤال: “هل يجب على المثقف أن يكون فاعلًا؟”

بل السؤال الأهم: “هل بقي للمثقف شيءٌ ليقوله لم يُستهلك بعد؟”

أم أن زمنه قد انتهى ليصبح مجرد صدى في عالمٍ لا يعبأ إلا بمن يملك القوة، لا الفكرة؟.

***

إبراهيم برسي

 

وجه الفيلسوف الألماني (فريدريك نيتشه) سهام نقده لكل ما يعرقل تمتع الإنسان بإنسانيته، وحريته وقوته وحياته على الأرض. فضلاً عن معرفة الإنسان لنفسه وترويضه الإيجابي لقوى الطبيعة، وبناء مجتمع سليم معافى يعجُّ بالأقوياء الأصحاء، وليس المرضى والعبيد أو القطيع، إلى حياة جديرة بأن نحياها.

وقد أخذت القوة في فلسفة نيتشه طابعاً آخر ليس سائداً لا في المجتمعات ولا في الفلسفات، فقد غالى في استخدامها حدّ التطرف، حيث إن النشاط والاعتدال والقناعات، في رأيه، ما هي إلا فضائل القطيع، أما فضائل الأقوياء في رأيه، فهي التسلية والمغامرات والكفر، بل حتى الدعارة. وحتى في مجال الحكم على التاريخ، رجّح نيتشه القوة كمعيار للحكم، فيذهب إلى أن القرن التاسع عشر، أفضل وأكثر استقامة من القرون السابقة عليه، السابع عشر والثامن عشر، فالسابع عشر أرستقراطي، والثامن عشر قرن تسوده المرأة، إنه متحمس، روحي، وسطحي، مع شيء من العقل في خدمة الطموحات والقلب، إنه فاجر في الاستمتاع بكل ما هو فكري، وهو وغدٌ إلى حدٍ كبير، أما التاسع عشر، فأكثر حيوانية، وعامية، وواقعية، وسوقية، وبسبب هذا فهو الأفضل. ويرى أنه لو سألنا طفلاً شجاعاً وقوياً، هل تريد أن تكون رجلاً فاضلاً؟ لنظر إلينا بسخرية، ولو سألناه، أتريد أن تصبح أقوى من زملائك؟ لنظر إلينا بعينين واسعتين. فليس هناك في الحياة ما يمكن أن تكون له قيمة عدا درجة القوة، على أن الحياة نفسها هي إرادة قوة، وكل القيم-بحسب قول نيتشه- ما هي إلا وسائل إغراء، لإطالة مدة المهزلة، إن هذه المدة تصيبنا بالشلل، خصوصاً حين ندرك بأننا خدعنا.

ومن أجل تقوية القيم، قد تم رفعها فوق الناس كحقائق، كما لو كانت هي العالم الحقيقي، وكأنها أوامر الرب... والآن وقد بدا لنا واضحاً أصل هذه القيم الحقيرة، فإن العالم يبدو بسبب ذلك حقيراً، يبدو وكأنه فقد معناه، ولكنها ليست سوى مرحلة انتقالية. وكلما آمنا بالأخلاق كلما كان ذلك إدانة للحياة، لأن التقييمات الأخلاقية هي إدانة نفي، والأخلاق تجرنا بعيداً عن إرادة الحياة. ولكن ما هي الاخلاق؟. أو ما هي المزايا التي كانت تمنحها فرضية الأخلاق المسيحية؟. يجيب نيتشه عن ذلك بالآتي:

1- تضفي على الإنسان قيمة مطلقة، وهي قيمة تتعارض مع صغره ووجوده العرضي في نهر الصيرورة والزوال.

2- تخدم المدافعين عن الرب، بحيث إنها تمنح العالم، رغم البؤس والشر، طابع الكمال.

3- تقر بامتلاك الإنسان معرفة خاصة بشأن القيم المطلقة.

4- تجنب الإنسان احتقاره لنفسه، والوقوف في وجه الحياة، واليأس من المعرفة.

نتيجة لذلك فإن أصل التشاؤم يكمن في الانحطاط، والانحطاط أصل فساد الأخلاق، وإن وسائل العلاج النفسية والأخلاقية لا تغير من سير الانحطاط، وليست العدمية سبب الانحطاط بل هي منطقه، ما الخير والشر إلا نموذجين من الانحطاط، وإن المسألة الاجتماعية نتيجة من نتائج الانحطاط.

من هنا اهتم نيتشه بنقد القيم الأخلاقية السائدة، وهي الأخلاق المولدة من رحم الدين، فهي  في رأيه تعني إلغاء المجتمع، فهي تفضل كل ما يزدريه المجتمع، وتنمو في صفوف الحقيرين والمذمومين، وتحتقر الأغنياء والنبلاء والأقوياء، وقد أطلق عليها بـ(أخلاق الشفقة)، تلك التي اعتبرت الرجال المتسلطين والعنيفين والسادة عموماً، أعداء يجب حماية الإنسان البسيط من بطشهم، وبالتالي علمت الناس أن يبغضوا ويحتقروا ما يشكل الطبع الأساسي للمهيمنين، أصحاب إرادة القوة.

ونتيجة لذلك عدّ الشيء الأكثر ضرراً من أية رذيلة، هو الشفقة الفاعلة لخدمة الضعفاء. لذلك أكد على ضرورة تجاوزها، وإن تجاوزها يعني امتلاك قدر معين من الثقافة الفكرية، وهذه بدورها تعد سعادة، لهذا شنّ هجمته الشعواء ضد المسيحية كونها تحمي المحرومين من السقوط في العدمية، لأنها تضفي على كل واحد منهم قيمة لا حد لها، قيمة ما ورائية، فكانت تعلم الناس الخضوع والتواضع، وبالتالي فهي أشبه بالمؤامرة الجوهرية ضد الحياة، بل هي نفي للحياة، ولتخليص الحياة يجب القضاء عليه، فهي المسؤولة عن إظهار ثقافة القطيع، وللقطيع فضائل، يجملها نيتشه بالآتي:

1- في الثقة: لأن الريبة تتطلب حصر الذهن، والملاحظة والتفكير.

2- في التبجيل: حيث المسافة الفاصلة عن القوة كبيرة والخضوع ضروري، ولكي لا يخاف فإنه يحاول أن يحب، أن يبجل ويؤول اختلافات السلطة باختلاف الفضائل، حتى لا تصبح العلاقات مغيظة.

3- في معنى الحقيقة: ما هو الشيء الحقيقي؟ يعطي التفسير الذي يتطلب أقل قدر ممكن من المجهود العقلي.

4- في التعاطف: التساوي مع الآخرين، محاولة الشعور بنفس الإحساس.

5- في هدوء الحكم وعدم انحيازه: يخشى مجهود الانفعال ويفضل أن يظل بعيداً، أن يضل موضوعياً. 6-في الوفاء: يفضل الخضوع لقانون موجود على وضع قانون لنفسه، إنها خشية القيادة.

6- في التسامح: الخوف من ممارسة الحق.

***

د. حيدر عبد السادة جودة

 

التطلعات الفكريّة والسياسيّة للإسلام المعاصر

إن من يتابع التوجهات السياسيّة والعقديّة للمشروع السياسي الإسلامي المتحزب منه بشكل خاص، سيجد أنها تحمل – التوجهات - في مضامينها تطلعات أيديولوجيّة غالباً ما تنطوي على عدّة اعتبارات أهمها، محاولة إقحام أو ربط كل شيء في حياة الإنسان بمفردات الدين، وأقصد هنا القرآن والحديث وأقوال الفقهاء ومشايخه وتفاسيرهم وتأويلاتهم منذ بداية عصر حياة الرسول والصحابة في القرون الهجريّة الثلاثة الأولى حتى اليوم، واعتبارها إطاراً مرجعيّاً نهائيّاً لسلوكيات الناس في الشكل والمضمون، وأنها جميعاً قد امتلكت الحقيقة المطلقة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها أو من خلفها، كما ترفض التعديل والنقد والمراجعة، ممثلة في نصوصها المقدسة أصلاً وخاصة الحديث، أو ما نالته القداسة من أقول الأئمة والفقهاء وعلماء الكلام ومشايخ الطرق الصوفيّة والفرق الدينيّة فيما بعد. أي اعتبار الدين وحده المكلف بأمر إلهي أن يُسًيِر كل حياة البشر وفق معطيات حددها هذا الدين نفسه في عقيدته وتشريعاته وعباداته. وبالتالي هو من حكم الماضي ويحكم الحاضر وسيحكم المستقبل بمعظم تفاصيله أو مفرداته الحياتيّة، ووفق رؤية سلفيّة ما ضويّة ترفض الرأي الآخر المختلف، ولا تقبل التجديد والتعديل في معطياتها الفكريّة والسلوكيّة والقيميّة. وهذا ما يشكل عندها نظرة شموليّة تفرض الكثير من القيود على العقل الحر المنفتح، وتحدد بنية انطلاقاته الفكريّة بسنن الأولين التي يكتنف الكثير منها الغموض والالتباس والتناقض في أحيان كثيرة (1).
أما جوهر الحكومة الإسلاميّة كما يراها (حسن الهضيبي) في كتابة المشهور (دعاة لا قضاة)، الذي حدّد فيه المنطلقات الأساسيّة لإقامة الدولة الإسلاميّة بالنقاط التالية:
أولا: وجود الإمام الحق. أي الإمام الذي يجب أن يكون مسلماً بناءً على نص الآية: (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً). النساء - 141. وأن يكون الإمام قد بلغ سن التكليف وذلك بناءً على قول الحديث: (رفع القلم عن ثلاث) منهم الصبي الذي لم يبلغ الحكم. وأن يكون الإمام رجلاً ولا تقبل إمامة الأنثى). (لن يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة).(2).
ثانياً: حكومة تعتنق الإسلام ديناً، وتقوم على تنفيذ أحكام الشريعة.
ثالثاً: العمل بمقاصد الشريعة وهي:
آ- حراسة الدين والدفاع عنه.
ب- الدفاع عن المسلمين.
ج- العمل على نشر دعوة الإسلام. (دعوة الله).
د- القتال في سبيل نشر الدعوة لتكون كلمة الله هي العليا. (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله.). الأنفال - 39
هـ - الشريعة هي من ينظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم. كتعيين شكل الحكم في الدولة، وتنظيم الحريات التي يكفلها الإسلام للفرد والجماعة.
و- الشريعة هي التي تأمرنا باتباع وتنفيذ ما حددته من شرائع تحكم الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة، وعلاقة الأمّة الإسلاميّة بغيرها من بقية الأمم. إلى غير ذلك من قضايا تربط حياة الأمّة في مختلف نواحيها، وخاصة تلك القضايا التي تربط حياة الأمّة بمصيرها في الآخرة.
ز- كل ذلك يتم وفق إيمان مطلق بطاعة الله وامتثالاً لأمره وخشوعاً له.
ح- كل عمل لا يرتبط أو لا ينسجم في منافعه الدنيويّة مع أحكام دين الله وابتغاء وجهه لا يرضى عنه.
ك- إن كل أحكام الشريعة كما يقول "الهضيبي" تقوم على تطبيق نص الآية: (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور.).الحج 41. (3).
أمام هذه المعطيات التي حددها "الهضيبي" في كتابه "دعاة لا قضاة"، والتي يتبين لنا من خلالها كيف يفكر دعاة الخطاب الإسلاميّ السياسي، في الدولة التي يسعون إلى تطبيقها في الواقع حسب نص الآية 41 من صورة الحج، فهنا يغيب دور العلوم الطبيعيّة والفلسفيّة وكل ما يعطي للعقل الإنساني من مساحة لتحقيق التنمية والتطور. لذلك لا نستغرب كيف راحت تتصرف بعض القوى الجهاديّة التي وصلت إلى الحكم وكيف اهتمت في الشكل أكثر من المضمون، أهتمت بلباس المرأة وحصارها، كما اهتمت بحف الشارب وإطلاق الدقن، وأمرت الناس على الاقتداء بالسلف الصالح فكراً وممارسة، وركزت على العبادات والشعائر أكثر من تركيزها على تطوير البحوث العلميّة وتشجيع البحث العلمي لدى الشباب. ففي الممارسة تبينت تلك الهوة الواسعة بين الفكر الذي طرحته بعض هذه القوى السياسيّة للتطبيق في الواقع المعاصر، وبين روح أو جوهر الدين الذي يحض على المعرفة (.. إقرأ باسم ربك الذي علم بالقلم..). الأمر الذي أدى إلى فشل تطبيق الدين عمليّا مع "ثورات الربيع العربي" في تونس، ثم تلتها مصر، ثم فشل الدولة الإسلاميّة (داعش)، في سوريا والعراق. وعلى أساس هذه المعطيات التي جئنا عليها أعلاه، نعود لنطرح السؤال المشروع هنا وهو: كيف يستطيع حملة المشروع السياسي الإسلامي تحقيق "دولة مدنيّة معاصرة" تجاري معطيات العصر الحديثة، دولة تتجاوز كثيراً المعطيات التاريخيّة التي كانت موجودة عندما جاء هذا الدين، وعبر مراحل تطبيقها اللاحق.
إذاً بناءً على معطيات الواقع المعيوش، لا بد لدعاة الخطاب الإسلامي السياسي من إعادة النظر بمعطيات الواقع المعاصر، والعمل على إعادة تفسير النص وتأويله وفق مقاصد الدين المشبعة بالقيم الإنسانيّة كالدعوة إلى العلم والمعرفة واستخدام العقل وحرية الإرادة الإنسانيّة، وليس وفقاً لمواقف ماضوية جمودية استسلاميّة، أو مواقف إرادويّة ورغبويّة لا تراعي خصوصيات الواقع وما حدث فيه من تطور وتبدل، ولا تراعي مناهج البحث العلمي وتطويرها. أي عليها أن تتجاوز العمل على خدمة مشروع أيديولوجي سكونيّ جامد لا يؤمن بالحركة والتطور والتبدل.
إن الموقف العقلاني النقدي من ربط الدين في الواقع يتطلب التفكير والممارسة وفق التالي:
1- التخلي عن مفهوم الدولة أو الخلافة بصيغتها الراشديّة أو الأمويّة أو العباسيّة وما تلاها من صيغ خلافيّة حتى سقوط الخلافة الإسلاميّة العثمانيّة، واعتبار كل صيغ الحكم تلك هي الفردوس المفقود الذي يجب إعادته لواقعنا الحالي. وبالتالي هذا يتطلب منا بالضرورة الإقرار بأن الدولة الإسلاميّة المنشودة ليست دولة جاهزة نزلت من علٍ، وإنما هي دولة تنتج عن إرادة حرّة للأمّة وبالتراضي بين مكوناتها الاجتماعيّة بكل تجلياتها الدينيّة والعرقيّة والمذهبيّة.
2- نبذ أوهام المهدويّة التي تعلق الآمال على إمام قد يأتي، أو يحيى بمعجزة لإقامة أنموذج الدولة الإسلاميّة العادلة المثاليّة ليملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جوراً، وإن غاب يمثله مرشد عام أو ولاية فقيه تُختزل السلطة في شخصه، أو تمثله حركات إسلاميّة حديثة تعتقد بأن وصولها إلى السلطة سيخرج الزير من البير، وستحقق المعجزة أيضاً.
3- ضرورة التركيز على الدولة الحديثة، دولة المؤسسات والقانون والتشريعات المرتبطة بالواقع المعيوش، دون إنكار أو إقصاء للشريعة الإسلاميّة، وهذا يتطلب الإقرار باعتبار الشريعة الإسلاميّة مصدراً من مصادر التشريع، والتعامل معها وفق خصوصيات العصر.
4- ربط التغيير بمعاينة الواقع والنظر بمصالح الناس بدلاً من الوعظ المجرد والاهتمام بالشكليات وتأدية الطقوس. فوعظ الناس بالدين لم يحرك ولن يحرك أصغر نبتة في الأرض إذا لم يرتبط بمصالح الناس ويدخل صلب معاناتهم وطموحاتهم معاً.
5- اعتبار الفقه الذي وجد في العصور الوسطى هو فقه تلك المرحلة، ولا يجوز ان يتحول بمجموعه إلى نص مقدس صالح لكل زمان ومكان، مع التأكيد على صلاحية بعضه لمصالح تاريخنا المعاصر، ومع ضرورة إسناد مهمة التشريع للدولة ومؤسساتها من خلال علماء مختصون بالقانون ومصالح الناس وخصوصيات العصر.
6- التخلي عن مفهوم الدولة المثاليّة والحاكم المثالي، فللناس مصالحها، والمواطنة والقانون هما أساس العدل. لذلك فإن الدعوة إلى الدولة المثاليّة أو الدولة الأنموذج، تجعل الطغاة يتمسكون بالسلطة تحت ذريعة الدفاع عن الدولة أمام القوى تقر ا بدستور متفق عليه شعبياً، هي من يحقق مصالح المواطنين بغض النظر عن دينهم وعرقهم وموقفهم السياسي.
7- إن جوهر الأمّة هو مكوناتها العرقيّة والدينيّة والسياسيّة والأيديولوجيّة والثقافيّة، وليس المسلمون وعقيديتهم الإسلاميّة فقط، وبالتالي الفرقة الناجية هي المرجع الوحيد. فالتعايش السلمي بين هذه المكونات هو جوهر الدولة الإسلاميّة. وهنا يأتي احترام الأمّة بمكوناتها، واحترام القانون الدوليّ وبقيّة الأمم الأخرى. إن أخطر المفاهيم التي يطرحها دعاة الخطاب الدينيّ السياسيّ المعاصر هي تفشي الاعتقاد بأن الدولة الإسلاميّة هي تلك المؤسسة التي تجبر الناس على العيش وفقاً لقيم الإسلام فقط. والصحيح هو جعل الناس تبحث عن دولة تؤمن لهم رعايتهم ومصالهم وحمايتهم من الفقر والظلم والاستبداد، إضافة للنظر في القضايا المعاصرة كالتنمية بكل ابعادها والحرية ووضع المرأة والديمقراطية والدولة المدنية بكل مفرداتها ويأتي في مقدمتها المواطنة والقانون والمؤسسات والتشاركيّة والتعدديّة.
8- عدم التعامل مع آيات القتال على أنها آيات أذنت بقتال من يقاتل الدين والمسلمين إلى يوم الدين، وهذا ما يجري عند دعاة الإسلام السياسي حتى اليوم حقيقة كالدواعش مثلاً. إن اتخاذ آيات وأحاديث الجهاد لنشر الإسلام بحد السيف واجبار الناس بالقوة على دخول الإسلام حتى تاريخه، لم يحقق دولة إسلاميّة مستقرة وعادلة سابقاً، ولن يحقق دولة إسلاميّة لا حاضراً ولا في المستقبل، ولن يسمح حتى بإعطائها صفة الإسلام. (قال الله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}. الحج – 39-40. والقتال في جوهره يأتي لدثر الفتنة ومن يوقظها. وقوله تعالى: (مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ). المائدة 32.
9- إن الحديث عن فرض قوانين الشريعة في الدولة الإسلاميّة المنشودة بالقوة، هو فهم أيديولوجي، فالشريعة لا تحكم حقاً إلا إذا كان المجتمع الذي تطبق فيه يراها عمليّة تحرير واشباع لتطلعات الفرد والمجتمع والأمّة، وعمليّة تحقيق الذات والنمو الأخلاقي وتحقيق الرفاهيّة والسعادة والاستقرار. وإن هذه القوانين لا تفرض بالقوة وإنما بالإرادة المشتركة لهذه الأمّة التي تقرها وتطبقها، وسندها في النهاية هم من تنطبق عليهم، وإلا تحولت إلى ظلم ونفاق للدين وفق رؤية من يريد فرضها بالقوة.
10- من واجب الدولة الإسلاميّة حماية مواطنيها من الظلم وليس التماشي معه تحت دريئة درء الفتنة وتبرير ظلم الحاكم.
11- التأكد من دور الفرد في إطار الجماعة، ومسؤوليته هي الوقوف ضد مصالح الفرد الأنانيّة التي تخالف مصالح الجماعة. فلا تأليه للحاكم، ولا خلود له في السلطة، فالسلطة للشعب في جوهرها ولا وصاية عليه ومن يكلف بإدارة السلطة يجب أن يكلفه الشعب، وإلا يعتبر متسلطاً وناهبا للسلطة بالقوة.
إن الإسلام أهمل دور الفرد باسم العقيدة، وباسم أهل الحل والعقد، وفرض الكفاية، وهذه التعابير أو المقولات اختزلت الإسلام في تطبيقاتها على فئة في أمور السياسة وتطبيق للشريعة. وعلى هذا الأساس نقول: إن الفرد لا يحتاج للدولة حتى يكون مسلماً، وإنما الفرد المسلم هو من يخلق الدولة كمسلم.
12- الدولة ليست غاية بذاتها كما نادى بها بعض قيادات الإسلام السياسيّ في شقيه السنيّ والشيعيّ، فهذا الادعاء يعطي مشايخها الكلمة الفصل في تحديد سماتها وخصائصها، وبالتالي في انحرافها عن مهامها الأساسيّة، بهذا الشكل أو ذاك. لأن الدول ممثلة بقادتها ومشايخها هنا، وهذا ما يجعلها تنكفئ على نفسها، وتقدس نفسها أيضاً وهياكلها ووجودها والبعد التشريعي الذي تحكم به. وبهذا، فساسة الدولة في مثل هذه الصيغة الشموليّة سيعملون جاهدين من أجل استمرار هذه الدولة، والحفاظ على كيانها بعيداً عن مصالح الشعب كما يجري الآن في الدول التي حكمت باسم الدين في صيغته المتأتى عليها أعلاه، ولا تعتبر الشعب هو الحاكم الفعلي في اختيار من يحكمه ويحقق العدالة والاستقرار والأمن ولقمة العيش له.
13- إن الدولة الشموليّة مهما تكن مرجعيتها دينيّة أو وضعيّة، هي دولة ستدور عبر قيادتها حول نفسها، أي الدوران حول المبادئ والأخلاق والسلوكيّة الوثوقيّة، لتحقيق أهدافها، فباسم المثاليّة العظيمة ارتكبت مجازر بحق المختلف أو صاحب الرأي الناقد لسياسة الدولة الشموليّة .
14- إن دولة القانون والمؤسسات والتشاركيّة، لا تؤمن بفرض الوصاية الدستوريّة والتشريعيّة على طريقة الأحزاب "الديمقراطيّة الثورية"، أي جعل (مجلس الثورة)، أو من يريده قادة هذا المجلس من النخب بوضع الدستور، وفرضه على الناس بالقوة تحت ذريعة تحقيق مصالح الشعب، وبالتالي تسويق الحق المطلق الذي يمثله الدين برأيهم عبرفهمهم هم للدين .
15- إن مشروع المعاهدة بين مكونات المجتمع في قيادة الدولة، هو ما نسميه اليوم العقد الاجتماعي، وهو الحل لتجاوز دولة الاستبداد والوصاية والشموليّة باسم العقيدة وفهم النخبة أو ولاية الفقيه أو المرشد العام، أو مشايخ السلطان. (4).
****
د. عدنان عويّد
كاتب وباحث من سوريّة
......................
الهوامش:
1- علي الخيون – الإسلام السياسي في العراق – اصدار مركز الدراسات - 2011 – ص9.
2- (المحلي ابن حزم 9- 360).
3- للاستزادة في هذا الموضوع راج كتاب حسن الهضيبي – دعاة لا قضاة – دون تاريخ نشر. وكتاب سيد قطب " معالم في الطريق.
4- للاستزادة في ذلك يراجع كتاب: "الإسلام والدولة الحديثة" – الدكتور أحمد عبد الوهاب أحمد الأفندي - دار الحكمة – لندن – دون تاريخ نشر – ص178 إلى 194)

 

الواضح أن مفهوم «الآيديولوجيا» وتطبيقاته يثيران حساسية ملحوظة عند الجمهور، فضلاً عن السياسيين والمفكرين. سيبقى هذا الرأي انطباعياً؛ نظراً إلى شكّنا في أن المفهوم واحد عند جميع الناس، فوق أننا لا نعرف المسافة بين ما يريده الناس من هذا المفهوم وما يرفضونه فيه.

على أية حال، قد يكون مفيداً المرور سريعاً على أصل المفهوم وسبب الخلاف بشأنه، لا سيما الموقف المتشكك فيه أو الرافض له.

تقول المصادر إن الذي صاغ مصطلح «الآيديولوجيا» هو المفكر الفرنسي ديستوت دي تريسي سنة 1796. كان دي تريسي يحاول وضع قواعد تفسيرية توضح كيفية انتقال البيانات من الحواس الخمس التي تتفاعل مع البيئة المحيطة بالإنسان، إلى عقله، حيث تُستعمل في تشكيل منظومات الأفكار. ويقال إن تريسي تأثر بالفيلسوف الإنجليزي فرنسيس بيكون، الذي رأى أن تفكير الإنسان في الأشياء محكوم بذاكرته التاريخية من جهة؛ وبمكونات الظرف المحيط به من جهة أخرى، وهي النظرية التي يشار إليها عادة باسم «أصنام العقل الأربعة». أراد دي تريسي وضع قاعدة عامة تفسر حركة الأفكار منذ ولادتها حتى تتموضع في سلسلة، فتشكل منظومة متكاملة، وأطلق على هذا المشروع اسم «علم الأفكار (ideology)».

كان تريسي مقتنعاً تماماً بأن أي فكرة تولد داخل عقل الإنسان يجب أن تولد ضمن منظومة، أو تنظم لاحقاً في منظومة؛ لأنه لا توجد في العقل أفكار منفردة غير متصلة بأي فكرة أخرى.

حصل المصطلح على رواج أكبر بعدما ظهر في كتابات كارل ماركس، خلال منتصف القرن التاسع عشر. وكانت المفارقة أن ماركس بدأ ناقداً للآيديولوجيا، التي قال إنها تخلق وعياً زائفاً بالواقع، لكنه اتجه لاحقاً إلى تشكيل منظومة فكرية متكاملة، تمثل نموذجاً لما نسميها «آيديولوجيا». والواضح أن ماركس لم يتخذ هذا المنحى عن غفلة، بل يبدو أنه أراد عامداً إنشاء العقيدة الشيوعية بوصفها آيديولوجيا شاملة ومغلقة إلى حد كبير. وخلال القرن العشرين أنشأ معظم الأحزاب الشيوعية الكبرى قسماً خاصاً للتعليم والتدريب الآيديولوجي، وبعضها يحمل هذا الاسم من دون مواربة.

ثمة اعتراضات كثيرة على الآيديولوجيا؛ بماهيتها ومن حيث المبدأ، وقد ذكرتُ في المقال السابق قول من قال إنها «حجاب الحقيقة» أو «الشجرة التي تحجب الغابة». لكنني أود التركيز على ما أظنه أبرز الاعتراضات؛ وهو تلبّسها بما يشبه عباءة الدين.

توصف الآيديولوجيا بأنها نظام كلي، ينظِّم في نسق واحد المعرفةَ والسلوكَ الشخصي وعلاقةَ الإنسان بالآخرين وبالطبيعة. وهذه على وجه التحديد وظيفة الدين، ولذا قيل إن الآيديولوجيا تستولي - عملياً - على مكانة الدين عبر مزاحمته على الوظائف التي يفترض أنه مختص بها.

نعلم أن المسافة واسعة جداً بين الدين والآيديولوجيا: فالأول من عند الخالق، بينما الثانية من صنع البشر. يركز الدين على داخل النفس وليس الخارج. الواجب المحدد للإنسان هو الحفاظ على نظافة قلبه، ومواصلة تطهيره من خلال اتهام النفس بالقصور أو التقصير والاعتذار إلى الخالق عنه. «الدين» حالة انجذاب من الإنسان إلى الخالق، وليس اندفاعاً من الإنسان إلى بقية البشر. أما «الآيديولوجيا» فتركز على المحيط الحيوي للإنسان، بناء على فرضية مسبقة بأن الآيديولوجيا التي يحملها كاملة، وأن القصور في المحيط وليس فيها ولا في حاملها. بعبارة أخرى؛ فإن حركة الآيديولوجي تتجه من داخله إلى خارجه، وتسعى لتغيير المحيط بوصفها في مرتبة أعلى من هذا المحيط، ولا تحتمل الخطأ.

السؤال الآن: ماذا يحدث لو أن مجموعة أشخاص شكلوا تياراً يحمل اسم الدين ويتحدث بلغته ويرفع شعاراته ورسومه، ويعدّ نفسه ممثلاً للدين وحامياً لحماه، لكن المضمون الجوهري لهذا التيار وتعاليمه كلها، من صنع البشر، فهل نصنّف هذا الخطاب في جانب «الدين» أم في جانب «الآيديولوجيا»؛ أي هل نركز على الصورة الإلهية للخطاب أم على مضمونه البشري؟

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا

بدأت قصة علاقتي بمعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا (كالتيك) بدعوة لالقاء محاضرة. حينها، لم اكن اتوقع ان هذه الزيارة ستكون بمثابة رحلة استكشافية في عالم العلم والمعرفة. في اليوم الأول، انصب تركيزي على التعرف على بعض اعضاء هيئة التدريس. لكن مع مرور الوقت، بدأت اكتشف جوانب أخرى لهذا المعهد. في اليوم الثاني، انخرطت في نقاشات مطولة مع باحثين شباب، أذهلني حماسهم وأفكارهم المبتكرة. في اليوم الثالث، تجولت في أروقة المعهد وتأملت في البيئة التي تشجع على الابداع والابتكار. مع نهاية الزيارة، ادركت انني لم اكن مجرد ضيف، بل كنت جزءاً من تجربة فريدة. لقد كانت رحلة متسلسلة، بدأت بدعوة، ثم تحولت الى سلسلة من العلاقات والتفاعلات المثمرة، لتنتهي بانطباع راسخ عن كالتك كصرح علمي شامخ.

يتميز معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا (كالتيك) بتركيزه الحصري والدقيق على العلوم والهندسة والتكنولوجيا، مما جعله بحق مركزا عالميا للبحث والابتكار في هذه المجالات الحيوية. هذا التركيز لا يقتصر على تقديم مناهج دراسية متخصصة، بل يتعداه الى توفير بيئة حاضنة للابداع والاكتشاف العلمي. يتميز ايضا بحجمه الصغير نسبيا مقارنة بالجامعات الكبرى، وهذا الحجم يتيح نسبة عالية جدا بين الطلاب واعضاء هيئة التدريس، مما يعزز التفاعل الوثيق والمباشر بين الطرفين، ويضمن توجيها شخصيا فريدا لكل طالب، حيث يحظى الطلاب بفرصة العمل عن كثب مع كبار العلماء والباحثين. تعتبر البيئة البحثية المكثفة والغنية بالفرص من ابرز سمات كالتيك، حيث يشجع الطلاب، من المراحل الجامعية الاولى وحتى الدراسات العليا، على المشاركة الفعالة في ابحاث متطورة ورائدة جنبا الى جنب مع اعضاء هيئة تدريس عالميين معترف بهم دوليا، مما يكسبهم خبرة عملية قيمة ويساهم في تطوير مهاراتهم البحثية. اضافة الى ذلك، يدير كالتيك بكل فخر واقتدار مختبر الدفع النفاث (JPL) التابع لوكالة ناسا، وهو مركز رائد عالميا لابحاث الفضاء واستكشافه وتطوير الروبوتات والمركبات الفضائية، ما يتيح للطلاب فرصة فريدة للمشاركة في مشاريع فضائية حقيقية. واخيرا، خرج كالتيك على مر تاريخه العديد من العلماء والمهندسين ورجال الاعمال البارزين الذين تركوا بصمات واضحة في مجالاتهم، بمن فيهم الحائزون على جائزة نوبل في مختلف فروع العلوم والذي يقدر عددهم بسبعين عالما، ما يؤكد جودة التعليم والبحث في هذه المؤسسة المرموقة.

تاسس معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا في عام 1891 باسم متواضع هو "مدرسة ثروب للفنون اليدوية" على يد رجل الاعمال والسياسي اموس جي ثروب. كانت المدرسة في بداياتها تركز على تعليم الحرف اليدوية والمهارات التقنية، ولكنها سرعان ما بدات في التطور والتوسع في مجالات العلوم والهندسة. تطورت المؤسسة عبر السنين بشكل ملحوظ، وشهدت تغيير اسمها عدة مرات قبل ان يعرف باسمه الحالي، معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، في عام 1920، وهو الاسم الذي يعبر بدقة عن طبيعة المؤسسة واهدافها. نما كالتيك تدريجيا ليصبح جامعة بحثية رائدة على المستوى العالمي، واكتسب سمعة مرموقة بفضل مساهماته الهامة والجذرية في مجالات العلوم والهندسة، حيث يعتبر منارة للعلم والمعرفة والتكنولوجيا على مستوى العالم.

يجري معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا ابحاثا متطورة ورائدة تتجاوز حدود المعرفة في مجالات متنوعة وشاملة، تشمل الفيزياء النظرية والتجريبية، حيث تجرى دراسات معمقة حول الكون وقوانينه الاساسية، وصولا الى دراسة الجسيمات دون الذرية، وعلم الفلك واستكشاف الفضاء، من خلال دراسة الكواكب والنجوم والمجرات، وتطوير التلسكوبات والمركبات الفضائية، والكيمياء بجميع فروعها، من الكيمياء العضوية وغير العضوية الى الكيمياء الحيوية والفيزيائية، والاحياء الجزيئية والخلوية، التي تركز على دراسة العمليات الحيوية على المستوى الجزيئي والخلوي، والهندسة بفروعها المختلفة من الميكانيكية الى الكهربائية والفضائية، حيث تطور تقنيات جديدة في مجالات الروبوتات والطاقة والنقل، وعلوم الارض والكواكب ودراسة الظواهر الطبيعية، مثل الزلازل والبراكين والتغيرات المناخية. هذه الابحاث لا تثري المعرفة العلمية فحسب، بل تساهم ايضا في حل مشاكل عالمية ملحة.

ضم معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا عبر تاريخه كوكبة من اشهر العلماء الذين ساهموا باسهامات جليلة في مختلف المجالات العلمية. من الصعب حصرهم جميعا، لكن ابرزهم ريتشارد فاينمان عالم فيزياء نظرية شهير، حائز على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1965 عن اعماله في الديناميكا الكهربية الكمية، وموراي جيل مان عالم فيزياء نظرية حائز على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1969 عن اكتشافاته المتعلقة بتصنيف الجسيمات الاولية وتفاعلاتها، وكارل ساغان عالم فلك وكاتب ومروج للعلوم اشتهر بابحاثه في مجال الكواكب وبرنامجه التلفزيوني "الكون" ، ولينوس باولنغ عالم كيمياء حائز على جائزتي نوبل، الاولى في الكيمياء عام 1954 عن ابحاثه في طبيعة الرابطة الكيميائية، والثانية جائزة نوبل للسلام عام 1962 لنشاطه ضد التجارب النووية، واحمد زويل عالم كيمياء مصري امريكي حائز على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1999 عن اختراعه ميكروسكوب الفيمتوثانية الذي يمكن من خلاله رؤية حركة الذرات داخل الجزيئات عند حدوث التفاعلات الكيميائية، وجون فون نيومان عالم رياضيات وفيزياء وحاسوب مجري امريكي، ساهم في تطوير الحاسوب الحديث ونظرية الالعاب.

يولي كالتيك اهمية كبيرة لمشاركة الطلاب في هذه الابحاث، سواء في مرحلة الدراسة الجامعية الاولية او الدراسات العليا. ففي المرحلة الجامعية الاولية، يشجع الطلاب على الانخراط في مشاريع بحثية صغيرة تحت اشراف اعضاء هيئة التدريس، مما يكسبهم خبرة عملية قيمة ويساعدهم على تطوير مهاراتهم البحثية والتفكير النقدي. اما في الدراسات العليا، فيعتبر البحث العلمي جزءا اساسيا من البرنامج الدراسي، حيث يعمل الطلاب على مشاريع بحثية معمقة تساهم في دفع عجلة التقدم العلمي.

يمتلك كالتيك مرافق حديثة ومتطورة على اعلى مستوى عالمي، تساعد الباحثين والطلاب على اجراء ابحاثهم بكفاءة وفعالية. تشمل هذه المرافق المختبرات المجهزة باحدث التقنيات والاجهزة، التي تمكن الباحثين من اجراء تجارب معقدة ودقيقة، والمراصد الفلكية المجهزة باقوى التلسكوبات، التي تتيح رصد ودراسة الاجرام السماوية بدقة عالية، ومراكز الحوسبة عالية الاداء التي تمكن الباحثين من اجراء عمليات محاكاة معقدة وتحليل كميات هائلة من البيانات. هذه المرافق توفر بيئة بحثية مثالية تشجع على الابتكار والاكتشاف.

يتعاون كالتيك بشكل وثيق مع مؤسسات بحثية وجامعات مرموقة في جميع انحاء العالم، مما يعزز تبادل المعرفة والخبرات بين الباحثين والعلماء من مختلف الجنسيات والخلفيات العلمية، ويساهم في تقدم البحث العلمي على المستوى الدولي. هذه الشراكات تتيح للطلاب والباحثين في كالتيك فرصة التعاون مع باحثين من مؤسسات اخرى، والاطلاع على احدث التطورات في مجالاتهم.

يعتبر كالتيك بحق من افضل الجامعات على مستوى العالم للعديد من الاسباب، منها تميزه الاكاديمي ومعاييره الصارمة في اختيار الطلاب واعضاء هيئة التدريس، مما يضمن وجود نخبة من العقول الشابة والخبيرة في مكان واحد، وبحثه الرائد الذي يساهم بشكل فعال في تقدم العلوم والهندسة وخدمة البشرية، من خلال تطوير تقنيات جديدة وحلول مبتكرة لمشاكل عالمية، وبسبب خريجيه المؤثرين الذين يحدثون تغييرا ايجابيا في مجتمعاتهم من خلال ابتكاراتهم واكتشافاتهم، وبسبب تصنيفاته العالمية المتقدمة باستمرار في جميع قوائم تصنيف الجامعات العالمية المرموقة، ما يؤكد جودة التعليم والبحث في هذه المؤسسة المرموقة. هذه العوامل مجتمعة ترسخ مكانة كالتيك كاحدى اهم المؤسسات العلمية والبحثية في العالم، ومساهمته الكبيرة في اعداد جيل جديد من العلماء والمهندسين القادرين على قيادة مستقبل العلوم والتكنولوجيا.

***

ا. د. محمد الربيعي

بروفسور متمرس ومستشار دولي، جامعة دبلن

بقيت مدن الفلاسفة المُتخَيلة التي تدعو إلى قيم الحق والعدالة والخير والجمال، مجرد أفكارٍ نظريَّة لا نصيب لها على أرض الواقع، ذلك أنَّ الإنسان بطبيعته المزدوجة، ونفسه المجبولة على حب الشهوات، غالباً ما يكون متلهفاً لامتلاك الثروة والنفوذ والسلطة والجاه والإقبال على بهرجة الدنيا ومغرياتها مما يولد الصراع بين البشر وشيوع أنواع الشرور والقبح والمظالم والعداوات.

ومنذ محاولة أفلاطون قبل ما يزيد على ألفين وأربعمئة عامٍ بناء جمهوريته التي اشتهرت باسم "جمهوريَّة أفلاطون" فإنَّه نفسه قد فشل حين حاول تطبيقها على أرض الواقع بمساعدة صديقه الذي أصبح حاكماً على جزيرة صقلية، غير أنَّ محاولته باءت بالفشل بسبب الصراعات السياسيَّة في الجزيرة التي انتهت باختطافه وبيعه في سوق العبيد قبل أنْ يتمَّ تحريره وإعادته في إحدى السفن حراً لكنْ خائباً إلى أثينا.

بعد محاولة أفلاطون هذه بأقل من خمسمئة عامٍ وفي القرن الثاني الميلادي يتربع على عرش الإمبراطوريَّة الرومانيَّة الامبراطور ماركوس أوريليوس، وكان هذا الإمبراطور فيلسوفاً متأملاً من اتباع الرواقيَّة التي تدعو للفضيلة والتحكم بالرغبات والعواطف، لذلك حاول أنْ يقيمَ حكماً رشيداً عادلاً قبل أنْ يتوفى بالطاعون في مدينة فيينا النمساويَّة خلال حملة عسكريَّة ضد القبائل الجرمانيَّة وعمره لم يزد على الثامنة والخمسين عاماً.

لم يخلد التاريخ ماركوس أوريليوس كإمبراطورٍ عادلٍ أكثر ممَّا خلدته "التأملات" التي كتبها على شكل يومياتٍ وعظاتٍ يوميَّة يعظُ فيها نفسه لكونه من شيوخ الرواقيَّة وأبرز مفكريها. قيل إنَّه جسَّدَ - إلى حدٍ كبيرٍ - صورة الحاكم الفيلسوف كما تخيله أفلاطون، لذلك وصفوه بـ"الفيلسوف على العرش".

***

د. طه جزّاع – كاتب أكاديمي

تمهيد: يعد فيلم "الأزمنة الحديثة" لشارلي شابلن (الذي صدر عام 1936) بلا شك مرجعًا للفلسفة والفن والثقافة والسينما نظرًا للفلسفة الاجتماعية الدقيقة المقدمة فيه. تُظهر الصورة الأولى للفيلم ساعة عملاقة يتحرك فيها عقرب الثواني بلا هوادة نحو أعلى الساعة. والرمز واضح: يعيش الناس تحت طغيان الزمن الذي يتم قياسه ميكانيكيا - دكتاتورية الساعة. تمثل هذه الساعة تجريد الإنسان الحديث من إنسانيته وطبيعته. فماهي خصائص الفلسفة الاجتماعية التي يتضمنها فيلم "الأزمنة الحديثة" لشارلي شابلن؟ وما دلالة ذلك اليوم؟

نظرة عامة

يتدفق العمال خارج محطة المترو ويهرعون نحو المصنع مثل القطيع. واحد فقط من هؤلاء الأغنام، البطل، قد اسودت بسبب الأوساخ من المصنع، وهو رمز لاختلافه والدور الذي سيتعين عليه أن يلعبه. تتم أعمال خط التجميع في مصنع آلي للغاية، ويديره شخص بعيد وغامض، يشرف عليه باستخدام شاشات كبيرة، إشارة إلى بعده عن العمال. يتمثل دور البطل، على السلسلة، في شد البراغي على الألواح. مثل زملائه العمال، يصبح البطل ميكانيكيًا لمتابعة إيقاع الإنتاج بأفضل ما يمكن، في حين أن أدنى إلهاء يمكن أن يبطئ الخط. البطل غير قادر على التفكير، فهو مجرد امتداد للآلة، روبوت. لقد جرده المصنع من حسه النقدي، أي من إنسانيته. فكيف يمكن قراءة أحداث الفيلم من الناحية الفلسفية؟ وهل يمكن نقده ثقافيا؟

فكرة الفيلم

للوهلة الأولى، يبدو فيلم "الأزمنة الحديثة" وكأنه محاكاة ساخرة للفوردية، هذا النمط الجديد من الإنتاج الذي ابتكره هنري فورد، على أساس التخصص وتقسيم المهام من أجل زيادة إنتاجية العمال. لكن الفيلم ليس له نطاق اقتصادي تجاري استهلاكي فحسب، بل له هدف اجتماعي نقدي: الدفاع عن الإنسان كإنسان.

شابلن وماركس

يدين "شابلن" الاغتراب، متخذًا بذلك موضوعًا عزيزًا على كارل ماركس، لم يولده العمل في خطوط التجميع فحسب، بل أيضًا النظام الاقتصادي الرأسمالي بأكمله. وبما أن الإنسان لم يعد يمتلك أو يحوز على السلع التي ينتجها، فإنه لم يعد ينتمي إلى نفسه. فيصبح غريبا عن نفسه، قوة عمل خالصة تحت رحمة أصحاب وسائل الإنتاج. ومع ذلك، فإن "شابلن" لا يدافع عن الاشتراكية، ولا يحدد الخطوط العريضة للحل الاجتماعي، وفيلمه هو في الأساس استنكار وسخط على الرأسمالية وتعرية لسلبياتها وتشهير بها. وهناك موضوع ماركسي آخر، وهو الصراع الطبقي: يجسد "شابلن" علاقات الإنتاج بطريقة فظة إلى حد ما. العمال في أسفل الخط، والمديرون في القمة. لكن يبدو أن "شابلن" يشير إلى أن الجميع ضحايا لنفس النظام، فحتى المخرج يتناول حبوبًا لمقاومة الضغوط التي تفرضها البيئة. لماذا وقع الاختيار على عنوان الأزمنة الحديثة للفيلم؟ وما تأويل ذلك؟

شابلن ودور التقنية

الإنسان الذي أصبح آلة ليس أكثر من عبد للآلات من حوله. يشير هذا أيضًا إلى أسطورة فرانكشتاين، التي تشير إلى احتمالية تجاوز الإنسان للتقنيات التي يبتكرها. المصنع، وهو تقنية مفيدة للإنسان، سيكون رمزًا لفقدان الإنسان السيطرة على الأشياء التي صنعها. والأسوأ من ذلك أن الآلات أصبحت مستقلة عن الإنسان لأنها لم تعد بحاجة إليه للقيام بوظائفه (كما يتضح من مشهد استراحة الغداء). المشهد التالي الذي يتسبب فيه البطل في الانهيار العام للمصنع، هو الفرصة لإظهار فرحته، وهي المرة الأولى منذ بداية الفيلم. وهكذا، فإن عفوية الضحك مبنية على نفي الآلات والميكنة (وهو ما يشير إلى تحليلات برغسون للضحك). يشير هذا المشهد إلى إمكانية قيام الإنسان بتصحيح مشروع التجريد من الإنسانية الذي قام به ضد نفسه. لكن الحل يبدو أسوأ من المرض. في الواقع، تدرب "شابلن" في الطب النفسي ثم أطلق سراحه، وكان عليه أن يواجه الكساد الكبير وإغلاق المصانع. الوضع صعب على الأقل كما هو الحال في المصنع. بينما كان يتجول في الشوارع، رأى تشارلي علم تحذير أحمر يسقط من شاحنة. يلتقطها ويلوح بها للإشارة إلى السائق بالتوقف. ولم ينتبه السائق لذلك، لكن مظاهرة حاشدة للعاطلين عن العمل تقف خلف هذا العلم رمز نضالهم. وهكذا يجد "تشابلن" نفسه بشكل لا إرادي حامل لواء غضب العمال. بعد القبض عليه كزعيم للحركة، أدرك أن حياة السجين أفضل من حياة العامل أو العاطلين عن العمل. أخيرًا، بعد إطلاق سراحه، أصبح "تشابلن" متورطًا مع امرأة شابة كانت حالتها محفوفة بالمخاطر. سينتهي بهم الأمر إلى العثور على سعادة هشة في ملهى كفنانين. ألا يمكن التحرر الإنساني عن طريق الفن من هيمنة التقنية؟

خاتمة

إن فيلم "الأزمنة الحديثة" لشارلي شابلن، بعيدًا عن هدفه وقوته الكوميدية، هو انعكاس رائع لحالة الإنسان الحديث. تم تصوير هذا الفيلم في ثلاثينيات القرن العشرين، وهو يحتفظ بقوة نقدية حقيقية وموضوعية وأهميته القوية اليوم. انه آخر ظهور لتشارلي شابلن بدور الصعلوك الصغير، يضع الشخصية المميزة في العمل كموظف مصنع غير كفء دائخ يصبح مغرمًا بطفلة رائعة (بوليت جودارد). مع وابل من الكمامات التي لا تنسى والتعليقات الماكرة على الصراع الطبقي خلال فترة الكساد الكبير، فإن فيلم "الأزمنة الحديثة" - على الرغم من مرور ما يقرب من عقد من الزمن على عصر التحدث واحتوائه على لحظات من الصوت (حتى الأغنية!) - هو عرض خالد لعبقرية "تشابلن" التي لا يمكن المساس بها باعتباره مدير الكوميديا الصامتة. اين السينما الصامتة اليوم؟ والى أي مدى يمكن توظيف النقد الفني للاعتراض على وحشية العولمة وفضح اساليب السيطرة الرأسمالية على البشرية؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

لعله من قبيل تكرار القول؛ ان المجتمعات ذات الخزين التراثي المتقادم والانجاز الحضاري المتراكم، غالبا "ما تميل الى ترجيح كفة (الاستمرارية) التاريخية على كفة (السيرورة) في مضمار نشر (الوعي) بأحقاب تبلور تاريخها ومراحل تمظهر حضارتها ليس فقط على صعيد نخبها الفكرية والسياسية والإيديولوجية الحاكمة فحسب، بل وكذلك على صعيد مكوناتها السوسيولوجية وجماعاتها الانثروبولوجية المحكومة، وذلك بصرف النظر عن تجانس الرؤى وتوافق المصالح بين تلك النخب من جهة، وبين تلك المكونات والجماعات من جهة أخرى. إذ ان معيار النجاح ومقياس النجاعة في هذا المضمار يقوم على (قدرة) الطرف الأول في تسويغ مواقفه وتبرير ممارساته (تحقيق الهيمنة) من جانب، ومن جانب ثان، (استعداد) نفسي و(قبول) ذهني من لدن الطرف الثاني، حيث التماهي الإيديولوجي والخضوع السياسي مع السرديات التاريخية الرسمية التي تروجها السلطة . 

ولغرض تبرير الاحتكام لهذه الضرورة وتسويغ الاستجابة لمتطلباتها، حري بنا، قبل ذلك، الإشارة الى الفرق / الاختلاف ما بين دلالات كل من مفهوم (الاستمرارية) من جهة، وبين نظيره مفهوم (السيرورة) من جهة أخرى. حيث ان الكثير من الكتاب والباحثين لا يراعون هذه الفروق والاختلافات بينهما، إن لم يميلوا الى المماثلة بين كلا المفهومين كما دلت الكثير من الوقائع والمعطيات. ففيما يتعلق بالمفهوم الأول؛ فهو يتضمن معنى ان مسار التاريخ هو مسار (خطي) غير قابل للارتداد أو الانحراف أو الانقطاع. أي أنه مسار (تصاعدي) يبدأ من الجزء الى الكل ومن البسيط الى المركب، وإذا ما حصل خلل ما في هذه (الاستمرارية) لسبب ما، فان ذلك لا يخرج عن كونه تعبير عن ظرف طارئ أو عارض مؤقت، حيث لا تلبث تلك الاستمرارية أن تستأنف حراكها باتجاه آفاق التقدم والتطور. هذا في حين يشي المفهوم الثاني بمعنى؛ ان مسار التاريخ هو مسار مشحون بالتناقضات والمفارقات والصراعات التي من شانها تغيير طبيعة (الحدث) أو ماهية (الواقعة) أو نمط (الظاهرة) من حالة / وضعية الى أخرى، وفقا "لاشتراطات الظروف الاقتصادية والأوضاع الاجتماعية والأنساق الثقافية والديناميات النفسية والسياقات التاريخية. بحيث يصعب التكهن أو التنبؤ بما ستؤول إليه النتائج والحصائل الناجمة عنها.

ولسنا هنا في وارد تقديم الدلائل وسوق البراهين التي تثبت ان الغالبية العظمى ممن ولجوا حقول التاريخ وتعاطوا مع مواضيعه ومباحثه، كان خيارهم يرتكز على مفهوم (الاستمرارية) بشكل تلقائي، رغم كونهم محاطين بهذا الكم الهائل من النكسات والانكسارات والانهيارات، التي لا تفتأ تقضّ مضاجعهم وتقلق سكينتهم وتثير حيرتهم. ذلك لأن تركيبة (الوعي التاريخي) التي تمثلوا منطقها واستلهموا منهجيتها واستمرأوا قيمها، حالت دون تمكينهم من الوصول الى مكامن الأسباب الفعلية والدوافع الحقيقية المسؤولة عن صيرورة تلك الأحداث والوقائع والظواهر على هذا النحو المليء بالفواجع والمكتنز بالكوارث. ذلك لأن الإصرار على التمسك بمفهوم (الاستمرارية) التطورية يتعارض جذريا "مع منطق (السيرورة) الجدلية، حيث ينبغي توقع حدوث (الارتداد) أو (الانقطاع) أو (الانحراف) في كل لحظة وعند كل منعطف.

ولعل ما يفرض علينا مراعاة هذه الضرورة والاحتكام الى منطقها، هو ان التاريخ لا يعدو أن يكون سجلا "شاملا" يحتوي متنه على كل ما اجترحته – وستجترحه - البشرية عبر مسارها الطويل؛ من أفعال وأقوال، من علاقات وتصورات، من حروب وصراعات، من ثقافات وحضارات. بمعنى أنه صنيعة إنسانية بامتياز ساهم في تكوينه عاملين أساسين هما؛ الأول وهو (الإرادة) الذاتية، والثاني وهو (الوعي) الاجتماعي. وحيث ان الإرادة تسيرها الأهواء المتقلبة والنوازع المتصارعة التي يحركها بندول المنافع والمصالح، مثلما ان الوعي مرهون بمستوى النضج المعرفي والإدراكي للمجتمع الذي تتحكم فيه الخلفيات والمرجعيات والأصوليات. بات من الحكمة التخلي عن تصور ان حركة التاريخ تعتمد خلال مسارها على مفهوم (الاستمرارية) التصاعدية، الذي غالبا "ما يفضي لارتكاب الأخطاء في تقييم الأحداث ويقود للفشل في تحليل الوقائع من جهة، والاحتكام الى مفهوم (السيرورة) الجدلية الذي من شأنه ليس فقط منحنا القدرة على فهم واستيعاب ما يجري في الواقع المعاش من تناقضات اجتماعية وتقاطعات سياسية وصراعات إيديولوجية فحسب، بل وكذلك يمهد أمامنا منحى الآفاق المستقبلية التي يمكن توقعها والاستعداد لها، بأقل الكلف المادية والبشرية والمعنوية التي يمكن استثمار رصيدها لاحقا"، كمرتكزات لتسريع عمليات التقدم العلمي والتطور الاجتماعي والرقيّ الحضاري .       

***

ثامر عباس – باحث عراقي

 

في عصر السرعة والمعلوماتية يشير العنوان للصراع بين الأفكار والقلق، والسعي وراء السعادة التي قد تكون غير حقيقية أو سطحية في ظل التشتت الذي يسببه تدفق المعلومات، وتأثير وسائل التواصل الاجتماعي على الحالة النفسية. تلعب الثقافة الاستهلاكية دورا مهما في تشكيل مفهوم السعادة عندما يسعى الأفراد لتحقيقها من خلال الاستهلاك، يشعر الكثيرون بالسعادة المؤقتة بعد شراء منتج جديد، لكن هذه السعادة غالبًا ما تكون قصيرة الأمد، بمجرد مرور الوقت، يعود الشعور بالفراغ أو عدم الرضا. تؤدي الثقافة الاستهلاكية إلى ضغط اجتماعي يدفع الأفراد لمقارنة أنفسهم بالآخرين. هذه المقارنات يمكن أن تؤدي إلى مشاعر القلق والاكتئاب عندما لا يستطيع الأفراد مواكبة معايير الحياة التي تروج لها الثقافة الاستهلاكية. التركيز على الاستهلاك يؤدي إلى إهمال القيم الحقيقية مثل العلاقات الإنسانية، التجارب، والنمو الشخصي. لذا، يشعر الأفراد بالسعادة المزيفة عندما يربطون قيمتهم الذاتية بما يمتلكونه، هذا يمكن أن يخلق وهمًا بالسعادة من خلال التركيز على الممتلكات المادية. لفهم السعادة الحقيقية، يحتاج الأنسان إلى إعادة تقييم أولوياته في خلق المعنى والتركيز على التجارب والعلاقات القيمة ومقاومة ضغوط الثقافة الاستهلاكية الذي يتطلب وعيًا وجهودا حقيقية. منها تفعيل منظومة الوعي الذاتي لمساعدة العقل على التمييز بين الاحتياجات الحقيقية والرغبات السطحية، مقاومة الثقافة الاستهلاكية تتطلب الوعي والجهد، لكن من خلال التركيز على القيم الحقيقية والتجارب، يمكن تحقيق شعور دائم بالرضا والسعادة وتحدي صخب العقل الذي يشبه "رحى الطاحونة"، يتطلب هذا استراتيجيات فعّالة لإدارة الأفكار والقلق. تحدي صخب العقل يتطلب مزيجًا من استراتيجيات الهدوء الذهني، التنظيم تدوير الأفكار، أو تكرار التفكير حول نفس المسألة والوصول إلى حل. تدوير الأفكار يمكن أن يكون مرهقًا، لكن باستخدام استراتيجيات فعالة، يمكنك تقليل تأثيره.

الكتابة الإبداعية وتدوير الأفكار

يمكن أن يكون لهما تأثيرات متباينة على البحث عن السعادة، تمكن الكتابة الإبداعية الأفراد من التعبير عن مشاعرهم وأفكارهم، مما يساعد في معالجة القلق والتوتر، يمكن للشخص اكتشاف مشاعره الحقيقية وتحديد ما يجلب له السعادة الحقيقية ،بدلاً من السعادة المزيفة ،البعض ينظر الى تدوير الأفكار قد يؤدي إلى تقييد الإبداع، حيث ينشغل الشخص بالأفكار السلبية ولا يستطيع التفكير بحرية، احيانا تؤدي التأثيرات الخارجية، مثل وسائل الإعلام، إلى رغبة الشخص في تحقيق معايير سعادة غير واقعية، مما يزيد من تدوير الأفكار السلبية. يعتقد البعض أن الكتابة الإبداعية يمكن أن تكون وسيلة للهروب من المشاعر السلبية، مما يؤدي إلى البحث عن سعادة مزيفة، لكن الحقيقة يمكن استخدام الكتابة كأداة لتوجيه الأفكار بدلاً من تدويرها. من خلال الكتابة، يمكن للشخص تحدي الأفكار السلبية وخلق سرد إيجابي يساعد في تعزيز الثقة بالنفس حيث تتداخل الكتابة الإبداعية وتدوير الأفكار في بحث الأفراد عن السعادة، وقد تؤدي إلى سعادة مزيفة إذا لم تُستخدم بشكل صحيح. من المهم استخدام الكتابة كأداة للتعبير والتوجيه بدلاً من الانغماس في الأفكار السلبية، مما يساعد في تمييز السعادة الحقيقية عن المزيفة، هذا يتطلب وعيًا ذاتيًا وتفكيرًا نقديًا.

السعادة اللحظية والسعادة الدائمة

السعادة اللحظية هي السعادة التي نشعر بها في لحظة معينة نتيجة لتجربة أو حدث محدد. قد تكون ناتجة عن المواقف الممتعة أو المكافآت الفورية هي شعور بالرضا والاستقرار النفسي يمتد على مدى فترة، قد تتجاوز التجارب اللحظية. وهي غير مرتبطة بالمعنى والهدف غالبًا ما تأتي نتيجة عوامل خارجية مثل التفاعلات الاجتماعية، الأنشطة الممتعة، أو المكافآت المادية تنبع من الداخل، مثل القيم الشخصية، العلاقات، وتحقيق أهداف معينة وتميل إلى أن تكون قصيرة الأمد، وغالبًا ما تتلاشى بسرعة بعد انتهاء الحدث أو التجربة ولا تظل موجودة في الأوقات الصعبة، حيث تدعم الشعور بالرضا، رغم التحديات قد تعزز من المزاج مؤقتًا، لكنها لا تؤثر بشكل كبير على جودة الحياة العامة على المدى الطويل، بينما توفر السعادة المؤقتة لحظات من الفرح والبهجة، فإن السعادة الدائمة تتطلب عمقًا ووعيًا ذاتيًا، وتؤثر بشكل إيجابي على جودة الحياة بشكل عام. لتحقيق توازن صحي، من المهم السعي لتحقيق كليهما مع التركيز على بناء أسس السعادة الدائمة. السعادة الدائمة تتطلب جهدًا مستمرًا ووعيًا ذاتيًا. السعادة المزيفة حالة ظاهرية من الفرح والبهجة، لكنها لا تعكس شعوراً داخلياً حقيقياً بالرضا والاطمئنان. قد يلجأ الشخص إلى التظاهر بالسعادة لأسباب مختلفة، مثل إخفاء مشاعر الحزن أو اليأس، أو محاولة التأثير في الآخرين، أو الهروب من الواقع.

صخب العقل

هو حالة من التفكير المستمر والقلق المفرط، حيث يعجز الشخص عن التوقف عن التفكير في المشاكل والتحديات التي تواجهه. قد يؤدي صخب العقل إلى الشعور بالتوتر والقلق والإرهاق، ويصعب على الشخص الاسترخاء والاستمتاع بحياته. الشخص ذو العقل الصاخب، أو الذي يعاني من أفكار مستمرة وقلق وتوتر، قد يلجأ إلى السعادة المزيفة كآلية للتعامل مع ضغوط الحياة. لكن هل تنجح السعادة المزيفة في إنقاذ صاحب العقل الصاخب؟ قد توفر السعادة المزيفة، مثل الانغماس في ملذات عابرة أو علاقات سطحية، تخفيفاً مؤقتاً من القلق والأفكار المزعجة. يمكن أن تساعد السعادة المزيفة في تجنب مواجهة المشاعر السلبية الحقيقية التي تسبب صخب العقل، مثل الحزن أو الغضب أو الخوف. لكن، السعادة المزيفة ليست حلاً دائما، السعادة المزيفة لا تعمق المشاعر الإيجابية الحقيقية، بل تبقى سطحية وعابرة. بمرور الوقت، قد يؤدي الاعتماد على السعادة المزيفة إلى تفاقم صخب العقل، حيث يصبح الشخص أكثر قلقاً وتوتراً بسبب عدم قدرته على تحقيق السعادة الحقيقية. السعادة المزيفة قد تتحول إلى هروب من الواقع ومشاكله الحقيقية، مما يؤخر معالجتها ويجعلها أكثر تعقيداً. الحل الحقيقي لصخب العقل كون السعادة المزيفة مسكناً مؤقتاً للشخص ذو العقل الصاخب، يكمن في معالجة الأسباب الجذرية للقلق والتوتر، وتعلم استراتيجيات صحية للتعامل مع الأفكار السلبية. التأمل الواعي هو ممارسة ذهنية تتمثل في التركيز على اللحظة الحالية دون إصدار أحكام. يمكن أن يساعد في تهدئة العقل الصاخب وتقليل التوتر والقلق. عندما يكون عقلنا صاخباً، فإنه يميل إلى التفكير في الماضي أو المستقبل، مما قد يؤدي إلى الشعور بالقلق أو التوتر. التأمل الواعي يساعدنا على التركيز على الحاضر، مما يسمح لنا بمراقبة أفكارنا ومشاعرنا دون أن ننجرف فيها. يساعد التأمل الواعي على تهدئة الجهاز العصبي. من خلال ممارسة التأمل الواعي، يمكننا تدريب عقولنا على التركيز بشكل أفضل وتقليل التشتت. يساعدنا التأمل الواعي على فهم أفكارنا ومشاعرنا بشكل أعمق، مما يمكننا من اتخاذ قرارات أكثر وعياً. يمكن أن يساعد التأمل الواعي على تهدئة العقل والجسم. أظهرت الدراسات أن التأمل الواعي يمكن أن يساعد في تقليل الشعور بالألم المزمن.

الفلسفة والية التأمل الواعي

تعلمنا الفلسفة كيف نتحكم في ردود أفعالنا تجاه العواطف السلبية. تعلمنا أن نراقب أفكارنا ومشاعرنا دون أن ننجرف فيها، وأن نختار الاستجابة الأكثر عقلانية وهدوا. تعلمنا الفلسفة كيف نفكر بشكل نقدي في أسباب عواطفنا السلبية. هل هي مبررة؟ هل هناك طرق أخرى للنظر إلى الموقف؟ هل يمكننا تغيير طريقة تفكيرنا لتقليل حدة العواطف السلبية؟ تساعدنا الفلسفة على إيجاد معنى للعواطف. قد تكون هذه العواطف فرصًا للنمو الشخصي والتطور. قد تعلمنا دروسًا قيمة عن أنفسنا وعن العالم من حولنا. تعلمنا الفلسفة كيف نقدّر الجمال في العالم من حولنا، في الطبيعة والفن والعلاقات الإنسانية. هذا التقدير يمكن أن يغذي عواطفنا الإيجابية ويجعل حياتنا أكثر امتلاءً. تعلمنا الفلسفة تقيم الامتنان للأشياء الجيدة في حياتنا، مهما كانت صغيرة. هذا الامتنان يمكن أن يزيد من شعورنا بالسعادة والرضا. تعلمنا الفلسفة أهمية عيش حياة أخلاقية، تقوم على مبادئ العدل والصدق والرحمة. هذه الحياة يمكن أن تجلب لنا شعورًا بالسلام الداخلي والرضا. يمكن أن يكون التأمل في الأفكار الفلسفية طريقة للتعامل مع الصخب العاطفي. يمكن أن تساعدنا الفلسفة على فهم أنفسنا بشكل أفضل وتحديد القيم التي توجه حياتنا. يمكن أن تكون الكتابة عن أفكارنا ومشاعرنا طريقة لتفريغ العواطف وتنظيمها. يمكن أن تساعدنا الكتابة على فهم أنفسنا بشكل أفضل وإيجاد حلول لمشاكلنا. يمكن أن تكون قراءة الأعمال الفلسفية طريقة للتعرف على أفكار جديدة ووجهات نظر مختلفة. يمكن أن تساعدنا القراءة على توسيع آفاقنا وتغيير طريقة تفكيرنا. البحث الفلسفي يمكن أن يكون أداة قوية للتعامل مع الصخب العاطفي. من خلال فهم طبيعة العواطف، والتعامل مع العواطف السلبية، وتنمية العواطف الإيجابية، يمكننا أن نعيش حياة أكثر هدوءًا وسلامًا ورضا. صحيح، ان الكثير من الناس يعيشون حالة من السعادة المزيفة، ويفتقدون إلى الرضا الحقيقي في حياتهم، وهذا يعود غالبًا الى ما ترتبط به السعادة المزيفة من المظاهر الخارجية، مثل المال، والشهرة، والنجاح الاجتماعي. تكون هذه السعادة وقتية وعابرة، ولا تدوم طويلًا، لا ترتبط بمشاعر عميقة أو قيم حقيقية، بل هي مجرد قناع يخفي مشاعر سلبية، تعتمد على مقارنة الشخص نفسه بالآخرين، ويعتمد على الظروف الخارجية بشكل دائم وهذا لا يمنح شعورًا بالهدف والمعنى. كون المعنى يعتمد على تقدير الشخص لذاته وقدراته، والشعور بالكفاءة والإنجاز. من اهم أسباب عدم الوصول إلى الرضا الحقيقي التركيز المفرط على جمع المال والممتلكات، وإهمال الجوانب الأخرى من الحياة. عدم وجود هدف واضح في الحياة وتحقيق المعنى، السعي لتحقيق الأحلام والرضا الحقيقي هو رحلة مستمرة. لا يوجد حل سريع أو سهل الا بجعل الفلسفة جزءا من الحياة.

***

غالب المسعودي

الثقافة العربية الإسلامية، في جوهرها هي تجسيد الوعي بضرورة صنع الحاضر، وفقا للاختيارات الفكرية الكبرى، التي تتناغم وروح تلك الثقافة وجوها العقدي والحضاري.. والمثقف الحق هو الذي يتمكن من تحقيق مقولات الوعي في الواقع الخارجي. وحتى يتمكن المثقف من تحقيق هذه المسألة من الضروري أن يكون مبدعاً وخلاقاً لكي يستمر عطاؤه الثقافي وصولا إلى صنع الحاضر وفق متطلبات الوعي واختياراته.

وإن المثقف المبدع هو الذي يبقى قلقه الفكري والثقافي مفتوحاً لمواصلة البحث والحفر المعرفي والمراجعة والتطوير، بحثاً عن صيغ وأطر جديدة للارتقاء بمستوى المعرفة والثقافة إلى الأمام.

وهكذا يصبح القلق الثقافي شرط الابداع ووسيلته في آن واحد ويصبح الاداة الامينة للانتقال من وضع ثقافي إلى آخر أرقى وأعمق. فالقلق الثقافي وحضور غايات الثقافة وأهدافها في شخص المثقف وعطائه هو البداية الاساسية لتشكيل المناخ الملائم للابداع الثقافي والفني والادبي.

فالابداع على المستوى الثقافي ليس صدفة أو بعيداً عن نواميس وقوانين الثقافة في المجتمع، بل هو ثمرة تطور طويل وتراكم تاريخي-ثقافي يؤدي أو يتوج بعملية الابداع على الصعيد الثقافي.

فالقلق الثقافي، الذي يعني الحضور المستمر للهم والتطلعات الثقافية والعقلية، كان هو القاسم المشترك بين جميع المبدعين وأصحاب العطاءات الثقافية المتميزة. وإن الابداع كتطلع يتطلع اليه أي مثقف أو فنان مرتبط بمجموعة من العوامل الموضوعية والذاتية معاً. وهذه العوامل تتكون وتتراكم تبعاً لشروط وخصائص ذاتية.. ويبقى لإرادة المثقف وكفاحه المعرفي والثقافي الدور الاساسي في تذليل العقبات التي تحول الابداع الثقافي والذي نريد أن نؤكد عليه في هذه الحالة، هو مسألة الوعي فالمزيد من الوعي وحضوره الدائم في حياة المثقف، هو الكفيل بتحقيق ابداعات ثقافية وأدبية.

والوعي هنا ليس وصفة طبية نأخذها أو عملا كمياً نقوم به أو قراءة لمجموعة من الكتب والدراسات الثقافية والادبية، إنه استيعاب تام للحالة الشاملة التي يعيشها المثقف ويتطلع اليها، استيعاب لا يؤدي إلى التفاؤل الكاذب أو التشاؤم الذي يشل التفكير ويمنع الارادة من فعلها.. إن هذا الوعي الذي ينطلق من حالة موازنة دقيقة ورشيدة للتطلع والممكن للواقع المفروض. هو الذي يحقق للمثقف أو الاديب القفزة النوعية في عطائه وإنتاجه كما أنه (الوعي) يحقق للثقافة المزيد من الانتشار والتوسع وكسب الانصار على المستوى المجتمعي والوعي كما يبدو ليس مطلباً سهلا يمكن تحقيقه بين يوم وآخر أو ليلة وضحاها.. إنه القراءة المستمرة للواقع بكلياته وتفاصيله بأحداثه وتطلعاته برجاله ومؤسساته، بكوابحه وآفاقه.

هذا فإن ابداع المثقف العربي مرتبط بشكل أساسي بطبيعة وعلاقته بواقعه، والظروف التاريخية التي يمر بها فإذا كانت لا تربطه بواقعه أية علاقة ثقافية وعقلية، فإنه لن يتمكن من الإبداع، لأن النواة الاول ى للإبداع هو التفاعل الايجابي بين المثقف وواقعه، وهذه العلاقة تنتج معالجات وإبداعات تنسجم واللحظة التاريخية. فتفاعل المثقف مع الواقع، لا يعني الخضوع إلى معوقاته أو الدخول في نفق ليس بالإمكان ابدع مما كان..

إن التفاعل يعنى تهيئة الشروط النفسية والعقلية للاستيحاء من الواقع، الاعمال الادبية والثقافية التي يقوم بها الاديب أو المثقف.. أن الواقع بمثابة التيار الكهربائي العاري، يلدغ ذلك المرء الذي لم يأخذ في حسبانه عمليات السلامة، ومتطلبات الاحتراز من السلك الكهربائي.

إن الارض الخصبة التي تؤهل الاديب أو الفنان، لعمليات الانتاج الادبي أو الثقافي المبدع هي التي تتشكل من جراء التفاعل الرشيد بين المثقف والواقع لا لكي يخضع المثقف مقاييسه ومعاييره المعرفية إلى الواقع. وانما لكي يكون إنتاج المثقف ذا جدوى وفائدة عملية على صعيد الواقع.

لأن ابتعاد المثقف عن عصره وواقعه يؤدي إلى تكثيف العناصر الكابحة في ذهن المثقف وواقعه المانعة لعمليات التجديد والابداع.

إن الانعزال عن العصر والمجتمع يؤدي إلى توهج الذكريات، وتهيمن انجازات ومكاسب ماضي المثقف على حاضره، وتجره بشكل ميكانيكي إلى القبول بالأمر الواقع والعيش على إنجازات الماضي أو الآخرين.

إن بذرة الابداع تنمو في حياة المثقف، حينما يبدأ المثقف وفق منهجية مدروسة وواعية للتفاعل مع قضايا عصره وعلومه. ويبدأ هذا التفاعل بنقد الواقع معرفياً وفنياً ومن ثم يبدأ المثقف بتوليد المعرفة الجديدة المبدعة.

فالمثقف المبدع ينشر الجديد دائما ويقدمه فناً أو ادباً أو علماً، ولكنه فيما يقدم من ابداع وصناعة لا يمكن أن يخرج كليا عن مستوى التقدم الذي بلغه مجتمعه بوجه عام ومقدار تمثل الفرد للإبداعات السابقة، والافادة منها بشكل خاص.. أي أنه محكوم نسبيا بمعطيات الوجود، وقفزته نحو المستقبل أو المجهول محكوم المدى بمعطيات الماضي والحاضر ولكنها محمولة على أجنحة امكاناته وقدراته وارادته وقدرته على التخييل لتتوغل في المستقبل، وترتاد المجهول علها تحمل منها غمراً وأريحاً وشعاعاً، ينير للسالكين طريقهم وموضع خطوهم على تلك الطريق.." والمبدع في انشداده بين الماضي السحيق والمستقبل البعيد، يكشف عن وعي منه أو عن غير وعي مسيرة الإنسانية، ويصدق فيه قول اليوت (فهو أكثر بدائية كما هو أكثر تمدنا من معاصره)1.

فالإبداع ليس وليد الفراغ وانما هو حصيلة الخبرة والتجربة والمعاناة، والتفاعل المباشر مع قضايا المجتمع والامة.

فشرارة الابداع تتقد حينما تنداح تلك الاسئلة من المثقف التي تضعه وتضعنا أمام حقائق الحياة ومقوماتها.. ولا فرق في ذلك بين الابداع الذي يقصده أفلاطون (التعبير عن عالم المثل) أو ما قصده أرسطو من أنه (محاكاة الطبيعة ثم التسامي عليها) أو ما قصده " كانت" من أن الابداع (طريقة جمالية ف إظهار الشيء).

حسب كل هذه المعاني والمصطلحات لا بد من توفر علاقة حميمة بين المثقف والواقع لا للخضوع له، وانما لمعرفة حقائقه والتفاعل الخلاق معها لصناعة النص المبدع.

فالقاعدة الاجتماعية لإبداع المثقف العربي أن يكون في حالة حركة وصيرورة مع مجتمع ومحيطه الإنساني، وبعيدا عن حالات الجمود والكسل الفكري.. حينذاك يبدأ المثقف بإنتاج عطاءاته المبدعة.

وبالتالي فإن ابداع المثقف العربي مرهون بالنقاط التالية :

في مدى علاقته بالثقافة فالمثقف الذي يعتبر الثقافة وظيفة لها لا يرتبط معها بأية روابط حب وتفاعل وتفان من أجل العلم والمعرفة. إن هذا المثقف سيبقى يكرر ما ينتجه الغير ولن يتجاوز سقف العطاءات الثقافية المتوفرة في الساحة.. بينما المثقف الذي يرقى في علاقته بالثقافة إلى مستوى الحب والعطاء والتفاعل. فإن هذا المثقف مع مرور الزمن سيتمكن من الابداع في حقله المعرفي والثقافي.

في مدى علاقته بالتحديات والتطورات التي تجري في ساحة الامة العربية والإسلامية.

فالمثقف الذي يصنع لنفسه حاجزا يحول دون التفاعل وهذه القضايا (التحديات والتطورات) لن يباشر أي دور مبدع في حياته العلمية والثقافية لأنه منع عن نفسه منعاً من متابعة الابداع , الا وهو التحديات والتطورات، فهي ب مثابة الحافز الذي يستفز كل القوى والطاقات الذهنية والفكرية، للإتيان بالجديد بما يناسب تلك التحديات والتطورات لأن بداية الثقافة والمعرفة مساءلة ومن ثم مشاركة في توليد معلوم من قيم الثقافة وخطوطها الكبرى وجماع القول: أنه وهج الحياة وتفاعل المثقف معها، تتولد حالات الابداع في حياة المثقف، فحيوية حضور المثقف في العصر، هو القاعدة المعرفية والمادية لعملية الابداع في مستوياتها المعرفية المختلفة.

***

محمد محفوظ – باحث سعودي

..................

مشكلات في الثقافة العربية على عقلة عرسان – ص 68       

 

هناك لحظةٌ فارقة في مسيرة المثقف، لحظةٌ لا تأتي دفعةً واحدة، بل تتسلل عبر الزمن، عبر الهزائم الصغيرة والانتصارات المؤجلة، عبر الصمت الذي يتراكم حوله، حتى يجد نفسه أمام سؤالٍ لا فكاك منه: هل أنا جزءٌ من الفعل، أم مجرد شاهدٍ على أطلاله؟ هل أنا منتجٌ للمعرفة، أم مُجرّد مستهلكٍ لسردياتٍ لا تغيّر من مواضع السلطة شيئًا؟

إن المثقف ليس مجرد حامل أفكار، بل هو حاملٌ لقلقٍ دائم، لوعيٍ مفتوحٍ على الأسئلة التي لا تنتهي. لكنه، في عالمٍ تحكمه الصورة وتعيد إنتاجه القوة، يجد نفسه في مأزقٍ لا يشبه أزماته القديمة. لم يعُد السؤال هو: كيف نُغيّر العالم؟ بل أصبح: هل لا يزال العالم يقبل بالتغيير أصلًا؟

لقد كتب إدغار موران، وهو أحد أكثر العقول النقدية حدّة في عصرنا، أن: “الفكر الذي لا يربط بين الأشياء لا يرى شيئًا.” هنا تنكشف أزمة المثقف المعاصر: إنه يملك القدرة على تفكيك الظواهر، لكنه يعجز عن إعادة تركيبها، يملك المهارة في تحليل الأنساق، لكنه لا يستطيع صياغة رؤية بديلة. إنه عالق في حالةٍ من “الوعي المتشظي”، حيث يُصبح النقد فعلًا مغلقًا، يُعيد إنتاج نفسه بلا أفقٍ للفعل.

وفي ظل هذه الأزمة، يبدو أن المثقف قد تحوّل من كيانٍ مؤثر إلى شاهدٍ مأزوم، يتنقل بين تأمل الواقع وتحليل انسداداته، لكنه نادرًا ما يتجاوز تلك المرحلة إلى إعادة تشكيله. إنه يعيش في مساحةٍ بينية، حيث المعرفة موجودة، لكن الفعل مؤجلٌ إلى أجلٍ غير معلوم.

لم يكن هذا حال المثقف دائمًا. فقد ظلّ، عبر التاريخ، في موضع المسافة الحرجة بين السلطة والجماهير، بين الأفكار وصُنّاع القرار، بين المعرفة وضرورات الفعل.

في العصور القديمة، كان الفيلسوف هو مرآة المدينة، كما في حالة أفلاطون وأرسطو. أما في العصور الحديثة، فقد أصبح المثقف شاهدًا على ولادة الدول القومية، ومهندسًا للأيديولوجيات التي صنعت العالم الحديث.

لكن أين يقف اليوم؟

غير أن المثقف، في هذا الزمن المُعلّق بين ما بعد الحداثة وما بعد الحقيقة، لم يعد حتى ذلك الفاعل المتردد بين الفكرة والممارسة، بل أصبح ذاته كيانًا مأزومًا، مُستهلكًا داخل دوائر التنظير، مهووسًا بتفكيك كل شيء حتى لم يَعُد يملك شيئًا يقف عليه.

إن ما بعد الحداثة، وهي مشروعٌ هائلٌ من الشك، لم تُنتج سوى تفكيكٍ لا بناء بعده، تفكيرٍ لا ينتهي إلى الفعل، ووعيٍ يتآكل تحت وطأة احتمالاتٍ لا تُحسم.

لقد صار المثقف، في عصر الاستعراض الدائم، كيانًا مفتوحًا للفرجة أكثر منه فاعلًا في التغيير. تحوّل إلى مُحلّلٍ للأحداث لا صانع لها، إلى ناقدٍ مستهلكٍ في محافل الأكاديميا، إلى شاهدٍ يُفكّك السرديات لكنه لا يجرؤ على صناعة سردية بديلة.

لقد تم تدجينه داخل آليات صناعة الرأي، داخل مؤسساتٍ تُعيد إنتاج النقد كسلعة، داخل شبكاتٍ يُصبح فيها الخطاب ذاته جزءًا من السوق، من آليات الامتصاص التي تُفرغ الفكرة من قدرتها على الصدمة.

وهكذا، يبدو المثقف محاصرًا بين خيارين متناقضين: إما أن يصبح جزءًا من المؤسسة، فيفقد استقلاله، أو أن يبقى على الهامش، فيفقد تأثيره.

فالسلطة لم تَعُد تكتفي بإسكات المثقف، بل امتصت دوره، جعلته جزءًا من بنيتها الرمزية، قدّمت له منابر يظن أنها مساحاتٌ حرة، لكنها في الحقيقة ليست سوى غرفٍ مُغلقة، تُعيد تدوير الخطاب في دوائر لا تنتهي.

ولكن، في عصرٍ يختزل كل شيء إلى صورة، إلى جملةٍ قصيرة، إلى رأيٍ عابر على منصةٍ افتراضية، هل لا يزال هناك متسعٌ للعمق؟ هل لا يزال المثقف قادرًا على ممارسة دوره خارج الاستعراض، خارج الشبكات التي تُعيد إنتاج كل شيءٍ في قالبٍ يمكن استهلاكه سريعًا؟

أم أن الفكر النقدي قد أصبح بدوره أسيرًا لهذا التدفق السريع، عاجزًا عن التوقف طويلًا أمام أي شيء؟

إن الفاعلية لا تعني فقط الانخراط المباشر في الصراع، بل تعني أيضًا إعادة تشكيل الخيال السياسي، إعادة إنتاج الأفق الذي يجعل من التغيير ممكنًا.

ولكن، إذا كان المثقف قد تخلى عن هذه المهمة، إذا كان قد انزلق إلى موقع “المُفسّر” لا “المُحرّك”، فمن الذي سيتولى إعادة تشكيل العالم؟

هل ستكون الجماهير وحدها قادرةً على ذلك؟

أم أن الجماهير، التي تستهلك الشعارات بدورها، ليست إلا انعكاسًا لعجز المثقف عن إنتاج رؤيةٍ واضحة؟

إن العالم لا ينتظر المثقف، ولا يتوقف عند تنظيراته. إن لم يُنتج أدواته الخاصة للتفاعل مع الواقع، فإن قوى أخرى ستملأ الفراغ، وستُعيد صياغة المشهد دون أن تأخذ رأيه بالحسبان.

إن المثقف، إن لم يكن فاعلًا، فهو ليس سوى ظلٍّ يتلاشى عند أول اختبارٍ للقوة.

في النهاية، ليس السؤال: هل يجب على المثقف أن يكون فاعلًا؟

بل السؤال الأهم: هل بقي للمثقف شيءٌ ليقوله لم يُستهلك بعد؟

وهل بقي للفكر النقدي قدرةٌ على تجاوز الصدى ليُصبح صرخة؟

أم أن الزمن قد تجاوز المُفكرين ليُصبح لعبةً تُحسم في الشارع، في السوق، في الإعلام، حيث لا مكان لمن يتردّد أو يفكّر طويلًا؟

إن الفارق بين الفاعلية والتنظير لم يَعُد مجرد خيار، بل أصبح معضلةً تخصّ وجود الفكر ذاته:

هل لا يزال الفكر قادرًا على التأثير، أم أن دوره قد انتهى ليُصبح فقط تعقيبًا هامشيًا على الأحداث؟

وهل انتهى زمن الأسئلة العميقة، ليبدأ عصرُ الإجابات السريعة؟

أم أن المثقف، حتى في عجزه، لا يزال يملك قوةً لم تُستنفد بعد، قوة السؤال الذي لم يجد جوابه بعد؟

***

إبراهيم برسي

لا شك في أن أزمة الخطاب الديني المعاصر هي أزمة فكرية في لبها ومنطلقها، فالأمة الإسلامية في سائر شعوبها، وفي مقدمتها الشعب العربي، تعيش أزمة فكرية، تتجلى في شكل غياب ثقافي، وتخلف علمي، وكسوف حضاري، وتتجسد في عجز الخطاب الفكري المعاصر عن إيصال الخطاب الإسلامي السليم ومحتواه، قرآناً وسنة وشريعة وأخلاقاً. فضلاً ذلك فهي أزمة الافتقار إلى المنهج العلمي في ميدان الدراسات المختلفة. فمناهج التجديد مثلاً، تمثل المسارات السلوكية للجماعات وتوجه فعاليتها وطاقاتها، وكلما كانت هذه المناهج متقنة ومحكمة انعكس ذلك على تنظيم وحركة الفعاليات، وإن النظرة التقويمية لمناهج التجديد الإسلامي تكشف عن وجود أزمة ومشكلات حقيقية في منهج الخطاب. فلا زال الخطاب الديني المعاصر ينتمي إلى الماضي، ولا زال غالبية الوعاظ والدعاة أسرى للخطاب الماضوي والأساليب القديمة في التبليغ، وتتردد على ألسنتهم مصطلحات عفا عليها الزمن، ولم يبق لها وجود سوى في المعاجم اللغوية، وهجرها الناس لوحشيتها أو غرابتها وثقلها على الإسماع. والى ذلك يذهب (حسن الترابي) في أن مرد الإخفاق الذي كان مآل كثير من تلك الحركات يعود إلى أن دوافع الإيمان الثائر لم تكن توافيها وجوه فكر تهديها، ولا مناهج عمل ترشدها.   لذلك نراه ينطلق في صياغة قراراته مستنداً أولاً وقبل كل شيء على المرجعيات الدينية وسلطة السلف، متجاهلاً الأساليب العلمية والمناهج المعرفية السائدة، وإذا كانت هذه المرجعيات قد أدلت بدلوها عن طريق الاجتهاد، فمن المحال أن تتحول هذه الاجتهادات إلى نصوص مقدسة، كما يسعى الخطاب الديني إلى تقديسها وتحويلها من نصوص ثانوية إلى نصوص أصلية تمتلك مشروعية النصوص الأصلية.

فتجديد مناهج الفكر ضروري، كون إن الانحسار والأزمة التي نعاني منها ناتجة عن أزمة فكر بالأساس، لان العطاء الفكري للحضارة الإسلامية وإسلامية المعارف قد توقف عند حدود العقول السابقة. حتى أصبح الهم الوحيد يكمن في كيفية فهم نتاج هذا العقل أو ذاك، وكأن سمة الإبداع والابتكار قد طُمست، وما علينا إلا أن نعيد هذه الأفكار التي تراكمت عليها الأزمان، والعمل على إحيائها كونها كفيلةً بإنقاذنا وتحريرنا من أزمتنا المعاشة.

لذلك كانت السمة الأساسية والمحددة للخطاب الديني تمثل في الجمود والعكوف على رواسب التراث، فلا تحبذ المراجعة النقدية لها، بل تتقاعس عن تلك المراجعة وعن الصيانة الذاتية لأنماط حركتها، ليتحول ذلك التقاعس إلى تقديس الإرث الفكري ليرتفع به دوغمائياً عن الممارسة النقدية. وبالتالي نراه أسير مفاهيم ومنطلقات أساسية جعلته حبيس أخطاء الماضي وانحرافاته دون القدرة على الفهم والتمييز وتصحيح المسارات، والغوص في أعماق القضايا التي يواجهها، وتحصيل اللباب من ورائها، حتى تنطلق المسيرة راشدةً واثقة باتجاه المستقبل، لا أن تقعد كفيفة مكبلة في زوايا الماضي الغابرة. وبالتالي فليس التراث هو الذي يقف عقبة أمام التجديد، وإنما تقديس التراث هو الذي يحول دون قيام التجديد. وما دام الخطاب الديني ينظر إلى الماضي بقداسة، ويسعى إلى استعادته واستنساخه برمته من دون تمييز بين غثهُ وسمينهُ، ثابتهُ ومتغيرهُ، مطلقهُ ومقيده، معتبراً أن سعادة الأمة وعزتها تكمن في ذلك، وأن تأخرها وهزيمتها بدأت عندما انقطعت عن تاريخها. فلا يمكن لقيام التجديد فيه.

  وبالإجمال فإن الخطاب الديني يسعى إلى تحويل الاجتهادات والتأويلات العقلية إلى نصوص مقدسة لا يمكن المساس بها أو التقرب إليها، وكأن باب الاجتهاد قد فتح للسابقين دون اللاحقين. وهل من المعقول أن تكون تلك الاجتهادات التي مر عليها قرون عديدة تكون كفيلة بالتصدي إلى هموم وإشكاليات الواقع المعاش، في حين إن لكل عصر اجتهاداته ولكل جيل إبداعاته، كما يقول حسن حنفي.

***

د. حيدر عبد السادة جودة

في المثقف اليوم