قضايا

في اكتشاف جوهر الروح كقوة حياة تنشط كياننا فغالبا ما يشار الى الروح باسم الهالة او البرانا او تشي وهي بمثابة حاوية لطاقاتنا ولاهتزازاتنا وتعمل كنظام كهربائي في داخلنا فجوهرنا الحقيقي يوجد في هذا العالم الروحي ويرشدنا خلال رحلتنا الارضية ويوفر الطاقة لشكلنا الجسدي وهنالك من منا له القابلية لرؤية الهالات والاهتزازات منذ الطفولة. والهالة هي الانبعاثات من الطاقات الملونة والتي تحيط بجسم الانسان المادي والتي هي انعكاس مباشر لحالة الجسم الروحية.

ومن وجهة نظر المعالجين الروحانيين لا ينظر الى الهالات بانها مجرد حقول طاقة بل كنظام معقد متشابك مع جوهر كياننا وهذا النظام المتشابك والمعقد يتكون من عدة طبقات مختلفة تتوافق مع الجوانب الجسدية والعاطفية والعقلية والروحية للفرد وهذا جوهر الزاوية للعديد من طرق العلاج الروحي. وهذه الهالة المحيطة بجسم الانسان تتكون من سبع طبقات من طيف رائع للطاقة وكل طبقة تهتز باهتزاز لون من الوان الطيف الشمسي الخاص بها مما يخلق مزجا متناغما من العنصر المادية والروحية والطبقات السبع التي تتكون منها الهالة هي:

1 - طبقة الجسد المادي وهي تمثل حضورنا الملموس في العالم المادي ووعاء لرحلتنا الأرضية.

2 - طبقة الجسم العاطفي حيث توجد مشاعرنا وعواطفنا وترسم تجاربنا العاطفية في الحياة.

3 - طبقة الجسم العقلي عالم المنطق والعقل حيث تتشكل افطارنا ورؤانا.

4 - طبقة الجسم النجمي مما يسمح لهالاتنا الاتصال والتشابك مع جوهر كل الكائنات الحية.

5 - طبقة الجسم الاثيري او الجسد حيث يرشدنا للارادة الالهية

6 - طبقة الجسم السببي بوابتنا ا لى العالم الروحي.

7 - الجسم الكيثيري او الذات الحقيقية والتي تربطنا بالوعي الفائق وبالحقيقة المطلقة.

ولا يغلف هذا المجال الهالي المتعدد الطبقات كياننا فحسب بل يعمل ايضا كمرأة تعكس التشابك المعقد بين الروحاني والجسدي. وهنا في هذا التفاعل الدقيق بين الطاقات المختلفة نجد المفتاح لفهم كيف يمكن لأفكارنا الداخلية ولحقائقنا الغير المعلنة ان تتجلى في واقعنا المادي.

B -

 طاقة البرانا الطاقة الحيوية للحياة والتي تربط بين جميع جوانب الكون والبرانا هي نبض الحياة نبض كل خلية من خلايا اجسادنا. وهذا مما يؤثر على جميع نشاطاتنا البدنية والفكرية والعقلية والنفسية وعلى نمونا الروحي ولفهم الطيف الكامل لقوة الحياة البرانا فمن الممكن فهم كل جزء من اجزاء كياننا الطاقي والذي يلعب دورا حيويا في صحتنا ووعينا بشكل عام ومن خلال التأمل الموجه والصلاة يمكننا اكتشاف هذه الطبقات والتواصل معها وتعميق فهمنا وعلاقتنا بذواتنا الحقيقية مما يخدم بدوره صحتنا الجسدية والروحية والعقلية .

***

سالم الياس مدالو

 

الى كل من يعنيه امر التعليم العالي ومستقبل العراق، من اعلى سلطة في الدولة الى اعضاء الهيئات التدريسية والطلبة الاعزاء: ان ما ورد في هذه الرسالة ليس مجرد كلمات، بل هو صرخة انذار لوقف تدهور صرح التعليم، فمستقبل الوطن وأجياله امانة بين ايديكم، تستوجب دراسة جادة وخطوات عاجلة لانقاذه.

ما ذكر في هذه المقالة هي محصلة اجابات ما يزيد عن مئة استاذ جامعي في مختلف الجامعات العراقية على سؤالين جوهريين حول اهم الاجراءات التي اتخذتها الوزارة والتي ساهمت في تحسين وتطوير التعليم العالي في العراق واهم الاجراءات التي اتخذتها الوزارة والتي ادت الى تراجع او اضعاف مستوى التعليم العالي في العراق.

تتضمن هذه المقالة مجموعة من الآراء ووجهات النظر التي تم جمعها من المشاركين. من المهم التوضيح ان هذه الآراء لا تمثل بالضرورة وجهة نظري الشخصية، وانما هي انعكاس لوجهات نظر المشاركين المتنوعة. بعض هذه الآراء تم التعبير عنها من قبل أفراد، في حين أن البعض الآخر يمثل وجهة نظر مجموعة من الأشخاص.

كما تجدر الإشارة الى ان الصياغات اللغوية قد تختلف بين الاجابات، الا أن هذه الاختلافات لا تغير من المعنى او المضمون الأصلي.

وبسبب قلة الاجابات الواردة على السؤال الأول، لن يتم التطرق اليها في هذا العرض. بينما تركزت غالبية الردود على السؤال الثاني، الذي سيتم تلخيص اهم ما ورد فيه في الأسطر التالية:

لقد تفاقمت القرارات الارتجالية وانتشرت فوضى الشهادات العليا، والزيادة المطردة في اعداد المقبولين فيها بشكل يتجاوز الضوابط والمعايير والقدرة الاستيعابية، مما ادى الى تراجع المستوى العلمي بشكل ملحوظ.

كما ان توزيع المناصب الادارية في الكليات والجامعات لم يعد يخضع لمعايير الكفاءة والجدارة، بل تحكمه المحاصصة والمحسوبية والمنسوبية بشكل اساسي، مما يعد اجحافا بحق الكفاءات الحقيقية. وقد ازدادت ممارسات نقل القيادات من منصب الى اخر دون اي معايير موضوعية، بل غالبا ما يتم اختيار قيادات غير مؤهلة نفسيا او فكريا، ولا يهمها سوى ارضاء الحزب او القوة المتنفذة، على حساب مصلحة المؤسسة التعليمية.

ناهيك عن اغراق الجامعات بتدريسيين غير مؤهلين للتدريس الجامعي، بل يشكك البعض في نزاهة شهاداتهم. وقد شملت هذه التعيينات العشوائية ايضا حملة الشهادات العليا من جامعات خارجية، مثل ايران ولبنان وغيرها، حيث يتم معادلة هذه الشهادات دون ادنى اعتبار لجودتها او كيفية الحصول عليها.

وقد بلغ التدهور حدا باتت فيه البحوث العلمية معدومة تقريبا، ومع ذلك كثرت الاوراق والرسائل والاطاريح، حيث يتم كتابتها عبر المكاتب التجارية او تشترى من "مصانع الاوراق" سيئة السمعة، وتتعاقد بعض الجامعات الاهلية مع مكاتب نشر خارج العراق لنشر اوراق مزيفة، واجبار تدريسيها على نشر بحثين سنويا من دون توفير مقومات واموال لاجراء البحوث، وكأن البحوث تنزل بزنبيل من السماء، وبدونها يتم استقطاع الراتب. ويضاف الى ذلك التركيز المبالغ فيه على التصنيفات الدولية التجارية، التي رغم مشاركة اعداد كبيرة من الجامعات العراقية فيها، لا تحقق الا نتائج مخيبة للامال، وغالبا ما تحتل الجامعات العراقية فيها مراتب متاخرة.

ويلاحظ نقص مريع في مجالات حيوية كتطوير الكادر التدريسي وتمويل البحوث وتجهيز وصيانة المختبرات وتطوير المناهج والاستثمار في تكنولوجيا التعليم. ونتيجة لشحة التمويل، تُحمل الوزارة تكاليف البحث العلمي على عاتق الطلاب، كما تنتهك، عبر قنوات القبول، اسس المساواة والعدالة الاجتماعية في قبول الطلبة، حيث يطالب الطلاب في الجامعات الحكومية بدفع رسوم غير قانونية في كثير من الاحيان يتعارض مع اسس التعليم المجاني. وقد جرى ايضا تشويه نظام بولونيا (نظام المقررات المبني على الوحدات) وتفريغه من مضمونه، ليتحول الى نظام فصلين دراسيين تقليدي.

كما يلاحظ اهمال متعمد لاسس نظام ضمان الجودة والتنكر لاهم بنوده ومحتوياته، مما فاقم من حالات التسرب وعدم الانتظام في الدوام. بل فرض على التدريسيين تحقيق معدلات نجاح محددة بغض النظر عن مستوى اداء الطلبة او حتى حضورهم الفعلي في الجامعات والكليات. ويقابل عدم تحقيق هذه المعدلات باجراءات تحقيقية تتخذ بحق التدريسي، مما ولد لدى الطالب حالة من اللامبالاة تجاه الدراسة، اذ بات على يقين بان النجاح مضمون له في جميع الاحوال. وما زالت الطرائق التقليدية في التعليم هي السائدة، حيث يرتكز النظام على الحفظ والتلقين. وغياب تقييم الطلبة السنوي لاداء الاساتذة اسهم في تدهور التعليم.

وقد اصبح قانون الترقيات العلمية سببا رئيسا في تردي مستوى التعليم في العراق. فبينما كان من المفترض ان تعتمد الترقية العلمية للاستاذ الجامعي على سنوات خدمته واسهاماته في التدريس وخدمة المجتمع وتطوير المناهج وطرائق التدريس، فقد اثقل هذا القانون بواجبات عديدة خارج اطار العمل الاكاديمي، مما عرقل تطوره المهني والعلمي واشغله بمهمة النشر في مجلات زائفة او مفترسة، وذلك بسبب شح التمويل المخصص للبحث العلمي النزيه، في ظل انتشار ثقافة الفساد الاداري والتزوير والرشاوي وشراء الشهادات. وشجع التركيز المفرط على التصنيفات الدولية، والرغبة في الظهور بأعلى المراتب فيها، على انتشار ممارسات النشر العلمي الزائف، بما في ذلك الأبحاث المكررة والمقالات المفبركة.

وقد تفشت مظاهر الامتيازات بكافة انواعها لمنح درجات تفاضلية، مما يعد غبنا لحقوق الطلاب الاخرين المجتهدين، بالاضافة الى الاستثناءات المتعددة في امور النقل والاستضافة والامتحانات ومنح الشهادات واعادة المرقنة قيودهم (الراسبين). وتفاقمت المركزية المفرطة في الاجراءات، حيث جردت الجامعات من صلاحياتها، فلم يعد لها اي دور ذي اهمية الا بتدخل من الوزير او الوزارة نفسها.

اما الكليات الاهلية فقد تحولت الى مجرد نواد ومساحات للهو يقضيها الطالب، فالنجاح فيها مضمون، والصفوف مكتظة باعداد تفوق امكانيات الكليات، ولم يعد للاستاذ فيها اي اعتبار او تقدير او احترام، بل ان مهمته، كما يفرضها المستثمر، هي انجاح الطلبة فحسب.

وقد باتت كثير من امتحانات الدراسات العليا مهزلة نتيجة لتدني مستوى اجراءات المناقشة وما يصاحبها من مظاهر الاسراف في الضيافة والهدايا، وافتقارها الى التقييم الصحيح، حيث غالبا ما تمنح فيها درجة الامتياز بتدخل كبير من المجاملات.

كما ظهر بجلاء ضعف واضح في اداء القيادات الجامعية وتخوفها من اتخاذ القرارات المناسبة لادارة الجامعة وخوفها الشديد من الوزارة وعدم تحمل المسؤولية. وقد اثر هذا الوضع السلبي على اضعاف شخصية التدريسيين وتخوف معظمهم من عقوبات الوزارة والتغاضي عن محاولات الطلبة ممارسة الغش وتوقعهم عدم دعمهم من قبل الاقسام والعمادات. وتدهورت البنايات نتيجة لعدم الاهتمام بالبنى التحتية وعدم مواكبة متطلبات التطور للنهوض بواقع التدريسي اكاديميا واجتماعيا وماليا.

كما تم تجاهل اراء وتجارب الاساتذة والمشاكل التي يواجهونها في اداء مهامهم التربوية. ونتيجة لهذا الانقطاع عن التواصل مع الكوادر التدريسية، وتزايد الاهتمام بالتعليم الاهلي على حساب التعليم الحكومي الذي بات خارج دائرة اهتمام القيادات الوزارية، لم توفر متطلبات التعليم لمواكبة التقنيات والتطور العلمي والتكنولوجي في هذا المجال، حتى ان العديد من المؤسسات التعليمية تفتقر الى ابسط مقومات البنية التحتية كشبكة الانترنت، فضلا عن النقص الحاد في المصادر والمراجع العلمية الكافية.

وقد فتح المجال على مصراعيه لتاسيس كليات وجامعاتٍ اهلية لا تلتزم في الواقع بقوانين ولوائح الوزارة، وان كانت تعلن خلاف ذلك، بل يتم تشجيع فتح الدراسات فيها، مما ادى الى اغراق سوق العمل بخريجيها على الرغم من عدم حاجة السوق والمجتمع اليهم في الوقت الراهن، مع اهمال تام لجانب الرصانة العلمية في هذه الدراسات. كما انعزل التعليم العراقي عن العالم نتيجة لضعف التبادل الثقافي والمعلوماتي بين الجامعات العراقية والعالمية.

ولم يقتصر الامر على ذلك، بل وصل الى ابتزاز التدريسي عن طريق فرض "التبرعات" الشهرية مقابل اضافة نقاط الى تقييم ادائه السنوي. وتحولت المؤتمرات والندوات العلمية الى وسيلة تتيح الفرصة للميليشيات والمتنفذين للدخول الى الحرم الجامعي، بل باتت وسيلة لجلب الاموال وتحصيل النقاط والقاء المحاضرات التافهة والبحوث الزائفة. كما يحرم الباحثون والاساتذة العراقيون من الوصول الى مكتبات افتراضية توفر مصادر علمية رصينة.

وقد تفاقم الكذب والترويج لانجازات غير حقيقية من قبل بعض الجامعات خصوصا الجامعات والكليات الاهلية. كما ضعف بصورة كبيرة التدريب الصحيح للتدريسيين والباحثين في الجامعات، فالنشر الدولي الرصين الذي تشجع عليه الوزارة يتطلب توفير الاموال والتدريب الصحيح للباحثين من اساتذة وطلبة دراسات عليا، على ان يتسم هذا التدريب بالاستدامة.

تعرض عليكم هذه المقالة صورة قاتمة للواقع الذي يعيشه التعليم العالي في العراق، وهي صورة مستقاة من اراء وخبرات نخبة من اساتذة الجامعات الذين يعانون من هذا الواقع المرير. ان ما ذكر في المقالة ليس مجرد شكاوى عابرة، بل هو تشخيص دقيق لامراض مستعصية تهدد بتقويض صرح التعليم العالي وتعيق تقدم بلدنا.

لذا اضع هذه الرسالة بين ايديكم امانة ومسؤولية، وادعوكم بكل الحاح الى دراسة ما جاء فيها بعناية فائقة، واتخاذ الاجراءات العاجلة لوقف هذا التدهور المتسارع. ان مستقبل العراق ومستقبل اجياله يعتمد على جودة التعليم العالي، ولا يمكن تحقيق التنمية والازدهار في اي مجال من مجالات الحياة دون اصلاح جذري وشامل لهذا القطاع الحيوي. ان الاستجابة لما طرح في هذه الرسالة واتخاذ ما هو صالح للتعليم العالي والجامعات هو استثمار حقيقي في مستقبل العراق، وتجاهله سيكون له عواقب وخيمة على المدى البعيد.

اثق بحكمتكم وحرصكم على مصلحة الوطن، واتطلع الى رؤية خطوات جادة تتخذ في سبيل انقاذ التعليم العالي في العراق.

***

ا. د. محمد الربيعي

بين النثر الأدبي في صدر الإسلام والشريف الرضي (8)

ألا يُدرِك أولئك المغتبطون بتلك النصوص التي يعزونها إلى الإمام (عَليِّ بن أبي طالب، كرَّم الله وجهه، ـ40هـ)، وهم يحسبون أنهم يحسنون صُنعًا واغتباطًا وإعلاءً من شأن الإمام، أنَّ في نِسبة الهُراء من هذا وذاك إلى (عَليٍّ) جنايةً على مقامه الكريم أيَّما جناية؟!

هكذا تساءل (ذو القُروح)، في ختام المساق السابق. قلتُ:

ـ على أنَّ (سحر سليمان عيسى)(1) تشير إلى أنه: «من الثابت أنَّ كتاب «نَهْج البلاغة»، جوهرًا وفِكرًا للإمام (عَليِّ بن أبي طالب، كرَّم الله وجهه)، في حين أنَّه تسميةً وتنسيقًا: الخُطَب والأوامر والكتب والرسائل والحِكم والمواعظ، فصولًا وأبوابًا للشَّريف الرَّضِي.»

ـ كيف صار ذلك «من الثابت»؟

ـ لم تذكر!

ـ ومَن ذا أثبتَه؟ وكيف؟ لو أنها قالت: «من الشائع»، لكان قولها صوابًا. ولقد نبَّه شُرَّاح «نَهْج البلاغة» من القدماء أنفسهم، وممَّن لا يُشكُّ في انتمائهم العَلَوي، إلى ما في عمل (الرَّضِيِّ، ـ406هـ) من خَلْطٍ وتخليط. فهذا (ابن أبي الحديد، ـ656هـ)(2)، مثلًا، يعلِّق على الخُطبة الرابعة في «النَّهْج» بقوله: «هذه الكلمات والأمثال ملتقطةٌ من خُطبةٍ طويلة، منسوبة إليه، عليه السلام، قد زاد فيها قومٌ أشياء حملتْهم عليها أهواؤهم، لا توافق ألفاظُها طريقته، عليه السلام، في الخُطَب، ولا تُناسب فصاحتُها فصاحته، ولا حاجة إلى ذِكرها، فهي شهيرة. ونحن نشرح هذه الألفاظ، لأنها كلامه، عليه السلام، لا يشكُّ في ذلك من له ذوقٌ ونقدٌ ومعرفةٌ بمذاهب الخُطَباء والفُصَحاء في خُطَبهم ورسائلهم، ولأنَّ الرواية لها كثيرة، ولأنَّ الرَّضِىَّ، رحمة الله تعالى عليه، قد التقطها ونسبَها إليه، عليه السلام، وصحَّحها، وحذف ما عداها». كما قال (ابن أبي الحديد)(3) عن الخُطبة الثانية في «النَّهْج»: «واعلم أنَّ هذه الكلمات... يَبْعُد عندي أن تكون مقولةً عُقيب انصرافه، عليه السلام، من (صِفِّين)، لأنَّه انصرفَ عنها وقتئذ مضطربَ الأمر، منتشرَ الحَبْل؛ بواقعة التحكيم، ومكيدة ابن العاص، وما تمَّ لمعاوية عليه من الاستظهار، وما شاهدَ في عسكره من الخذلان، وهذه الكلمات لا تُقال في مثل هذه الحال، وأخْلق بها أن تكون قيلت في ابتداء بَيْعته، قبل أن يخرج من (المدينة) إلى (البصرة). وأنَّ الرَّضِىَّ، رحمه الله تعالى، نقلَ ما وجدَ، وحكى ما سمعَ، والغَلَط من غيره، والوَهْم سابقٌ له، وما ذكرناه واضح.»

ـ وكأنَّه يقول: «كفَى بالمرء كذبًا أن يحدِّث بكلِّ ما سَمِع»!

ـ وهكذا يبدو القدماء أكثر عِلميَّة واحترامًا للمنهاج من المحدثين! ولقد حاول بعض المحدثين، من المنافحين عن (الشَّريف الرَّضِي)، باللُّتَـيَّا والَّتي، تسفيه كلام (ابن أبي الحديد) هذا، ذاهبين إلى أنَّ (عَليًّا) لا تنطبق عليه المقاييس البَشَريَّة أصلًا؛ فقالوا: «وهذا الاستنتاج من مثل هذا الشارح عجيب، فإنَّ ما ذكره، مسهِبًا فيه، إنَّما يجري بالنسبة إلى غير أمير المؤمنين، عليه السلام، ممَّن يقعقع  له بالشِّنان، ويضطرب أمره من ماجريات الزمان، وأمَّا أمير المؤمنين، عليه السلام، فهو ليس كغيره، ممَّن يعتريه وهنٌ أو ضعفٌ أو فشلٌ أو ذُلٌّ، ولا ممَّن تزيده كثرة الناس أُنْسًا وقُوَّةً، وتفرُّقهم ضعفًا ووحشة، على أنَّ المطلوب من الرَّجُل العظيم- وإنْ كان دون أمير المؤمنين- أن يتجلَّد ويتظاهر بمظاهر الفُتُوَّة، وعدم المبالاة بالنوائب والحوادث.»(4)

ـ المسألة هنا ليست بمسألة «فُتُوَّة»، لكنها مسألة واقع، وسياسة، وصِدْق، وحِكْمة.

ـ بل إنَّ مثل هذه «الفُتُوَّة» المدَّعاة في مثل هذا الظرف ستبدو أشبه بالحماقة، أو بعدم المبالاة السلبيَّة، بالفعل. فأيُّ قائدٍ عظيمٍ، عَقِب معركة كمعركة صِفِّين، سيفرغ للسجع على المنابر؟! منوِّهًا بشهادةٍ تأتي «مُمْتَحَنًا إخلاصُها، مُعْتَقَدًا مُصاصُها...»!

ـ للهِ في خلقه شؤون! أمَّا تفضيل «نَهْج البلاغة» لدَى الغُلاة في (عَليٍّ) على ما سِواه من النصوص، بما في ذلك النصّ القرآني، فذلك ما لا أعلم قائلًا به قبل السيِّد (أحمد القبَّانجي).

ـ وهو قولٌ لا يقوم، لا على أثارةٍ من عِلم البلاغة، ولا على المفاضلة بين أساليب البيان، بمقدار ما يقوم على الميل العاطفيِّ، أو بالأحرى العصبيَّة الحزبيَّة، والانتصار المذهبيِّ.

ـ لكن الرجُل، رغم عمامته السوداء التي ما انحطَّت عن هامته، يصف نفسه بأنَّه ليبراليٌّ قُح، حداثي، وجداني، متمرِّد على كلِّ الأصول والثوابت والتراث!

ـ سلِّم لي على اللِّيبراليَّة العَرَبيَّة، مع حداثتها الاتِّباعيَّة! إنَّما هو المِراء الفارغ، أو حتى الجِدال الأيديولوجي المحض، للطعن في «القرآن»، يَمنةً ويَسرة، فما يخدم هذا الغرض، أهلًا به وسهلًا! ولو كان (القبَّانجي) كـ(الشَّريف الرَّضِي)، لاستحى من قوله، بَيْدَ أنَّ للجاهل من الجرأة ما ليس لغيره. قال (الشَّريف)(5): «وإنِّي لَأقول أبدًا: إنَّه لو كان كلامٌ يلحق بغباره [مشيرًا إلى «القرآن»]، أو يجري في مضماره- بعد كلام الرسول، صلى الله عليه وآله- لكان ذلك كلام أمير المؤمنين عَليِّ بن أبي طالب، عليه السلام؛ إذ كان منفردًا بطريق الفصاحة، لا تزاحمه عليها المناكب، ولا يلحق بعقوه فيها الكادح الجاهد، ومَن أراد أن يعلم برهان ما أشرنا إليه من ذلك، فليُنعِم النظر في كتابنا الذي ألَّفناه ووَسَمْناه ب‍»نَهْج البلاغة«... وكلامه (عليه السلام)- مع ما ذكرناه من عُلوِّ طبقته، وحُلْو طريفته، وانفراد طريقته- فإنَّه إذا حاولَ ليلحق غايةً من أداني غايات «القرآن»، وجدناه ناكِصًا متقاعِسًا، ومقهقِرًا راجِعًا، وواقِفًا بليدًا، وواقِعًا بعيدًا.» فها هو ذا يفضِّل بلاغة الرسول على بلاغة (عَليٍّ)، ثمَّ لا يقارن ببلاغة «القرآن» بلاغةً أبدًا؛ فما سِواه بالقياس إليه النكوص، والتقاعس، والتقهقر، والرجوع، والوقوف، والبلادة، والوقوع بعيدًا.

ـ وما قولك في مَن يُصِرُّ على التماس مصادر سابقة للنصوص التي أوردها الرَّضِيُّ في «النَّهْج»؟

ـ نحن نعلم أنَّ بعض ما وردَ في «النَّهْج» قد وردَ في مصادر سابقة، وقد ضربنا على ذلك الأمثلة، في المقالات السابقة، ووازنَّا، ولاحظنا الاختلافات بين تصرُّف (الشَّريف) في روايات «النَّهْج» وروايات (الطَّبَري)، على سبيل المثال.

ـ لكن كثيرًا ما يدلون عليك بشهادة (الجاحظ)، بأن خُطَب عَليٍّ كانت محفوظة.

ـ هكذا يظنُّون، أو قل: هكذا يفترون على (الجاحظ)! وذلك في روايةٍ معنعنةٍ عن (زكي مبارك)(6)، حيث قال: «وقد أراد المسيو ديمومبين (Demombynes) أن يَغُضَّ من قيمة ما نُسِب إلى عليِّ بن أبي طالب من خُطَب ورسائل؛ استنادًا إلى ما شاع منذ أزمان من أنَّ الشَّريف الرَّضِي هو واضع كتاب «نَهْج البلاغة». أمَّا نحن فنتحفَّظ في هذه المسألة كلَّ التحفُّظ؛ لأنَّ الجاحظ يحدِّثنا أنَّ خُطَب عَليٍّ وعُمَر وعُثمان كانت محفوظة في مجموعات. ومعنى هذا أن خُطَب عَليٍّ كانت معروفة قبل الشَّريف الرَّضِي.» ونقول لك- يا زكيًّا يا ابن مبارك- لقد كان (المسيو ديمومبين) أصدق منك ومن تحفُّظاتك كلِّها!

ـ كيف؟

ـ هل حقًّا قال (الجاحظ) «إن خُطَب عَليٍّ وعُمَر وعُثمان كانت محفوظة في مجموعات»؟ أم في هذا القول ضربٌ من التدليس على القارئ؟!  مَن يقرأ هذا الكلام المبارك لـ(زكي مبارك) يخيَّل إليه أنَّ الجاحظ قد شَهِد بأنها كانت هناك مجموعات مصنَّفة مشهورة، وربما مجلَّدات بتلك الخُطَب، ولعلَّ الجاحظ قد اطَّلع عليها! فدونك ما قاله (الجاحظ)(7)، وَفق سياقه، بلا زيادة، ولا نقصان، ولا تلبيس: «أنا أُوصيكَ أنْ لا تدع التماسَ البيان والتبيين، إنْ ظننتَ أنَّ لكَ فيهما طبيعةً، وأنهما يناسبانك بعض المناسبة، ويشاكلانك في بعض المشاكلة، ولا تُهمِل طبيعتك فيستولي الإهمال على قوَّة القريحة، ويستبدَّ بها سوء العادة. وإنْ كنتَ ذا بيان، وأحسستَ من نفسك بالنُّفوذ في الخطابة والبلاغة، وبقوَّة المُنَّة يوم الحَفْل، فلا تُقصِّر في التماس أعلاها سُورة، وأرفعها في البيان منزلة. ولا يقطعنَّك تهييُّب الجُهَلاء وتخويف الجُبناء... وقد سمعتَ الله، تبارك وتعالى، ذكرَ داوود النبيَّ، صلوات الله عليه، فقال: «وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ، إِنَّهُ أَوَّابٌ»‏ إلى قوله: «وَفَصْلَ الخِطَابِ». فجمعَ له بالحِكمة البراعةَ في العقل، والرجاحة في الحلم، والاتِّساع في العِلم، والصواب في الحُكم، وجمعَ له بفَصْل الخِطاب تفصيلَ المُجمَل، وتخليصَ الملتبس، والبَصَر بالحَزِّ في موضع الحَزِّ، والحَسْم في موضع الحَسْم. وذكرَ رسولُ الله شُعيبًا النبيَّ، عليه السلام، فقال: «كان شعيبٌ خطيبَ الأنبياء»، وذلك عند بعض ما حكاه الله عنه في كتابه، وجلَّاه لأسماع عباده. فكيف تهاب منزلة الخُطَباء، وداوود، عليه السلام، سَلفُك، وشعيب إمامُك، مع ما تَلَوْنا عليك في صدر هذا الكتاب من القرآن الحكيم، والآي الكريم. وهذه خُطَب رسول الله مدوَّنةٌ محفوظة، ومُخلَّدةٌ مشهورة، وهذه خُطَب أبي بكر، وعُمَر، وعُثمان، وعَليٍّ رضي الله عنهم.» هذا نصُّ (الجاحظ)، جاحظٌ أمام عينيك! فهل قال: «إن خُطَب عَليٍّ وعُمَر وعُثمان كانت محفوظة في مجموعات»، كما زعم (زكي مبارك)؟!

ـ الحقيقة، أنه لم يقل «محفوظة في مجموعات». بل لم يصرِّح بأنها «مدوَّنة محفوظة» كخُطَب الرسول. ولكن هل صحيح أنَّ هذه الأخيرة «مدوَّنةٌ محفوظة، ومُخلَّدةٌ مشهورة»، كما قال؟

[نناقش هذا في المقال التالي].

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

..........................

(1)(2012)، قراءات من المكتبة العَرَبيَّة، (عمَّان: دار البداية)، 117.

(2) (1959)، شرح نَهْج البلاغة، تحقيق: محمَّد أبي الفضل إبراهيم، (القاهرة: دار إحياء الكتب العَرَبي)، 1: 208.

(3)  م.ن، 1: 143.

(4)  الخطيب، عبد الزهراء، (1985)، مصادر نَهْج البلاغة وأسانيده، (بيروت: دار الأضواء)، 1: 50.

(5) (1986)، حقائق التأويل في متشابه التنزيل، شرح: محمَّد الرضا آل كاشف الغطاء، (بيروت: دار الأضواء)، 5: 167- 168.

(6) (1957)، النثر الفنِّي في القرن الرابع، (مِصْر: مطبعة السعادة)، 1: 69.

(7) (1998)، البيان والتبيين، تحقيق وشرح: عبدالسلام محمَّد هارون، (القاهرة: مكتبة الخانجي)، 1: 200- 201.

أبو حيان التوحيدي (922 - 1023 م).. فيلسوف متصوف، عالم موسوعي، وأديب بارع.. لُقِّب بفيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، والبلاغة وعلم الكلام، وتميزت مؤلفاته بتنوعها وغزارة مضمونها، وبأسلوبه الأدبي البارع الذي اشتمل على وصف للأوضاع العامة في عصره. ووصفه ياقوت الحموي في (معجم البلدان) بأن التوحيدي "لا نظير له ذكاء وفطنة، وفصاحة ولكنة، كثير التحصيل للعلوم في كل فن حفظه، واسع الدراية والرواية، فهو شيخ في الصوفية وفيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، ومحقق الكلام ومتكلم المحققين وإمام البلغاء".

ويراه آخرون أنه كان المثقف "المحاصر المأزوم" بنكهة وجودية. وهناك من كتب عنه باعتباره نموذجًا مثاليًّا لحالة المثقف العربي "المتمرد" في القرن الرابع الهجري.. وعاش أغلب عمره الطويل في بغداد.. وأليها ينسب.

 والمؤلم أن التوحيدي، الذي ألف "الإمتاع والمؤانسة" و"المقابسات" و"البصائر والذخائر"، أحرق كتبه في أواخر عمره ضنّا بها على من لا يقدّرها بعد وفاته، واشتكى من تجاهل إبداعاته ومن الفقر وقلة الرزق، وكتب لأحد أصدقائه يبين له أنه ليس أول من أحرق كتبه.. "فلي في إحراق هذه الكتب أسوة بأئمة يقتدى بهم"..  أبرزهم سفيان الثوري، الذي مزق كتبه وطيّرها في الريح، وأبو عمرو بن العلاء الذي دفنها في باطن الأرض بلا أثر باق، وداود الطائي الذي "طرح كتبه في البحر وقال يناجيها: نعم الدليل كنت، والوقوف مع الدليل بعد الوصول عناء وذهول، وبلاء وخمول"، وأبو سليمان الداراني الذي جمع كتبه في تنور وسجرها بالنار ثم قال "والله ما أحرقتك حتى كدت أحترق بك".

وذكر جلال الدين السيوطي في "طبقات اللغويين والنحاة" أن أبا حيان التوحيدي أحرق كتبه لمّا انقلبت به الأيام ووجد أنها لم تنفعه، فجمعها وأحرقها ولم ينج منها غير ما نقل أو تم نسخه قبل إحراقها. وروى التوحيدي عن شيخه أبي سعيد السيرافي، الذي لقب بـ"سيد العلماء"، أنه قال لولده محمد "قد تركت لك هذه الكتب تكتسب بها خير الأجل، فإذا رأيتها تخونك فاجعلها طعمة للنار".. ما يعني أن التوحيدي عاش مهمشا مغتربا كحال مثقفي هذا الزمان الأصلاء!

التوحيدي.. عالم كيمياء

قال عنه ابن خلدون "إنه إمام المدونين في علم الكيمياء، حتى إنهم يخصونها به فيسمونها علم جابر وله فيها سبعون رسالة كلها شبيهة بالألغاز"، وقال عنه أبو بكر الرازي "إن جابرا من أعلام العرب العباقرة وأول رائد للكيمياء"، فيما قال عنه القفطي إنه كان متقدما في العلوم الطبيعية بارعا منها في صناعة الكيمياء. وقيل فيه أيضا إن لجابر في الكيمياء ما لأرسطو في المنطق وإنه هو أول من علم علم الكيمياء للعالم.

 زد على ذلك أن التوحيدي وصف بأنه أول من اعتمد المنهج العلمي التجريبي القائم على التجربة والملاحظة، واعتماد المنهجين الاستدلالي والاستقرائي، وأنه أحد أكبر طارحي وصائغي الأسئلة الوجودية والمعرفية في عصره، وكانت كتابته في زمنه كتابة تمرّد وجنوح وخروج عن مألوف الكلام ومكرور القول.

قادحون ومادحون

 المفارقة في التوحيدي ان فلاسفة ومفكرين انقسموا فريقين (قادحون ومادحون).. اليكم نماذج منها:

- (الضال الملحد أبو حيان، علي بن محمد بن العباس، البغدادي الصوفي، صاحب التصانيف الأدبية والفلسفية، ويقال: كان من أعيان الشافعية... كان أبو حيان هذا كذابا قليل الدين والورع عن القذف والمجاهرة بالبهتان، تعرض لامور جسام من القدح في الشريعة والقول بالتعطيل). الحافظ الذهبي في (سير أعلام النبلاء).

- زنادقة الإسلام ثلاثة: ابن الراوندي، وأبو حيان التوحيدي، وأبو العلاء المعري، وأشدهم على الإسلام أبو حيان). ابو الفرج بن الجوز.

- (شيخ فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، ومحقق الكلام، ومتكلم المحققين، وإمام البلغاء، لا نظير له في الذكاء والفطنة والفصاحة.. كثير التحصيل للعلوم في كل فن حفظه، واسع الدراية والرواية، وكان مع ذلك يشتكي صرف زمانه، ويبكي في تصانيفه على حرمانه). ياقوت الحموي (معجم الأدباء).

- (كان فاضلاً مصنفاً وله الكثير من المصنفات الحسنة كالبصائر. وكان فقيراً صابراً متديناً صحيح العقيدة وكانت مبالغة عظيمة من الذهبي بوصفه لأبي حيان بأنه كان عدواً لله خبيثا..  تاج الدين السبكي في (طبقات الشافعية الكبرى).

***

أ.د. قاسم حسين صالح

كانت الحروف العربية تكتب فى البداية بغير نقط، وكان العرب الذين يجيدون القراءة والكتابة، يقرأون الكلام بغير نقط دون أن يخطىء أحدهم فى حرف واحد، كانت الملكة اللغوية قوية، والقريحة سليمة متقدة، فيقرأ الكلمة قراءة سليمة لا تشوبها شائبة حتى ولو كانت الحروف بغير نقط.

 وكـُتب القرآن الكريم فى بادىء الأمر هكذا بغير نقط. ونـُسخ فى عهد عثمان بن عفان رضى الله عنه خمس نسخ للمصحف أرسل بكل نسخة إلى بلد، وكانت بغير نقط، وكان الناس لا يخطىء أحدهم فى حرف. إلا أنه مع تزايد دخول غير العرب فى الإسلام وتنامى ضعف الملكة اللغوية حتى عند العرب، بدأ الخطأ يقع، من هنا كانت ضرورة التوصل إلى ابتكار يميز الحروف عن بعضها ويحمى نطق الكلمة فتأتى على المعنى المقصود.

 من هنا كانت فكرة نقط الحروف والتى تسمى عند البعض " الإعجام " فإعجام الحروف هو وضع النقط عليها، وكان ذلك على يد " نصر بن عاصم" الذى نقط حروف المصحف الشريف وميزها، وكان ذلك فى خلافة عبد الملك بن مروان. فميز نصر بن عاصم بين الحروف المتشابهة كالباء والتاء والثاء، والسين والشين، والصاد والضاد، وغيرها. ثم انتشرت الفكرة وأصبحت صفة لازمة للحروف العربية فى أى كتابة، بعد أن كانت مقيدة بالقرآن الكريم فقط.

 ومن الطريف أن عددًا من الكتاب والعرب فى بادىء الأمر، قد اعتبروا أنه لو أرسلت رسالة أو كتبت شيئـًا لأحد، ووضعت فيه النقط، كان ذلك سوء أدب لمن تخاطبه، لأنك بذلك حين نقطت له الحروف، فأنت اعتبرته من الجهلاء باللغة وخشيت أن يخطىء فنقطت له الحروف.

أصل فكرة الإعجام ونقط الحروف

 فكرة وضع نقط على الحروف أو تحتها هى فى الأصل مأخوذة من اللغة السريانية، فالعرب قد عرفوا تلك الفكرة عن السريانية. إذن فكرة النقط هى موجودة قبل نصر بن عاصم، إذ كانت فى السريانية، ثم أخذها نصر بن عاصم وابتكر التطبيق فى العربية. فإن حاكى وقلد فى الفكرة، فإن له الإبداع فى التطبيق، فابتكر مثلا للباء نقطة تحتها والتاء لها نقطتان فوقها والثاء ثلاث نقط فوقها، وهكذا مما نعرفه الآن من شكل النقط على الحروف أو تحتها.

أثر غياب النقط فى بادىء الأمر فى ظهور القراءات

 بالرغم من أثر غياب التنقيط قد أوقع عددًا فى الخطأ والانحراف، إلا أنه كان له وجه إيجابى آخر، فكانت مسألة توفيقية من الله تعالى جرت على ألسن العرب الفصحاء الذين لم يقع اللحن أو الخطأ على ألسنتهم، فكانت الكلمة الواحدة بغير نقط، فأمكن ذلك من تـُقرأ على أكثر من وجه، ومن الجمال فى ذلك أن كل هذه الأوجه صحيحة ولم تخطىء المعنى.

 ومثال ذلك، قوله تعالى {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ}[البقرة / 138] فقرأها البعض {صَنْعَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صَنْعَةً} فجعلوا الباء نونـًا والغين عينـًا. وهنا المعنى واحد فالصبغة التى صبغ الله عليها خلقه، هى الصنعة التى صنع الله بها خلقه وليس من أحد أحسن من الله فى خلقه وصنعته. فصبغة أى صنعة، فصارت قراءة صحيحة هى نفسها فى قلب المعنى المقصود.

 وقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات / 6] فتبينوا قرأها آخرون " فتثبتوا ". وهو نفس المعنى فتبين الخبر أى التثبت من صحته، فصارت قراءة صحيحة هى نفسها فى قلب المعنى المقصود.

 وقوله تعالى {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً}[طه / 96]. فقرأها البعض {فَقَبَضْتُ قَبْصَةً} فأبدلوا الضاد صادًا. والقبضة تكون بكل الكف، أما القبصة فهى الأخذ بأطراف الأصابع، فاختلاف النقطة أجاز أن تـُقرأ على وجهين ومعنيين، حتى وإن كان الأول يفيد معنى الأخذ بكل الكف والآخر يفيد معنى الأخذ بأطراف الأصابع، إلا أن فعل الأخذ موجود ومتحقق.

 ويهمنا فى ذلك أن نشير إلى مرونة اللغة العربية، فهذه من الظاهرات الصحية التى تتمتع بها اللغة العربية، فحين تدرك الشواهد السابقة وتتأملها، فلا يمكنك إلا أن تقول: يا لجمال هذه اللغة. فمن مواطن جمالها أن تراها بهذه المرونة. ويهمنا أيضا أن نشير إلى ذكاء التلقى اللغوى عند العربى القديم، فحتى وإن قرأ الكلمة قراءة أخرى، فإنه يأتى بنفس المعنى أو محيطه دون خطأ أو انحراف. وختامًا نرجو أن نكون قد حققنا قدرًا من المتعة والإفادة للقارىء الكريم.

***

د. أيمن عيسى - مصر

هل القرآن منزل من السماء؟

يخصص الرصافي (194) صفحة لموضوع القرآن (ص551 - 745) يفند فيها الكثير من آراء وتحليلات كتاّب السير(السيوطي، الطبري، الباقلاني، السيرة الحلبية ..) نلتقط منها (تهمة) تخصه صاغها بشكل غير مباشر بقوله ان التقليدين اعتبروا (اعجاز القرآن موضوع ديني بحت، وأن كل من شذ عنه فهو في نظرهم كافر، وكل من خالفهم فهو في رأيهم ملحد، فيما يمكن ان يكون (اعجاز القرآن موضوعا فنيا أدبيا) كما يرى.

ويمهد الرصافي في الصفحات (583) وما بعدها بتفسير عبارات الأنزال والتنزيل والنزول في الكلام الموحى من الله الى النبي محمد كقوله (نزل به الروح الأمين) و(شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن)، وانتقد من قالوا ان القرآن أنزل جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ.. وتساءل:(هل الكلام الموحى به الى محمد نازل من فوق، اي من جهة عالية الى جهة سافلة؟ ص 583). وبعد ان يوضح أن حقيقة الوجود الكلي المطلق اللانهائي الذي تسبح فيه الاجرام، لا يعرف عددها الا الله (ما يعني ان الرصافي يؤمن بالله).. فانه يصف تفسير اهل الاديان بأن ما يحصل في الكون يعود الى قدرة الله بأنه تفسير عاجز يحوم حول الحقيقة ولا يستطيع ان يقترب منها، فخالق الكائنات الأعظم بتعبير الرصافي (ص 585) اجل واعظم مما قاله انبياء البشر وأجل واعظم مما نسبوه اليه.. وهو توكيد آخر ان الرصافي ليس كافرا.

ويجيب على السؤال الخاص بالقرآن بقوله: لقد تعودنا اننا اذا اردنا ان نعظّم شيئا او احدا نسبناه الى العلو ووصفناه بالعالي، وان المقصود بتعبير (الانزال) هو تعظيم الله الذي لم تكن هذه المنزلات الا منه اي بأمره وارادته، ليصل بالقاريء الى ان الله انزل القرآن على النبي محمد بمعنى انه الهمه معانيه، وان محمدا عبّر عن تلك المعاني بالفاظ عربية.. ليوصلنا الى استنتاج يصدم الأيمان التقليدي بأن القرآن بفكرته العامة وصياغته هي من صنع محمد وابداعه الشخصي وعبقريته الأستثنائية!.

ومع ان تفسير الرصافي هذا يتعارض مع المرجعيات الدينية، فاننا نرى ان الرصافي لا ينفي حقيقة أن القرآن هو من الله سبحانه سواء كان كلاما او الهاما.. ولا يستوجب تكفيره كما دعا متشددون مع انه ترد في السياق عبارات تؤكد أن الرجل مؤمن بالله.

***

د. قاسم حسين صالح

في ظلّ هذا العالم المُبتلى بالاستلاب، حيث تتحلّل السرديات الكبرى أمام يقينها المُتهافت، ينهض المثقف بوصفه كائنًا يتأرجح بين وطأة التاريخ وعبثيّة الحاضر. ليست المسألة في كينونة المثقف، بقدر ما هي في هشاشة تموضعه؛ فهل هو قارئ للخراب، أم محلّل لأبعاده؟ وهل يُعيد تدوير الجيف الأيديولوجي السائد، أم يرصده بوعي المُتفرّج دون أن يُغادر حافّة التأمّل؟

في أفق ماركس، المثقف ليس كيانًا متعاليًا، بل فاعلٌ في شبكات الإنتاج، متورّطٌ في البنية، حتى حين يدّعي الحياد. لكنه هنا لا يبدو سوى هامشٍ على متن الصراع، يُراقب التحوّلات كما يُراقب العابرون نهرًا لا نية لهم في عبوره.

إنه، كما يقول، “يُنتج الأفكار المهيمنة التي تُعيد إنتاج سلطة الطبقة المهيمنة”، لكنه لا يتجاوز ذلك إلى ممارسة الفعل، مكتفيًا بإعادة إنتاج الخطاب نفسه الذي يدّعي نقده. إنه وعيٌ ينسج حول ذاته شرنقةً من المفاهيم، لكنه وعيٌ بلا عضلات، بلا امتداد في جسد الواقع، كأنّه كيانٌ عالقٌ في مساحةٍ نظرية لا يجد جسدًا يُجسّدها في الواقع.

لكن، في قلب هذا الاغتراب، تنبثق شروخُ الاحتمال. غرامشي، في استبصاره العابر للحقب، يُؤكّد أنّ “كل إنسان هو مثقف، ولكن ليس لكل إنسان وظيفة المثقف”، وكأنّما يُشير إلى هذه المفارقة: المثقف الذي اختار أن يكون فكرةً دون أثر، تحليلًا بلا تدخّل، صوتًا بلا صدى في الأرض.

هو ليس مُفسّرًا للعالم، ولا صانعًا لتحوّله، بل مُؤرّخٌ لمأزقه، ناقدٌ لانسداداته، لكنه غير معنيٍّ بتغيير وجهته، مُستريحٌ في موقعه الرمادي، حيث لا يُختبر أثر الفكر إلّا في حدود الصياغة، لا في الفعل ذاته! وكأنّ النقد أصبح ممارسةً مغلقة، تستهلك ذاتها في دوائر لا تنتهي، دون أن تخترق جدار الواقع لتُعيد تشكيله.

غير أن ما بعد الحداثة، وهي تفكيكٌ بلا ردم، أزاحت المثقف من موضعه الصلب إلى ضباب الاحتمالات. صار مُنهكًا بالأسئلة، غارقًا في تفكيك السرديات، حتى بات عاجزًا عن الإمساك بخيط الفعل.

فهل المثقف اليوم أكثر من محض مرآةٍ تعكس صراعاتٍ لا يملك سوى تأمّلها؟! ألَم يصبح، كما يقول بودريار، نسخةً عن نسخة، مُحاكيًا لسلطةٍ يظن أنّه ينقضها، لكنه في النهاية لا يفعل أكثر من إعادة تدوير وجودها؟

ومع ذلك، ألا تكمن في هذا العجز المزعوم بذور مقاومةٍ أخرى، مقاومةٌ لا تتجلّى في الممارسة التقليدية، بل في زعزعة أنظمة المعنى ذاتها، في إعادة تشكيل الخيال السياسي الذي يُملي على الواقع شروط تحوّله؟!

الوجع هنا ليس وجع المثقف ذاته، بل وجع انزلاق الفكر إلى مواضعاتٍ فارغة، إلى التفاهة التي تتزيّن بلغةٍ نقدية مستأنسة، إلى التنظير الذي فقد وظيفته الأولى: زعزعة الثابت.

لكن، وسط هذا الركام، لا يزال السؤال مُعلّقًا في الهواء: هل المثقف هو من يُحدث الفارق، أم من يُعيد توصيف الفجوة؟! وهل يقف على حافّة الانخراط، أم اكتفى بصناعة الوصف، تاركًا التغيير لأولئك الذين لا يملكون ترف التردّد؟!

وإذا كان المثقف قد تراجع عن الفعل، فمن الذي يملأ الفراغ؟! هل تحلّ الدعاية مكان النظرية؟! هل تملأ الشعارات مكان التحليل؟! وهل انتهت وظيفة الفكر النقدي ليبدأ عصر تكرار الصدى، حيث تُستهلك المفاهيم بقدر ما تستهلكها الأنظمة نفسها؟!

لكن، إذا كان المثقف قد فقد قدرته على الفعل، فمن الذي أخذ زمام المبادرة؟! هل انتقل الدور إلى الحركات الجماهيرية العفوية، إلى الشارع الذي لم يعُد ينتظر تبريرًا نظريًا ليغضب، بل يتحرّك بناءً على الضرورة؟!

وهل يُمكن للفكر أن يستعيد وظيفته في ظلّ عالمٍ باتت فيه السرعة والاختزال يُلخّصان كلّ شيء، حتى التغيير نفسه؟!

إن كان المثقف عاجزًا عن تجاوز عتبة التحليل، فهل انتهت وظيفته؟! أم أن التغيير لم يكن يومًا مهمّة الفكر، بل مهمّةٌ أخرى تُمارَس حيث لا تصل الكلمات، حيث ينقطع التنظير لصالح ضرورةٍ أكثر قسوة؟!

وإذا كان الأمر كذلك، فهل هذا يعني أن الفكر لم يعُد إلّا صدى لما يحدث، لا مُحرّكًا له؟! أم أن المثقف، حتى في هامشيّته، لا يزال يحتفظ بسلطةٍ خفيّة، تنكشف حين تتشظّى السرديات الكبرى، وحين يصبح السؤال أهمّ من الجواب؟

***

إبراهيم برسي

يعدّ أبو الحسن أحمد بن يحيى بن إسحاق الراوندي أحد أشهر (الملاحدة) في التاريخ الأسلامي، ووصف بأنه كان يتباهى بأنه ملحد!. وأثار موقفه هذا عجب كثيرين، كيف لم يقتل رغم شناعة ما بدر منه.. وبقي حيا الى يوم توفى (نحو 298هـ/912م).. تاركا مؤلفات كثيرة وصفت بالكتب (الملعونة). وينسب لأبن الجوزي قوله: "زنادقة الإسلام ثلاثة: ابن الراوندي، وأبو حيان التوحيدي، وأبو العلاء المعري".

ومع ذلك؛ يبدو أن شهرة ابن الراوندي لم يكن سببها مجرّد أفكاره، بل أيضا جرأته على إعلان تلك الأفكار داخل أروقة الثقافة ومجالس الفكر وفي مدونات الجدل الكلامي؛ مما جعل نصوصه وآراءه مثارا لأقوى السجالات الكلامية والفِرَقية في التاريخ الفكري الإسلامي.

وتعرّض الرواندي لحملة تشهير وتشنيع اثر طرد المعتزلة له، فزاد تطرفه وتحول الى "ناقد بالإيجار" يقدم خِدْماته المعرفية لمن يدفع مقابلها. وشرع في تأليف الكتب لأية طائفة ترغب في التشهير بخصومها، لدرجة أنه ألف كتبا للردّ على عقائد الإسلام باعها لمن طلبها من غير المسلمين، كما وصفه كثيرون، وانه تحوّل الى منتقم أكثر منه ناقدا أو مفكر، وتحول من عالم معتزلي الى عالم شيعي الى ملحد.. كما يضيفون!

ويرى أبو الحسين الخياط المعتزلي أن المعتزلة طردوا ابن الراوندي عن مجالسها لطعنه في الدين؛ وطعنه في كتابه " الزمرد" بجميع الرسل، وأن هذا الطرد أثر كثيرا على نفسيته فحمله "الغيظ الذي دخله على أن مال إلى الرافضة، إذ لم يجد فرقة من الأمة تقبله فوضع لهم كتابه في الإمامة، وتقرّب إليهم بالكذب على المعتزلة، فيما يؤكد الإمام أبو الحسن الأشعري أن ابن الراوندي وشيخه الوراق، الذي أخرجه "من عزّ الاعتزال إلى ذلّ الإلحاد والكفر".. كلاهما من "رجال الرافضة".

ويذكر الخياط عن مدى تأثير أفكار ابن الراوندي "الخبيثة" في من حوله من الشباب؛ فيقول: "وهذا القول كان يقوله الخبيث في آخر صحبته للمعتزلة، وصَحِبَه على ذلك أحداثٌ، فكلهم ظهر إلحادُه وانكشف. ويذكر المؤرخ صلاح الدين الصفدي " أن ابن الراوندي كان لا يستقرّ على مذهب ولا يثبت على انتحال حتى ينتقل حالا بعد حال".

وفي مقابل تلك الاتهامات الموجهة إليه بالإلحاد من كل هذه الطوائف؛ نجد قولا معزواً إلى ابن الراوندي يدل على أنه كان ينفي عن نفسه هذه التهمة الشنيعة، وينحو بأسبابها الموصلة إليها لدى الخصوم منحى معرفيا بحثيا خالصا؛ فقد جاء في ‘الوافي بالوفيات‘ للمؤرخ الصفدي: "قال القاضي أبو علي التنوخي: كان أبو الحسين ابن الراوندي يلازم أهل الإلحاد، فإذا عوتب في ذلك قال: إنما أريد أن أعرف مذاهبهم"..

ومع اننا نميل الى أن غيظ ابن الراوندي على المعتزلة، وتمنيه ان يحصل على رئاسة يرى انه يستحقها كانتا سببين سيكولوجيين دفعاه الى الإلحاد، الا أن اشكالية الحاده تظل مثار جدل تبعد اليقين.

***

د. قاسم حسين صالح

جامعة كمبردج

تعتبر جامعة كامبردج، بتاريخها العريق الذي يمتد لاكثر من ثمانية قرون منذ تاسيسها عام 1209، منارة للعلم والمعرفة، وصرحا اكاديميا شامخا يلهم الاجيال المتعاقبة. تعد كمبردج رابع اقدم جامعة في العالم، وثاني اقدم جامعة في العالم الناطق باللغة الانجليزية، حاملة على عاتقها مسؤولية نشر العلم والمعرفة وخدمة الانسانية. لم تكن كمبردج مجرد مؤسسة تعليمية عابرة، بل كانت ولا تزال محركا رئيسيا للتطور الفكري والعلمي على مستوى العالم، وشاهدة على تحولات تاريخية هامة، ومخرجة لقادة ومفكرين وعلماء غيروا مجرى التاريخ، امثال اسحاق نيوتن، الذي وضع قوانين الحركة والجاذبية، وتشارلز داروين، الذي وضع نظرية التطور، والان تورينج، رائد علوم الحاسوب.

تتميز جامعة كمبردج بمكانة علمية رفيعة المستوى، حيث تصنف باستمرار ضمن افضل الجامعات في العالم في جميع التصنيفات العالمية المرموقة، مثل تصنيف شنغهاي. هذا التميز هو نتاج جهود مضنية وابحاث علمية رائدة في مختلف المجالات، من العلوم الطبيعية الدقيقة كالفيزياء والكيمياء والاحياء، مرورا بفروع الهندسة المختلفة كالهندسة المدنية والميكانيكية والكهربائية، وصولا الى العلوم الانسانية والاجتماعية التي تعنى بدراسة التاريخ والفلسفة والاقتصاد والعلوم السياسية. تضم الجامعة بين جنباتها العديد من المراكز والمعاهد البحثية المتطورة التي تساهم في دفع عجلة التقدم العلمي والتكنولوجي، مثل معهد كافنديش الشهير للفيزياء. تعرف كمبردج باسهاماتها القيمة في جوائز نوبل، حيث حاز خريجوها على اكثر من 120 جائزة نوبل في مختلف المجالات، مما يعكس المستوى العالي للتعليم والبحث العلمي فيها. من بين الاسهامات الخالدة لجامعة كامبريدج، يبرز اكتشاف التركيب الحلزوني المزدوج للحامض النووي (DNA) على يد جيمس واتسون وفرانسيس كريك عام 1953. هذا الاكتشاف، الذي حاز على جائزة نوبل في الطب عام 1962، غيّر مسار علم الاحياء والطب، وأرسى الاساس لفهم أعمق للوراثة والأمراض، ويعد علامة فارقة في تاريخ العلم.

اضافة الى مكانتها العلمية المرموقة، تتميز جامعة كمبردج ببيئة تعليمية فريدة من نوعها، حيث تتكون من 31 كلية تتمتع باستقلال ذاتي، ولكل منها تاريخها وتقاليدها الخاصة، وهويتها المعمارية المميزة. هذه الكليات توفر بيئة تعليمية متنوعة وغنية، تجمع بين الطلاب من مختلف الخلفيات والثقافات من جميع انحاء العالم، مما يثري تجربة التعلم ويساهم في تكوين شخصية الطالب وتوسيع افاقه. توفر الجامعة ايضا مكتبات ضخمة ومتاحف عالمية المستوى، تعتبر كنوزا حقيقية للطلاب والباحثين، حيث تمكنهم من الوصول الى مصادر غنية للمعرفة والالهام. من بين هذه المكتبات، مكتبة جامعة كمبردج، وهي واحدة من اكبر المكتبات في العالم، وتحتوي على ملايين الكتب والمخطوطات النادرة، بالاضافة الى متاحف مثل متحف فيتزويليام، الذي يضم مجموعات فنية واثرية قيمة، ومتحف علم الاثار والانثروبولوجيا.

يعود تاريخ جامعة كمبردج العريق الى عام 1209، عندما تجمع مجموعة من العلماء في مدينة كمبردج. لم يكن تاسيس كمبردج وليد الصدفة، بل جاء نتيجة لهجرة مجموعة من العلماء والاكاديميين من جامعة اكسفورد، بحثا عن بيئة اكاديمية جديدة. هذا الاصل المشترك بين كمبردج واكسفورد يفسر التشابه الكبير بينهما في العديد من الجوانب، مثل النظام التعليمي والهيكل التنظيمي، والتنافس الودي بينهما، الذي يعرف بـ "سباق القوارب" السنوي الشهير. على مر القرون، شهدت جامعة كمبردج تطورات وتحولات كبيرة، حيث ازدهرت فيها مختلف العلوم والفنون، واصبحت مركزا مرموقا للبحث العلمي والتفكير النقدي، ولعبت دورا محوريا في تشكيل تاريخ الفكر الاوروبي والعالمي.

كليات الجامعة هي وحدات اكاديمية وادارية مستقلة، تشرف على تعليم طلابها وتوفر لهم بيئة تعليمية فريدة من نوعها، تساهم في خلق مجتمع طلابي متنوع وغني، حيث يتفاعل الطلاب من خلفيات وثقافات مختلفة، مما يثري تجربتهم التعليمية ويساهم في تكوين شخصياتهم وهي ايضا مراكز اقامة للطلاب. هذا النظام الفريد للكليات يعتبر من اهم العوامل التي تميز جامعة كمبردج، ويساهم في الحفاظ على مستوى عال من التعليم والبحث العلمي.

تقدم جامعة كمبردج تعليما متميزا عالي الجودة يعتمد على اساليب تدريس متقدمة تجمع بين المحاضرات النظرية والندوات النقاشية وورش العمل العملية، مما يتيح للطلاب فرصة التعمق في دراسة مواضيعهم والتفاعل المباشر مع الاساتذة والخبراء في مختلف المجالات. يشجع نظام التدريس في كمبردج على التفكير النقدي والتحليل العميق، وينمي لدى الطلاب مهارات البحث والاستقصاء وحل المشكلات. هذا التنوع يثري تجربة التعلم بشكل كبير، حيث يتيح للطلاب فرصة التعرف على وجهات نظر مختلفة وتبادل الافكار والمعرفة، مما يساهم في توسيع افاقهم وتكوين صداقات وعلاقات مثمرة. كما توفر الكليات ايضا انشطة اجتماعية وثقافية متنوعة تساهم في خلق جو من التفاعل والتواصل بين الطلاب، مثل النوادي والجمعيات الطلابية والفعاليات الرياضية والفنية.

تخرج من جامعة كمبردج عبر تاريخها الطويل العديد من الشخصيات المؤثرة والبارزة في مختلف المجالات، الذين ساهموا في تغيير مجرى التاريخ وخدمة الانسانية، من بينهم رؤساء وزراء وملوك وفلاسفة وعلماء وادباء وفنانين.

باختصار، تعتبر جامعة كمبردج منارة للعلم والمعرفة، وتجمع بين التاريخ العريق والمكانة العلمية المرموقة والتميز في مجالات متعددة، مما يجعلها وجهة مرموقة للطلاب والباحثين من جميع انحاء العالم.

***

ا. د. محمد الربيعي

بروفسور ومستشار دولي، جامعة دبلن

مقدمة: يعتبر مجتمع ما بعد الحرب من الظواهر التاريخية المهمة التي شهدتها العديد من الحضارت والأمم، حيث تنعكس تبعات الحروب على الحياة اليومية للأفراد والشعوب، وتترك أثراً عميقاً على بنية المجتمعات، وتؤدي في كثير من الأحيان إلى تغيرات جذرية على المستويين السياسي والاجتماعي. حيث يشعر هذا المجتمع عادة بحالة من الرجة الناتجة عن الدمار والعنف الذي خلفته الحرب، ويظهر نتيجة لذلك تفاعل معقد بين القوى الثورية التي تسعى إلى التغيير وإعادة بناء النظام الاجتماعي والسياسي، وبين القوى التي تسعى إلى الحفاظ على الهياكل التقليدية القائمة، مما يقود في نهاية المطاف إلى مرحلة التأسيس التي يتم فيها وضع أسس جديدة للمجتمع.

الرجة وتأثيراتها الاجتماعية والاقتصادية

عند انتهاء الحروب، يُصدم المجتمع بآثار العنف والخسائر البشرية والمادية، مما يُعرف بـ"الرجة". وتكون هذه الرجة ليست مجرد تغير في الأوضاع السياسية، بل تمتد إلى كافة جوانب الحياة، لتشمل الاقتصاد، والتماسك الاجتماعي والأخلاقي، والثقافة. على سبيل المثال، تتراجع مستويات النمو الاقتصادي، وتتدهور البنى التحتية، وتنتشر البطالة والفقر والإجرام كما تعاني الأسر التي فقدت أفرادها من آثار نفسية واجتماعية عميقة، وتصبح الحاجة إلى الرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية الملحة تحدياً كبيراً أمام الدول التي تحاول استعادة عافيتها بعد الحرب.

أمام هذه الظروف التي تشكل حالة من الإحباط لدى المواطنين، قد ينتج سخط شعبي واسع تجاه النخب السياسية القائمة أو السلطة التي قد تكون مسؤولة بشكل مباشر أو غير مباشر عن وقوع الحرب. وبالتالي، تبرز مطالبات بضرورة إجراء تغييرات جذرية، فتحدث هزات كبيرة في الثقة بالنظم السياسية القائمة، ويصبح من الصعب على الأنظمة التقليدية الحفاظ على شرعيتها في ظل هذه الأزمات.

الثورة كاستجابة للرجة

تُعد الثورة في كثير من الأحيان نتاجاً مباشراً لحالة الرجة. ففي ظل غياب الثقة بالنظم القديمة، وازدياد المطالبات الشعبية بالإصلاحات، تنشأ الحركات الثورية التي تسعى إلى إحداث تغيير جذري في البنية السياسية والاجتماعية. و قد تستند الثورات إلى أهداف وأيديولوجيات مختلفة، وقد تتخذ أشكالاً متعددة، بدءاً من الاحتجاجات السلمية وحتى التمردات المسلحة.

و تستمد هذه الحركات قوتها من مشاعر الغضب والإحباط لدى المواطنين، وتعمل على تعبئة الجماهير لتحدي القوى التقليدية، وتدفع باتجاه تبني نماذج جديدة لإدارة الدولة وتحقيق العدالة الاجتماعية. لكن، رغم طموحات الثوار، غالباً ما تواجه الثورة مقاومة شديدة من النخب الحاكمة، والتي قد تلجأ إلى استخدام العنف أو الاستعانة بدول أجنبية لدعم استقرارها.

لكن رغم هذا، في كثير من الأحيان، تؤدي الثورات إلى تغييرات جذرية في النظام السياسي، حيث يتم الإطاحة بالحكومات القائمة أو تغيير الدساتير وتأسيس حكومات انتقالية.

وقد شهدت العديد من المجتمعات ثورات ناجحة كانت بداية لفترة من التغيير الإيجابي، بينما شهدت مجتمعات أخرى ثورات انتهت إلى الفشل أو إلى المزيد من الفوضى والانقسامات الداخلية.

التأسيس وبناء مجتمع جديد

بعد انتهاء الثورة، تبدأ مرحلة التأسيس، والتي تهدف إلى إعادة بناء المجتمع على أسس جديدة تتناسب مع القيم والأهداف التي سعى إليها الثوار. وتعتبر هذه المرحلة تحدياً كبيراً لأي مجتمع، حيث يتطلب بناء مجتمع ما بعد الحرب وضع خطط واضحة للنهوض الاقتصادي، وإعادة هيكلة النظام السياسي، وترميم النسيج الاجتماعي الذي تأثر بالدمار والصراعات.

ويتضمن التأسيس عادةً وضع دستور جديد يضمن الحقوق والحريات الأساسية، وتأسيس مؤسسات سياسية قوية تحافظ على سيادة القانون وتحقق العدالة الاجتماعية. كما تعمل الحكومات في هذه المرحلة على إعادة تأهيل البنية التحتية المدمرة، وتشجيع الاستثمار والتنمية الاقتصادية، وتوفير فرص العمل لإعادة دمج العاطلين عن العمل، خاصة من الشباب.

أما على الصعيد الاجتماعي، تسعى الدول في مرحلة التأسيس إلى تعزيز التماسك الاجتماعي من خلال برامج المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية، التي تهدف إلى معالجة الانقسامات الاجتماعية والنفسية التي خلفتها الحرب. كما تتطلب هذه المرحلة تضافر جهود الدولة مع المجتمع المدني لتحقيق التغيير الإيجابي، ومساعدة الأفراد على التأقلم مع الواقع الجديد.

تحديات التأسيس وآفاق المستقبل

رغم أهمية مرحلة التأسيس، إلا أنها مليئة بالتحديات. فمن الصعب التخلص من آثار الصراعات بسرعة، وتحتاج المجتمعات وقتاً طويلاً لتحقيق الاستقرار الكامل. ومن بين أبرز التحديات التي تواجه مجتمعات ما بعد الحرب نجد:

1. الاستقرار السياسي: قد تتعرض الحكومات الجديدة لضغوط كبيرة من القوى القديمة أو من جماعات المصالح، مما يؤدي إلى صراعات سياسية وتحديات داخلية قد تعيق عملية بناء المجتمع الجديد.

2. الأزمات الاقتصادية: تتطلب إعادة بناء الاقتصاد موارد مالية ضخمة، قد لا تكون متاحة بسهولة. لذلك، تضطر الدول إلى الاستدانة أو الاعتماد على المساعدات الدولية، مما قد يضعها تحت رحمة الجهات المانحة ويحد من سيادتها.

3. التماسك الاجتماعي: تعاني المجتمعات المنقسمة بسبب الحروب من صعوبة استعادة الثقة بين الأفراد والجماعات، وتحتاج إلى برامج دعم نفسي واجتماعي تساعدها على تجاوز هذه الانقسامات.

4. تحديات العدالة الانتقالية: قد يكون من الصعب تحقيق العدالة الكاملة في مرحلة ما بعد الحرب، حيث تتعارض المصالح، وتتطلب محاسبة المسؤولين عن الجرائم السابقة، وهي عملية حساسة قد تولد توترات جديدة.

خاتمة

يمثل مجتمع ما بعد الحرب نموذجاً معقداً للتحولات الاجتماعية والسياسية، حيث تتفاعل فيه الرجة مع الثورة لخلق مناخ جديد يؤدي إلى التأسيس. تتطلب هذه العملية صبراً وجهوداً مضنية من جميع أفراد المجتمع ومؤسساته، لتحقيق سلام واستقرار دائمين. ورغم التحديات، فإن التاريخ يظهر أن العديد من المجتمعات نجحت في النهوض من تحت رماد الحروب، وأعادت بناء نفسها على أسس أكثر عدالة وازدهاراً، مما يمنح الأمل للمجتمعات التي تسعى للتعافي والتجديد.

***

مجيدة محمدي – أديبة وباحثة / تونس

 

يعد الإمام جعفر بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب (80 – 148 هجرية).. من كبار علماء المدينة المنورة. وكانت حلقته الفقهية في المدينة المنورة تجتذب علماء المسلمين من كافة المذاهب، ودرس فيها الإمام أبو حنيفة النعمان، والإمام مالك بن أنس. واسهمت المناظرات فيها بتأسيس المذاهب الإسلامية التي نعرفها اليوم، حيث اتسمت بالمناقشة العلمية ومقارعة الحجة بالحجة. وتميزت حلقات الدرس في تلك الفترة بأنها كانت تشهد نشاطات في علوم الدنيا ايضا، دليل ذلك ان العالم الكيميائي الكبير.. جابر بن حيان كان من العلماء العظام الذين التحقوا بمجلس جعفر الصادق.

وللإمام جعفر الصادق مكانة عالية بين ائمة أهل السنّة، وتجد الاعتراف بإمامته في كتب الفقهاء والمؤرخين، فقد وصفه الذهبي في السير بأنه شيخ المدينة، ونقل عن أبي حنيفة أنه قال فيه: ما رأيت أحدا أفقه من جعفر بن محمد.

ويحسب للأمام الصادق انه عاش في مرحلة سياسية حرجة شهدت سقوط الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية.. واستطاع ان يحافظ على مسافة كافية تفصله عن الحاكم رغم سعي الحكام في العهدين الأموي والعباسي الى التقرّب منه لكنه ظل بعيدا عنهم خوفا على ان يستغلوا الدين في خدمة سلطانهم.. وبها استطاع ان يضفي على شخصية الفقيه الهيبة والوقار والفاعلية؛ ليصبح باعتراف كبار المؤرخين رجل الدين القوي الحجة وأنموذج لسلطة الفقهاء على مَرّ التاريخ.

***

د. قاسم حسين صالح

يتشابه الدعاة الآيديولوجيون في نقطة، تمثل محوراً لعملهم، وهي الرغبة في إجماع الناس على رأي واحد ومنظومة أهداف مشتركة. في سنوات الشباب كنت مقتنعاً أشد الاقتناع برؤية المرحوم علي شريعتي (1933 - 1977) الذي قال إن المجتمع التوحيدي، أي المجتمع المؤمن بالله، مجتمع متوحد بالضرورة. لم تتولد هذه القناعة الراسخة عن تفكير ومقارنة بين هذا الرأي وما يعارضه، بل هي امتداد لإيمان مسبق بأن التوحيد مبدأ كل خير، وأنه - بالضرورة - يساوي الوحدة. وأعلم أن كثيراً من الناس يذهبون هذا المذهب، ولعلهم مثلي لم يتأملوا في الآراء المعارضة أو يراجعوا أدلتها.

يهمني القول إن الآيديولوجيا ليست شيئاً سيئاً. رغم أن نقاد الماركسية صبغوا وجهها بالسواد. أقول هذا لأنني بدأت بما قد يوهم بأن الآيديولوجيا شر بذاتها. وما كنت أقصد هذا قط، مع إيماني برؤية الفيلسوف المعاصر كارل بوبر (1902 - 1994) الذي أكد دائماً أن «الآيديولوجيا حجاب الحقيقة». وهذا بالتحديد ما أردت بيانه من استشهادي برؤية شريعتي. للمناسبة، فتلك المقولة تُنسب لفيلسوف من سلوفينيا هو سلافو جيجيك. لكن نقد بوبر للماركسية والمثالية والتخشب الآيديولوجي بشكل عام، لا نظير له في الفلسفة المعاصرة.

تنبهت الآن إلى أنني أتحدث عن داعية آيديولوجي وعن معادٍ شرس للآيديولوجيا، حديثاً يوحي بالتقدير لكليهما. قد يبدو الأمر متناقضاً بعض الشيء. لكن هذه قصة أخرى، ليس هنا محلها.

دعنا نمر على كبير دعاة الآيديولوجيا في العصور الأخيرة، كارل ماركس، الذي جادل بأن التعقيد وتزاحم المصالح سمة ملازمة للمجتمع المتقدم اقتصادياً أو علمياً. المجتمعات الزراعية البسيطة موحدة ومتوافقة؛ لأن حياتها تدور حول محاور معدودة، لا تتغير مع الزمن إلا قليلاً. أما المجتمعات المتقدمة فهي تنطوي على تعقيد في تفكيرها وعلاقاتها الداخلية وطريقة عملها. وهذا يؤدي - بالضرورة – إلى تعارضات لا يمكن مطلقاً حلها، إلا بتغلب أحد الأطراف على البقية.

الفرصة الوحيدة للإجماع في مجتمع متقدم، تتوفر فقط في المستقبل الشيوعي. كان ماركس مؤمناً إيماناً عميقاً بأن هذا المستقبل قادم لا محالة، وأنه قريب جداً في البلدان الصناعية مثل بريطانيا. الإجماع مستحيل قبل قيام المجتمع الشيوعي، حتى لو نجحت الدولة في فرض رؤية واحدة. والمقصود بالإجماع، في هذا السياق، هو توافق أعضاء المجتمع على منظومة الأهداف التي يسعى النظام الاجتماعي لتحقيقها، ونظام العلاقة بين أعضاء المجتمع، إضافة إلى المعايير المتبعة في حل الخلافات التي قد تنشب في ما بينهم. المجتمع الشيوعي موحد بطبيعته؛ لأن العقيدة الشيوعية قاسم مشترك بين أعضائه. لكن وحدة العقيدة ليست العامل الرئيس، بل زوال الملكية الفردية، حين ينصرف المجتمع كله إلى الإنتاج والتقدم، ولا يشغل نفسه بامتلاك المال والسلع. الملكية الفردية سبب رئيس للتنازع بين الناس، خصوصاً في الاقتصادات الرأسمالية التي تعدّها مصدراً للسعادة. بديهي أن كل فرد يريد السعادة، فإذا افترض أنها رهن بتوسيع أملاكه الشخصية، فسوف يمسي المجتمع ميداناً للصراع على الثروة. والمفترض أن ينتهي هذا في ظل المجتمع الشيوعي، حين نتحرر كلياً من مفهوم التملك بالمعنى التقليدي.

في هذه اللحظة احتمل أن بعض القراء قد استذكر كتابات أو خطابات لدعاة مسلمين أو مسيحيين، يتحدثون - مثلما تحدث ماركس - عن حتمية تاريخية، مستقبل قادم لا محالة، حين يسود الإيمان في العالم، وتمتلئ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت - من قبل - ظلماً وجوراً، يوم يتوحد الناس جميعاً تحت راية واحدة وفكرة واحدة ويتجهون نحو غاية مشتركة.

إنني مؤمن تماماً بأن المستقبل سيكون أفضل من الحاضر، كما أن حاضرنا أفضل من الماضي. لكنني لا أرى التقدم ممكناً إذا تحققت الوحدة التي ينشدها الآيديولوجيون. التقدم رهن للاختلاف. الاختلاف في الأديان والآراء والمصالح والحرف والمعارف، هو الشرط المسبق للتقدم. الاختلاف فرصة للتقدم والتقدم طريق للكمال الإنساني.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

أن تدخل عالم جواد سليم من بابه السيكولوجي فهذا يعني فتح باب جديد في تاريخ حياة هذا الفنان الخالد، ويعني ايضا ان القائم بهذا العمل يتحمل مسؤولية علمية وادبية قد لا تسعفه مصادر وادوات بحثه في التوصل الى الصدق في الاستنتاج. ذلك ان موضوعي "الابداع في الفن" و "الشخصية" من المواضيع المعقدة في علم النفس، لعدم وجود منهج سيكولوجي في دراسة الاعمال الفنية وتحليل شخصيات مبدعيها. وحتى "فرويد" في دراسته المعروفة "دافنشي".. اعترف بأن منهجه الذي استخدمه لا يكفي لتحليل شخصية دافنشي.

القسم الأول: مؤشرات عن شخصية جواد

1. طفولة هادئة وميل مبكر للرسم

لعلماء النفس موقفان في تقيمهم لمرحلة الطفولة،

الأول: يتمثل بما يراه الفرويديون من ان السنوات الخمس او السبع الاولى للطفولة هي الأساس في تشكيل شخصية الانسان، وهي التي تقرر سلوك الفرد حين يصبح راشدا.. بمعنى ان سلوك الراشد يكون محددا سلفا بطبيعة مرحلة الطفولة.

والثاني: يختلف معهم في ان الطفولة ليست العامل الوحيد في تشكيل الشخصية، وينطلقون من مسلمة تقول.. ما دامت المتغيرات الاجتماعية في حالة تفاعل مستمر فأن الشخصية تتغير تبعا لذلك.

ويرى بعض الذين قاموا بدراسات نفسية للمبدعين من الفنانيين أن سبب ابداعهم يعود الى ان قسما كبيرا منهم عاشوا طفولة قاسية اوقضت فيهم الابداع عند الذين يحملون استعدادا ابداعيا. فعلى سبيل المثال يعزى فشل " دافنشي" في تكوين علاقات عاطفية ناضجة وانشغاله بتصوير رؤوس نساء باسمات الى انه كان اسير ابتسامة أمه وانوثتها التي انفصل عنها في سن مبكرة.

غير ان الأمر مختلف مع جواد، فهو عاش طفولة هانئة وسعيدة، في بيت توافرت به وسائل الراحة والعلاقات الطيبة. ولعل الاسباب الرئيسة في ابداعه الفني هو انه نشأ في عائلة تهوى الفن والرسم. وهو بذلك قد يشبه "باخ" الذي ولد في عائلة تعشق الموسيقى فتأثر بذلك واصبح موسيقارا.

فالوالد "سليم علي عبد القادر الخالدي الموصلي" تميز بقدرته على الرسم. ورغم ان انتاجه الفني كان قليلا، فأن بعضهم يرى في لوحاته مصدرا لمن يريد تسجيل تاريخ الفن العراقي اوائل عشرينيات القرن الماضي.

و"سعاد" شقيقه الأكبر، هو الاخر فنان أسهم مع ابيه ومعهما جواد بتأسيس اول جمعية فنية في العراق هي "جمعية اصدقاء الفن" عام 1941. اما شقيقه الأخر "نزار" وشقيقته "نزيهة" فكلاهما اصبح رساما معروفا. كذلك كانت والدته هي الأخرى تهتم بزخرفة اشغالها اليدوية، وتشجع ابنها جواد منذ كان عمره اربع سنوات بصنع الدمى من الطين والشمع ليستمتع ويلعب بها، واللعب يفيد، سيكولوجيا، في التدرّب على المهارات الجديدة.

هذا يعني وجود اكثر من نموذج في عائلته، يوحدّها ميل مشترك نحو الفنون التشكيلية، فتأصل هذا الميل بفعل تشجيع افراد عائلته له وظهر لديه مبكرا. اذ يذكر احد اصدقائه انه كان وجواد في الصف السادس الابتدائي قد شاركا بأول معرض شامل للفنانين العراقيين وحصل جواد على الجائزة الثانية. واستمر هذا الميل بالنمو والممارسة حين دخل المتوسطة الغربية التي كانت جدرانها عامرة بلوحاته مما شجع مديرها منح جواد واصدقائه مرسما مزودا بأدوات الرسم على نفقة الدولة.

ولقد تابع جواد رعاية ميله الفني فسافر الى باريس لدراسة الرسم وعمره (19) سنة ثم الى روما وعمره (20) سنة لدراسة فن النحت ثم حصل من معهد "السليد " بانكلترا على دبلوم شرف في الرسم والنحت ليستقر بعدها في وطنة العراق.

2. التفاؤل وحب الحياة

لعل اهم صفة تمتاز بها شخصية جواد هي حبه العميق للحياة وايمانه القوي بالمستقبل. ففي مذكراته بتاريخ (16/11/1944) زمن الحرب العالمية الثانية، كتب يقول:(انني من الذين يؤمنون بالمستقبل. انني اثق بالغد وأؤمن بفوز الحق والافضل. وفي السنة نفسها يكتب جواد بمذكراته قولا لمايكل انجلو (الفن والموت لا ينسجمان). ويعكس تفاءله هذا على وطنه وفنه فيقول: (وللعراق مستقبل باهر في النحت لافتقار متاحفنا ومياديننا وبيوتنا الى انتاج النحات. وكما كانت في اوربا حركة واسعة بعد الحرب العظمى لاقامة النصب التذكارية واشتراك النحات والمعمار في عمل دنيا جميلة، فأن انتهاء هذه الحرب سيفتح بابا اوسع لاشتراك الفنان في بناء دنيا جديدة مفرحة وصالحة).

جواد سليم بين (الأنا) و(النحن)

يمتاز معظم الكتّاب والفنانيين المبدعين بتضخّم (الأنا) كونهم يعيشون حالة غير اعتيادية من القلق والحساسية. ويسعى الفنان بشكل أخص الى ان يكون اكثر اكتمالا مما يريد، لكنه يعيش في وضع محدد بزمان ومكان وبعلاقات اجتماعية تشكل بمجموعها ملتقى لكل التناقضات. فهناك اهداف عامة (اجتماعية) واهداف خاصة (فردية).. والتناقض بين العام والخاص تناقض أزلي، والصراع بين الخاص (الأنا) والجماعة (النحن) يخلق عند الفنان حالة عنيفة من القلق والتوتر.

ورغم تنوع طرق خفض التوتر هذا، فان هناك نوعان متميزان منها،

الأول: منح الأنا امتيازا منفردا كما هي الحال عند المتنبي الذي يقول:

(أمط عنك تشبيهي بما وكأنه

فما أحد فوقي ولا احد قبلي)

وقد يولد تضخّم الانا حالة انقطاع عن المجتمع ورفض لكل مفهومة تتعلق بالنحن:اخلاق، قيم، تقاليد، التزامات.. كما هو الحال مع (اوسكار وايلد ونيتشه وفان كوخ وشيللي) التي غالبا ما تنتهي الى تدمير نفسي للأنا (جنونا في الغالب) او تدميرا جسديا.. الانتحار.

والاسلوب الثاني، هو ان يجعل الفنان من (الأنا) استقطابا لقلق مجتمعه وقلق الانسانية المتفاعل مع قلقه الخاص فيبحث عن خلاص (للانا) و (النحن) من خلال معاناة مشتركة وبهدف متعة مشتركة.

وجواد هو من الفنانين المتميزين الذي توحدت عنده (الأنا) مع (النحن). وادرك بأنه لا يستطيع ان يكون كذلك الا اذا غار في (النحن) التاريخية وحصل على تجارب الاخرين.

يقول جواد: (ليس الفن بالشىء الذي يحتاج الى فنان فقط. الفن هو العيش في بقعة ما. انه شىء يحدث بين انسان وما بين الأرض التي يعيش عليها وهو بحاجة الى فهم. وان يفهم شعب جديد وارض جديدة كلاهما الاخر.. يستغرق زمنا طويلا).

وقال في كلمته بمناسبة افتتاح المعرض الأول لجماعة بغداد للفن الحديث.. (انا والكاتب نريد ان نشارك كل البشرية ما نريد ان نقوله). ويضيف.. (ليس الفن في عمل صورة للويس الرابع عشر، او تمجيد سيف الدولة، او رسم تفاحة. الفن اسمى من ذلك، الفن قطعة لموزارت، صفحة من موليير، قصيدة من المعري او من الجواهري، لوحة كورنيكا.. فهذه اشياء خدمة البشرية.

ولهذا اطّلع جواد على الفن السومري والآشوري والأسلامي والاوربي، لا بهدف خدمة صنعته وتطوير فنه وحسب، وانما بحثا عن الذوات المتحدة للجماعات. وكان استيعابه الواعي للتراث قد شكّل احد اسباب توحّد (اناه) في (النحن).. الأمّة والأنسانية، وأحد الاسباب الجوهرية في ابداعه الفني الذي انطلق من المحلية الى العالمية.

القسم الثاني: المرأة في حياة واعمال جواد

الفن نشاط انساني وشكل من اشكال الوعي الاجتماعي.. ما يعني ان الانتاج الفني الذي ابدعه جواد هو انعكاس لواقع اجتماعي كان قد عاشه مرحلة الأربعينيات والخمسينيات، وتجسيد لواقع المرأة فيه.

ونشير الى ان السمة المميزة للمجتمع العراقي بتلك الفترة هي التخلف، وهذا يعني ان المرأة في المجتمع المتخلف، أّمّا كانت ام زوجة ام حبيبة، هي اكثر افراده معاناة وقهرا واستلابا، واكثر عناصره تعرّضا للتبخيس في وجودها.. فحيثما وجد القهر والأستلاب والتبخيس والأضطهاد، يكون نصيب المرأة منها حصة الاسد!

والمرأة بالنسبة للفنان التشكيلي، هي اكثر المفردات استيعابا للرموز. فهي: الكون، الأرض، الخصب، الخلود، الغذاء. وهي:الجمال، النبع، الحرية، السلام.. والحاجات النفسية التي تجلب المسرّة والمتعة. وقد تمثل المرأة رموزا مناقضة تستقطبها مقولة: المرأة هي الشرّ الذي لا بد منه.

ان تحليلنا لاعمال جواد المتعلقة بالمرأة، يقودنا الى تأشير ثلاثة نماذج اساسية هي:المرأة الأم، المرأة المضطهدة، والمرأة في التجربة الذاتية لجواد.

1. المرأة الأم

يميل جواد الى ان يرسم وينحت الأم بشكل دائري او هلالي فيه انحناءه وانكسار واحتضان كما في تمثال الأم في منحوتة الشهيد (نصب الحرية) و (الأم في الزخارف الهلالية).

في منحوتته (الأم).. اروع تمثال نحته جواد للمرأة، جسّد فيه ان روعة الأم لا تكمن في حنانها وعاطفتها ودفئها وقدسيتها فقط بل وان يتجسّد فيها ايضا اروع جمال للانثى. وفيها علّق جواد هوية الأم بيدها اليمنى.. يتدلى منها خيط يحمل شكلا بيضويا هو رمز الطفولة. ومدّ في يدي الأم باستقامة تتناغم مع استقامة جسمها، وجعل منها شيئا يشبه الاشجار ليمنح المشاهد جوا نفسيا عطرا وتصويرا جميلا وكأن الطفولة عصفور ينعم في بستان!

2. المرأة المضطهدة

عاش جواد في فترة تاريخية كان فيه الاقطاعيون والبرجوازيون يملكون كل شيء، فيما تعيش الجماهير المسحوقة حالة من التأخر والجهل والحرمان والقهر. ولأن المراة، في مجتمع كهذا، تتجسّد فيها كل انواع الأستلابات والعذابات، فانها تثير في المتلقي عواطف الشفقه والعزاء.. عزاء المرأة في نفسها، وعزاء الرجل المسحوق المتجسّد في المرأة الأكثر انسحاقا.

وتمثل (نساء في الانتظار) نساءا في المبغى ايام كانت بغداد قبل اسقاط النظام الملكي (1958) اماكن معروفة، تعرض فيها النساء اجسادهن لمستلبيها الذين اختزلوا المرأة الى جسد، والجسد الى وعاء للجنس.

3. المرأة.. في التجربة الذاتية لجواد

هناك لوحتان من أجمل لوحات جواد المتعلقة بالمرأة، هما (القيلوله والسيدة وابن البستاني). ويبدو أن لهما علاقة بتجربة ذاتية تدور حول قصة حب كان قد عاشها جواد أيام شبابه، وكتب عنها في مذكراته التي دونها بين عامي (1941 و1946)، وكان عمره حينذاك (22 الى 26) سنة. وتفيد مذكراته بأن جواد كانت له علاقة حب بفتاة عراقية ارستقراطية، واخرى بامرأة بولونية لجأت مع بولونيين الى العراق خلال الحرب العالمية الثانية.

ان استقراء مذكراته يقود الى ان الموضوع الذي يستقطب اهتمام جواد في المرأة هو (الجسد) ولكن ليس في المضمون الذي تجسده قرويتان، وهو عمل نحاسي مطروق يمثل قرويتين تحملان سلتين وقد صيغ جسد المرأة القروية على شكل دلّة عربية تعبيرا عن ذوق العربي في الجسد المكتنز للمرأة ، واشارة لهويته التي كان يفاخر بها كونه صاحب الدلات والزوجات الكثيرات.

يصف جواد فتاته الارستقراطية هكذا:

(ذهبت لترتدي ثوبا جديدا، وعندما دخلت.. كدت انصعق، فلقد ظهرت فيه بصورة من أفضع الصور الجمالية والفتنة. وفي تلك اللحظة، كدت اذوب، كدت ابكي.. ان هذه القطعة من القماش الالهية الرائعة التي فصلتها ايادي الجنة.. كانت على بدنها العاري تماما).

وبعد ان قطعت فتاته الارستقراطيه صلتها به وأقام علاقة جديدة بالجديدة البولونية.. فانه كتب عنها الكثير بمذكراته (تأملات روحي) يصف مفاتن جسدها ايضا، نقتطف عبارة واحدة:

(كان ثدياها بارزين بشكل مثير، وقدماها حافيتين، ورأيت لأول مرّة ساقيها وكانتا عاريتين.. لقد كان لونهما جذابا ومهيجا.. .) نفس المفردات لنفس الموضوع.

صحيح ان جواد كان يومها شابا عشرينيا، لكن جمال ما يصفه من مشاعر، تعداه من التعبير بالكلام الى التعبير بالرسم. فلقد ظهر ذلك الثوب الشفّاف على جسد حبيبته الأرستقراطية بحالة من الاغراء في لوحته (القيلولة). والجميل ايضا.. انه رسم قطة بعينين مفتوحتين على سعتيهما قرب قدميها، قد تكون رمزا الى أن المرأة هي كالقطة.. أليفة.. لكنها نفورة في الوقت نفسه.971 jawad salem

القيلولة

أما (السيدة وابن البستاني) فهي الأخرى تعبير عن الكبت الجنسي. السيدة على ارجوحتها ومستسلمة.. وابن البستاني يمسك بيده خرطوم ماء.. يمر بالسيدة ويلتف، وقد يشير الى رمز جنسي. والجو صيف.. وقد يرمز للعطش الجنسي، والديكور الأعلى للأرجوحة التي تنام عليها السيدة، رسم بشكل سياج مدبب مقلوب باتجاه السيدة.. يرمز الى القيود الأجتماعية.972 jawad salem

السيدة وابن البستاني

واللوحة هي في موضوعها.. تحليل طريف لعلاقة انسانية بين رجل وأمرأة، كلاهما يشتهي الآخر، وما بينهما المجتمع بكل قيوده، صيغت بفكاهة تثير ابتسامة خفيفة.. لكنها غاية في التأثير.

المؤسف، ان جواد رحل مبكرا بعمر 42 سنة في(23 كانون الثاني 1961) بسبب نوبة قلبية ولم يفرح برؤية افتتاح نصبه في (16 تموز 1961).. نصب التحرير الذي خلده في قلب بغداد وقلوب العراقيين.

***

أ.د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

تُعَدُّ المقولات الشائعة التي تتغلغل في الخطابات الثقافية والمعرفية جزءاً أساسياً من تشكيل بنية التفكير الجمعي والفردي، خاصةً في الأوساط الفكرية والثقافية، مع إنَّ العديد من هذه المقولات قد نشأت إما نتيجة سوء فهم للسياق الأصلي الذي وردت فيه أو تم انتزاعها من سياقاتها الأصلية وإعادة توظيفها في إطار جديد يخدم أغراضاً مختلفة ربما بعيدة عن مقاصدها، هذا التحوير في المعنى والسياق يثير إشكاليات معرفية عميقة، حيث يُبنى على تلك المقولات خطابات ورؤى يُنظر إليها بوصفها راسخة وغير قابلة للنقاش.

فهذه المقولات المنتزعة، تُساهم في ترسيخ تصورات محددة تُصبح مع مرور الوقت جزءاً من الوعي الجمعي، ولا يقتصر تأثيرها على الخطاب الثقافي فحسب، بل يمتد إلى مجالات الفكر والسياسة والأيديولوجيا، حيث تشير بعض الدراسات إلى أن المقولات المستندة إلى نصوص أو أفكار تاريخية غالباً ما يتم إعادة تأويلها لتتلاءم مع احتياجات زمنية أو ثقافية مختلفة، ولكن هذه العملية، التي قد تبدو طبيعية في سياق تطور الفكر، قد تُفضي إلى سوء فهم خطير عندما يتم انتزاعها من جذورها وتحويرها بما يغيّر من جوهرها، فعلى سبيل المثال، نجد مقولات مثل "المترجمون خونة" أو "الفن للفن" أو "التاريخ يكتبه المنتصرون" أو غيرها، قد أصبحت شعارات مركزية في مناقشات الأدب والترجمة والفن والتاريخ، كمقولات راسخة ليست مجرد عبارات معزولة، بل أدوات لتشكيل بنى فكرية وخطابات تُهيمن على المشهد الثقافي، رغم أن معانيها الأصلية أو السياقات التي وردت فيها كانت تحمل دلالات مختلفة تماماً.

تثير عبارة "المترجمون خونة"، بوصفها أحدى المقولات الأكثر شيوعاً وانتشاراً، والتي قد جرى تداولها كحقيقة مطلقة، إلى تساؤلات حول طبيعة الخيانة في السياق الترجمي، وما إذا كانت تحمل أبعاداً أخلاقية أم أنها تعكس تعقيد العلاقة بين النصوص الأصلية والمترجمة.

إنَّ كلمة "خائن" في اللغة الإيطالية، كما أوضح الدكتور عبد الواحد محمد في كتابه (نظرات في الترجمة)، مشتقة من جذر لاتيني لا يعني الخيانة بمعناها الأخلاقي المباشر، بل يشير إلى مفهوم "إفشاء السر" أو "الكشف عن مضمون"، وهذا البحث في جذر الكلمة واشتقاقها، لمحاولة فهم هذه المقولة، هو محاولة لتفكيك تلك المقولات التي فهمت بصورة خاطئة، وذلك بسبب فهم دلالة الكلمة بصورة سطحية من قبل المترجم، والذي أدى إلى إساءة استخدامها ونقلها إلى سياقات جديدة قد تتنافى مع المعنى الأصلي.

فوصف المترجم بالخائن ينطوي على مفارقة أساسية، فالمترجم يقوم بـ"إفشاء" محتوى النص الأصلي من خلال تحويله إلى لغة وثقافة أخرى، غير أن هذا الإفشاء ليس بالضرورة خيانة، بل قد يكون فعلاً إبداعياً يتطلب فهم النص الأصلي وخلق نص جديد يتناسب مع سياق اللغة المستهدفة، لذلك فإنّ من الضرورة التمييز بين الخيانة الأخلاقية، التي تنطوي على سوء نية، والخيانة المفاهيمية، التي تحدث بسبب اختلاف الأنظمة اللغوية والثقافية بين النصوص، فليست الترجمة مجرد نقل ميكانيكي للكلمات، بل عملية تأويلية تعيد إنتاج النص في إطار ثقافي مختلف، مما يجعل من المستحيل تحقيق تطابق كامل مع النص الأصلي، وأعتقد إنَّ بإمكاننا النظر إلى هذه "الخيانة" المفترضة، بوصفها تفسيراً للنص الأصلي بدلاً من تشويهه أو خيانته، فالمترجم –على أقل تقدير- ليس مجرد وسيط لغوي، بل هو مؤلف ثانوي يعيد خلق النص وفقاً لفهمه الخاص ووفقاً لمتطلبات القارئ في الثقافة المستهدفة، وهذا الفهم لعملية الترجمة يرتبط بالنظريات الحديثة، مثل نظرية المناطق البينية أو المنطقة الثالثة (Third Space) لـ هومي بابا، حيث تبنى على أنَّ التقاء الثقافات والهويات يُنتج فضاءً جديداً يحمل خصائص مزدوجة أو متعددة، والتي ترى الترجمة كعملية إنشاء لفضاء جديد من التفاعل بين الثقافات، لذا فإنّ المترجم، بدلاً من أن يكون خائناً، يصبح وسيطاً ثقافياً يسهم في تعزيز الفهم والتواصل بين الشعوب.

ترتبط ربما هذه المقولة "المترجمون خونة" بتيارات فكرية ترى في النص الأصلي قداسة لا يمكن المساس بها، والذي يعكس نزعة نحو التمركز حول الأصل على حساب النسخ، أو الإبداعات المشتقة منه، إذ أنَّ وصف المترجم بالخائن هو جزء من خطاب سلبي يكرس الهيمنة الثقافية للنصوص الأصلية ويقلل من قيمة الجهد التأويلي والإبداعي للمترجمين.

لذا يُصبح التدقيق في أصول المقولات ومراجعتها ضرورة معرفية، ليس فقط لفهم السياق الأصلي الذي نشأت فيه، بل أيضاً للكشف عن الآليات التي يتم من خلالها إعادة توظيفها، هذه العملية تتيح لنا تفكيك الخطابات التي تستند إلى هذه المقولات وإعادة بناء رؤى نقدية أكثر اتساقاً مع الواقع، فاستمرارية الخطابات التي تعتمد على مقولات مشوهة أو منتزعة من سياقها تُلقي بظلالها على تطور الفكر، لهذا، يُعدُّ التفكيك لهذه المقولات جزءاً من مسؤولية المثقف.

إن المقولات الشائعة التي نعتبرها أحياناً مسلّمات فكرية ليست سوى نتاج عمليات معقدة من التأويل وإعادة التوظيف، تتأثر بالسياقات الثقافية والسياسية والاجتماعية، ومن خلال العودة إلى أصول هذه المقولات وفهم كيفية تشويهها، يمكننا ليس فقط تصحيح المفاهيم الخاطئة، بل أيضاً إعادة توجيه الخطابات الثقافية نحو فهم أعمق وأكثر دقة للظواهر الفكرية والاجتماعية، بهذا، يصبح النقد لهذه الظواهر أداة للتحرر الفكري، وليس مجرد وسيلة لتفكيك الخطابات القائمة.

***

أمجد نجم الزيدي

ـ في البدء كانت الكلمة، والكلمة عنوان:

بداية أود أن أشير هنا؛ إلى أن هذه الورقة ستطرح على العقل المسلم إشكالية أسلمة المعرفة طرحا مستجدا، لا مكررا. لأن بعض المفكرين مازالوا يطرحون أسلمة المعرفة طرحا عقائديا في وجه الطرح الغربي الذي ينسب إليه المعرفة كامتداد للمعرفة اليونانية، متنكرا لحقبة طويلة مرت بها تلك المعرفة في السياق التاريخي والحضاري الإسلامي بما له من تأثير في تقعيد المعرفة في الغرب. وبما أن هذا الطرح يجد مسوغات كثيرة تبرره عقائديا. كان لزاما علينا أن لا ننساق في هذا لاستشكاله جدا. ما يدعو إلى تفكيك هذه القضية الفكرية والمعرفية والمنهجية والمفهومية إلى موادها الخام، لتشييد رؤية مختلفة لها ضمن نظرية المعرفة. ومنه؛ لن تكون هذه الورقة تفصيلا ولا تحليلا أكاديميا لموضوع أسلمة المعرفة في البعد الإبستيمي، والبعد الإيديولوجي. وإنما ستطرح الإشكالية من خلال طرح جملة من الأسئلة الجوهرية والرئيسة. تشكل الإجابة عنها طريقا نحو رؤية خاصة تخرج المعرفة من دائرة استشكال الإبستيمي والإيديولوجي الملتبس. وتأسيس رؤية مستقلة للمعرفة بعيدا عن الأبعاد التي تخندق المعرفة كفعل ونتيجة في اتجاهات معينة وتحاصرها بالإسقاط الخارجية وغير الذاتية. وعليه؛ نلج إلى العنوان.

ـ في العنوان:

هذا الموضوع قديم مستجد في نفس الآن، يأخذ عدة أبعاد الدائرة الفكرية، من خلال زوايا متعددة، تذهب إلى حد التناقض والتضاد. بما يطرح عدة أسئلة جوهرية ومركزية في ذات المعرفة وطبيعتها، وفعلها ومناهجها ونتائجها، وبراديغماتها التي تشتغل من خلالها على موضوعاتها. ما تشكل المفاهيم في هذه القضية الإطار المرجعي لمقاربتها وتناولها البحثي. وانطلاقا من هذا الإطار، سنحدد مفاهيم العنوان إجرائيا لا لغويا ولا اصطلاحيا، لتمييزها في سياق هذه الورقة، وانتفاء الصفة الأكاديمية عنها. وبذلك نقصد ب:

أ ـ الأسلمة: وتعني فعل أسلمة موضوع ما، بإدخاله في السياق الإسلامي، ووسمه بالإسلامي لإسقاطات البعد الإسلامي عليه، سواء كبناء معرفي أو كحامل لمنظومة القيم الإسلامية المتوافقة مع طبيعة أسلمته. وهنا؛ تنبعث المعضلة الكبيرة التي تواجه الباحث والدارس والمنظر الذي يريد أن يدخل الموضوع ـ هنا موضوع المعرفة ـ في الإسلام، ودمجه بشكل ذوباني في الطبيعة الإسلامية، التي نصف بها نحن المسلمون معارفنا، ونضفي عليها نكهة إسلامية. وتتمثل معضلتنا في السؤال التالي:

ـ هل المعرفة كفعل ونتيجة فيزيقية أو صورية في ذاتها وطبيعتها محايثة أم متعالية؟ ونقصد بالمحايثة؛ الوجود الداخلي الذي يدرس في سياق ذاته، ويمنحنا معرفة ذاته من خلال ذاته، بما يفيد معاني ودلالات ذاتية في طبيعته. مقابل بالمتعالي؛ الذي نقصد به الوجود الخارجي الذي يدرس في سياق خارج ذاته، نمنحه نحن معرفة ذاته من خلال ذواتنا، بما يفيد معاني ودلالات خارجة عن طبيعته. بمعنى آخر هل المعرفة في ذاتها وطبيعتها دينية أم لا دينية؟ هل يمكن أن تكون المعرفة في ذاتها مسيحية أو مسلمة أو يهودية أو بوذية أو هندوسية ... أم هذه السمة تأخذها من الإسقاطات الخارجية عن ذاتها؟ ومنه؛ لإثبات هذه القضية يجب أن تفيد الحجج والدلائل ذلك موضوعيا وعقليا، مع تحديد زمن ومكان وموضوع هذه السمة في المعرفة كذات؛ فعل ونتيجة، وأعني هنا بالسمة، هي سمة التدين بصفة عامة.

ب ـ المعرفة: وتعني المعرفة فعلا ونتيجة، والفعل هو فعل معرفي له مستلزمات ومتطلبات وشروط المعرفة ذاتها، من إطار براديغمي خاص به؛ يتضمن رؤية فلسفية أو ميتافيزيقية، وقيم، وأسئلة مركزية، ونظريات، ومنهجية، ومفاهيم ومصطلحات، وأدوات وإجراءات، ونظرة للتغيير، وشروط الممارسة، وحرية الاشتغال ... فالمعرفة كفعل عملي وكنتائج معينة تمارس إما في سياق موضوعي أو ذاتي، وهنا؛ تكون ذاتا مستقلة أو تابعة، بمعنى هل في الممارسة؛ المعرفة فعلا ونتيجة تكون محايدة أو منحازة؟ وبالتالي يمكن إدخالها في البعد الديني أو إخراجها منه. وفي إطاره هذا؛ نطرح السؤال التالي: هل المعرفة بمفهوم الفعل المعرفي ونتيجته، تتطلب بالضرورة، وبالحتمية الوجودية أسلمتها أم مسيحيتها أو تهويدها ...؟ هل هذه الإشكالية مفتعلة من قبل الانفعال السيكولوجي والانتقاء العرقي/الاثني/القبائلي/العشائري/الطائفي ... أم حقيقية واقعية في ذات وطبيعة المعرفة؟ وهل المعرفة ببعديها الفعل والنتيجة مطلقة أم نسبية؟ والمطلق والنسبي متعلق بالمصدر والمرجع، بمعنى الدين مصدر للمعرفة المطلقة، ما يستدعي توجيه الدين للمعرفة واحتضانها وتخليقها في بيئته، أو بمعنى الدين مرجع للمعرفة النسبية التي تولد في رحم التجربة الحسية، العقل " المعرفة الحصولية "، أو في رحم التأمل الميتافيزيقي " المعرفة الحضورية "، أو المنهج العلمي. فهي إن كانت مطلقة يكون النسبي تابعا، وإن كانت نسبية، فالنسبي مستقل بذاته لا تابع. ومنه؛ تكون المعرفة إما داخل السياق الديني أم خارجه.

ج ـ الإبستيمولوجيا: وتعني فعل حفري يدرس ويبحث في طبيعة المعرفة، ومصادرها، وحدودها، وكيفية اكتسابها، مع فهم كيفية معرفة الأشياء، وما يجعل تلك المعرفة صحيحة أو خاطئة، وكذا كيفية التمييز بين الاعتقادات التي تعد معرفة حقيقية وتلك التي لا تتعد كذلك. وهنا؛ بهذا المفهوم نذهب بالأسلمة أو غيرها من الأبعاد الدينية أو العقائدية، إلى الفعل بذاته، أهو فعل إسلامي أم غير إسلامي؟ وهل هو فعل موافق للشريعة ومنضبط لقوانينها وأحكامها وشروطها ومتطلباتها ومقاصدها أم غير منضبط؟ أم يبقى كذات سيكولوجية قائما في ذاته لا في خارجها؟ كما يطرح علينا سؤال أساسي ومركزي في إطار الإبستيمولوجيا. الأسلمة؛ أفعل ديني أم فعل معرفي؟ أم هما معا؟ وكيف؟ ومنه، أتقع الأسلمة في الإبستيمي أو يقع الإبستيمي في الأسلمة؟ كما يطرح هنا سؤال ضروري تفيد الإجابة عنه في تحديد طبيعة الأسلمة، وهو: الأسلمة، أهي حمى عقائدية أم حمى معرفية؟ أهي ذوبان الديني في المعرفي أو المعرفي في الديني؟ أهي نهج ومسلك أم طبيعة ذات؟ وسأضرب مثالا لهذا السؤال الأخير يفهم المقصود منه؛ نأخذ على سبيل المثال لا الحصر: الأسر ومعاملة الأسرى بين حماس والصهاينة النازيين الفاشيين الداعشيين. الأسر يبقى مفهوما معرفيا صوريا يفيد الاحتجاز أو السجن، فهو كفعل يبقى بعيدا عن البعد العقائدي في طبيعته، بإمساك العدو وقبضه واحتجازه وتقييد حريته. وأما معاملة الأسرى كفعل تفيد جميع الإجراءات والتصرفات التي تتخذ تجاه الأسرى وفي حقهم، سواء من حيث ظروف وشروط احتجازهم، وإيوائهم، وإطعامهم، وحمايتهم من الأذى، أو معاملتهم بإنسانية. فهذا الفعل يبقى معرفة قبل أن يكون سلوكا ونهجا بعيدا البعد العقائدي؛ لكن حينما نخرجه من المحايثة إلى السياق الخارجي، هنا يتحول المعرفي إلى العقائدي عبر النهج والمسلك. وبذلك نضفي على معاملة أسرى الصهاينة بعدا دينيا، فتغدو المعاملة كمعرفة إسلامية بفعل السلوك الإسلامي لآسري أولئك الأسرى. فتخرج المعرفة من ذاتها لتسكن ذات غيرها " العقائد ". وبذلك نكون أمام أسلمة المعرفة، لكن الحقيقة أننا أخرجنا المعرفة من طبيعة سياق ذاتها إلى سياق غيرها، فتتلبس به. وأما معاملة الصهاينة النازيين الفاشيين الداعشيين للأسرى الفلسطينيين هي الأخرى تتلبس بالمذهب الصهيوني اليهودي المتطرف، فتخرج من ساق ذاتها كمعرفة إلى سياق غيرها، فتكتسب البعد العقائدي. فيكون الاختلاف بين المعرفة كفعل إبستيمولوجي، وكفعل عقائدي. ويحصل المقارنة والتمايز والتمييز.

د ـ الإيديولوجيا: وتعني منظومة الأفكار والمعتقدات والقيم المنظمة لرؤى الأفراد والجماعات للعالم، والموجهة لسلوكهم ومواقفهم نحو القضايا المختلفة في عالمهم. بمعنى طابعهم الخاص بهم في رؤية الأشياء وفهمها واكتسابها ومعالجة قضاياها ومشاكلها وإشكالياتها، أي بمعنى آخر الإطار الفكري الذي من خلاله يفسرون واقعهم ويفهمونه، مع تعيين الطريقة والأسلوب الذي يعملون به في تغيير واقعهم أو الحفاظ عليه واستمراره. وهنا ينبع السؤال الرئيس؛ هل الأسلمة فعل معرفي أم فعل إيديولوجي؟ هل الأسلمة ستغرق المعرفي أم تستغرق الإيديولوجي؟ وهل هناك من ترابط وتعالق بين ما بين الديني والإيديولوجي؟ في إطار ما كان هناك تعالق بين الديني والإيديولوجي؛ ألا تتحول أسلمة المعرفة إلى إسلاموية المعرفة؟ ألا يمكن أن تتحول أسلمة المعرفة إلى أدلجتها؟ والعكس محتمل؟ أيمكن في أسلمة المعرفة فصل الديني عن الإيديولوجي، وفصل الديني عن المعرفي، وفصل المعرفي عن الإيديولوجي؟ ألا يستشكل علينا فعل أسلمة المعرفة بلحمة الإبستيمي والإيديولوجي؟ ويصعب الفصل بين هذه الأبعاد الثلاثة " الديني، المعرفي، الإيديولوجي "! ألا يتعقد طرح المسألة حين يكون المعمار المعرفي الإنساني مشيدا بفكر الإنسان كل الإنسان؟ كل زمان ومكان وإنسان وضع لبنته في تعميره. وليس لأحد الفضل على هذا المعمار في بنائه، في بعده الإنساني المحض؟ ...

ـ في الطرح الإشكالي:

انطلاقا من العنوان، يطرح سؤال جوهري ومركزي ورئيسي تتفرع عنه مجموعة أسئلة، المشكلة للطرح الإشكالي لأسلمة المعرفة، وهو: ما إذا كانت المعرفة فعلا ونتيجة مستقلة عن الدين أم متعلقة به؟ في ذاتها وطبيعتها أو في سياق ذات غيرها؟ وهو سؤال فلسفي عميق، متعلق بالداخل الذاتي أو بالخارجي الغيري أو بهما معا، وقد أثار نقاشا ومناظرات وحوارات كثيرة بين الفلاسفة والعلماء والمفكرين والمثقفين على مر العصور والدهور. والإجابة عنه تقوم على الإطار الفكري، وزاوية الرؤية التي نتبناها في الإجابة، بمعنى البراديغم الذي نشتغل ضمنه. حيث يمكن النظر إليه هذا من زوايا متنوعة ومتعددة.

أ ـ المعرفة مستقلة عن الدين:

وفي سياق هذا الطرح، يتبنى العديد من الفلاسفة والعلماء والمفكرين والمثقفين التفكير العلماني أو التجريبي، ومنهجه الذي يفصل بين الدين والمعرفة العلمية أو الفلسفية، التي تنشأ عن التجربة الحسية، والعقل، والمنهج العلمي بعيدا عن الدين. فالمعرفة العلمية تنشأ عن التجربة والملاحظة، وتخضع للاختبار والتعديل، كما تخضع للصواب والخطأ. وتعتمد على التكرار والتجربة المفضية إلى نفس النتائج، ولا تعتمد عندهم على المصادر العقائدية/الدينية. فتعدد الأديان عندهم يفضي إلى عدم توحيد المعرفة، إذ يلغي لديهم اعتبار الدين مصدرا معرفيا مشتركا يوحد المعرفة. حيث تاريخيا لديهم؛ تطورت المعرفة البشرية من قبيل العلوم الحقة، كالرياضيات، والفلك، والطب، والفيزياء، والكيمياء، خارج الدين أو في تحد له، في بعض الفترات التاريخية. كنظرية دوران الأرض حول الشمس، تحد للكنيسة من قبل العلم. وفي العصر الحديث، شهد المجال الفلسفي الغربي ظهور مفكرين ركزوا على دور العقل والتجربة في إنتاج المعرفة كديكارت وكانت. وفي النظريات العلمية الحديثة، تناقش وتدرس بين العلماء في إطار علمي بحت دون أي استحضار للدين، كنظرية التطور أو الفيزياء الكمية.

ب ـ المعرفة متعلقة بالدين:

في سياق هذا الرأي يتبنى العديد من الفلاسفة والعلماء والمفكرين والمثقفين التفكير الشمولي، الذي يجد الدين مصدرا رئيسيا للمعرفة المطلقة والحقيقة الكاملة، باعتباره وحيا إلهيا يحمل العلم المطلق، الذي أحاط ويحيط كل الحياة علما، يتضمن منظومة أخلاقية وقيمية مثالية متعالية توجه الحياة الإنسانية جميعها، فكان منهم مثلا ابن سينا والرازي اللذين ربطا علاقة بين الدين والعلم، واعتبرا البحث العلمي من العبادة ـ وهم في اعتبارهم ذلك من الصائبين ـ. وهو الدين عندهم سواء في الفكر الإسلامي، أو المسيحي، أو اليهودي، مصدر المعرفة يوجه ويرشد العلوم والآداب؛ حيث الدين يقدم الرؤية الكلية للكون لفهمه، والإنسان، والحياة، ما لا يمكن للمعرفة وحدها أن تفعله وتحققه. كما يوفر للمعرفة الإطار القيمي والأخلاقي التي تتحرك فيه وبه، لكي لا تكون ضارة وهادمة للإنسانية كما يقع في صناعة الموت بالأسلحة المدمرة. ومنه؛ تاريخيا ساهمت بشكل وافر وفعال ومؤثر الحضارات الدينية " الإسلامية، والمسيحية، واليهودية، والهندوسية... " في تطوير المعرفة بشكل متراكم ومرصد. فكان الدين البيئة التي أسست واحتضنت البحث العلمي والفلسفي من خلال طرح الأسئلة الجوهرية على الإنسان ما تعلق منها بواقع الحال أو المحتمل أو المآل. فمثلا تطورت علوم كثيرة في الحقبة الإسلامية النيرة والمشعة كالفقه، والتفسير، والرياضيات، والفلك  ... كما كان اللاهوت المسيحي الإطار الفلسفي في أوروبا خلال العصور الوسطى.

ج ـ بين الموقفين موقف ثالث:

وهو الموقف القائل بالتكامل بين الدين والمعرفة، حيث يرى بعض المفكرين أن المعرفة ليست مستقلة بالكامل عن الدين ولا متعلقة به بشكل تام، بل توجد علاقة تكاملية بينهما كما يحدث في البينمنهجية حاليا. فالغزالي مثلا في الفكر الإسلامي قدم أنموذجا جامعا بين المعرفة العقلية والدينية، من حيث يتكامل عنده العقل والوحي لفهم الحقيقة. إذ الدين يوفر عندهم القيم الأخلاقية والإطار الوجودي، في حين تسهم المعرفة "العلم والفلسفة" في دراسة الظواهر الطبيعية والاجتماعية وتفسيرها وإيجاد الحلول لمشكلاتها وإشكالياتها وقضاياها، واستخلاص القوانين والعبر منها. وبذلك ظهر مفهوم أسلمة المعرفة في الفكر الإسلامي الحديث، لإعادة بناء وتشييد وصياغة المعرفة ضمن إطار إسلامي عقلا ومنهجا وتفكيرا. فيكون الدين فيها موجها ومرشدا وحاضنا، وليس متحكما ولا مقيد للبحث فيها. فبين الدين والمعرفة جسور متعددة، سواء في معرفة الحقائق أو في تعقلها أو الاشتغال عليها وبها.

فالروحانية والتفسير جسر يصل ما بين الدين والمعرفة؛ حيث الأول يقدم للإنسان المؤمن منظورا روحانيا، يوجهه ويرشده إلى البحث عن الحقيقة وغاية الوجود ومآلاته. فيسعى الإنسان إلى معرفة ذلك من خلال التأمل والتفكر والتدبر في الكون والحياة ومكوناتهما وقوانينهما، وبذلك البحث عن المعرفة يعد أداة أو مسلكا إلى فهم الوجود الإلهي وغاية الحياة بشكل أعمق وواضح. كما أن ترابطهما وتعالقهما ينفي التناقض بين العقل والنقل، بمعنى يرفع عنهما التناقض إلى حد يجعلهما يتكاملان في معرفة الحقائق الكونية والحياتية والوجودية. ومنه يمكن القول بأن طرح أسلمة المعرفة أحالها إلى إشكال فكري، يسع تلك الأنواع الثلاثة من الرؤى الفكرية. وهو إشكال يقوم على صياغة ذاته في التالي:

د ـ الإشكال:

في ظل عالم المعرفة، ومجتمع المعرفة، وقوة المعرفة؛ تشهد المعارف بكل حقولها ومجالاتها ونظمها وقيمها تحولات متسارعة تحصيلا وإبداعا وبحثا، تحولات ثقافية وعلمية، مما استدعى هذا التحول المتسارع  ضرورة إعادة التفكير في طريقة وكيفية تفاعل المعرفة مع منظوماتنا الفكرية والدينية تأثيرا وتأثرا. فظهرت حوارات ومناظرات ونقاشات في هذا السياق التغييري والتطوري، مقابل أطروحات فكرية بنيت على مجموع التناقضات بين العالم الإسلامي والعالم الغربي، وبين الأصالة والمعاصرة، وبين الاستيلاب/ الاغتراب والاستقلال والتحرر الفكري. برزت أطروحة "أسلمة المعرفة" مشروعا فكريا في النصف الثاني من القرن العشرين، يسعى إلى إعادة صياغة العلوم والمعارف الإنسانية حسب المنظور الإسلامي، من حيث تطبيق المعايير والمفاهيم والقيم الدينية الإسلامية على مختلف ميادين المعرفة والعلوم، سواء الطبيعية منها أو الإنسانية، استجابة لمحاولات تجاوز التغريب والاستلاب الثقافي التي أثرت على المجتمعات الإسلامية بعد الاستعمار، كما يهدف في ذات الوقت إلى تقديم بديل معرفي يتجاوز الطابع المادي والعلماني للفكر الغربي.

والسؤال المهم في موقعه هذا: على افتراض أن المعرفة تتعدى الطبع الإبستيمي إلى التطبع الإيديولوجي؛ هل يمكن "أسلمة" المعرفة حقيقة بشكل كامل وشامل، بما يؤدي إلى تطور العلوم أم قد تؤدي "أسلمة" المعرفة إلى إعاقة تطورها؟ أيمكن أن تخلق الأسلمة معرفة وعلما، تتناسق وتتناغم مع القيم والمبادئ الإسلامية أم ستشكل مجرد نوع من التوفيق السطحي بين الدين والعلم، والتلفيق بينهما؟ وكيف ستجيب الأسلمة عن الأسئلة الكبرى عن إشكاليات المعرفة التي تطرحها مختلف حقول المعرفة والعلوم؟ أيمكن بالأسلمة تجاوز تخلفنا وتأخرنا الحضاري والإنساني والعلمي والتكنولوجي والرقمي؟ أيمكن للأسلمة أن تقود حوارا دائما ومستمرا بين النص الديني الإسلامي والحياة الواقعية للعالم الإسلامي، والإنسان الغربي؟ وما الإضافات النوعية التي تقدمها للمعرفي والقيمي والعملي؟ أيمكن للأسلمة أن تحل مشكل الهوية الفردية والجماعية للإنسان المسلم الضائع، الفاقد الثقة في نفسه من جهة أولى، ومن جهة أخرى تعيد تشكيل هوية المعرفة والعلوم بوضوح وتميز تام ودال؟ أيمكن للأسلمة خلق نظام ثقافي إسلامي جديد، له مفردات أبحاث تختلف عن مفرداتها السابقة التقليدية، وسماته تتخطى النظام الثقافي الإسلامي القديم؟ ألا يكمن بعد التجديد في الأسلمة؟ والتجديد الانفتاح على الآخر والتفاعل معه إيجابا لا سلبا بالرفض المطلق!

من خلال استشكال الأسلمة بين الإبستيمي والإيديولوجي؛ يرى دعاة الأسلمة أنها سبيل استعادة الهوية الثقافية والدينية للمعرفة والإنسان المسلم، في مواجهة التحديات الغربية والعولمة التي يطرحها الفكر الغربي. مقابل رؤية معارضيها، التي تفيد تهديدها للحريات الفكرية في العالم الإسلامي، مع حدها للتنوع العلمي والثقافي المطلوب لتقدم وتطور الفكر الإسلامي والإنسان المسلم، وإغماسه في الفكر الماضوي التقليدي. وتبقى عدة تحديات تواجه الأسلمة من قبيل تعاطيها ومقاربتها للعولمة، والرأسمالية المتوحشة، وحرية السوق، ومستجدات الرقميات من ذكاء اصطناعي وتكنولوجيا متجددة ... كأنظمة قائمة بذاتها، ومجموع القضايا التي تطرحها على العالم بما فيه العالم الإسلامي، وعلى الإنسان المسلم. فكيف يمكن ـ إذن ـ التوفيق بين الالتزام بالمبادئ الدينية وتطوير المعرفة العلمية الحديثة؟ وما دور المفكرين والفلاسفة والباحثين والمثقفين والمؤسسات الأكاديمية في تحقيق هذا التوازن بين الأسلمة والمعرفة؟ ... ومن هنا؛ تبقى مسألة " أسلمة المعرفة " إشكالية قائمة ما بين الإبستيمي والإيديولوجي، تستمد استشكالها من تداخل هذين البعدين فيما بينهما، في انفتاح على أبعاد أخرى من دائرة الإبستيمي كالبعد السياسي والثقافي والاجتماعي، مع استحضار مكونات الإبستيمي؛ من معطيات أولية للمعرفة، وأنماط التفكير، والمفاهيم الأساسية، ومنهجيات ومسلكيات إجرائي، والمؤسسات المنتجة للمعرفة، والخطابات المسيطرة، وحدود المعرفة، والعلاقات بين السلطة والمعرفة ...

والأسلمة ليست فعلا فكريا أو عمليا سهل المنال، فكل مفردة فيها ومنها تطرح إشكالا على مستوى القبول أو الرفض، خاصة للعقل العلمي الذي يؤمن بالمنحى التجريبي والوقائع الواقعية والموضوعية التي تعطي الدليل على حجية المعرفة وصدقها وحقيقتها وصوابيتها، أو للعقل الديني العاطفي الذي يؤمن أن الدين احتوى كل الحقائق ولم يترك للإنسان شيئا يذكر، سوى عبادة الرحمن على طريقة الصوفية لا طريقة العلماء ـ ليس بالمفهوم الإسلامي وإنما بالمفهوم الغربي ـ الذي يلغي العقل ويعتمد النقل. فكيف للأسلمة أن تثبت في عاصفة المتغيرات الفكرية المتسارعة وتتحدى إشكاليات مواجهة الممارسة المعرفية؟ ...

***

عبد العزيز قريش

ثمة حقيقة سياسية ومجتمعية تكشفها الكثير من الأحداث السياسية الكبرى التي تجري في المنطقة، إلا أن القلة من المهتمين من يلتفت إلى هذه الحقيقة، ويرصد آثارها ومتوالياتها على المواطنين وعلى الاستقرار المحلي والإقليمي والدولي. وهذه الحقيقة هي أن أخطر مرحلة تبلغها الأحداث والتطورات في أي بلد، هو حينما يصبح هذا البلد بلا راعي، وبلا حكومة تضمن الحدود الدنيا للنظام وتسيير شؤون الناس.

لأن الدولة التي تصبح بلا راعي ينظم مصالح الناس ولو في الحدود الدنيا، ويمنع التعديات على أملاك الناس وأعراضهم، تصبح هذه الدولة فضاء مفتوح ومتاح لجميع الجماعات السياسية والإجرامية لتنفيذ مخططاتهم وأجندتهم بعيدا عن الرقابة والمحاسبة من قبل الأجهزة الرسمية. وفي ظل صعود الجماعات العنفية العابرة للحدود، تتحول هذه الدولة الفاشلة إلى بيئة حاضنة لهذه الجماعات، تدرب فيها عناصرها على الأعمال الإرهابية والعنفية وتطوير تعبئتها الأيدلوجية، مما يسرع عملية اتساع دائرة هذه الجماعات التي تهدد أمن الأوطان والمنطقة بأسرها.. وأمام هذه الحقيقة المركبة والمتداخلة، تتعقد أزمة الأجهزة الأمنية القادرة على ضبط الأمن في هذه الدول، وتصبح هذه الدول الفاشلة ساحة مكشوفة لكل الإرادات والمشروعات الأمنية والسياسية، مما يزيد الأعباء على أبناء هذا الوطن وتلك الدولة الفاشلة. فالجميع يتنافس ويتصارع بمختلف الأسلحة الأمنية والسياسية والعسكرية على أرض ليست أرضهم وبدماء هذا الشعب المسكين الذي انهارت دولته وتحولت إلى دولة فاشلة غير قادرة على ضبط أمنها الداخلي وأمن حدودها. ولكونها أضحت ساحة مكشوفة وغير مسيطر عليها بقانون وأجهزة تنفيذية قادرة على ضبط الأمن والاستقرار، فإن جميع القوى الإقليمية والدولية والقوى الخارجة على قوانين بلدها، ستتجمع في فضاء هذه الدولة الفاشلة وستتصارع هناك وستدمر بقية البنية التحتية غير المدمرة، وستفتك بالنسيج الاجتماعي والوطني، مما يفاقم من أزمات هذه المجتمعات، ويدخلها في أتون الفوضى المدمرة والكارثية على كل الصعد والمستويات.

و أمام هذه الحالة التي تؤثر سلبا وبشكل عميق على الأمن الوطني والإقليمي والدولي نود التأكيد على النقاط التالية:

1 - لو تأملنا في البدايات الأولى والتي أنتجت في المحصلة النهائية ما نسميه (الدولة الفاشلة) سنجد أن أحد الأسباب الأساسية هو انسداد أفق الحل والمعالجة الداخلية لمشاكله السياسية والأمنية والاقتصادية وتصلب جميع الأطراف وعدم تنازلها وسعيها إلى خلق تسوية ترضي الأطراف المتصارعة وتخرج الوطن والشعب من احتمالات الصدام والصراع الدائم.

فحينما ينسد أفق الحل السياسي الداخلي وتتعاظم تأثيرات الأزمة، وتستدعي جميع الأطراف المتصارعة الخارج سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، فإن النتيجة الفعلية المترتبة على ذلك هو تآكل الدولة ومؤسساتها من الداخل وتعزيز الانقسام الأفقي والعمودي في المجتمع.

و توقف عجلة البناء والتنمية، وكل هذه العناصر مجتمعة تفضي إلى دخول هذه الدولة في مرحلة الفشل والعجز عن معالجة مشاكلها وأزماتها المستفحلة. وحينما تصل الدولة إلى مرحلة الفشل والتآكل الداخلي، فإن عودتها إلى عافيتها يتطلب الكثير من الجهود والإمكانات والصبر، وقد تتعافى وفي كثير من الأحيان لا تتعافى، وإنما يستمر التدمير والدمار والقضاء على المؤسسات المتبقية للدولة. وأمامنا جمهورية الصومال كمثال على ذلك، فهي ومنذ سنين طويلة تعاني الصعوبات الجمة للعودة إلى دولة مركزية قادرة على ضبط الأمن وتسيير شؤون مواطنيها. فلم يعرف الشعب الصومالي خلال العقود الثلاثة الماضية إلا القتل والدمار والحروب الداخلية والكانتونات المغلقة على بعضها البعض والتدمير المتواصل للنسيج الاجتماعي والقبلي. من هنا ولكي لا تصل بعض الدول العربية الأخرى إلى مرحلة الفشل بحاجة إلى الإسراع في وقف الانحدار والتآكل الداخلي، عبر الإصلاحات الإدارية والدستورية والسياسية، التي تعيد الحياة إلى مشروع الدولة، وتعيد ثقة شعبها بقدرة الدولة على الخروج من مأزق الانهيار والتآكل الداخلي.

2- دائما في لحظات انهيار الدول المركزية، تبرز وتتعاظم الانقسامات الاجتماعية تحت يافطات دينية أو مذهبية أو عرقية أو قبلية أو جهوية، مما يجعل الانهيار خطيرا لأنه يصيب الدولة والمجتمع في فترة زمنية واحدة، مما يفاقم من حالة العنف والاحتراب الداخلي، وهذا التشظي المجتمعي يكشف غياب مشروع وطني لهذه الدول لانجاز مفهوم الاندماج الوطني لذلك وف اللحظة الأولى لغياب الدولة أو تآكلها تبرز كل التناقضات المجتمعية , ودائما يكون البروز بوسائل قهرية - عنيفة تساهم ف تدمير النسيج الاجتماعي والوطني. وهذا بطبيعة الحال يعود إلى غياب مشروع للانتماء الوطني، بحيث يكون هذا الانتماء هو الانتماء المشترك الذي يضمن حقوق الجميع بدون افتئات على أحد.

وتتحمل كل الدول العربية في هذا السياق مسؤولية العمل على بناء مشروع وطني متكامل للاندماج الوطني، بحيث لا تتحول مجتمعاتنا العربية إلى مجتمعات منقسمة أفقيا وعموديا تحت يافطة الانتماءات التاريخية والتقليدية.

و تتوسل هذه الدول في بناء مشروع الاندماج الوطني على وسائل التنشئة والتثقيف والإعلام والتعليم والتعامل مع الجميع بمساواة على قاعدة المواطنة الجامعة.

وهذا بطبيعة الحال سيخفف من مخاطر التآكل الداخلي للدولة، لأنه يبقي المجتمع موحدا ولديه القدرة على بناء كتلة تاريخية وطنية قادرة على وقف الانحدار وإعادة بناء الوطن على أسس جديدة تخرج الجميع من أتون المآزق السابقة.

3- من الضروري أن تدرك جميع دول المنطقة أن تجذر الجماعات التكفيرية والعنفية في المناطق التي انهارت فيها الدولة أو تآكلت، يعد خطرا حقيقيا على الجميع. لأنه لا يمكن للأمن الوطني والقومي العربي أن يهنأ بالاستقرار السياسي في ظل وجود جماعات عنفية - تكفيرية تمتلك القدرة على التدريب العسكري وحيازة الأسلحة والمعدات العسكرية بكل أنواعها.

لذلك ثمة ضرورة وطنية وقومية لكل الدولة العربية لبناء مشروع عربي متكامل يستهدف مواجهة جماعات العنف والتكفير التي بدأت بالانتشار والتوسع في دول عربية مختلفة مستفيدة من وجود ثغرات أمنية وسياسية عديدة في جسم بعض هذه الدول. لأن هذه الجماعات وكما أثبتت التجربة ف أكثر من مكان، لا تعرف إلا القتل والتفجير وتدمير البنى التحتية، ولا شك أن هذه الجماعات وبما تشكل من فكر عنفي وممارسات إرهابية تشكل خطرا محدقا على العالم العربي. ولا خيار أمام العرب إلا الوقوف في وجه الثقافة التكفيرية والجماعات العنفية والإرهابية التي قد تلتقي مع إرادات دولية أو إقليمية بشكل موضوعي لإدخال العالم العربي في أتون العنف والعنف المضاد. ولو تأملنا في ظاهرة الإرهاب لرأينا أن الدول الفاشلة من أخصب البيئات الاجتماعية والسياسية لتمدد حركات وتنظيمات الإرهاب. فتنظيم داعش لو لم يجد دولا فاشلة أو في طريقها للفشل، لما تمكن هذا التنظيم من التوسع والامتداد. لذلك لا يمكن محاربة الإرهاب إلا بإصلاح وضع الدول العربية، وإخراج الدول الفاشلة منها من مربع الفشل، عبر دعم مشروعات المصالحة من مآزق انسداد أفق الحل والمعالجة السياسية.

وجماع القول: إن العالم العربي يواجه تحديا جديدا، يتجسد في انهيار وتآكل بعض دوله، مما أدخل مجتمع هذه الدولة في مضمار الصراعات المعقدة والمركبة بعضها متعلق بملفات وصدامات داخلية، وبعضها الآخر متعلق بصراع الآخرين على أرض هذه الدولة المتآكلة مما جعل في الوسط العربي مجموعة من القنابل الحارقة والخطيرة في آن.

وأمام هذا التحدي النوعي الجديد، بحاجة أن تبادر دول العالم العربي لإيقاف هذا الانحدار وإيجاد خطط حقيقية وممكنة لإخراج هذه الدول من سقوطها السريع وتآكلها الداخلي المستغرب. وهذا لا يتم على نحو فعلي إلا بأدوات إصلاحية، تنهي بعض مآزق العلاقة بين الدولة والشعب، حتى يتمكن الجميع من الخروج من مخاطر انهيار دولة عربية في ظل أوضاع عربية على أكثر من صعيد حساسة ودقيقة وتتطلب إرادة عربية جديدة تتجه صوب بناء أنظمة سياسية دستورية وقانونية وديمقراطية.

***

أ. محمد محفوظ – باحث سعودي

امام تحديات وفرص الذكاء الاصطناعي في عام جديد

مع اطلالة عام جديد، يواجه التعليم العالي في الدول العربية مفترق طرق حاسما، حيث يتداخل التطور الهائل للذكاء الاصطناعي مع تحدياته المتراكمة، ليشكل فرصة ذهبية للتطوير او خطرا محدقا بالتراجع. هذا التطور، الذي يحمل في طياته امكانات ثورية لخدمة المعرفة والارتقاء بالتعليم، يفرض علينا في الوقت نفسه تحديات وجودية تستدعي وقفة جادة من التامل والتفكير العميق، خاصة وان التعليم العالي يعتبر قاطرة التنمية وبناء المجتمعات في الوطن العربي.

ان احد اخطر التحديات التي نواجهها كاكاديميين في المنطقة العربية هو التعامل مع تدفق المعلومات المتسارع، فالكم الهائل من البيانات لم يعد هو المشكلة، بل كيفية غربلة هذه البيانات وتمييز الغث من الثمين، الحقيقة من الوهم. هنا يظهر الذكاء الاصطناعي كاداة ذات حدين، فهو قادر على كشف الحقائق ومحاربة الاخبار المضللة، ولكنه في الوقت نفسه يمكن ان يستخدم لخلق "وقائع خيالية" من خلال نشر معلومات مضللة مخصصة تستهدف عواطفنا وتحيزاتنا. هذا الواقع يلقي بظلاله القاتمة على العملية التعليمية في الجامعات العربية، حيث بات لزاما على التدريسيين والباحثين والطلبة على حد سواء امتلاك مهارات عالية في التعامل مع المعلومات الرقمية وتقييم مصداقيتها، وتحويلها الى معرفة نافعة تساهم في بناء المستقبل.

هذا التحدي يمتد ليهدد بشكل خطير المؤسسات الاكاديمية التي لطالما كانت منارات للمعرفة والحقيقة في العالم العربي، فمع الازدياد المطرد لحملات التضليل الممنهجة وعمليات التزوير والافتراس العلمي التي تستغل ادوات الذكاء الاصطناعي، ليس فقط تتاكل الثقة في هذه المؤسسات، بل يزداد بشكل مقلق عدد "المتعلمين الجهلة" و "الاكاديميين المزيفين" الذين يفتقرون الى الادوات المعرفية والمهارات اللازمة للتمييز بين الحقيقة والزيف، ما يضعف بشكل كبير قدرة المجتمع على مواجهة الاكاذيب والتصدي لها. هنا، يبرز دورنا كاكاديميين في الدول العربية في جعل مؤسساتنا التعليمية حصنا منيعا يقف في وجه هذا الخطر المحدق، خطر انتشار التزوير والتضليل والنشر الزائف، من خلال اصلاح جاد للتعليم وتطوير مناهج دراسية محدثة تركز بشكل اساسي على التفكير النقدي وتحليل المعلومات، بالاضافة الى وضع برامج تدريبية متخصصة تمكن طلبتنا من التعامل بفعالية مع تحديات العصر الرقمي ومخاطره المتزايدة. يجب ان ندرك ان صمتنا او تقاعسنا عن هذا الدور سيساهم في تعميق الازمة وتفاقمها، ما يهدد مستقبل التعليم والمعرفة في اوطاننا.

الامر لا يتوقف عند هذا الحد، فالخطر الاكبر يكمن في امكانية استخدام الذكاء الاصطناعي للتلاعب والسيطرة على الافراد والمجتمعات من خلال الدعاية المخصصة والتلاعب بتدفق المعلومات، ما يمكن جهات خفية من التاثير على الراي العام وتوجيه السياسات وتغيير السلوك الفردي، وهو ما يهدد اسس البناء السليم للفرد والمجتمع في المنطقة.

لذا، فان مواجهة هذه التحديات المتنامية التي يفرضها الذكاء الاصطناعي تتطلب منا كاكاديميين في الدول العربية تبني استراتيجية شاملة ترتكز على عدة محاور متكاملة، اولها دمج التفكير النقدي في صلب المناهج الدراسية، حيث يجب ان نعيد النظر في مناهجنا لتضمين مهارات التفكير النقدي والتحليلي في جميع التخصصات، وتمكين طلبتنا من فحص المعلومات وتقييمها بموضوعية، وتجاوز الانجرار وراء العواطف والتحيزات، وثانيها توفير برامج تدريبية متخصصة للتدريسيين العرب لتمكينهم من استخدام ادوات وتطبيقات الذكاء الاصطناعي في العملية التعليمية، وتحسين جودة التدريس وتوفير تجارب تعليمية مخصصة للطلبة، تراعي الفروق الفردية بينهم، واخيرا يجب على مؤسساتنا التعليمية الانفتاح على التعاون مع المجتمع ومؤسسات الدولة والمنظمات والجمعيات غير الحكومية في الوطن العربي، وبناء شراكات فاعلة مع الجامعات والمؤسسات البحثية العالمية في مجال الذكاء الاصطناعي، وتبادل الخبرات والمعلومات، والاستفادة من افضل الممارسات العالمية.

في هذا العام الجديد، ندعو جميع الاكاديميين في الوطن العربي الى ان يكونوا في طليعة المستعدين لمواجهة تحديات العصر الرقمي، والعمل معا لبناء مستقبل يسخر فيه الذكاء الاصطناعي لخدمة التعليم والمعرفة والتنمية في بلداننا، مع الحفاظ على قيمنا الانسانية والدفاع عن حرياتنا الاكاديمية التي تتاكل تدريجيا. هذا ليس خيارا، بل هو ضرورة حتمية لبناء مستقبل مزدهر لاجيالنا القادمة.

***

ا. د. محمد الربيعي

بروفسور متمرس ومستشار دولي مهتم بالعلوم والتكنولوجيا في العالم العربي، جامعة دبلن UCD

 

تنويه: (هناك عدد من الفلاسفة والمفكرين العرب والمسلمين يوصفون بأنهم (ملحدون). وينبغي التوضيح بأن الألحاد في المفهوم الغربي يعني نكران وجود (الله) فيما هو عند فلاسفتنا العرب والمسلمين يعني التشكيك بالنبوة وليس انكار الذات الآلهية).

***

الطبيب والفيلوسوف أبو بكر محمد بن يحيى بن زكريا الرازي يعدّ من اشهر أذكياء زمانه (250 هـ ـ 311 هـ) واكثرهم جرأة في موقفه المعارض من النبوة والأنبياء. فهو برغم قناعته وإيمانه بوجود إله لهذا الكون، الا انه لا يؤمن بأن هذا الإله أرسل إلى خلقه رسلا.. ويسأل مستفهما:

(من أين أوجبتم أن الله اختص قوما بالنبوة دون قوم، وفضَّلهم على الناس، وجعلهم أدلّة لهم، وأحوج الناس إليهم؟ ومن أين أجزتم في حكمة الحكيم أن يختار لهم ويعلي بعضهم على بعض، ويؤكد بينهم العداوات، ويكثر المحاربات، ويهلك بذلك الناس؟).

ويطرح الرازي حجة منطقية بقوله: ما دام الله قد منحنا العقل وميزنا به عن سائر خلقه وهيأ له القدرة على اكتشاف الخير والشر، فما حاجة الإنسان لنبي يعلّمه الشرائع والأخلاق؟ ويضيف، ان لعقل الإنسان قدرة أيضاً على معرفه الخالق من خلال النظر في خلقه، فلا حاجة لإرسال نبي يعلم الناس طريق الله.

ولقد اعترض عليه كثيرون، فردّ عليهم قائلا:

ان الأولَى بحكمة الله وعدله اللذين يؤمن بهما أصحاب الديانات، أن يساوي بين خلقه في القدرة على معرفة الخير والشر، وأن الله إذا ميز بعضهم بهذه الموهبة عن البعض الآخر يكون قد زرع بينهم الشقاق، وهو ما نراه يحدث بين أصحاب المذاهب المختلفة من القتال والنزاع وإراقة الدماء.

ويمضي الى قول ما هو أجرأ.. بأن المسؤول عن ذلك ليس الضعف أو قلة الفهم عند أبناء المعتقدات، إنما خلل في نظرية النبوة نفسها، فالأنبياء في رأيه يبّشرون بشرائع وأفكار غير قابلة للجدال والنقاش باعتبارها قادمة من السماء وتحيط بها هالة من التقديس.

ويحاجج علميا بأن الكثير مما أتى به الأنبياء، يخالف الطبيعة الإنسانية والسلام بين بني البشر، بالإضافة إلى ادعاء كل دين استئثاره بالحقيقة منفرداً، وهو ما يؤدي بطبيعة الحال للشقاق والسجال بين أطراف تتجاذب الحقيقة.

وبمنطق سبق زمانه بكثير يقول: إن أصحاب الأديان يرون أن الناس مراتب، وفُضّل بعضهم على بعض، ومنهم من يمتاز عن البقية بالعلم. وإذا كان ذلك كذلك فحري بالأنبياء الذين هم أشرف الخلق بأن يمتازوا على الجميع. ويرى أن ذلك ليس دليلاً على النبوة، فالناس من وجهة نظره متساوون في القدرة على المعرفة ولا يميز أحدهم عن الآخر إلا الاجتهاد في تحصيلها والقابلية النفسية لإعمال الذهن.

ويكشف الرازي عن حقيقة غائبة عن كثيرين بإن الأنبياء يختلفون فيما بينهم في نواحٍ كثيرة، فمنهم من يُؤلِّه المسيح ومنهم من يراه بشراً عادياً، ومنهم من يراه زنديقاً كاليهود. ويتساءل.. كيف لله أن يبعث للناس برسائل متناقضة كل التناقض!؟

ويطرح الرازي فكرة فيها بعد سيكولوجي، خلاصتها انه لا يرى مبرراً لأن نعلل إيمان معظم البشر بالنبوة كدليل على صدقها، فالناس إما يسلمون بما ورثوه ويتكاسلون عن التحقيق فيه ثم يسلمون به لاعتيادهم عليه ويتحول المعتقد بمرور الأجيال إلى ما يشبه الطبيعة والغريزة في هؤلاء الناس، أو أنهم يخافون بطش رجال الدين والسلطان بهم، أو ينخدعون في المظهر البرّاق للدعاة والمبشرين والوعاظ.. بمعنى أن كثرة العدد ليست دليلاً على صدق المذهب على ما يرى الرازي.

الأخطر.. اسلاميا، ان الرازي أنكر الإعجاز اللغوي للقرآن الكريم، ورد السؤال التعجيزي المعتاد "إذا كنتم تنكرون إعجاز القرآن فهل لكم أن تأتوا بمثله؟" بسؤال آخر وهو: هل لكم أن تأتوا بمثلما كتب بطليموس وجالينوس؟.. قاصدا بذلك أن الأمر طبيعي وليس اعجازي في عدم قدرة أي شخص على الإتيان بمثل ما كتبه شخص آخر، لأن الأسلوب اللغوي يشبه البصمة ويختلف باختلاف المتحدث.

وهناك من يرى في قول الرازي هذا بأنه ليس تحديا للقرآن، بل هو تحدي للمذهبيين، وأن القرآن يبقى معجزة بلاغية ولفظية وليس معجزة قانونية.

***

ا. د. قاسم حسين صالح

الإماء في الإسلام.. مرآة الصراع بين الحرية والتقاليد وموروث الجاهلية الذي يثقل كاهل الإسلام

عندما نتأمل تاريخ الإماء في الإسلام، نواجه تناقضًا عميقًا بين المبادئ الداعية إلى العدالة والحرية، وبين واقع اجتماعي يقنن العبودية. الإماء، وهن جمع “أمَة”، لم يكنّ مجرد نساء مستعبدات تحت وطأة الحاجة والقهر، بل كُنّ انعكاسًا لأنظمة فكرية واقتصادية تُشرعن السيطرة والهيمنة، محوّلات الإنسان إلى سلعة تُباع وتُشترى.

الإسلام، وفق النصوص الدينية، لم يبتكر نظام العبودية، بل وجده متجذرًا في البنى الاجتماعية الجاهلية. ومع ذلك، فإنني لا أحب استخدام مصطلح “الجاهلية” لوصف تلك الحقبة، إذ أراه اختزالًا وتبسيطًا لعصر كان، رغم جوانبه السلبية، زاخرًا بالثقافة والشعر والنظم الاجتماعية. تلك الفترة التي وُصفت بالجاهلية، كانت غنية بنظم وقيم أثرت حتى في الثقافة الإسلامية اللاحقة، مثل نظام الدية وقوانين حماية الضيف.

واستغرابي يكمن في الإقصاء الكلي لهذه الحقبة، وكأنها كانت ظلامًا مطلقًا، بينما هي في الحقيقة تحمل ملامح من النور الذي ساهم في تشكيل الحضارة العربية.

أقرّ الإسلام العبودية ضمن نظام “ملك اليمين”، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى تحرير الرقاب كقربة إلى الله. قال تعالى: “فَكُّ رَقَبَةٍ” (البلد: 13)، وقال النبي: “من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضوًا من النار” (رواه البخاري).

هذه الدعوات لتحرير العبيد تعكس تناقضًا واضحًا. فمن جهة، الإسلام يدعو إلى إنهاء العبودية، لكنه في الوقت ذاته يقننها ضمن أطر اجتماعية واقتصادية لم يتم تفكيكها جذريًا.

لماذا أقر الإسلام العبودية؟

هذا السؤال يتطلب تفسيرًا فلسفيًا واجتماعيًا عميقًا. النظام الذي أقره الإسلام كان جزءًا من توازن اجتماعي واقتصادي معقد.

تحرير العبيد بشكل كامل في ذلك العصر كان سيؤدي إلى انهيار اقتصادي واجتماعي، ما جعل الإسلام يقدم حلاً تدريجيًا: تقنين العبودية من جهة، وتشجيع العتق من جهة أخرى.

لكن هذا الحل التدريجي يعكس تنازلاً أمام الواقع الذي يخدم مصالح طبقة معينة، أصحاب النفوذ والمصلحة الذين استفادوا من استمرار هذا النظام.

لكن، كيف يمكن تبرير القهر باسم الضرورة؟

الفلسفة تعلّمنا أن العدالة لا تقبل التقسيط. كما قال جون ستيوارت ميل: “القمع باسم العدالة هو أقسى أنواع القمع، لأنه يحمل قناع الفضيلة.”

إن تبرير استمرار العبودية بحجج اقتصادية هو خيانة للقيم المثلى، لأن العدالة الحقيقية هي التي تُحقق بغض النظر عن تكلفة تحقيقها.

“الإنسان محكوم عليه أن يكون حرًا”، كما قال سارتر. ومع ذلك، فإن الإماء في الإسلام لم يُمنحن حتى فرصة الحلم بهذه الحرية.

أدوارهن كانت محصورة بين الخضوع كخادمات، والإذعان كمحظيات، أو استغلالهن كأدوات للإنجاب. لم يُمنحن الاعتراف الكامل بإنسانيتهن.

وكانت قيمتهن مرهونة بما يقدمنه من خدمة للأسياد أو بإنجابهن لأبناء يعيدون إنتاج النظام نفسه.

الأبناء الذين وُلدوا من الإماء عاشوا واقعًا معقدًا ومزدوجًا. فهم أبناء لأسيادهم، لكنهم في الوقت نفسه لم يُعاملوا معاملة الأبناء الشرعيين.

فالبنت المولودة من أمة، على سبيل المثال، كانت تعيش ازدواجية طبقية تجعلها أقل شأنًا من أبناء الزوجة الحرة.

هؤلاء الأبناء كانوا يحملون عبء هويتهم المزدوجة، كأنهم يعيشون بين عالمين لا ينتمون لأي منهما بشكل كامل.

هذا التناقض الطبقي يعكس فجوة اجتماعية عميقة، وهي جزء من نظام أعمق يعيد تشكيل الوعي.

ويمكن ربط هذه الفجوة بحالة “التكيف القهري” التي تعيشها الإماء.

علم النفس يفسر هذا الخضوع كآلية دفاعية

الإماء كنّ يرين في خنوعهن وسيلة للبقاء، حيث أقنعن أنفسهن بأن ما يقمن به هو طاعة لله أو امتحان إلهي.

غسيل المخ الجماعي الذي تعرضن له جعلهن يعتقدن أن دورهن في خدمة الأسياد هو جزء من مشيئة الله.

هذه الحالة النفسية هي مثال على ما وصفه فروم بـ”الهروب من الحرية”، حيث يختار الفرد القبول بالقيود لأنه يخشى مواجهة العبء الذي تحمله الحرية.

أما الأبناء، رغم الفوارق الطبقية، فقد ظلوا يدورون في فلك الأسياد.

فقد كبر هؤلاء الأطفال وهم يرون أنفسهم جزءًا من نظام يستحيل كسره.

هذه الحالة النفسية تُفسر كحالة اغتراب، حيث يشعر الفرد بأنه غريب عن نفسه وعن محيطه، لكنه مضطر للتعايش مع هذا الاغتراب.

وفي نظام الميراث الإسلامي، كان أبناء الإماء يرثون فقط إذا اعترف بهم آباؤهم.

وهذا الاعتراف لم يكن دائمًا سهل المنال. بل وحتى إذا أراد الأب أن يمنحهم حقوقًا أثناء حياته، فإن قواعد الشريعة تقيّده.

قال النبي: “لا وصية لوارث” (رواه الترمذي)، مما يضع الأب في معضلة أخلاقية عميقة.

وهذا التمييز يظهر جليًا في نظام “أم الولد”. الأمَة التي تنجب من سيدها تصبح “أم ولد”، وتنال حريتها تلقائيًا عند وفاته.

لكن هذه الحرية كانت حرية مؤجلة ومشروطة، تأتي في وقت تكون فيه حياتها قد استُنزفت بالكامل في خدمة النظام الاجتماعي.

مارية القبطية، التي أهداها المقوقس إلى النبي، تقدم مثالًا بارزًا على هذا التمييز.

رغم حب النبي لها وإنجابها لابنه إبراهيم، ظل وضعها أدنى مقارنة بزوجاته الحرائر.

ورِيحَانة بنت زيد، التي رفضت الزواج بالنبي واختارت البقاء على دينها اليهودي، تمثل حالة أخرى من التعقيد، حيث تداخلت الحرية الفردية مع قيود النظام الاجتماعي.

فرج فودة يرى أن استمرار نظام العبودية في الإسلام كان نتيجة لتوازنات اجتماعية فرضت نفسها على النصوص الدينية، بينما يرى سيد القمني أن “ملك اليمين” كان ضرورة تاريخية لا يمكن اعتبارها جزءًا من الشريعة الدائمة.

لكن ورغم ريادتهم في تناول هذه القضايا، إلا أنهم لم ينتقدوا هذه الظاهرة بالشجاعة الكافية. ربما لأنهما، مثل غيرهم من المفكرين، كانا محاصرين بحدود الخطاب الديني والاجتماعي السائد، الذي لا يزال يرى في النقد الجذري تهديدًا للاستقرار الفكري والاجتماعي.

الإماء لم يكنّ مجرد نساء مستعبدات، بل كنّ انعكاسًا لعجز الإنسان عن تحقيق العدالة التي يدعيها.

العبودية لم تكن نظامًا اقتصاديًا فقط، بل كانت نظامًا فكريًا يعيد تشكيل الوعي ليجعل من القهر شيئًا مقبولًا ومبررًا.

في النهاية، الإماء لسن مجرد شخصيات من الماضي، بل فكرة تعيش في كل نظام يفرق بين الناس بناءً على الطبقة أو الجنس.

ربما نعتقد أننا تحررنا من العبودية، لكننا في الحقيقة نعيد إنتاجها بأشكال جديدة.

لننظر إلى الأنظمة الاقتصادية الحالية التي تسخر الإنسان لخدمة رأس المال، إلى الطبقية التي تفرق بين الناس بناءً على الثروة، وإلى التمييز الذي يجعل من البعض أحرارًا ومن الآخرين عبيدًا لأشكال جديدة من السلطة.

الحرية ليست مجرد كلمة تُقال، بل هي صراع أبدي بين الطموح والواقع.

الحرية التي ندّعيها، ما تزال حبيسة أغلال الماضي، تنتظر لحظة تحرر حقيقية لم تأتِ بعد.

***

إبراهيم برسي

26 ديسمبر 2024

إن التقدم الحضاري والتطور الزمني قد انعكس على الأسرة، فلم تعد كما كانت من التماسك، بل أصبح تفككها أحد الظواهر التي لا نستطيع أن نغفل عنها، إذ أن أي خلل في البناء الأسري تنعكس آثاره السيئة على الفرد، حيث أن التفكك الأسرى من أخطر الأمراض الاجتماعية التي تعصف بالمجتمع وتؤثر في تنميته وتحقيق أهدافه بل قد يؤدي إلى تفكيك المجتمع وهلاكه.

إن تأثير وسائل الإعلام الاجتماعي على الأسرة المغربية اجتماعياً وثقافياً وفكرياً وقيمياً أدى إلى تراجع دور الأسرة في التنشئة الاجتماعية والتربية وفق معايير المجتمع، وأصبح الإعلام الاجتماعي يمثل شريكاً في عملية تنشئة الأفراد، بسبب التغيرات الطارئة على المجتمعات بفعل ثورة الاتصال الرقمي، حيث تحول العالم إلى قرية صغيرة يتبادل فيها الأفراد الأفكار والثقافات دون حدود مكانية أو زمانية أو اجتماعية مما غيَّر في ملامح الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والفكرية. وأصحت الأسرة بأفرادها هي الأكثر تأثراً نظراً للتغير الكبير في نمط العلاقات والتفاعلات داخل الأسرة وخاصة في ظل ثقافة العولمة التي تسعى إلى تحويل المجتمع الدولي إلى كيان ثقافي واحد، ولا شكَّ أن ذلك يهدِّد هوية الأسرة اذ ان تأثيرات وسائل الأعلام على الأسرة بمنهجية وصفية نوعية تصف وتحلل الظاهرة من زوايا مختلفة وفي هذا المقال سنُسلط الضوء على هذه التأثيرات بتفاصيلها على كل من البنية والروابط الاجتماعية داخل الأسرة والمجتمع، بالإضافة إلى دور الإعلام الاجتماعي او الإعلام بشكل عام في اختراق البنية الثقافية وتهديدها من خلال إحلال ثقافات بديلة لا تتناسب مع خصوصية الأسرة المغربية التقليدية، كما أننا سنتناول تأثيرات الإعلام الاجتماعي على الأسرة المغربية فكرياً وقيمياً حيث استطاع الإعلام الاجتماعي أن يُحدث خللاً في منظومة القيم الأسرية بإدخال تحولات مفاهيمية دخيلة كالتحرر الفردي مقابل المسؤولية الجماعية والانفلات من الانصياع لمنظومة القيم التي تفرضها الأسرة والمجتمع، وفقدان الهوية الجماعية وقبول هويات وافدة وبالتالي التفكك الأسري...كما سنحاول في هذ المقال تسليط الضوء على أثار وسائل الاعلام على التماسك الأسري، الشيء الذي يجعلنا نستحضر.

نظرية الدور الاجتماعي حيث أن علماء الاجتماع الذين يعتقدون بنظرية الدور نجد ماكس فيبر الذي تناولها بالدراسة والتحليل في كتابه الموسوم ” نظرية التنظيم الاجتماعي والاقتصادي "، وكذلك "هانز كيرث" و "رايت ملز" في كتابهما ” الطباع والبناء الاجتماعي " و"تالكوت بارسونز "في كتابه ” النسق الاجتماعي"، وأخيراً "روبرت ماكيفر" في كتابه "المجتمع" حيث ظهرت هذه النظرية في مطلع القرن العشرين، و تعد من النظريات الحديثة في علم الاجتماع ؛ اذ تعتقد بأن سلوك الفرد وعلاقاته الاجتماعية يعتمد على الدور او الادوار الاجتماعية التي يشغلها في المجتمع، فضلاً عن أن منزلة الفرد الاجتماعية ومكانته تعتمد على أدواره الاجتماعية ذلك ان الدور الاجتماعي ينطوي على واجبات وحقوق اجتماعية، فواجبات الفرد يحددها الدور الذي يشغله، اما حقوقه فتحددها الواجبات والمهام التي ينجزها في المجتمع، علماً بأن الفرد لا يشغل دوراً اجتماعياً واحداً بل يشغل عدة ادوار تقع في مؤسسات مختلفة، وان الادوار في المؤسسة الواحدة لا تكون متساوية بل تكون مختلفة فهناك أدوار قيادية وأدوار وسطية وأدوار قاعدية . والدور يعد الوحدة البنائية للمؤسسة والمؤسسة هي الوحدة البنائية للتركيب الاجتماعي . فضلاً عن ان الدور هو حلقة الوصل بين الفرد والمجتمع...ومنه يمكن القول أن الاسرة كذلك ومثال عندما يغيب فيها تقسيم الادوار وعدم أداء الدور بشكل جيد يتشكل على إثر ذلك عدة مشاكل / صراعات / علاقات عدائية، وهشاشة روابط الأسرية التي يمكن اختزالها في التفكك الاسري، وفي منحى ذاته نجد نظرية التبادل الإجتماعي، التي تعد في وقتنا الحالي من أبرز الاتجاهات النظرية في علم الاجتماع، حيث يمكن استخدام تصورات هذه النظرية لتفسير بعض الظواهر الاجتماعية على رأسها التفكك الأسري والصراع الاجتماعي، ومن بين أهم المفاهيم الاساسية في نظرية التبادل الاجتماعي نجد؛ مفهوم الفاعل، وعلاقة التبادل، والقيمة، والبدائل والتكلفة، والاعتماد والتوازن، والقوة، والفوائد، والموارد والمصادر . هاته المفاهيم تتماشى مع البنية الاسرية ففي حالة عدم تطبيقها ينتج خلاف وصراع بين الزوج والزوجة وهكذا نجد نظرية التبادل الاجتماعي تتضمن بعض القضايا و الافتراضات الاساسية حول طبيعة الانسان وطبيعة المجتمع وكيفية ادائه لوظائفه من حيث طبيعة الانسان ترى هذه النظرية ان الانسان يتصرف بشكل منطقي وعقلاني، فكل انسان يضع امامه مجموعة من الاهداف ويحدد لنفسه اكثر الوسائل كفاءة لبلوغ هذه الاهداف، ويضع الانسان غيره من اعضاء المجتمع في اعتباره اثناء سعيه لتحقيق اهدافه، حيث ان هؤلاء الاعضاء يؤثرون او حتى يتحكمون في عملية سعي الانسان لتحقيق اهدافه. وهذا الموقف هو الذي ينتج العلاقة الاساسية للتبادل، ويصبح السلوك بهذا المعنى سلوكا اجتماعيا، كما يتخذ السلوك شكل التبادل، حيث ان الاشخاص الاخرين الموجودين في الوسط الاجتماعي يملكون المصادر او الموارد المختلفة ومن ثم فاننا نتبادل القيود بالسلع والعمل بالنقود، كما نتبادل المشاعر والعواطف ويجد الناس انفسهم دائما في مواقف اجتماعية تبادلية، حيث يتبادلون السلوك والخدمات ويتبادلون الدعم العاطفي والانفعالي...

فعدم التبادل بين الازواج، تبادل في المشاعر وتبادل التضحيات والسند؛ ينتج عند ذلك ويفضي ذلك إلى خلال الوظيفي وبالتالي التفكك وعدم التماسك وانعدام الرابط الاجتماعي والعاطفي داخل الأسرة مما يؤثر على الأبناء دراسيا وأخلاقيا.

***

أحمد حميد امكاوي - باحث في العلوم الاجتماعية

 

في مقال اثار اهتمامي، نُشر في صحيفة المثقف، لكاتب معروف ومشهود له بالكفاءة، أثار كاتب المقال تساؤلات، واقعية ومثيرة للاهتمام، وهي ايضاً تصلح أن تكون أمنيات يتمناها كل عربي غيور. وأقتبس مما كتبه ما يلي: "متى ستتحقق المصالحة التاريخية بين كافة المذاهب والطوائف عندنا مثلما تحققت المصالحة التاريخية الكاثوليكية – البروتستانتية في أوروبا وانقذتهم من جحيم الانقسامات الطافية والمذهبية؟ متى ستنتصر الانوار العربية الإسلامية على الظلمات العربية الإسلامية؟ ".

من المعروف أن هذه المصالحة التاريخية تسمى صلح وستفاليا، وهي عبارة عن معاهدتي سلام بين دول أوروبا، تمت في عام 1648م، وانتهت على أثرها الحروب الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت التي استمرت ثلاثون عاماً راح ضحيتها الملايين من الاوربيين. هذه الحروب الدينية المدمرة حدثت بسبب انشقاق مارتن لوثر عن الكنيسة الكاثوليكية عندما اعترض عام 1517م على صكوك الغفران التي أصدرتها الكنيسة الكاثوليكية. إثر ذلك، أصدرت الكنيسة الكاثوليكية اوامرها بطرد مارتن لوثر من الكنيسة الكاثوليكية واتهمته بالهرطقة. رفض لوثر الانصياع لأمر الكنيسة وكشف مفاسد رجال الكنيسة الكاثوليكية وطغيانهم. أيّدَ لوثر وتبعه الكثير من الاوربيين خصوصاً في بلده المانيا، وأُنشئت الكنيسة اللوثرية. اعتَبَر الكاثوليك المبادئ اللوثرية كفر والحاد (هرطقة) واتخذوها سبباً للتخلص منه ومن اتباعه البروتستانت. كانت الحروب والنزاعات السياسية قائمة بين الدول الأوروبية فأججها هذا الصراع الديني بشدة وقسوة مما جعلها حروبا طاحنة بين الاوربيين، فزهقت الأرواح ودمرت المجتمعات. وبعد ثلاثين سنة من الحروب المدمرة (من عام 1618م إلى 1648م) أفاق العقلاء من الاوروبيين من صدمة وهول القتال بينهم ولأسباب لا يقبلها العقل ولا المنطق، وبدأت مراجعة أفكار التعصب والاستكبار والعنجهية مقابل مبدأ التسامح وحرية الرأي والمعتقد، فاتفق الجميع (الكاثوليك والبروتستانت) على منح الحرية الكاملة لاختيار المعتقد أو المذهب الذي يرتئيه رئيس الدولة لدولته، وذلك بالكف عن تكفير الاخرين ومعاقبتهم لاختيارهم أيَّ مذهب أو عقيدة تتنافى مع معتقدهم. وعمّ السلام أوروبا بعد أن تخلصوا من النزاعات العصبية والطائفية التي كانت متأصلة في عقولهم والتي ازهقت الأرواح ودمرت المدن والمجتمعات.

وافقت الأطراف المتحاربة دينياً على قبول المصالحة عندما تنازل الكاثوليك عن تعصبهم واستعلائهم، على اعتبار انهم أصحاب الدين الصحيح ولهم الحق في تكفير المنشقين عن دينهم، وكسب البروتستانت حرية ممارسة شعائرهم الدينية دون خوف أو تهديد، وفتح باب الامن والاستقرار بينهم. ثم بدأ العقلاء والمثقفين من رواد النهضة الأوروبية بتثقيف شعوبهم سياسة التسامح والمحبة والعفو. في عام 1685م كتب جون لوك ثلاثة رسائل عن التسامح وسماها "رسالة في التسامح" ونشرت في كتاب بنفس العنوان في عام 1690م، وجون لوك كما هو معروف من أشهر فلاسفة ورواد النهضة الأوروبية. ذكر جون في كتابه هذا مواعظ دينية كثيرة مستندة إلى اقوال السيد المسيح (ع) عن المحبة والتسامح مستقاة من الانجيل. حارب التعصب الديني الذي كان سائداً في أوروبا في ذلك الوقت، ودعا إلى منح اليهود والمسلمين الحرية الكاملة في ممارسة شعائرهم الدينية، لأنهم كانوا مضطهدين من قبل المسيحيين الاوروبيون، كما دعا إلى نشر التسامح الديني بين المسيحيين الأوروبيين لأنهم كانوا متعصبين وطائفيين. وفي عام 1763م نشر فولتير كتابه الذي سمّاه أيضاً " رسالة في التسامح" وكرسه لإدانة التعصب وثقافة ال لا تسامح الديني الذي كان منتشراً عند الأوروبيين في ذلك الزمان، ودعا إلى اتخاذ سياسة التسامح واحترام المعتقدات عند الآخرين. وهكذا، عمل رواد النهضة الأوروبية بجهود حثيثة وصادقة لإقناع الناس بالتخلي عن التعصب الديني ونشر ثقافة التسامح في مجتمعاتهم، ونجحوا في ذلك.

هذا ما حدث للأوروبيين في العصور المظلمة، فيما كانوا عليه وما أصبحوا عليه. وكيف انتقلوا من جهل وتخلف وعنصرية مقيتة إلى عقول واعية متفتحة ومتسامحة، تؤمن باحترام الرأي وعقيدة الفرد الآخر مهما كان مخالفاً لرأيهم وعقيدتهم. فأين نحن العرب من هذه القصة الحقيقية، أو بالأصح من هذه التجربة الواقعية؟ هل نحن نسير على خطاهم أو نحاول أن نسير على خطاهم؟ أم نحن بعيدين جداً عن العبرة والموعظة مما حدث لهم وكيف صححوا مسارهم؟

إن العبرة والموعظة التي يمكن استخلاصها من المصالحة الكاثوليكية – البروتستانتية هي ثقافة التسامح واحترام الرأي والمعتقد للفرد الآخر، والتخلص من التعصب والطائفية، والتي هي، بلا شك، داء يفتك بمجتمعاتنا حالياً ويخرّبها ويدمرها. فكيف يمكننا ان نتعلم وأن نمارس ثقافة التسامح واحترام رأي أو عقيدة الشخص الآخر؟

مفهوم التسامح وثقافة التسامح

في كتابه " التسامح ومنابع اللاتسامح " يقول الأستاذ ماجد الغرباوي أن المفهوم اللغوي للتسامح مشتق من السماحة أي التساهل والجود، وسمَحَ: جاد وأعطى عن كرم وسخاء. إلا أن المعنى الاصطلاحي للتساهل في البيئة الغربية يأخذ بعداً آخر. فمفهوم التسامح عند الغرب ظهر في القرن 17 – 18م، لتفادي تداعيات الحروب والصراعات المذهبية والاتجاهات الفكرية المختلفة التي شهدتها أوروبا في القرون الوسطى، من اجل التوصل إلى صيغ مناسبة تضمن حقوق الانسان وحرية الرأي والتعبير بشكل متساو لجميع افراد الشعب.

واجمالاً، وفي سياق هذا المقال، يمكن أن نقول: أن التسامح هو عكس التعصب والطائفية. ويعني أن المتسامح هو الذي يتقبل ويحترم رأي وعقيدة الطرف الآخر مهما كانت مخالفاً لرأيه أو عقيدته أو انتماءه. وإن المتسامح يؤمن أن كل فرد في المجتمع له كامل الحرية والحق في اختيار ما يشاء من فكرة أو عقيدة أو مذهب أو طقوس دينية مهما كانت مخالفة لرأيه أو عقيدته. إن مفهوم الثقافة، كما يعبر عنها بثقافة الفرد أو ثقافة المجتمع، يعني مجموع العادات والأخلاق والأفكار التي تَرَبى عليها الفرد في مجتمعه. فإذا كانت طبيعة وأفكار افراد المجتمع تتصف بالتسامح تجاه الآخر، كما هو الحال في المجتمع الغربي، فأن ثقافة الفرد وثقافة المجتمع توصف بثقافة التسامح. ولنا في التاريخ الإسلامي مشاهدة مبهرة في ثقافة التسامح، متمثلة في مبدأ التسامح الديني مع باقي الأديان (المسيحية واليهودية) في حضارة الاندلس، التي يعترف بها القاصي والداني. وهناك امثلة أخرى كثيرة، في التاريخ الإسلامي، معروفة ومتفق عليها لا يتسع المجال لذكرها.

والموعظة الأخرى في هذا السياق هي: معرفة معنى ومفهوم الطائفية والتعصب كي يتجنبها افراد المجتمع في حياتهم وتعاملاتهم اليومية. وإذا استطاع افراد المجتمع أن يتجنبوا خطاب التعصب والطائفية فإن ذلك سيؤدي إلى أن تُستبدل ثقافة التعصب والطائفية تدريجياً بثقافة التسامح، ليصبح مجتمعنا مجتمعاً متجانساً يسوده الاحترام بدل الكراهية. وقد اقتصر مفهوم الطائفية على المذهبية الدينية حصراً، بينما شمل مفهوم التعصب كلّ مجالات الرأي الأخرى كالسياسة أو الاجتماعية أو أي محتوى آخر.

في مفهوم الولاء والانتماء

من المهم أن نميّز بين الانتماء والولاء وبين التعصب والطائفية. إن المُسْلم عندما يُعظّم الإسلام ويفتخر به فإن هذا لا يعتبر تعصباً ولا طائفية بل هو انتماء أو ولاء لدين أو ايمان أو عقيدة أو مذهب. وهذا ليس خطأ ولا معيب ولا ينافي العُرف أو القانون. ان هذا هو تعبير، أو قُل دفاع عن ايمان أو اعتقاد بفكرة يؤمن بها، وهي سنة من سنن البشرية، مارسها ويمارسها كل الناس في كل زمان ومكان. فالمسيحي يدافع عن المسيحية ويُعظّمها، واليهودي يكبّر اليهودية، والشيوعي يمجد الشيوعية والرأسمالي يمجد الرأسمالية، والفرنسي يتفاخر بالفرنسية كما يتفاخر الإيطالي بالإيطالية والامريكي بالأمريكية والعربي بالعربية، وهكذا في كل المجالات الأخرى، طالما أنه لا يمس عقيدة أو رأي الآخرين. بالمقابل فإن الطرف الآخر عليه ان يحترم انتماء أو ولاء الطرف الاول لدينه أو معتقده أو وطنه أو لغته وهكذا. وكما أوضحت، فإن هذا هو انتماء وولاء شخصي لشيء معين ولا يعتبر تعصباً أو طائفية. قد يكون هناك بعض الأشخاص ممن يتشددون أو يغالون في التعبير عن انتماءاتهم وولاءاتهم ويُعتبرون من المتشددين أو المغالين في هذا المجال. وهؤلاء أيضاً ليسوا متعصبين أو طائفيين طالما أنهم يتحدثون عن أفكارهم وعقائدهم ولا يعتدوا على انتماءات أو عقائد الآخرين، ولا يزدروا أو ينتقصوا من آراء الآخرين. والعبرة من ذلك: طالما أن كلامهم ينحصر فيما يختص بانتماءاتهم وعقائدهم فقط ولا يمس معتقدات الآخرين ولا يسيء لهم فهو ليس تعصباً ولا طائفية بغيضة إنما هو ولاء وانتماء لمعتقده.

مفهوم التعصب والطائفية

إن المتعصب والطائفي هو من ينتقص أو يعيب أو يزدري رأي أو معتقد الشخص الآخر. وهذا مربط الفرس في مفهوم التعصب والطائفية. فالمتعصب أو الطائفي يهدف بالأساس إلى محاربة الرأي الآخر وتشويهه والانتقاص منه. ليس المهم عنده اثبات صحة عقيدته التي يؤمن بها، لأنه يعتبر أن ذلك لا يحتاج إلى نقاش أو اثبات فهو الاصح وهو الأساس. وهو في ذلك يتخذ نهج استعلائي مغطرس. وقد اقتصر مفهوم الطائفية على المذهبية، بينما شمل التعصب كل المجالات الأخرى كالسياسة والعرق والقضايا الاجتماعية وغيرها. على سبيل المثال، نرى السني ينتقد ويحاول أن يُظهر عيوب الشيعة، والشيعي ايضاً ينتقد ويحاول أن يعيب السنة، والشيوعي يقتل البعثي من اجل السلطة، والبعثي ينتقم من الشيوعي لنفس السبب، وكلاهما يحارب الآخر لاختلاف العقيدة. وعند كل فرد من هؤلاء الافراد، ليس المهم أن يُظهر أو يُركز على محاسن مذهبه أو معتقده، لكن المهم عنده أن يظهر ويركز على مساوئ المذهب أو المعتقد عند الفرد الآخر. وكما أوضحت أعلاه لا يعتبر من يتكلم عن معتقده بمتعصب أو طائفي إذا لم يسيء إلى الرأي الآخر.

خطاب الكراهية

المقصود بخطاب الكراهية: هو أي نوع من الكلام أو الكتابة أو السلوك الذي يستهدف فرداً أو مجموعة من الناس بناء على خصائص متأصلة فيهم مثل الدين، العرق، الجنسية أو المظهر. ويهدف خطاب الكراهية إلى إهانة أو استبعاد أو تهديد الآخرين وبالتالي يؤدي إلى الكراهية والتفرقة والعنف. إن خطاب التعصب والطائفية قد يرقى إلى أن يكون خطاب كراهية. إن التعصب والطائفية هو اصلاً خطاب استعلائي متغطرس من فئة تُعطي لنفسها الحق بأن تستغبي الطرف الآخر، وتعتبر نفسها الأذكى والأفضل من الأطراف الأخرى. فعندما يمارس هكذا خطاب تجاه الرأي أو الفكرة عند الفرد الآخر فمن المؤكد أن الطرف الآخر سوف لن يقبل هذا الخطاب ولا ينصاع له، بل إن هذا الخطاب سيثير الحقد والسخط بين الطرفين ويؤدي إلى نتائج لا تحمد عقباها أو عواقب وخيمة تشتت المجتمع وتدمره.

مفهوم النقد وانتقاد الرأي الآخر (حرية التعبير)

يجب أن يكون معلوماً، أن توجيه النقد للفكرة المخالفة ليس بالضرورة أن يكون تعصباً أو طائفياً إذا كان بأسلوب ثقافي علمي يتماشى مع المنطق دون المساس والإساءة أو الاستخفاف بالفكرة أو المعتقد للشخص الآخر. الانتقاد هو تقييم الشيء بهدف فهمه أو تحسينه سواء كان فكرة أو عمل أو مذهب. وقد يكون النقد ايجابياً بنّاءً إذا اتبع الأسلوب الحضاري للنقاش والحوار بين الأفكار المختلفة. وقد يسميه البعض حرية التعبير، والتي هي حق أساسي للأفراد، لكن، كذلك، حرية التعبير لا يجب أن تستخدم لإيذاء الآخرين أو التحريض على الإساءة والعنف. وهناك مثال حي على التلاعب بمفهوم حرية التعبير، وهو الموقف الذي اتخذته الحكومة الفرنسية بالدفاع عن الصحيفة الفرنسية التي نشرت الرسوم المسيئة للنبي الاكرم (ص) عندما ادعت الحكومة ان الجريدة تمارس حقها في حرية التعبير، متناسية بذلك مبدأ الاعتداء على، والإساءة إلى، عقيدة ومقدسات الآخرين. وهذا ينبع أصلا من تعصبهم الديني وكراهيتهم للإسلام والمسلمين.

الخلاصة

والعبرة من كل ما تقدم: أنه يمكنك أن تتكلم عن رأيك أو عن عقيدتك كما تشاء وتفتخر بها أو تظهر محاسنها كما تريد، بشرط ألا تمس الآخرين، وأن تبتعد عن الإساءة وازدراء رأي الآخرين أو عقائدهم. والأهم من هذا، أن تبدأ بإصلاح نفسك اولاً، خصوصاً إذا كان عندك توجّه أو نزعة لإثبات خطأ عقيدة الآخرين أو مذهبهم أو ممارساتهم لطقوسهم الدينية. يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز (سورة الرعد 11) " إنَ اللهَ لا يُغَيرُ ما بقومٍ حتى يُغَيِرّوا ما بأنفُسِهِم " وهذا يشير إلى أن التغير يكون من الداخل وليس من الخارج، والاساس، أن يبدأ افراد المجتمع بتغيير أنفسهم اولاً.

يجب أن تكون لدى افراد المجتمع قناعة بأن كل فرد من افراد المجتمع له كامل الحرّية في اختيار العقيدة أو المذهب الذي يرتئيه، وأن افراد المجتمع ليسوا مسؤولين أو مخوّلين لتصحيح قناعات الآخرين إن كانت تخالف عقيدتهم. وإن كان البعض قد اساء للمجتمع أو للدولة بأفكاره المتطرفة فإن المسؤولية تقع على اكتاف قادة الدولة وأصحاب القرار فيها، ولا يحقّ للأفراد التدخّل في هذا الشأن وإلا حلت الفوضى والكراهية والتفرقة في المجتمع. ومتى ما مارَسْتَ ثقافة العفو والتسامح واحترام الرأي الآخر، عند ذلك يمكنك أن تروًج وتنشر هذه المبادئ وتكون قدوة لمجتمع آمن وسليم.

من المؤسف والمؤلم أنه في الحقيقة، ليس عندنا احترام ولا تقبل للرأي الآخر. نحن لا نعرف أن نمنح الرأي الآخر فرصة لإثبات فشله أو نجاحه على مستوى الناس والمجتمع، بل تعودنا محاربة الرأي الآخر والتخلص منه. هذه هي الطائفية والتعصب المدمر للمجتمع. إن الأفكار تُحارَب بالأفكار وليس بالعنف أو التهميش. إن الفكرة الجيدة تنتشر في العقول بسرعة وثبات، والفكرة الفاشلة تموت في المهد ويرفضها الناس والمجتمع. فبمجرد ترك الفكرة للناس ليحكموا عليها سيتبين فشلها إن كانت سيئة أو نجاحها إن كانت جيدة. لذلك يجب على كل فرد منّا أن يعوّد نفسه على احترام وتقبل رأي الآخرين خصوصاً إذا كان مخالفاً لمعتقده.

هذا ما حدث في النهضة الأوروبية التي نسعى لأن نكون مثلها، فلنعمل معاً بإخلاص لتحقيق الهدف.

***

د. صائب المختار

“في كل تساؤل يكشف هشاشة الوجود، وكل فكرة تكسر أفق المألوف في سردياته، تنبثق الثقافة كومضة ضوء في فضاء غارق في الظلام. ليست الثقافة مجرد مسعى إنساني للبحث عن المعرفة، بل هي الوجيف الخفي الذي يرافق خطواتنا في هذا العالم الهش، الذي لا يطيق الثبات. هي القوة التي تهز البنية، تهدم التصورات القديمة وتعيد صياغة الواقع بنظرة جديدة، تلامس الحواف المجهولة من تجربة الوجود. لكن ماذا يحدث عندما تتخاذل هذه القوة؟ عندما تنقض الثقافة على نفسها بفعل المثقف نفسه، حين يتخلى عن المبادئ التي أنشأتها ونشأت منها، ليبحث عن ملاذات بديلة تحت وطأة الخوف أو الضعف؟

هل تصبح الثقافة مجرد ظلال لروح ضائعة، تعيش في أفق غير مرئي، حيث التبعية تحتفل والمقاومة تسقط؟

الفكر هو مرآة الوجود، لكنه لا يكتفي بعكسه بل يسعى لإعادة تشكيله. والمثقف، في جوهره، ليس مجرد مفسر للواقع، بل هو المبدع الذي يحاول أن يرسم مسارًا جديدًا نحو المستقبل.

لكن السؤال يظل: ما الذي يحدث عندما يخون المثقف نفسه؟ هل يصبح الفكر مجرد ظلال تتبع أقدام صاحبه؟ أم أنه يظل نورًا يتحدى الظلام؟

في مواجهة الواقع القاسي، قد يجد المثقف نفسه في معركة بين الأمل والمقاومة، فتتحول أفكاره إلى تمزقات بين المبادئ والملاذات الزائفة. من هنا يبدأ صراع بين المثقف المبدئي، الذي يظل ثابتًا رغم العواصف، والمثقف التائب الذي يهرب من معركته ليلتجئ إلى أرض الغيبيات.

إن المثقف، حينما يتنكر لمبادئه، يصبح كالشجرة التي قطعت جذورها بإرادتها، تهيم في فضاء مفتوح بلا هوية، بلا هدف.

“الفكر لا يقف عند حدود الفهم، بل يتجاوزها إلى فعل التغيير؛ وما يربط بين المثقف ووجوده هو قدرته على التأثير في العالم من حوله، وهو اختبار حيوي لا يمكن تجاوزه.”

إن المثقف التائب أشبه بشجرة قطعت جذورها بإرادتها. بعد أن كانت تستمد قوتها من التربة الصلبة للمبدأ، تهيم في فضاء الغيبيات كغيمة خاوية، لا تستطيع أن تُنزل المطر ولا أن تستقر في مكان معين. نرى هذا التراجع جليًا في تحولات بعض المثقفين، سواء كانوا عربًا أو عالميين، الذين انطلقوا من مشاريع تنويرية وعقلانية ثم، بفعل الضغوط أو الإغراءات أو الإحباط، عادوا إلى أحضان الدين أو خطاب الغيبيات. يقول جان بول سارتر، الذي رفض في نهاية حياته نداءات الكنيسة ليتوب عن إلحاده: “لا يمكننا أن نكون نصف أحياء ونصف موتى. الفكرة، مثل الكائن الحي، تموت حينما نتخلى عنها.”

المثقف التائب يخون الفكرة، لكنه يبرر خيانته بحجج “روحية” أو “اجتماعية”. هنا نجد أمثلة واضحة: أنور الجندي، الذي بدأ مشروعه ككاتب حداثي، ثم انقلب مدافعًا عن “التراث” ضد التنوير، يشبه شخصًا هجر معركة في منتصفها ليصبح جنديًا في صفوف العدو. هذه الخيانة لا تحدث علنًا، بل تُقدَّم كمصالحة مع الذات أو اكتشاف لـ”الحقيقة”. التوبة الفكرية، في الكثير من الحالات، ليست سوى ستار يغطي به المثقف عجزه عن مواجهة الواقع القاسي الذي يرفض أن يتغير.

وعلى النقيض، المثقف المبدئي هو من يظل ثابتًا رغم العواصف. هو مثل ماركس الذي قال: “الفلاسفة اكتفوا بتفسير العالم، بينما المطلوب تغييره.” هذا المثقف لا يرى المبادئ كرفاهية أو زينة شخصية، بل كجزء لا يتجزأ من كيانه. إن فرج فودة، الذي قُتل بسبب دفاعه عن العلمانية، وعبد الخالق محجوب، الذي رفض المساومة على العدالة الاجتماعية حتى الموت، هما مثالان على الثبات الفكري الذي لا يتزعزع. المثقف المبدئي هو من يعيش أفكاره حتى النهاية، مهما كان الثمن.

علم النفس الاشتراكي يفسر هذا الصراع بين التوبة والمبدأ في ضوء نظرية الاغتراب التي تحدث عنها إريك فروم. فروم يرى أن المثقف الذي يتخلى عن مشروعه العقلاني يعود إلى الدين أو الغيبيات لأنه يشعر بالاغتراب عن العالم الذي لم يستطع تغييره. هذا الاغتراب يثير في نفسه إحساسًا بالفراغ الروحي، فيسعى إلى ملء هذا الفراغ بطمأنينة زائفة تأتيه من الدين أو الموروثات غير العقلانية. هذه الطمأنينة، رغم أنها تمنحه راحة مؤقتة، إلا أنها في النهاية تقتل الفكرة التي كان يحملها يومًا ما، وتبعده عن مواجهة الواقع.

المثقف التائب يشبه سفينة فقدت بوصلتها، فتبحر عشوائيًا باحثة عن ميناء آمن، حتى لو كان هذا الميناء محاطًا بالصخور. بينما المثقف المبدئي هو كطائر يحلق بلا توقف، يعلم أن التحليق مؤلم ومرهق، لكنه لا يقبل السقوط.

يمكننا أن نستشهد هنا بجورج لوكاتش، الذي ظل ملتزمًا بمبادئه الاشتراكية رغم كل التحديات، وكان يقول: “الحرية ليست أن تختار بين الراحة والمعاناة، بل أن تختار طريقك رغم المعاناة.”

المفارقة العجيبة هي أن المثقف التائب غالبًا ما يجد القبول الاجتماعي سريعًا، بينما المثقف المبدئي يعيش على الهامش. المجتمع يميل دائمًا إلى احتضان من يبرر له الوضع الراهن، بينما يخشى من يطالب بالتغيير. هذا التناقض يذكرنا بكلمات نيتشه: “الحقائق التي تخدم الراحة هي أكاذيب مقنّعة.” المثقف التائب يبيع الوهم المريح، بينما المثقف المبدئي يبيع الحقيقة المزعجة.

في نهاية المطاف، المثقف ليس مجرد مفكر أو كاتب، بل هو روح قلقة تسعى وراء العدالة، الحرية، والحقيقة. إذا تخلى عن هذه الروح، فإنه يتحول إلى ظل باهت لنفسه. وهنا تظهر المفارقة الحقيقية: المثقف المبدئي قد يموت وحيدًا ومهمشًا، لكنه يظل خالدًا في أفكاره، بينما المثقف التائب قد يُحتفى به مؤقتًا، لكنه يموت مرتين: مرة عندما يخون مبدأه، ومرة أخرى عندما يُنسى.

***

إبراهيم برسي

٢٧ يناير ٢٠٢٥

بعيداً عن الالتزام بما يقوله الإنجيل، جرى تفكير جريء في القرون الوسطى حول ما اذا كان الله قد خلق كونا أبديا. ابن رشد، فيلسوف القرن الثاني عشر جادل بان الكون كان دائما هناك. الكاتب دافا سوبيل اقتبس من غاليلو عبارة "الانجيل يعلّمنا كيف نذهب الى السماء، وليس كيف تذهب السماوات". غاليلو ربما حصل على الفكرة من رجل النهضة كاردينال بارونيوس، وعلى الارجح ان القديس اوغستين قال نفس الشيء في القرن الرابع في تعليق على سفر التكوين. كلهم اهتموا بالطريقة التي تجري بها السماوات، وكيف بدأت الآلية. بعض الحلول كانت جريئة. مفكرو القرون الوسطى كثيرا ما اتُهموا باتّباعهم الأعمى لأرسطو، وهو ما لم يحدث. في مسألة عمر الكون، كانت لأرسطو اطروحة رائعة: وهي ان الكون دائما موجود. غير اننا لا يمكننا فهم كيف جئنا الى الحاضر اذا كانت العصور السابقة لامتناهية، هناك الكثير من الأشياء التي لا نفهمها تماما.

أبدية العالم كانت موضوعا ساخنا للنقاش في القرن الثالث عشر. إعادة اكتشاف أعمال ارسطو حفز النقاش كثيرا، كما فعل ابن رشد (ولد عام 1126 في قرطبة). افلاطون جادل في حوار تيموس ان الكون المادي خُلق بواسطة خالق مادي Demiurge. لاحقا، أصر الإفلاطوني الجديد بروكلس proclus (410-485) في عمل له مفقود الان، بان العالم كان أبديا، خُلق أبديا بواسطة خالق مادي. يُعتقد بان بريكلس تأثر بشعور مضاد للمسيحية.

في عام 1280، جادل المسيحي سيجر Siger(1240-1284) وبشدة بإمكانية وجود دائم للعالم. هو انخرط مع ارسطو كما فُسر من قبل ابن رشد ولهذا تعرض للادانات من قبل اسقف باريس انذاك، بسبب افتراضات كهذه قيل انها مشتقة من ارسطو. عمل سيجر حول أبدية العالم يُعد هاما. انه يتقبل فكرة ان الكائن البشري وُجد من أب الى ابن في سلسلة أبدية. هو يهتم في السؤال حول منْ جاء قبل الآخر، الدجاجة ام البيضة. كان جداله يتم بطريقة معتمة لكنها صارمة. ورغم شبهات عقيدته الارثودكسية، لكنه بعد موته بسنوات، وضعه دانتي في أعلى فردوسه.

من المفيد الرجوع الى عمل توما الاكويني (توفي عام 1274) حول أبدية العالم. الاكويني يرى ان الكنيسة تعلّم بان العالم خُلق منذ بداية الزمن، وكما يذكر سفر التكوين (في البداية خلق الله السماء والارض ..) . لكنه يجادل بشكل مقنع ان الله خلق مخلوقا كان دائما موجودا. أبدية الله هي أكثر من كونه موجود للابد: هو لم يُحكم بالزمن وان فعلْ خلقه لم يتم بسلسلة من الحركات. و توما لا يجد أي تناقض في وجود مخلوق كان موجودا دائما.

القديس توما الاكويني راجع تفكير اوغسطين الذي جادل بان العالم خُلق في بداية الزمن. مع ذلك، يصر توما الاكويني بان اوغستين لم يفترض استحالة الوجود الدائم للاشياء المخلوقة. وجودها نتج عن فعل الله،سواء كانت جديدة او قديمة او موجودة منذ الازل.

يمكن الاستنتاج من النقاشات المفعمة للقرن الثالث عشر ان المسيحيين غير ملزمين لتوضيح بداية الكون بواسطة الانفجار العظيم Big Bang. في الحقيقة، الانفجار العظيم لم يوضح لماذا هناك اشياء بدلا من لا اشياء، بل يتم تفسير الكون من خلال الحالة الثابتة او الكون المتوسع والمنكمش الذي كان موجودا دائما.

***

حاتم حميد محسن

...........................

من صحيفة

The Telegraph في، 25 Jan 2025

 

بمعنى من المعاني، تعد جذور الجغرافيا السياسية قديمة قدم المعارف الأخرى؛ إذ أن كلا من الفيلسوف ارسطو طاليس، والمؤرخ وعالم الاجتماع ابن خلدون والفيلسوف شارل مونتسكيو عبروا بشكل واضح في كتاباتهم عن الدور الذي تلعبه العوامل الجغرافية في السياسة والدولة. وفي ما بعد، تطورت الجغرافيا السياسية على يد كارل ريتر (1779-1859) الذي ذكر بأن الحضارات البشرية ما هي إلا وجود عضوي داخل الطبيعة تولد وتنمو وتنضج وتموت. ولعله تأثر بآراء ابن خلدون الذي ذكر في مقدمته أن الدول تمر بهذه المراحل، لكن ريتر لم يذكر مصدر فكرته هذه.  وهناك من يعد الألماني فردريك راتزل (1844-1904) "أب" الجغرافيا السياسية، والذي ترك بصمة عميقة في هذا الجانب. وقد صور الدولة ككائن حي  يعيش في مجال معين ويناضل في سبيل توسيع هذا المجال في ما يعرف بالمجال الحيوي أي الدولة توسع حدودها وتصبح ذات قوة كبرى. وهذه الفكرة تبنتها النازية في عهد هتلر.

ركزت الجغرافيا السياسية، في مراحلها الأولى، على العلاقات المتبادلة المفترضة بين السياسة والبيئة الطبيعية، خصوصا التضاريس والمناخ. وقد قاد هذا التوجه إلى تبني منهج تبسيطي حتمي. فعلى سبيل المثال، شبه راتزل الكيانات السياسية بالكائنات الحية واقترح "قوانين" تحكم النمو المكاني للدول. وقد تأثر بعمق بأفكاره بشأن "المصائر" الإقليمية رودولف كيلين وكارل هاوشوفر، وهما اثنان من الجغرافيين السياسيين الذين وجد عملهم في الجيوبولتيك، بدوره، دعما رسميا من النازية لأنه يبرر توسع ألمانيا الإقليمي. علما أن كيلين كان أول من استخدم مصطلح الجيوبولتيك. وقد عرفه بالبيئة الطبيعية للدولة. ويعد هاوشوفر مؤسس الجيوبولتيك الألماني.

وقد انتقد كارل ويتفوغل الألماني الماركسي (1929-1985) والذي ألف كتاب (الاستبداد الشرقي) عام 1957، الجيوبولتيك لأنه أهمل السياق الاقتصادي لسياسات القوى العظمى وافتقد الأهمية الحقيقية للعوامل الطبيعية في تقرير خاصية التنمية الاقتصادية-السياسية .وكان هدفه تهيئة الجيوبولتيك الماركسي ليكون بديلا عن الأصناف القومية للجيوبولتيك.

بالنسبة للآخرين كان الجيوبولتيك يمّثل طفرة شريرة في الجغرافيا السياسية .كان من الضروري أن يكون في مركز صدارة الجغرافيا السياسية الفكرة القائلة: إن هناك تنوعا أو اختلافا في الترتيبات الإقليمية السياسية تاريخيا وجغرافيا بدلا من فكرة قيام دولة من النوع المثالي. في حين يرفض الجيوبولتيك القومي هذا التنوع ويبرر التوسع الإقليمي من قبل الدول الكبيرة على حساب الدول الصغيرة. وبحسب جاك أنسيل أن مصطلح الجيوبولتيك ينبغي ترحيله إلى استخدامات أخرى. وبالنسبة له فهو فرع من الجغرافيا السياسية بدلا من كونه حقلا متميزا ومفصولا عنها أو ما يسمى بالجغرافيا السياسية الخارجية.

لقد اختلف مع فكرة معارضة الجغرافيا السياسية للجيوبولتيك، وناقش بأن الجغرافيا السياسية الفرنسية كان ينقصها التأكيد على البنية الداخلية للدول بدلا من التركيز على دراسة الاستعمار، والمنافسة بين القوى الكبرى، والتنظيم الجغرافي للسياسة الدولية.علما بأنه في كثير من النواحي، سيتم قبول حجة أنسيل من قبل معظم الجغرافيين السياسيين.

من ناحية أخرى، شوهت نظرية الحتمية البيئية للجغرافي البريطاني هالفورد ماكيندر (1861-1947) وآخرين النظريات الجيواستراتيجية العالمية، علما أن هذه النظرية ماتزال تملك بعض التأثير على تفكير قادة القوى العظمى.

حدث في ما بعد انتعاش في الاهتمام بالبيئة من قبل الجغرافيين السياسيين لكن من وجهة نظر مختلفة تماما. فبدلا من التفكير بكيفية تشكيل البيئة للسياسة، يسأل الجغرافيون السياسيون حاليا كيف تشكل السياسة البيئة . وهم ينظرون إلى الاستجابات السياسية للتغيرات المناخية العابرة للحدود، وتلوث المياه، وأنماط تصويت الكونغرس الأمريكي بشأن قضايا البيئة، والإدارة الدولية لأحواض الأنهار، والنزاع بشأن السيطرة على الموارد الطبيعية الحيوية.

بعد الحرب العالمية الثانية، كان إدموند والش الداعم الأكثر تأثيرا للجغرافيا السياسية من وجهة نظر أمريكية. فقد جمع بين دوره كمدرب للدبلوماسيين الأميركيين المستقبليين في جامعة جورج تاون الكاثوليكية التي يديرها اليسوعيون في العاصمة واشنطن وعداوته الشديدة لثورة أكتوبر والشيوعية .وقد فسر النزاع بين الولايات المتحدة والإتحاد السوفيتي بمصطلحات دينية تتعلق بنهاية العالم!

حتى أوائل الستينيات من القرن الماضي، كانت تهيمن على الجغرافيا السياسية الدراسات المورفولوجية (التشكل) للأقاليم السياسية، خصوصا الدول، حيث ركز معظم الأبحاث على الملامح  الملموسة للخريطة السياسية، مثل حجم الدولة وشكلها، والحدود، والعواصم، والمناطق الرئيسة، والأنظمة الإدارية. وقد حظيت النزاعات الحدودية والإقليمية باهتمام كبير.

وقد أبدى كثير من الجغرافيين السياسيين عدم رضاهم على جوانب من هذا المنهج الوصفي المفرط الذي يتسم بالثبات والقائم على دراسة الدولة، والذي في كثير من الأحيان يعتمد على التصنيف بدلا من اعتماده على التحليل. وتأثروا بالتطورات المنهجية التي حصلت في الجغرافيا وتحمسوا لها، وسعوا لتنشيط هذا التخصص الفرعي من خلال الأكثار من استخدام المناهج الكمية، وتغيير الرصد والمتابعة بعيدا عن المستوى العالمي والدولة ليكون على المستوى المحلي والتأكيد على العمليات الديناميكية العاملة فيه. وقدموا أيضا مقاربات سلوكية جديدة. وقد اغتنت الجغرافيا السياسية كثيرا، وتوسعت بهذه الأفكار والتقنيات الجديدة .فبدلا من مجرد متابعة تطور الحدود خصوصا، ووصف مميزاتها الموفولوجية الثابتة على سبيل المثال، سيكونون الآن أكثر ميلاً إلى فحص فعاليتها، وتأثيرها على أنماط التفاعل المكاني، وكيف يُنظر لها. وبدلا من وصف الملامح الجغرافية السياسية المورفولوجية للدولة، سيكونون أكثر ميلاً لفحص القوى التي تعمل على تكامل أو تفكك الدولة.

وجرى تبني حقول بحثية جديدة بالكامل مثل: الجغرافيا الانتخابية (أنماط التصويت والتنظيم المكاني للأنظمة الانتخابية)، حل النزاعات، صناعة القرار (من أين يأتي صناع القرار؟ وما هي العواقب الجغرافية لقراراتهم؟) السياسة العامة (التباينات الجغرافية في الإنفاق الحكومي)، القضايا الإقليمية (فهم المكان والدفاع عنه)، والحدود الجديدة (تقسيم المحيطات والفضاء الجوي)، والتكامل الإقليمي (توحيد الدول أو مجموعات الدول) وغيرها. وعلى الرغم من ذلك، من السهولة المبالغة في الاختلافات بين الجغرافيا السياسية القديمة والجديدة واهمال طابع الاستمرارية والقواسم المشتركة. لكن في كل الأحوال، استمر جميع الجغرافيين السياسيين بغض النظر عن مجال تخصصهم في التركيز على التنظيم السياسي للمجال.

في السنوات الأخيرة عاد الاهتمام بالجغرافيا السياسية على المستوى العالمي، نظرا لأن موضوعها يعالج المكونات الجغرافية سواء الطبيعية منها أو البشرية أو الاقتصادية أو الموارد الطبيعية وعلاقتها بقوة الدولة ووزنها واستقرارها ورسم سياساتها الداخلية والإقليمية والدولية .لذلك لا غرابة ان نشرت مجلة الشؤون الخارجية الأمريكية مقالا بعنوان عودة الجغرافيا السياسية.

وفي عام 1990 أعلن الرئيس بوش الأب عن مشروع النظام الدولي الجديد أو بالأحرى أمركة النظام الدولي بعد تفكك البلدان الاشتراكية وانتهاء الحرب الباردة. وقد تعثر تنفيذ هذا المشروع بسبب مقاومته من أطراف دولية عدة لأنه لا يراعي مصالحها وتجاهله لخصائص الجغرافيا السياسية لأقاليم العالم فهي ليست متماثلة. وفي المنطقة العربية عاد الاهتمام بالجغرافيا السياسية بعد الربيع العربي، وما تركه من تداعيات جيو- سياسية على المستولى المحلي والإقليمي والدولي. وقد خصصت مجلة السياسة الدولية المصرية المعروفة عام 2014 ملحقا بعنوان "عودة الجغرافيا السياسية"، تضمن خمس مقالات مهم(1).

لعل هذه العودة تسهم في معالجة وتحليل المشكلات السياسية المعقدة التي تواجهها المنطقة العربية، واستشراف آفاقها خصوصا بعد الحرب الوحشية التي تشنها إسرائيل على غزة ولبنان، والتصعيد الأخير في الحرب في سوريا، واحتمالات تغير موازين القوى في المنطقة.

***

د. هاشم نعمة

........................

1- للمزيد راجع: ملحق تحولات استراتيجية، السياسة الدولية، العدد 197، يوليو 2014.

 

تصبح المؤسسة الأكاديمية مؤسسة بارزة عندما تنمو وتتطور مع مرور الزمن وعبر المساهمة في التنشئة والتغيير، والتكيف مع هذا التغيير مع القدرة على الحفاظ على تراثها الجوهري عبر الزمن. جامعة أكسفورد هي إحدى هذه المؤسسات.

بصرف النظر عن أن أكسفورد من اشهر الجامعات العالمية فهي تحتل مرتبة عالية في أي تصنيف عالمي للجامعات، ودائما ما تكون في المراكز الخمسة الأولى في العالم وتحتل المرتبة الأولى أو الثانية في التصنيف العالمي لجامعات المملكة المتحدة.

الجامعة قديمة جدا ويمكن اعتبارها موقعا تراثيا، نظرا لمرموقية ابنيتها التاريخية. والدخول إلى أكسفورد يعد أمرا مهما، لان الجامعة ليس فقط  رمز ثقافي واسم مألوف بل لأن تعليمها ككل هو ظاهرة تنعكس في تصنيفاتها ومكانتها وما إلى ذلك.

على مر العصور، دافع اساتذة وطلاب أكسفورد عن الحقيقة وليس عن ما يكسب المزيد من القوة والمكانة. لذا تكمن رؤية الجامعة في توفير الحقيقة "عن طريق البحث والتعليم على مستوى عالمي وبطرق تعود بالنفع على المجتمع الوطني والعالمي".

وعلى مر العصور ساهم اساتذة أكسفورد في نمو مواضيع متعددة من الدراسات والتخصصات التي اصبحت برامج ومناهج اساسية في الجامعات العالمية. وكان الالتزام بدفع المعرفة الانسانية إلى الأمام هو المحور الأساسي للحصيلة الفكرية العالية لكل طلابها. لذلك شغل الذين درسوا فيها مناصب نخبوية في أوروبا وحول العالم .

يعتبر خريج اوكسفورد مفكرا ومثقفا مستقلا للغاية وعقلانيا يهتم بعمق بالمجتمع ومشاكله ككل. جامعة أكسفورد التي لا تزال أقدم جامعة كلاسيكية ناطقة باللغة الإنجليزية على وجه الأرض هي حقا مكان للاذكياء والمثفقين.

لماذا أكسفورد مرموقة جدا؟ يعزي البعض السبب لطريقة التدريس الفريدة والتي تشجع الطلاب الذين لديهم دوافع ذاتية. لذلك يجد المتفوقون بيئة يتركون فيها لمتابعة اهتماماتهم الشخصية في مكتبات ممتازة وفي صحبة المتفوقين الآخرين ذوي الدوافع العالية. اساتذتها علماء على مستوى عالي من المعرفة والعلم ويقدم فيها محاضرات زوار مرموقين وقادة عالميين من الذين كانوا في الغالب باحثين جيدين جدا. ثم هناك غرفة النقاش في اتحاد أكسفورد والحياة الاجتماعية المفعمة بالحيوية في أماكن تاريخية رائعة بحيث تجعل درجة أكسفورد بمثابة جواز سفر للعمل، ولا يندم احد على قضاء وقته بين رحابها على الإطلاق.

باختصار تتصدر أكسفورد جامعات العالم للأسباب التالية:

- لديها أكثر من 1000 عام من الخبرة كمركز للتعلم والبحث العلمي

- يتم جذب الأفضل والألمع من جميع أنحاء العالم كطلاب وباحثين ومدرسين

- تستخلص طريقة البرنامج التعليمي أفضل ما في الطلاب (جلسات مرة واحدة في الأسبوع مع متخصص في مجالك يقوم بمراجعة ورقة بحثية قمت بإعدادها خلال الأسبوع).

- نظام البرنامج التعليمي، جنبًا إلى جنب مع عبء الدراسة تم تطويره من خلال التأثير التعزيزي لمعظم ألطلاب ليكونوا أذكياء جدًا. فعندما تتحدث دائما إلى أشخاص أذكياء، ستصبح أكثر ذكاءً.

- يحاضر فيها علماء حصل كثير منهم على جوائز نوبل (69 عالما) وعلى جوائز عالمية مرموقة

- في السنة المالية 2018/19، بلغ إجمالي الدخل البحثي للجامعة  769.2 مليون باوند إسترليني. منها 624.7 مليون باوند من المنح والعقود البحثية الممولة من الخارج.

- تشتهر عالميا بالتميز البحثي وهي مكان لافضل وأكثر الموهوبين من جميع أنحاء العالم. تساعد بحوثها في تحسين حياة الملايين، وتحل مشاكل العالم الحقيقي من خلال شبكة ضخمة من الشراكات والتعاون. وثتير الطبيعة الواسعة لابحاث الجامعة رؤى وحلول إبداعية ومبتكرة.

- جمال معماري لا يصدق يجعلك تشعر أنك محظوظ بما يكفي للدراسة في مثل هذا المكان.

- مكتبات رائعة بالإضافة إلى مرافق بحث حديثة مفتوحة لك مع قيود قليلة جدًا

- الوقت متاح للانضمام إلى انشطة اخرى (الرياضة والموسيقى والمناظرة والمسرح) أو لتناول مواضيع أخرى.

- يمكن الوصول بسهولة إلى بعض أعظم الأساتذة في العالم، ويمكن ان تحضر دروسا في فصول مفتوحة لأي طالب في الجامعة

- كليات منفصلة تنتمي جميعها إلى الجامعة ولكن لها ثقافات وتقاليد متميزة.

- بالاضافة للجلابيب السوداء الطويلة والقبعات المضحكة تجعل الجميع يبدون متميزين بشكل خاص.

***

ا. د. محمد الربيعي

 

بين النثر الأدبي في صدر الإسلام والشريف الرضي (7)

إنَّ باعث العاطفة الطائفيَّة، ودافع العصبيَّة الأُسريَّة، كانا وراء مشروع (الشَّريف الرَّضِي، ـ406هـ= 1015م) لتأليف كتاب «نَهْج البلاغة»، كما ذكر هو في مقدِّمته، لا شاغل البحث، وما ينبغي له من تحرِّي الصِّحة والتوثيق. ولقد أشار الشَّريف إلى اختلال الروايات، وتباينها، وأنَّه قد أعاد صياغتها «استظهارًا للاختيار، وغَيرةً على عقائل الكلام».(1) ولذا فإنك، إنْ تبصَّرتَ، وتيقَّظتَ من سَكرة الهوَى، ستُلفي أسلوب «النَّهْج» أشبه بأسلوب الشَّريف نفسه، منه بأسلوب (عَليِّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، -40هـ= 661م)، وإنْ قيل إنَّ الشَّريف متأثرٌ بأسلوب عَلي. ولكن من قال إنَّ أسلوب عَليٍّ، أو أسلوب ذلك الرعيل الأوَّل في الخَطابة، كان على هذا النحو، «العبَّاسي» البديعي المتصنَّع؟! ومن هنا، فلا نجاوز الحقَّ حين يتأدَّى بنا النقد الداخليُّ للنصوص، وإعمال النظر في القرائن التاريخيَّة والثقافيَّة، إلى تأكُّد الشَّكِّ في نِسبة معظم تلك النصوص إلى الإمام عَلي.

هكذا استهلَّ بنا (ذو القُروح) ركوب هذا الضرب من بحار البحث. قلتُ:

ـ ولقد تعلم، قرَّحَ الله شانئيك، أنْ قد تكلَّم كثيرون في شأن الشَّكِّ في نِسبة «النَّهْج» إلى (أبي الحَسَن).

ـ بل لقد اعترف (الشَّريف الرَّضِي) نفسه بأنه هو مؤلِّف «النَّهْج».

ـ يا سلام! اعترف؟ الاعتراف سيِّد الأدلَّة!

ـ هذا ما يوحي به (شوقي ضيف)، في كتابه «الفَنّ ومذاهبه في النَّثر العَرَبي»(2)، أنَّ (الرَّضِيَّ) قد اعترفَ بوضع «نَهْج البلاغة»! والحقُّ أنَّه إنَّما ذَكرَ أنَّه ألَّفَه، أي: جمعَه وصنَّفه. فحين يقول، مثلًا: «كتابنا الذي ألَّفناه ووَسَمْناه بنَهْج البلاغة»(3)، أو «كتابنا الموسوم بنَهْج البلاغة»(4)، فليس في هذا اعترافٌ بالوضع.

ـ لا سيِّد للأدلَّة، إذن؟! وليس إلَّا اعترافًا بالتأليف، بمعنى الجمع والتصنيف، لا بمعنى الوضع؟

ـ نعم. غير أنَّنا أحببنا خلال هذه المقاربات تفكيك النَّصِّ أسلوبيًّا وثقافيًّا وسياقيًّا، لتبيُّن التهافت في نَهْج مَن يَنْحَل (عَليًّا) كتابًا كاملًا، في سابقةٍ لا نظير لها من نَحْل النَّثر. وهي تُزري بنَحْل الشِّعر عند أساطينه، كـ(حمَّاد الراوية) و(خَلَف الأحمر). على أنَّك قد تجد للرَّضِيِّ مِن نَحْل الشِّعر أيضًا ما له!

ـ أيضًا! كيف؟

ـ في كتابه «خصائص الأئمة» يُورد أبياتًا ستةً، ينسبها إلى (حسَّان بن ثابت)، ليست في ديوانه المحقَّق، ولا تصحُّ له؛ بل هي ذات لغةٍ بعيدة كلَّ البُعد عن لغة حسَّان وأسلوبه. نُسِجَت على منوال أبياته ذات المطلع:

ثَوَى في قُرَيْشٍ بِضْعَ عَشرَةَ حِجَّةً  :::  يُذَكِّـرُ لَو يَلقَى خَليلًا مُؤاتِيا(5)

وجاء مطلع أبيات (الشَّريف)، المنسوبة إلى حسَّان، هكذا:

يُـناديهمُ يـومَ الغَديرِ نَبيُّـهُمْ  :::  بِخُـمٍّ وأَسْمِعْ بالنَّبيِّ مُنادِيـا(6)

وهي أبيات ركيكة النَّسْج، لا نعلم أنَّه رواها لحسَّان غيره.

ـ يبدو أنَّه قد مَرَدَ على تقبُّل هذا، وأنَّ لديه من الروايات، نثرًا وشِعرًا، ما لم يعلمه إلَّا هو.

ـ لكن رواياته تأتي بلغة القرن الرابع الهجري، أو قل بلغة (الشَّريف الرَّضِي) لا غير!

ـ مع أنَّ حِفظ الشِّعر أسهل، وروايته أيسر.

ـ بَيْدَ أنَّ تزويره على الناس وارد، ما دام عمود الشِّعر قائمًا منذ الجاهليَّة إلى عصور الإسلام المتأخِّرة. وما هكذا النَّثر بحالٍ من الأحوال. لولا الغُرور بإجهاش العوامِّ تفاعلًا، وترديد أشباههم إعجابًا، بلا مُسْكة من عِلم، ولا فِطرة من حاسَّة نقديَّة. ولعلِّي بك- في ما ألمحتَ إليه من شكِّ الشاكِّين في عَزْو «النَّهْج» إلى الإمام (عَليٍّ)- تشير إلى أمثال (شمس الدِّين الذَّهبي، ـ748هـ= 1348م)؟

ـ ماذا قال؟

ـ قال في «ميزان الاعتدال في نقد الرِّجال»(7)، معرِّفًا بـ(الشَّريف المرتضَى): إنَّه «عليُّ بن الحُسَين العَلَوي الحُسَيني الشَّريف المرتضَى، المتكلِّم الرافضي المعتزلي، صاحب التصانيف. حدَّث عن سهْل الديباجي، والمرزباني، وغيرهما. ووليَ نقابة العَلَويَّة، ومات سنة ستٍّ وثلاثين وأربع مئة، عن إحدى وثمانين سنة. وهو المتَّهم بوضع كتاب «نَهْج البلاغة»، وله مشاركة قويَّة في العلوم. ومَن طالعَ كتابه «نَهْج البلاغة»، جزمَ بأنه مكذوبٌ على أمير المؤمنين (عَليٍّ، رضي الله عنه)؛ ففيه السَّبُّ الصُّراح، والحَطُّ على السيِّدَين: (أبي بَكْر، وعُمَر، رضي الله عنهما)، وفيه من التناقض، والأشياء الركيكة، والعبارات التي مَن له معرفةٌ بنَفَس القُرشيِّين الصحابة، وبنَفَس غيرهم ممَّن بَعدهم من المتأخِّرين، جزمَ بأنَّ الكتاب أكثره باطل.» وفي جملته الأخيرة مربط الفَرَس. ففيها إلماحٌ إلى تباين الأسلوب بين عصر (عَليٍّ) وبيئته وأسلوب (الشَّريف المرتضَى)، في القرن الرابع الهجري، وبيئته. وقد وردت كلمة «نَفَس» في المطبوع المحقَّق غير مضبوطةٍ بالشكل، وذلك تقصيرٌ وإخلالٌ من المحقِّق. فـ(الذَّهبيُّ) يشير هاهنا إلى «نَفَس القُرشيِّين الصحابة، ونَفَس غيرهم»، أي: طبائعهم، بما في ذلك أساليبهم وأساليب غيرهم. وكلمة «نَفَس» أعمق وأشمل من تعبيرنا بـ«أُسلوب». فللهِ دَرُّ الذَّهبيِّ، ما أدقَّ عبارته هذه! ولقد انتهى بنا البحث في هذه المسألة- بعد أن زعمنا ما تقدَّم- إلى الوقوف على آراء من شكُّوا شكَّنا، سابقين إلى إنكار نِسبة «النَّهْج»، إلى (عَلي). فقبل الذَّهبيِّ كتبَ (ابن خلكان، ـ681هـ= 1282م)(8): «وقد اختلف الناس في كتاب «نَهْج البلاغة» المجموع من كلام الإمام عَليِّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، هل هو جَمْعه أم جمع أخيه الرَّضِي؟ وقد قيل: إنَّه ليس من كلام عَليٍّ، وإنَّما الذي جَمَعَه ونَسبَه إليه هو الذي وضعَه، والله أعلم.» وممَّن تابع إلى هذا من المحدثين (أحمد حسن الزيَّات)(9)، حيث كتبَ: «ومن الناس من يميل إلى أنَّ أكثر كتاب «نَهْج البلاغة» من صُنع الشَّريف، لما فيه من التعرُّض للصحابة بالأذى والهجر، ولأن ما فيه من فلسفة الأخلاق، وقواعد الاجتماع، ودِقَّة الوصف، وتكلُّف الصنعة، ليس في إمكان ذلك العصر ولا في طبعه. والظاهر أنَّ الشَّريف جمعَ (كلَّ ما نُسِب) إلى الإمام، وفيه الصحيح والمشوب.»

وأجدني، إذن، من أولاء القوم الذين يميلون إلى هذا، لا للسبب الأوَّل- الذي ألمح إليه الزيَّات، متابعًا فيه ( الذَّهبي)، بلا توثيق- ولكن قبل ذلك للأسباب الفنيَّة والأسلوبيَّة، المتعلِّقة بالصنعة البيانيَّة، والصبغة الفلسفيَّة، والخوض في دقائق الطبيعة، ممَّا لم يأتِ لا في «القرآن»، ولا في «الحديث»، ولم يَثبُت بعِلم. ولم يكن (عليُّ بن أبي طالب)، عالمًا فيزيائيًّا، ولا حتى من أرباب الخيال العِلمي، أو قاصًّا متنبِّئًا، كـ(إدغار ألان بو Edgar Allan Poe، ـ1849)، مثلًا، الشَّاعر والقاصُّ والناقد الأميركي، المشهور بأدبه الغرائبي الغامض، في القرن التاسع عشر، الذي عُدَّ أوَّل من استعمل مصطلح «الانفجار الكوني العظيم». بل ما كانت حياة الإمام فارغةً لتلك التهويمات الكونيَّة، ولا التشقيقات الأحيائيَّة، والأمواتيَّة، حتى إنَّه قد انشغل بوصف الطاووس- وليس من بيئةٍ فيها طواويس أصلًا- وتصوير النملة، وتشريح الجرادة، وتأمُّل خِلقة الخفَّاش، إلى غير ذلك! بل إنَّ في ذلك ونحوه ممَّا جاء في «النَّهْج» ما قد يتصادم، أوَّل ما يتصادم، مع العِلم بالطبيعة، والعِلم بالأحياء.

ـ ومثل هذا يمكن أن يُقال عن المنسوب إليه أيضًا بعنوان «الجَفر الجامع والنُّور اللَّامع».(10)

ـ أفلا يُدرِك أولئك المغتبطون بتلك النصوص، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا واغتباطًا وإعلاءً من شأن الإمام، أنَّ في نِسبة الهراء من هذا وذاك إلى (عَليٍّ) جنايةً على مقامه الكريم أيَّما جناية؟!

[وللحديث بقايا].

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

..........................

(1) (1990)، نَهْج البلاغة، شرح: محمَّد عبده، (بيروت: مؤسَّسة المعارف)، 80- 81.

(2) يُنظَر: (القاهرة: دار المعارف، 1983)، 62.

(3) يُنظَر: الرَّضِي، الشَّريف، (1986)، حقائق التأويل في متشابه التنزيل، شرح: محمَّد الرضا آل كاشف الغطاء، (بيروت: دار الأضواء)، 5: 167.

(4) يُنظَر: الرَّضِي، الشَّريف، (1422هـ)، المجازات النبويَّة، تصحيح: مهدي هوشمند، (قم: دار الحديث)، 54، 79.

(5) (2006)، ديوان حسَّان بن ثابت، تحقيق: وليد عرفات، (بيروت: دار صادر)، 1: 94.

وقد أروده المحقِّق مكسور الوزن، هكذا: «ثَوَى بِمَكَّةَ بِضْعَ عَشرَةَ حِجَّةً». وهو في غير هذا التحقيق مستقيم الوزن، كما أوردناه: «ثَوَى في قُرَيشٍ بِضْعَ عَشرَةَ حِجَّةً». والعجيب أنَّ المحقِّق، قد رجع في تخريجه إلى ثلاثة كتب روته كلها بروايته المستقيمة، ومع ذلك أبقاه مكسورًا. وهو في شرح الديوان لـ(عبدالرحمن البرقوقي) صحيح الوزن.

(6) الرَّضِي، الشَّريف، (1434هـ)، خصائص الأئمة، تحقيق: محمَّد هادي الأميني، (مشهد: مجمع البحوث الإسلاميَّة)، 41.

(7) (د.ت)، تحقيق: محمَّد البجاوي، (بيروت: دار المعرفة)، 3: 124.

(8) ابن خلكان، (1968)، وفيَّات الأعيان وأنباء أبناء الزَّمان، تحقيق: إحسان عبَّاس، (بيروت: دار صادر)، 3: 313.

(9) (د.ت)، تاريخ الأدب العربي، (القاهرة: دار نهضة مِصْر)، 286.

(10) طُبِع في (القاهرة: مكتبة الكليَّات الأزهريَّة، د.ت). وذُيِّل- كما كُتِب على غلافه- «لإتمام الفائدة بالشِّعْرَة [=الشِّعْرَى] اليمانيَّة، وهو علوم النجوم والطوالع والأبراج والطبائع، مجموع من أقول هرمس»!

 

في عالم مليء بالمطالب، التوقعات، والضغوط، يصبح فن قول "لا" مهارة حياتية ضرورية لكل فرد يسعى لتحقيق الحرية الشخصية والنمو الإيجابي. هذا الفن لا يعني فقط رفض الأشياء التي لا نريدها أو التي تضر بنا، بل هو فعل تأكيد للذات، وإعلان عن حقنا في اختيار ما يناسبنا، وتحديد المسار الذي نريد أن نسلكه في الحياة.

فالحرية الشخصية تبدأ من القدرة على وضع حدود واضحة بيننا وبين الآخرين. هناك أشياء كثيرة قد تحد من حريتنا كالعمل المرهق الذي لا يتماشى مع طموحاتنا، العلاقات السامة التي تستنزف طاقتنا، والمجتمعات التي تملي علينا كيف يجب أن نعيش ونفكر. فعندما نقول "لا" لهذه الأشياء، فإننا نأخذ خطوة نحو تحرير أنفسنا من قيود مفروضة علينا، سواء كانت قيودًا اجتماعية، ثقافية، أو نفسية.

قول "لا" للأشياء التي لا تقنعنا هو فعل احترام لذاتنا. لا يمكننا بناء حياة حقيقية ومتوازنة إذا كنا نعيش وفق توقعات الآخرين أو نخضع لضغوط من الخارج. "لا" هنا تعني أننا نمتلك حرية التفكير ونرفض أن نكون جزءًا من منظومة تفرض علينا قيمًا أو سلوكيات لا تنسجم مع هويتنا.

في كثير من الأحيان، نجد أنفسنا محاصرين في دوائر من التزامات مفرطة، سواء في العمل أو الحياة الاجتماعية، بدافع الخوف من الإحباط أو خذلان الآخرين. ومع ذلك، هذه الالتزامات قد تتحول إلى عبء يعيقنا عن النمو الشخصي والاستمتاع بالحياة. قول "لا" هنا هو تعبير عن رفض الظلم والتعسف، ومطالبة بحقنا في وقتنا، طاقتنا، وسعادتنا.

من أخطر القيود التي قد تواجه الإنسان هي الأفكار المفروضة التي تصوغ معتقداته وسلوكياته دون أن يعي ذلك. وسائل الإعلام، الأعراف الاجتماعية، وضغوط الأقران يمكن أن تخلق تصورات زائفة عن العالم وعن أنفسنا. في هذه اللحظات، يصبح قول "لا" ضرورة للتحرر الفكري. "لا" تعني أننا نختار التفكير النقدي بدلاً من الانصياع الأعمى، وأننا مستعدون لمراجعة أفكارنا ومعتقداتنا بدلاً من قبولها كما هي.

قول "لا" ليس مجرد رفض أو معارضة، بل هو خطوة نحو التحول الإيجابي. عندما نقول "لا" للأشياء التي لا تضيف قيمة لحياتنا، فإننا نفسح المجال للأشياء التي تستحق الاهتمام. فنحن لا نصبح فقط أكثر حرية، بل نصبح أكثر وعيًا بما نريد أن نكونه.

"لا" تعني أنني أختار أن أكون إنسانة حقيقية، مختلفة بالمعنى الإيجابي، تبحث عن التطور والنمو. تعني أنني أمتلك القوة للابتعاد عن كل ما يشتتني، أو يستهلكني دون فائدة. في النهاية، قول "لا" هو فعل بناء وليس هدمًا؛ هو رفض للتنازل عن قيمنا وأحلامنا، واستعداد للبحث عن حياة أفضل تتماشى مع هويتنا الحقيقية.

إن قول "لا" هو أساس بناء حياة مليئة بالحرية، التوازن، والنمو. إنه إعلان عن استقلاليتك، رفض للتعسف والقيود، ورغبة في التغيير الإيجابي. عندما تتقن هذا الفن، تصبح قادرًا على العيش وفق قيمك ومبادئك، وتحقق السلام الداخلي والسعادة الحقيقية. تذكر دائمًا أن قول "لا" هو حقك، واستخدامه بحكمة هو ما سيصنع منك إنسانًا مختلفًا بالمعنى الإيجابي.

***

مجيدة محمدي

 

في محاورة "الجمهورية"، رسم أفلاطون صورة مثالية للمدينة الفاضلة التي يحكمها الفلاسفة الحكماء، مؤمناً بأن المعرفة والحكمة هما السبيل الأمثل لتحقيق العدالة والسعادة للبشرية. واليوم، وبعد أكثر من ألفي عام، يبدو أن البشرية تقترب من تحقيق حلم مشابه، ولكن هذه المرة من خلال الوكلاء الرقميين الأذكياء الذين يجسدون في جوهرهم فكرة الحاكم الحكيم الذي يمتلك المعرفة ويسخرها لخدمة الإنسان.

عندما طرح بيل جيتس رؤيته عن المساعد الرقمي في كتابه "الطريق إلى الأمام" عام 1995، لم يكن يدرك ربما أنه يرسم ملامح عالم يقترب في جوهره من يوتوبيا أفلاطون. فالوكيل الرقمي، في جوهره، هو كيان يمتلك معرفة هائلة ويسخرها لتحقيق الخير والمنفعة للإنسان، تماماً كما تخيل أفلاطون حكامه الفلاسفة.

مثلما اشترط أفلاطون في حكام مدينته الفاضلة امتلاك المعرفة الشاملة والحكمة، نجد اليوم أن الشركات التقنية الكبرى تسعى لتطوير وكلاء رقميين يمتلكون فهماً عميقاً للعالم وقدرة على التعلم المستمر. فشركة OpenAI، على سبيل المثال، طورت نموذج o3 الذي يمتلك قدرات متقدمة في فهم السياق والتعلم من التجارب، بينما قدمت Google نموذج Gemini 2.0 الذي يجمع بين الذكاء اللغوي والبصري في منظومة متكاملة.

هذه النماذج المتقدمة تشبه في جوهرها فكرة الفيلسوف الحكيم عند أفلاطون، فهي تمتلك معرفة واسعة وقدرة على الفهم والتحليل، ولكنها تتفوق على التصور الأفلاطوني في قدرتها على التعلم المستمر وتحديث معارفها بشكل دائم.

في مدينة أفلاطون الفاضلة، كان الحكام الفلاسفة يسعون لتحقيق العدالة والمساواة بين جميع المواطنين. وبشكل مماثل، يتميز الوكيل الرقمي الحديث بقدرته على تقديم خدماته للجميع بشكل متساوٍ ودون تمييز. فعندما تطور شركة Anthropic ميزة Computer Use، أو تقدم Meta تقنية Live AI، فإنها تسعى لجعل هذه التقنيات متاحة للجميع، محققة بذلك نوعاً من العدالة الرقمية التي تتوافق مع الرؤية الأفلاطونية للعدالة.

كما تحدث أفلاطون عن التناغم بين طبقات المجتمع في مدينته الفاضلة، نشهد اليوم سعياً حثيثاً لتحقيق تناغم مماثل بين الإنسان والوكيل الرقمي. فمشروع Project Astra من Google، على سبيل المثال، يهدف إلى خلق تفاعل طبيعي وسلس بين الإنسان والمساعد الرقمي، حيث يفهم الوكيل العالم من حوله ويتفاعل معه بذكاء وحكمة.

في حين تحدث أفلاطون عن نظرية المُثُل والمعرفة الفطرية، يتميز الوكيل الرقمي الحديث بقدرته على التعلم المستمر وبناء الذاكرة. فميزة الذاكرة في ChatGPT وClaude وGemini تتيح للوكيل الرقمي تكوين فهم عميق لتفضيلات المستخدم واحتياجاته، متجاوزاً بذلك حدود المعرفة الثابتة التي تحدث عنها أفلاطون.

حيث تحدث أفلاطون عن عالم المُثُل كمصدر للحقيقة والمعرفة الكاملة. واليوم، تطور الشركات التقنية نماذج ذكاء اصطناعي قادرة على فهم العالم الواقعي بكل تعقيداته. فنماذج مثل Sora من OpenAI وVeo من Google تمتلك فهماً عميقاً للفيزياء والحركة والعلاقات المكانية، محققة بذلك نوعاً من الإدراك الشامل الذي تجاوز حتى تصور أفلاطون للمعرفة المثالية.

مثلما واجهت مدينة أفلاطون الفاضلة تحديات في التطبيق العملي، يواجه عصر الوكلاء الرقميين تحدياته الخاصة. فمشكلات مثل محدودية عمر البطارية في تقنيات Meta للواقع المعزز، أو تحديات الخصوصية والأمان في التفاعل مع الوكلاء الرقميين، تمثل عقبات يجب تجاوزها.

مع اقتراب عام 2025، نقف على أعتاب عصر جديد يمزج بين المثالية الأفلاطونية والواقع التكنولوجي. فالوكلاء الرقميون الأذكياء يمثلون تجسيداً عصرياً لفكرة الحاكم الحكيم، مع قدرات تتجاوز ما تخيله أفلاطون نفسه. إنهم يجمعون بين المعرفة الشاملة والقدرة على التعلم المستمر، ويسعون لتحقيق العدالة والمنفعة للجميع.

وكما تنبأ جيتس، فإن المقارنة بين Clippy القديم والوكلاء الرقميين الجدد تشبه المقارنة بين الهاتف التقليدي بقرصه الدوار والهواتف الذكية. ولكن الأهم من ذلك، أن هذا التطور يمثل خطوة كبيرة نحو تحقيق حلم قديم: مجتمع يُدار بالحكمة والمعرفة لتحقيق الخير العام.

يبقى السؤال المطروح: هل سيكون عصر الوكلاء الرقميين هو التحقق الفعلي لحلم المدينة الفاضلة؟ ربما لا نستطيع الإجابة بشكل قاطع، ولكن ما نشهده من تطورات يشير إلى أننا نقترب من تحقيق توازن جديد بين الإنسان والتكنولوجيا، توازن يجمع بين الحكمة القديمة والذكاء الاصطناعي الحديث، محققاً بذلك نوعاً جديداً من اليوتوبيا التي تتجاوز حدود الخيال الفلسفي إلى آفاق الواقع التكنولوجي الى أن نرى ماذا سيؤول اليه مستقبل الروبوتات الذكية!

***

إيهاب عنان

باحث في مجال الذكاء الإصناعي والأمن السيبراني

كثيرةٌ هي الرهانات على بناء دول مدنية ديمقراطية في بلداننا.. ولكن ما مدى صحة وواقعية أن تكون الدولة المدنية مرهونة في وجودها وتحققها، لتطبيق العلمانية كما يردد البعض، ويربط نجاحها بتمثلها كما هي في الغرب العلماني؟!..

من المعروف أنّ الدولة المدنية الديمقراطية هي دولة تنتظمُ بمرجعية القانون المدني الذي يفصلُ بين الدين والدولة، (وليس بين الدين والمجتمع)، ويحكمها الدستور (العقد الاجتماعي) الذي يتفقُ عليه أبناءُ المجتمع توافقاً طوعياً لا إكراهياً، حيث تشكلُ منظومةُ التشريعات والقوانين مرجعيةً حاكمة لتنظيم التوازن والتلازم بين السلطات والصلاحيات، وطريقة التداول على السّلطة، وضمان حق المواطنين بممارسة حرياتهم في التعبير والتنظيم، وتكونُ الأمة (الشعب) هي مصدر السّلطات كلها، التنفيذية منها والقضائية والتشريعية أو التقنينية، وذلك عبر ممثليها، وهم أعضاء البرلمانات فيها، حيث يهيمن القانون على كل مكونات الدولة أفراداً وسلطات، وتُفوَّضُ السلطةُ الحاكمة بقيادة الدولة تفويضاً مقيّداً زماناً بالقانون، لا مطلقاً ونهائياً.. والتقييد هنا يتقوم بالصالح العام، أي مصالح الوطن والمواطنين..

أما العَلمانيّةُ فهي لم تنشأ عندنا في عوالم الشّرق، بل تعود إرهاصاتها الأولى في تحديد بنيتها -وكل ما تعلق بضبط معناها الحقيقي- تعود كلها إلى المجال التاريخي الثقافي والسياسي الغربي.. حيث انطلقت بداياتها من خلال السّجالات والصدامات الفكرية وغير الفكرية التي وقعت بين رجالات الدين الكنسيين وعلماء الفكر والطبيعة، في سعيهم الحثيث للاستقلال عن مرجعية الكنيسة واللاهوت الديني الكنسي التي احتكرت الحقيقة، واعتبرت كل انطباعاتها عن الحياة والوجود والإنسان قوانين صارمة مقدسة سوّرتها بأسيجةٍ من حديدٍ ونار.. والاستقلالية هنا بدأت بالفلسفة، بالعقل والفكر، لتنشأ وتتكون مختلف العلوم خارج إطار قيود المسيحية، بل ضدها في بعض الأحيان، وأن كل الحقائق الإنسانية: السياسية، والاجتماعية، والثقافية وغير ذلك، قد استقلت عن الدين.

وتعني "العلمانية" في جانبها السياسي، "اللا دينية" في الحكم والممارسة السياسية، وتقوم على فكرة: فصل الدين عن الدولة، وحيادية الدولة (بمختلف معاييرها ومؤسساتها) تجاه كل ما ديني وتاريخي وثقافي يتصلُ بعادات الناس وتقاليدهم وأنظمة معناهم التاريخية..

وقد جاء معنى هذا المصطلح في الواقع العملي ليكونَ عبارة عن: عزل الدين عن الدولة وعن حياة المجتمع، ودفْعه ليبقَ هويةً خاصة محبوسة في داخل الإنسان، في ضميره ووجدانه فقط، كعلاقة ذاتية فردية بين المرء وبين معبوده؛ وإنْ سُمح له بالتعبير عن نفسه في حركة الواقع، يأتي التعبيرُ فقط طقوسياً في الشعائر التعبدية، والمراسيم المتعلقة بالزواج والوفاة ونحوهما فحسب.

وبعيداً عن التعريف الاصطلاحي للعلمانية -وهو بات معروفاً وحاضراً لدى الكثيرين- نقول بأنّ العلمانية -كفكرة ومرجعية رضيتْ بها دول الغرب، وحظيتْ باهتمام مجتمعاتهم، وتمَّ تبنّيها كعقيدة سياسية عملية لهم، على مستوى القيم والسّلوكيات العملية السّياسية والاجتماعية- ليس لنا معها نقاشٌ سياسي عملي يخصّهم في اختيار مرجعيتهم الخاصّة بهم التي تتناسب مع تاريخَهم وتلائم قناعاتَهم، ولهم إرادة حقيقية جدية فيها، إلا عند تحوُّلها لعقيدةٍ سياسية صدامية ضد الآخر (العربي الإسلامي بالذات)، ومحاولات طمس هويته الحضارية الدينية التاريخية عبر سياسات الفرض والإملاء التي مورست وتمارس سياسياً وعملياً في فضائنا السياسي العربي والإسلامي، في سعيهم الدائم لنَقْل كل ما في الغرب من أشكال القيم ومعايير السلوكيات اللا دينية، وفرْضها على مجتمعاتنا دونما تدقيق وتمحيص ومساءلة ومراجعة نقدية.

أما المشكلة -بخصوص العلمانية في تطبيقاتها العربية وأفكارها وقيمها ومختلف مذاهب أصحابها، وكل ما يرتبط به من اتجاهات ويخرج عن قادتها من آراء وطروحات- أن بعض أتباعها ومروّجيها، كانت لديهم رؤية إلغائية للدين، بل وكانوا يستهدفون فعلياً استئصال الدين ذاته من واقع الحياة الاجتماعية والسياسية للناس، وفي الحد الأدنى قيامهم بتأسيس رؤى وأفكار دينية لا علاقة لها بالدين نفسه.. وهذا ما يتنافى مع معنى العلمانية في أصل نشأتها الغربية ومعناها السياسي العملي لا المعرفي التاريخي المدرسي.

نقول هذا الكلام مع ملاحظة أنَّ الإسلامَ (شئنا أم أبينا) دينٌ اجتماعي عملي لا ينفصلُ في قيمه وأفكاره وأنظمة معناه، عن واقعِ الحياة الاجتماعية الخاصة والعامة للفرد المسلم، بل يطالبه (ويأمره) بتمثّل وتطبيق قيم الإسلام وأحكامه وتشريعاته في كلّ تفاصيل حياته الخاصة والعامة.. فكيفَ يمكن والحال هذه، التوفيقَ بين الأمر (والشرع) الديني الإسلامي (الإلهي)، وبين واقع الحياة العلماني الذي يرفضُ أنْ يكونَ للدين أي دور في حياة الناس والمجتمع ككل؟!!.. هنا يكمن ويقع أصل الصدام الفكري والعملي بين فكرة العلمانية والدين الإسلامي..!!..

وهذه –كما نعتقد- إشكالية كبيرة وخطيرة تدلنا على مدى هذا الانقسام الحاصل في بلداننا العربية عموماً بخصوص فكرة العلمانية.. وهو انقسام بين نخب وتيارات سياسية وثقافية حالمة بتطبيق العلمانية (كما هي في بيئة غير مؤاتية لها)، وبين مجتمعات (رافضة لمعناها ومبناها)، وتعتقد أنّ أول ما تستهدفه هذه الفكرة هو عقيدتها الدينية وتراثها الإسلامي وأنسجتها التاريخية وخيارات الناس فيها.. مع عدم تفريق تلك النخب بين معنى الدين وآليات تطبيقه العملية في الغرب الكنسي، وبين معناه وآلية تطبيقه العملية في مجتمعاتنا العربية الإسلامية.. ووقوعها في شراك محاولات نقل وسحب تجربة الغرب (في طريقة تعاطيه مع الدين) مع الدين إلى مجتمعاتنا..

لقد جاءت حركة العلمنة كخلاصة لجهود الرفض والمواجهة مع الكنيسة القروسطية، وذلك لكي تفصل بين الدين المسيحي والدولة.. في حين أن الإسلام كدين ليس سلطة روحية كهنوتية ولا بشرية، ولم يحدث أن قامت ضده ثورات وانتفاضات أو حركاتٍ معارضة فكرية وسياسية.. بل على العكس تاريخنا العربي الإسلامي كان تاريخاً (علمانياً مدنياً) بامتياز، ارتفعتْ وعلتْ فيه السياسة وفنونها وألاعيبها فوق الجميع في العلاقات والسلوكيات وآليات التعامل..

ولكن للأسف بقيت تلك النخب العربية عندنا متترّسة عند حدودها الفكرية ومقولاتها الذاتية العقائدية الأولى المعادية لدين مجتمعاتها، مُتبنّيةً قوالبَ فكرية قديمة مغلقة في فهمها وتوصيفها ووعيها لتلك المتغيرات التي أصابت عالمنا العربي في صميمه، وبدأت تستعيد الشعوب من خلالها حيويتها وقوتها ودورها ومكانتها على صعيد الفعل السياسي والمشاركة في صنع المصائر والمآلات الوجودية.

مع أنه كان واجباً عليها وعلينا جميعاً كمفكرين ونخب واعية، أن نقر ونعترف بأن المسلمين لم يتقبلوا مصطلح العلمانية في مجتمعاتهم، لا على المستوى الفكري ولا على المستوى العملي، بالرغم من تطبيقاته في كثير من بلدانهم التي فرضَ حُكّامُها ونخبتها "العسكرتارية" أيديولوجيات مفارقة قهرية مستبدة، لم تلقَ القبول والاستجابة الطوعية المطلوبة للنهوض والتقدم المجتمعي الحقيقي من قبل الفاعل الاجتماعي العربي والإسلامي، فكان أن بقيت تلك التطبيقات مجرد دعوات ومشاريع حداثة شكلية وتحديثات قشرية نخبوية مكلفة وعقيمة.. على الرغم من مرور زمن سياسي طويل على فرْضها في بعض مجتمعاتهم التي حكمتها أيديولوجيات مختلفة، ونقول "فرْضها" بسبب خصومتها النفسية والعملية معهم..

ورغم المنبت والجَذْر الثّقافي والسّياسي الغربي الواحد، لا أتصوّرُ أنَّ ثمّة علاقة ضمنية عضوية (راسخة ومستقرة) بين مفهومي الدولة الديمقراطية المدنية وبين العلمانية، بما قد يؤدي ليكون أحَدُهُما نتيجةً للآخر، أو ليكونا معاً شرطاً أساسياً أولياً -أو حتى فرعياً ثانوياً- للوصول إلى واقع الحداثة الفكرية والعلمية والتنمية والتطور السياسي والازدهار المجتمعي لأي بلد ينشد التطور والازدهار وتحقيق رفاهية الإنسان، كما هي حالتنا السورية راهناً بعد نجاح الثورة السورية في كسر شأفة الاستبداد والدولة التسلطية الأمنية التي دامت عدة عقود..

وهذا الأمر أو الإعلان الفكري (المتمثل في اعتبار المدنية -والحداثة ككل- مشروطة بالعلمانية) جرى تداوله لدى كثير من الساسة والمفكرين النهضويين العرب منذ بدايات القرن الماضي، ممن حاولوا عبره نقلَ (أو نسخ) تجربة الغرب في صراعاته السياسية والفكرية المعرفية مع الكنيسة، إلى ساحاتنا الثقافية والسياسية العربية، معلنين (ومعتقِدين) أنه لا حداثة ولا تطوراً ولا تقدماً في بلداننا العربية والإسلامية من دون تمثُّل قيم العلمانية بمعناها الغربي كمدخل لتحقيق المشروع الديمقراطي المدني في بيئتنا العربية السياسية-الاجتماعية..!!.. مع أن النتيجة كانت واضحة لجهة أنه لم تتحقق العلمانية على صورتها الفكرية العقدية، كما لم يتم إنجاز الأرضية الملائمة للبناء الديمقراطي التعددي في عالمنا العربي إلا ضمن تجارب قاربت المفهوم (شكلاً)، دونما أي تمثّل عملي حقيقي له (مضموناً).. بما يعني أنَّ ثمّة معيقات وتعارضَات حقيقية بين الفكرتين في سياقات التطبيق عندنا.. وأنه بالتالي يمكن لأي بلد تطوير صيغه السياسية والتنظيمية الداخلية بما يلائم سياقه الحضاري التاريخي، شرط أن تكون –تلك الصيغة أو الصيغ- قائمة على قيمة ومبدأ الحرية، وقابلة لإفشاء المبادئ والحقوق الإنسانية الجوهرية تحقيقاً للمواطنة السياسية والعملية..

وهذه القضايا برأيي ليست خاضعة ولا مرهونة لفكرة (وعقيدة) العلمنة، وليست مشروطة نهائياً بها.. فالديمقراطية مثلاً، (كمجرد آلية وترتيب مؤسساتي للوصول إلى القرارات السياسية التي تحدد المصلحة العامة من خلال تمكين الشعب نفسه من اتخاذ القرارات)، لم تخرج من رحم العلمانية، بل جاءت كنتيجة ومآل طبيعي لمجمل الصراعات والاصطدامات والتدافعات المريرة والقاسية التي جرت تاريخياً بين الشعوب والمجتمعات من جهة وممثلي الحكم القابضين على مفاصل السلطة بمختلف مواقعها ومحاورها ومراكزها من جهة ثانية.. وقد اقتصرت الديمقراطية في بداية نشأتها على طبقات سياسية محددة من ذوي النفوذ المالي والاقطاعي في المجتمعات الغربية، حيث لم يكن للعبيد والنساء والفقراء أي دور فيها، لا ترشيحاً ولا انتخاباً.. أي أنهم كانوا محرومين من المشاركة في القرار ومجمل فضاءات الفعالية الديمقراطية.. لكن هذه الآلية السياسية (الديمقراطية) -وبحكم أنها غير نهائية- كانت قابلة للتطوير لتمتد في الواقع التطبيقي نحو كافة مواقع المجتمع وأركانه، خصوصاً مع حاجة الناس الحيوية للحرية كأساس لأيِّ فعلٍ وحضورٍ ومشاركة وفعاليّة بشرية.. وفكرة أو قيمة الحرية (التي هي جوهر العملية الديمقراطية) لا علاقة لها بالعلمانية، وليستِ العلمنة شرطاً لها، وهي (أي العلمانية) جاءت كما قلنا نتيجة لصراع خَاضَه البشر مع سلطات الكهنوت الديني في مضمونه الكنسي الأكليروسي الذي كان سائداً زمن القرون الوسطى في الغرب، حيث تمفصلت الكنيسة وقتها مع الملوك والإقطاع وكبار الملاكين ليشكلوا كتلةَ قوية للسلطة والحكم الاستبدادي والهيمنة الخاصة والعامة..

والذي يدفعنا أكثر لتقرير أن الدولة الديموقراطية المدنية ليست مشروطة بالعلمنة هو أن الديمقراطية مجرد آليات إجرائية تنظيمية للواقع السياسي، وليست عقيدة أيديولوجية أو حالة حزبية سياسية، بإمكان أصحاب الديانات والرؤى المتباينة تبنّيها، فهي لم تعدْ غصناً للجذر العلماني، وإنما أصبحت ثروة إنسانية، ومفصلاً فكرياً مهماً في التراث الإنساني..

..حتى أنه في الغرب ذاته -الذي ترعرعت ونشأت فيه أفكار الربط العضوي بين الديمقراطية والعلمانية- ظهرت دراساتٌ كثيرة تحاول إثبات بل وتبرهن على عملية عدم الربط بين الفكرتين، وعلى حدوث الانفكاك النظري القيمي التاريخي، في وقت كنا نرى فيه مفكرين وسياسيين عرب يتبنون فكرة الارتباط وينظّرون لها ويدافعون عنها، ويتوسلون أدوات القوة والعنف لفرضها قسرياً في البيئة العربية دونما أدنى معرفة فكرية وفلسفية حقيقية لخلفيتها وبيئتها التي أنتجتها..

والانفكاك ظهرَ أساساً في سيرورات الفعل التاريخي إبان حدوث الثورات التغييرية في الغرب، حيث أنه (وعلى الرغم من عدم كون الديانة المسيحية ديانة بخلفية سياسية، تبنت فكرة الانفصال بين الدنيوي والديني)، لاحظنا أن أفكارها الفلسفية والأخلاقية أثّرت تأثيراً مباشراً في سلوكيات كثيرين ممن حَمَلوا لواء الديمقراطية وأسهموا في مختلف آليات تطور الفكر الديمقراطي في الغرب الحديث..

والمعروف أنَّ كثيراً من الثورات والانتفاضات الشَّعبية التي جرتْ في الغربِ، والتي ناضلَ فيها الناسُ للوصول إلى مناخ الديمقراطية والاعتراف بحقوقهم الإنسانية، وعلى رأسها قيم العدل والكرامة والحرية، كانَ الدينُ فيها حاضراً في نداءات الثوار وفي مسالكهم وأعمالهم، ونداءاتهم ودعواتهم للتمرد على الطغاة والمستبدين والحكام الظالمين، حتى أنّ الثوارَ الأميركيين كانوا يرون (ويعتقدون ضمناً) أنَّ التّمردَ على الطغاة طاعةٌ لله، وكيف أنَّ الدين -قبل الثورة وبعدها- وفّر المبادئ الأخلاقية والسياسية للثوار، وصاغ الأمة الأميركية الجديدة.. فلا عجب أن ينص إعلان الاستقلال الأميركي -في صدره- على أنّ الحقوق الإنسانية الطبيعية "منحة إلهية"، بدلاً من وصفها بأنها "حقوق طبيعية" على ما هو شائع في الفلسفة السياسية الأوروبية، بحسب ما رآه المفكر توماس كيد (أحد أهم دارسي الفكر والتاريخ السياسي الأمريكي) في كتابه "رب الحرية: تاريخ ديني للثورة الأميركية"..

واليوم تتواجدُ في الغرب كثيرٌ من الحركات والأحزاب الدينية التي لها أطر وهياكل ومؤسسات ديمقراطية واضحة من القمة إلى القاعدة في داخلها، وفي ممارسة السلطة خارج إطارها، فهناك مثلاً الحزب المسيحي الديمقراطي الألماني، وهناك الحزب المسيحي الديمقراطي الإيطالي، بل هناك أيضاً حزب "شاس" وهو حزب تلمودي متطرف في الكيان الصهيوني، وهذا كله يعني أن المرجعية الدينية تتحمل الديمقراطية، وأن الديمقراطية والدولة المدنية ليست مرهونة لتحقق العلمانية، وإلا ما كان لهذه الأحزاب وجود في أي بلد غربي أو غير غربي.. بالتالي، فإن بإمكان السياسي المتدين أن يكون ديمقراطياً، دون أن يكون علمانياً.. وإذا كانت الفضاءات السياسية الغربية قبلت نشوء أحزاب على أسس دينية مسيحية أو يهودية، فلماذا بقيت السياسة الرسمية العربية رافضة لفكرة قيام ونشوء أحزاب سياسية على أسس دينية خاصة مع قناعتها بالعمل التعددي الديمقراطي، وإيمانها بها تحت سقف القانون والنظام العام، والالتزام بدولة المواطنة.. خصوصاً وأن الديمقراطية لا تشكّل إطاراً عقائدياً، بل هي –كما قلنا- مجرد آليات تنظيمية سياسية محايدة لا دين لها ولا مذهب ولا طائفة، وفي وسع أصحاب مختلف الأديان والمذاهب أنْ يتبنوها وينبذوا سياسات القمع والإقصاء من خلالها؟!!..

إننا نعتقد أن الإسلام الذي كانت قيمة العدل (ومبدأ الحرية الإنسانية) في صلب دعوته العقيدية، قابلٌ لاستيعاب كافة تجارب وحركات ومواقع الأمة الداعية لهذه القيمة-المبدأ.. وقد فعلها سابقاً في التاريخ..

نعم، إن هذا التلاحم العضوي بين الدين والحرية قائم وموجود أيضاً في بِنية الإسلام نفسه، وهو الذي كان وراء تفجّر كل الثورات والانتفاضات الاستقلالية الوطنية التي اندلعت في بلداننا العربية والإسلامية طلباً للتّحرر والانعتاق من ربقة المستعمر الخارجي (وحتى المستعمر الداخلي المستبد) في كثير من مفاصل حركة التاريخ العربي والإسلامي قديماً وحديثاً، حيث تحوّل الدين (الإسلام) إلى أكبر ملهم وأعظم دافع وحافز لقضية الحرية وغيرها من الحقوق الإنسانية، وكان منارةً للاستهداء والمعنى القيمي والواقعي..

وهذا يؤكِّدُ -بطبيعة الحال- أنَّ الإسلام لم يكن يعاني من عقدة الانفصال بين عقيدته وفكره القيمي وبين واقع الناس وتطلعاتهم وتطوراتهم الذاتية والموضوعية، وأنه كانَ فكراً إنسانياً تسامحياً منفتحاً على الحياة والعصر والإنسان، وقابلاً لاحتواءِ وتقبل (وهضم) لكل ما هو جديد إنساني متطابق مع مصلحة الناس ونفعهم وفائدتهم، بلا مقدمات عقيدية معقدة ومعيقة لحركة التطور التاريخي البشري، ويدلّ أكثر على مدى أريحية (وسهولة) تسييل هذا الفكر في حركة الواقع البشري المعاش، خدمة للإنسان والإنسانية جمعاء.. وفي سوريا (ملتقى القوافل والتجارة وممر الثقافات والحضارات) يهيمن هذا النمط أو المعنى القيمي العملي من الإسلام الحضاري التعددي الذي يقبل الآخر (المختلف)، خاصة في الشام.. حيث التلاقح الحضاري البشري بين مختلف التكوينات والأديان والثقافات.. وهذا الإسلام رافض في ذاتيته وبِنيته العقدية للتعصب والإقصاء وحتى للتحزب الديني، لأنه إسلام صوفي تسامحي تشاركي يقبل الآخر كما هو، لأن الآخر عنده نظيره الإنساني في الخلق..

إنّنا نعتقد أن نشوءَ عقدة وعقيدة الانفصال، حدثت وتعمّقت في الغرب كما قلنا، مع أنه جرت هناك عملية المصالحة التاريخية الكبرى بين الدين والعلمنة، رغم ما كان بينهما من صراعات تاريخية مكلفة، وذلك بعدما سرت روح الإصلاح التنويري في الفكر الكنسي البروتستانتي تحديداً، مع تخفّف الكنيسة من عقلية الهيمنة الكلية وروحية الكهنوت البابوي والوصاية على ضمائر الناس ونواياها الداخلية، وهذا ما لاحظه هيغل في كتابه "العقل في التاريخ"، حيث اعتبر أنّ "الكنيسة البروتستانية كانت ترى أن الحياة كلها –أي نشاطها بصفة عامة- هي مجال العمل الديني"..

وفي مجالنا التاريخي العربي والإسلامي لم يحدث ذلك الفصل بين الدين والحياة ولا بين الدين والدولة، فالإسلام عقيدة وفكر إنساني يدعو لإقامة أسس ومواقع العدل في الحياة كافة، والسياسة عنده وعند كل تجارب الأفكار والنظريات، تدعو لتحقيق قيمة العدل في الحياة كافة..

هنا: نحن نحتاج -وهذا ما فشلت فيه وعجزت عنه الدولة التحديثية العربية منذ عهود الاستقلال الشكلي عن المستعمر الخارجي- إلى بناء وتأسيس أو مأسسة صيغة مجتمعية سياسية مدنية يرضى عنها الناس، ويتوافق عليها المجتمع (لا أن تفرض قسراً من علٍ)، تهيئ الأجواء وترعى وتحفظ وتوفر أرضية حرة لقناعات الجميع ولأفكار وتقاليد الجميع لكي يعبروا عنها بصورة سلمية حضارية مدنية في الهواء الطلق ودونما تضييق أو كبت أو خوف..

وهذا المناخ أو تلك الصيغة التي تمكّن العقل البشري من الوصول اليها ومأسستها قانونياً وحقوقياً ودستورياً، هي صيغة الدولة المدنية الديمقراطية غير المشروطة بفكرة وعقيدة العلمانية، الدولة المدنية المؤسسية (أسميها دولة الحقوق والخدمات والرفاه).. بحيث تكون حيادية تجاه الأديان والأيديولوجيات كافة.. لتكونَ أيديولوجيتها الوحيدة هي خدمة الناس والصالح العام، وتأمين وجود حي وفعال ومنتج وحياة رغيدة هانئة للأفراد والمجتمعات بصرف النظر عن خلفياتها العقدية والسياسية والأقوامية والاتنية وغيرها.. هي فحسب دولة الحقّ والحرية..

***

نبيل علي صالح - باحث وكاتب سوري

 

المراهق في التربية الحديثة

فترة المراهقة من الفترات الحساسة والمهمة جدا في حياة الفرد، وتمثل مرحلة انتقالية بين الطفولة والشباب.

عندما يلج الفتى أو الفتاة مرحلة المراهقة فإن مسؤولية العائلة التربوية تتضاعف وتتركز أكثر.

تبدأ مرحلة المراهقة من سن الرابع عشر حتى سن العشرين لدى الفتى، ومن سن الثاني عشر إلى الثامن عشر لدى الفتاة- حسب البيئات-؛ فبعضها فيها يكون البلوغ مبكرا خاصة في وقتنا الحاضر، والمراهقة بدأت تزحف على الطفولة، ويتبع هذا المناخ، والغذاء، واللباس، والأفرشة، والتلوث البيئي، وأمواج الإنترنيت، والعواصف الشمسية، ومشاهدة أفلام غير مناسبة لسن ما قبل المراهقة، وكلها تلعب دورا كبيرا في تسريع البلوغ لدى الذكور والإناث.

في هذه المرحلة تحدث تغييرات في جسد الفتى المراهق، والفتاة المراهقة بسبب تدفق الهرمونات في أجسامهم. ينمو جسديا حيث تنضج أعضاؤه التناسلية. وعقليا حيث تتسع مداركه وخبراته؛ فيكون أكثر ذكاء وأسرع في التعلم، وينمو عنده الإدراك وتتسع مخيلته. واجتماعيا حيث تنشأ لديه علاقات اجتماعية يكتسب منها الخبرات، ويتحمل المسؤوليات، وتكون لديه القيم المعنوية عالية ونقية من خلال المواقف والتجارب التي تعترضه.

إدراك وفهم مرحلة المراهقة يتبع وعي الأبوين. علاقة الأهل بالمراهق تكمن بشكل أساس بالتعرّف على شخصه، ومعالم التغيير التي تطرأ عليه في هذه الفترة الحساسة. ويكمن وعي الأم بمثاليتها، وقدرتها على تدوير ذكائها العاطفي الأمومي بالتعاطي مع ابنها المراهق، وابنتها المراهقة وإدارة دفة العلاقة معهما بعمق المحبة والاحتضان، وواقعية الأب بمحبة، واحترام، واهتمام، وحنكة، وحكمة، وحلم في بناء علاقة منفتحة ومرنة مع المراهق أو المراهقة، والحديث معه، ومصارحته بكل ما يعتريه من مشاكل ومعاناة وعقبات، ومعرفة تصوراته، وآرائه، وطموحاته.

في التربية الحديثة يكون كل من الأبوين مستمعا جيدا، ومصغيا لابنه، يستوعب أفكاره وآراءه دون معارضة، أو مشاكسة، أو إقصاء الرأي، يحاور ابنه باحترام، ويسدي له نصائحه دون تسلط، أو استبداد، ويحسن الثقة به، ويوليه أهمية كبيرة، ويؤثره على نفسه، ويصاحبه في بعض مشاويره الاجتماعية ومسؤولياته خارج المنزل، ومنحه الحرية داخل المنزل، واحترامه، وتقديره، وعدم مساس مشاعره بالألفاظ الفضة.

الصراحة مع المراهق في هذه المرحلة مهمة لحمايته من أخطار المحيط والمجتمع الخارجي دون تسلط. يحاول الآباء في هذه المرحلة من فرض السيطرة على الابن المراهق خاصة الذكور، فالإناث تجتاز فترة المراهقة بهدوء دون مشاكسة لأن البنت بطبيعتها هادئة مسالمة. ومن جدير القول أن تخطّي فترة المراهقة بالنسبة للفتاة أسهل من الفتى، والفتاة دوما بجنب أمها وهي تحرص على ابنتها، والفتى يتميز بالخشونة والعناد والتهور.

علاقة الأهل المتينة مع المراهق تعتبر صمام الأمان له من الوقوع في الأخطاء الجسيمة والانزلاق مع الشلة السيئة. المراهق يولي اهتماما كبيرا للأصدقاء أكثر من الأهل، وهذا ما يثير قلق الأهل خوفا عليه من مخاطر الشلة. ويحذر الأهل من انضمام أبنائهم إلى بعض الجمعيات السرية التي قد يكون لها أثر سلبي على المراهقين كون أعضاؤها فاشلين تربويا واجتماعيا، وقد ينغمس أفرادها في سلوك غير صحيح اجتماعيا، أو جنوحي سيما إذا كان زعيم الجماعة من النوع الضعيف غير الناضج، أو السلبي السيئ الذي يدفع أعضاء المجموعة إلى ارتكاب جرائم العنف والشر والسوء التي تسبب خطرا كبيرا على المجتمع[1]،"ويكون استقطاب الأطفال في مجموعات بمثابة الشلة أو الصحبة أو الرفقة، يكوّنون معا قواعد سلوكية لهم، وتكون لهم مصطلحاتهم وثقافتهم الفرعية، ويدين الأطفال فيها بالولاء للجماعة، ويصبح انتماؤهم لبعضهم أهم أحيانا من انتمائهم لأسرهم"[2]؛ فهو بحاجة للشلة ظنا منه أنه يحقق ذاته من خلالها، حيث يقتفي أثرها في كل سلوكياته. ويكون معطاء في العلاقات خاصة إذا كان قد نشأ في عائلة معطاء كريمة، يقلد أهله، ويعطي، ويقدم، ويبالغ بالعطاء لهم، وينجر العطاء إلى العلاقة العاطفية مع الجنس المختلف، فيعطي فيها ويضحي بنفسه من أجلها بكل غال، وأحيانا يتلقى الصدمات العاطفية الحادة بسبب عطائه المادي والمعنوي؛ لذلك يميل المراهق للانتماء إلى جماعات تضم أفراد الجنس الواحد، وتتميز بالتجانس بين أعضائها في المستوى العقلي والتربوي ويكونون حريصين في اختيار زعيم الجماعة أو قائدها، حتى تتحقق أهداف الجماعة. والصداقات التي تعقد في المدارس الثانوية والجامعة لها أهمية كبيرة؛ لأنها تساعد الشباب في الحصول على الطمأنينة واستكمال نموهم الانفعالي الإيجابي المفيد. الانضمام إلى الجماعة ضمن فريق عمل هدفه تنمية الروح الجماعية، والقدرة على التكيف، وتعلم حسن التعامل مع الناس. يقول أحد الشباب:

كان أبي مدربا لفريق كرة القدم في مدينتنا وكان يهتم بتربيتنا بطريقة مدهشة، وكان يؤكد باستمرار على أهمية(الإنجاز الجماعي)، ويبدو أن طبيعة عمله جعلته هكذا، وكان في الحقيقة قدوة حسنة لنا في هذا الأمر وغيره، ويؤكد على معاني حسن الاستماع لوجهات نظر الآخرين، وفهم طبيعة العمل الذي يشترك فيه أعضاء الفريق، حتى لا ينشب الصراع بينهم، وفهم الخلفية النفسية والفكرية لأعضاء الفريق، فقد يميل بعض الناس إلى التشاؤم أو التفاؤل المفرط، أو شدة الحساسية للتدخل في خصوصية الغير، فكل هذا يؤدي إلى تشتت وتنازع فريق العمل والروح الجماعية التي يتحلى بها، والاعتراف بالخطأ. تنمية الروح الجماعية هو مطلب إصلاحي وحضاري ومهني[3].

يتحتّم على الأهل تعليم الابن تقدير نفسه من غير مقارنة بغيره من الناس، وإن تقدير الآخرين المفرط الذي يبالغ في تقييم الناس الحقيقي هو ضرب من الغرور، ويجب أن يكون الشاب متيقظ الضمير ولا يسعى لحب الظهور، بل أن يسعى ليكون هو ذاته من غير تصنّع، وينبغي أن يكون قنوعا إزاء الظروف الخارجية، وصبورا في العمل كما يقول المثل "تحمل وامتنع، وأن يكون متزنا في تحصيل اللذات، فعندما يكون الشاب صبورا في صعوبة الحصول على اللذات فسيكون عضوا مفيدا للجماعة ويتخلص من الضجر[4].

ما يؤرق الأهل هو كيفية حماية المراهق والمراهقة من المخاطر المحيطة خاصة خارج محيط الأسرة، وهنا يبرز دور الأهل الحقيقي المسؤول.

لحماية المراهق من الأخطار يسعى الأهل إلى توفير الأمن الشخصي له عبر أشكال الحماية؛ منها، معرفة الأماكن التي يرتادها، وتعليمه الرياضات المختلفة للدفاع عن نفسه، وتعليمه فن حماية نفسه من التنمر المجتمعي كأن يصدر من الأصدقاء، أو المعلمين، أو الجيران، أو أي إنسان آخر. والتنمر قد يكون بأشكال متعددة كالاستهزاء بشكله، أو لباسه، أو عشيرته، أو منطقته، وهنا يسعى الأهل لأن يسدوا النصيحة له بضرورة إخبار المرشد الاجتماعي، أو التربوي، أو إدارة المدرسة، أو إخبار الجيران، أو أي شخص آخر كان قد تنمر عليه وتلقينه درسا لن ينساه.

والنقطة الأهم اليوم هي حماية المراهق من مخاطر الانترنيت، ويمكن التأكيد هنا على أن الأسر الواعية تجد أن أفضل طريقة لحماية الأبناء من خطر الانترنيت هي كتابة وثيقة تعهد بين الأهل والأبناء تنص موادها على الالتزام بشروط وآداب الاستخدام؛ منها عدم إرسال صورهم عبر الانترنيت للأصدقاء أو أي أحد كان، الحذر من أي عمل فيه مال، وعدم فتح كاميرا الجهاز الذكي، وعدم إعطاء معلومات شخصية عنهم وعن أهليهم، وعدم فتح بريد الكتروني دون معرفة الأهل، واستخدام أسماء مستعارة، ولا يفصحون عن أسمائهم الحقيقية، كذلك وضع الأجهزة في صالة المنزل باعتبارها مكانا عاما للعائلة. ويتوجب على الأهل التعرف على أصدقاء الابن ومجالستهم واختيار الرفاق الجيدين والمتفوقين الذين ينحدرون من أسر محترمة أصيلة فالشلة لها دور كبير في شخصية المراهق، وقد تؤدي مرافقتهم إلى الإخفاق في الأداء المدرسي، أو إدمان التدخين أو المواد المخدرة، وغيرها.[5]

هذه التوجيهات عامة لا تخص الابن المراهق فقط انما البنت المراهقة كذلك. وبالنسبة للفتاة المراهقة فإن على الأهل أيضا أن يمنحوها الثقة الكاملة، وإذا منحت الثقة فإنها لا تخون الأهل مطلقا، خاصة هي قد تلقت تربية متينة مبنية على أسس سليمة من القيم والاعتبارات والأخلاق الفاضلة وأهمها المحبة المشبعة. في هذا الزمان من المفضل أن تكون البنت مع مجموعة الصديقات الموثوق بهن وصحبتهن في المدرسة وخارجها، والذهاب معهن إلى المدرسة والعودة بالوقت المحدد. وعلى الأم أن تتعرف على صديقات ابنتها، وتختار هي لها الصديقة السوية من غيرها.

العلاقة المرنة والمتينة بين الأب وابنه المراهق، أو الأم وابنتها المراهقة تجعل الأبناء صادقين، صريحين، منفتحين، محاورين، يكتشفون ذواتهم بإيجابياتها وسلبياتها، وعلى الأهل التشجيع على الإيجابيات وطمس السلبيات بتوضيح انعكاسها على المراهق نفسه، وعلى أهله والمجتمع العام، من قبيل الصفات الذميمة كالكذب، أو رفع الصوت، والانفعال أثناء الحديث مع الآباء، أو اللامبالاة للأهل وعدم تلبية أوامرهم، أو عدم الرغبة في إكمال مشروعهم الدراسي. "دلت دراسة حديثة أجريت على اثني عشر ألف مراهق على أن العامل الأكثر أهمية وتأثيرا في رفاهية المراهقين وفي إحساسهم بالسعادة هو جودة علاقاتهم بآبائهم بغض النظر عن نوعية الأسرة التي ينتمون إليها كما أظهرت بعض البحوث أن المراهقين الذين يتمتعون بعلاقات قوية مع آبائهم يقل احتمال تورطهم في مشكلات خطيرة"[6].

وهنا ينبغي التأكيد على ضرورة وجود الأبوين معا في مكان واحد في فترة المراهقة، والواجب على الأبوين تهيئة الجو الأسري المناسب الذي يحقق الأمان له لما لوجودهم معا من أهمية قصوى، حتى لا يتمرد المراهق على أي منهما، ويسلك دروبا قد تؤدي إلى عواقب وخيمة عليه مستقبلا.

العلاقة العاطفية بين الجنسين، والفراغ، والمهنة أهم مشكلات المراهق[7].

المشكلة العاطفية لدى المراهق تُحل عند الأسرة الواعية بتشجيعه على الانخراط في ممارسة هواياته في أندية الشباب الرياضية، وتعلم مختلف الفنون والمهن، وتعلّم اللغات عبر الانخراط في معاهد ذات الاهتمام الهادف، وفي هذه الحالة تُمتص طاقة الشاب الجسدية، أو تنخفض كثيرا.  ترشيد العلاقة بين الجنسين في زماننا الحاضر الذي تتعدد فيه المغريات والمثيرات والاختيارات التي لا حصر لها مهم جدا، وتقع على عاتق الأسرة والمدرسة والمجتمع والدولة. وينبغي على العائلة والمدرسة من توجيه المراهقين والمراهقات توجيها سليما يقيهم الوقوع فيما لا تحمد عقباه من النتائج الوخيمة عن الاختلاط غير السليم بين الجنسين.

تكمن مشكلة الفراغ في الوقت الفائض عن وقت العمل، حيث أن المراهق يشغله التحصيل العلمي في الموسم الدراسي خاصة في المراحل الدراسية المتقدمة؛ لكن في أيام العطل، أو في بعض الأيام التي لا يكون فيها لديه شغل كثير؛ يكون الفراغ. وهنا تبرز عوامل مؤثرة في ملئه، ويتبع ذلك الأسرة التي يتربى فيها المراهق، ورغبات وميول الابن لممارسة نوع من الهوايات؛ فإذا كانت الأسرة ذات اهتمام ثقافي يمكن للأهل من إرشاد الابن وتوجيهه نحو ملء وقت فراغه بالمطالعة، أو الانخراط في دورات تعليم المهن الحرة، أو تعليم اللغات، أو الهوايات الأخرى كالرسم والموسيقى والتمثيل وغيرها الكثير، أو الانخراط في الأندية الرياضية لممارسة هواياته وإفراغ طاقاته، أو في الانضمام إلى الأندية الثقافية مع الأصدقاء الأسوياء، وتخطيط برامج مفيدة والقيام برحلات استجمام لمناطق سياحية. وقد يكون الانتماء للتيارات السياسية هو إحدى صور ملء الفراغ عند المراهق، وهذا ما ألفناه في مجتمعاتنا العربية التي نظّمت الفتيان والفتيات في سن المراهقة في الحركات السياسية. وفي الوقت الحاضر يمكن توجيه الشباب نحو دورات تعليم الحاسوب وبرمجته، والأجهزة الذكية الأخرى، وتعليم الاستفادة من الذكاء الاصطناعي.

أما بالنسبة لمشكلة المهنة فإن ما يحددها هو نحو التخصص العلمي الذي يختاره الابن. قد يحدث في بعض الأسر أن المراهق لا يرغب في إكمال مشروعه الدراسي، وفي الغالب يحدث هذا في الأسر ذات المستوى العلمي المتدني، أو الأسر التي تمارس العنف والقسوة على المراهق منذ طفولته، والتنمر عليه بمختلف الألفاظ الفضة المؤلمة لنفسه فهنا يتمرد، ويعاند الأهل، ويصر على ترك المدرسة انتقاما لنفسه وثأرا لها. أما في الأسر المتعلمة المثقفة فإنه يكمل مشواره الدراسي ويتفوق إلاّ في حالات استثنائية كالأسلوب التعليمي غير السليم في المدرسة، أو معاناة المراهق من مشاكل عاطفية أو اجتماعية أو اقتصادية أو غيرها. وقد تتدخل عوامل بيئية مؤثرة في اختيار الشاب لمهنة معينة في المستقبل متمثلة بالظروف المحيطة كتأثير الأبوين والمعلمين، والظروف الاقتصادية؛ وتأثير المجتمع، وتأثير التعليم. يتطلب اختيار المهنة للمراهق والمراهقة طبيعة المستوى المهني للآباء، فمهن الآباء متفاوتة تبعا لاستعداداتهم وقدراتهم الذاتية من تربية و ذكاء، فحينما يكون الآباء والأمهات متفوقين في مستواهم الثقافي والتربوي فإن النتيجة الطبيعية يكون الأبناء بنفس المستوى من التربية العالية والذكاء الذي يمكّنهم من امتهان مهنة آبائهم كأن يكونوا أطباء، أو مهندسين، أو مخترعين، أو محامين، أو أساتذة، أو علماء، فالمشاهير أغلبهم سليلو أسر ذات مهن رفيعة، أو أصحاب أعمال أكثر من نبوغهم من بيوت أربابها إما عمال عاديون أو فلاحون[8]، لكن هذا لا يعني شرطا للنبوغ والتفوق فلكل قاعدة شواذ، وقد تنتج البيئات المحرومة أبناء متفوقين ومبدعين كما تقدم ذكره.

الأبوان على الدوام يتدخلان في اختيار مهنة المستقبل للابن والبنت؛ وقد يكون في تدخلهما صالحا للابن أو غير صالح، لكن من غير الصحيح أن يختار الأب اختصاصا لابنه حتى لو كان يعارض رغبته، مثلا إذا كان الأب طبيبا، أو مهندسا فإنه لا يقبل لابنه غير مهنة الطب، أو الهندسة، بينما الابن يرغب أن يكون تدريسيا، أو محاميا أو غيرهما، وهنا ينشأ الصراع بين الأب وابنه، وإذا سلك الابن رغبة الأهل فإنه ربما يفشل أو يتعثر في مشواره. وإذا اختار الابن ميله نحو مهنة معينة يرغبها على الأهل في هذه الحالة توجيه النصح والمعونة له على اختيار مهنته بالطريقة المناسبة لمستوى مواهبه وقدراته الذاتية، لا معارضته.

للأسرة المثقفة أسلوبها الخاص في كيفية حل مشاكل المراهق، ويتمثل بالحكمة في تحليلها وحلها عبر الحوار الحر دون إثارة الانزعاج والتعنت اعتمادا على تقبل الاختلاف بينهم وبينه حينئذ يستمع المراهق لأبويه ويكون مطيعا لهما؛ "وطاعة الشاب المراهق متميزة عن طاعة الطفل لأنها مقرونة بقواعد الواجب، يعني فعل شيء من أجل الواجب، وفعل الواجب يعني الطاعة للعقل. والطفل لا يعي الواجب، لذا فمن الأفضل أن يُترك حتى يعيه الطفل عند استيفاء شروطه ويكبر ويدرك فكرة الواجب"[9].

وأفضل طريقة لمساعدة المراهق على التطور هو إشراكه باحترام في اجتماعات الأسرة الأسبوعية. وفسح المجال له لكي يعبر عما يختلجه من أفكار ومشاعر أو مشكلات أو انطباعات حول الأسرة. ومساعدته في حل المشكلات، فاجتماعات الأسرة تقوي نفسية الابن، وتجعله ودودا، قوي الثقة بنفسه، وتخلق فيه حالة التوازن النفسي، وتنمي فيه القدرة على التعاون، وتنمي شعور الانتماء لديه، وتنمي مهارات حل المشاكل، وتعلمه التعاون مع الأسرة بوضع الحلول الإيجابية لكل قضية حياتية. وينبغي تجنب المبالغة في الحوارات وكثرة الكلام، لأن قلة الكلام تساعد الابن على الإصغاء أكثر.

كلما كان المراهق قد تلقى تربية رصينة في أسرة واعية تسودها المحبة، والاحترام، والتضامن، وقوة الأواصر؛ فإن أبناءها المراهقين يجتازون مرحلة المراهقة بسلاسة وسهولة، وأثبتت هذه الحقيقة "دراسة أمريكية أجريت على أربعمائة ولد من سن رياض الأطفال وحتى سن الرابعة والعشرين- أن المراهقين في الأسر المتماسكة ذات الروابط القوية والأسر التي تسودها الشورى والاهتمام المتبادل هم الأقل شعورا بالضغوط وهم الأكثر إيجابية في النظرة إلى الحياة وشؤونها ومشكلاتها في حين كان الآخرون أكثر عرضة للاكتئاب والضغوط النفسية، وأكدت دراسة علمية أخرى أن 80% من مشكلات المراهقين في عالمنا العربي هي نتيجة مباشرة لمحاولة أولياء الأمور تسيير أولادهم بموجب آرائهم وعاداتهم وتقاليد مجتمعاتهم، حيث يتشكل عند الأبناء انطباع بأن آباءهم تقليديون وغرباء عن زمانهم، أو أنهم لا يهتمون بمعرفة مشكلات أولادهم، أو أنهم غير قادرين على فهمها أو حلها. الإقناع والحب ومحاولة التفهم تساعد على كسب الأبوين للمراهقين وإن الضغط والتوبيخ واستعجال الثمار والنتائج مما يباعد بينهما وبينهم ويجعل تأثرهم بتوجيهاتهما ضعيفا[10].

تبقى مرحلة الطفولة والمراهقة هما ما يحدد نمط شخصية الابن في فترة الشباب. مرحلتان تحملان إيجابيات وسلبيات كل منهما في حياته؛ فالصراعات التي يخوضها في الأسرة مع الأبوين والإخوان والعلاقات التي يسودها الشدّ والجذب؛ تُدخله في منافسة وصراع مع الإخوان والأتراب والأصدقاء، فيحب بعضهم، ويبغض الآخر، وينجذب إلى بعض، وينفر من الآخر، فتتراكم الخبرات التي تتكون من خلالها أنماط سلوكية قد يعي بعضها، وقد لا يعيها؛ وهي ما تحدد نمط العلاقات مع أصناف الناس في مستقبل الأيام.

من هنا تكون نتيجة البيئة والمجتمع التي تتكون فيهما شخصية الفرد في مرحلتي الطفولة والمراهقة في كلا المحيطين إما فرد متوازن ومنضبط السلوك، مفعم بالسلامة والراحة والأمل ومقبل على الحياة بكله كونه قد تلقى تربية صحية سليمة متوازنة في بيئة صحية سليمة، وإما فرد مضطرب غير سالم مثخن بالجراح النفسية كونه قد تربي في بيئة مريضة، غير سالمة سلوكيا ونفسيا وتربويا، من أب مستبد عنيف وقاس ومتسلط وعدواني، أو أم متسلطة ومستبدة وقاسية[11].

بعد هذا الاسترسال في موضوع تربية الطفل يمكن القول:

إن تربية الطفل في كل مراحلها ومختلف نواحيها تعتمد على التطبيق والعمل، أو ما يسميه الفيلسوف كانط (التربية العملية) التي تشتمل على (المهارة والفطنة والأخلاق)؛ فالمهارة يجب تطويرها وتنميتها حتى تتحول تدريجيا إلى عادة، وهي ضرورية جدا للموهبة، والموهبة تضع الطفل في موقع الإبداع والإنتاج المفيد، والفطنة يكتسبها الطفل من خلال فهم سِمات الآخرين والرصانة، واستخدام فن تنظيم السلوك الخارجي، وإخفاء غير اللائق- مثلا- إذا كانت لدى الفرد أخطاء شخصية فإنه لا ينبغي أن يمارسها أمام الآخرين وعليه إخفاؤها، لأنها لا تحظى بقبولهم، وليس معنى الإخفاء الخداع أو النفاق إنما هو لياقة اجتماعية، وعليه أن يكون شجاعا لكي يمارس طموحه ورغباته لكن برقابة داخلية صارمة لا يرفضها الآخرون، والأخلاق هي(تحمّل وامتنع)؛ وتعني لا يجب أن نخضع إلى أهوائنا بوجود الآخرين وأن نتحلى بالشجاعة ونروّض أنفسنا على التحمل، ومقاومة الأهواء والعادات والطلبات الخاصة، والعمل على أداء الواجبات المشتركة بينه وبين المجتمع العام[12].

بالتربية العملية يصل المربي إلى نقطة التوازن؛ فالاهتمام الكامل بالطفل في الحاضر يجعله متأهّبا للمستقبل؛ ف"تربية اليوم الحاضرة هي رصيد المستقبل القادم، فنحن نعد الجيل اليوم لمشكلات اليوم، وبإعدادنا هذا نكون قد حصّنّاه ضد مشكلات المستقبل، نحن نعطيه طريقة العمل والبحث وندله على أن يكتشف ويوازن ويختار ونسلحه بسلاح المعرفة العلمية التي يمكن أن يطبقها في المستقبل، ولكننا لا نعده لذلك المستقبل، لا نقولبه في قالب معين، ونرسم له طريقه في حياته المستقبلية، نحن نعطيه مفتاح حياة اليوم؛ ليستعمله أنى شاء في مستقبل حياته"[13].

المربي الواعي يستطيع تنمية بذور الخير في نفس الطفل في كل مبادئ التربية بنواحيها المتعددة؛ ف"التربية الجيدة هي بالضبط النبع الذي يتدفق منه كل خير في هذا العالم، إن البذور المخبأة في الإنسان تحتاج إلى أن تنمو دوما أكثر فأكثر"[14]، بالضبط مثل البذرة إذا ألقيت في أرض خصبة فيها كل متطلبات الإنبات الجيد فإنها تنبت وتعطي ثمارا يانعة، على عكس البذرة التي تلقى في أرض سبخاء فإنها إما تموت، أو تنبت هزيلة ضعيفة غير مثمرة(وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا)[15]  .

يقول عالم الاجتماع الأمريكي جون ديوي: "أعطني الطفل للتسع سنوات الأولى من عمره ثم لا يهمني من يأخذه بعدي".

براعة المربي الشجاع تكمن في توظيف أدوات التربية المذكورة من وعي وثقافة، وحوار بلغة الخطاب الأنيق، والرصيد التربوي المكتنز بالقيم الفاضلة، وتوظيف العامل الوراثي بالأسلوب الأسلم.

بالنتيجة كلما كان المربون في المجتمع واعين ومثقفين وأقوياء فإن الأبناء سيكونون أقوياء أسوياء، والمجتمع قويا، وواعيا، ومسؤولا، وسويا؛ سيما إذا عمّ الإجماع على الالتزام بالقيم المجتمعية الفاضلة، والحفاظ عليها، والتمسك بها، ورصّها فيما بين الأفراد التي تكوّن الأسر، والأسر بدورها تكوّن المجتمع. من ترعرع في ظل أسرة فيها سلامة نفسية فهو حسن الحظ، فالدلال والترف العاطفي اللذان تلقّاهما في ظل أسرته، ومجتمعه يمكّنانه من التصدي بقوة حينما يصطدم بالعالم الخارجي الذي يكتنفه الكثير من التحديات.

(يتبع)

***

إنتزال الجبوري - باحثة

...........................

[1] أنظر: عاقل، فاخر. مصدر متقدم، ص394.

[2] دوركايم، مصدر متقدم، ص364.

[3] بكار، عبد الكريم. ابن زمانه. بدون مكان النشر: 1435هـ- 2014م،  ص119-121.

[4] أنظر: كانط، مصدر متقدم، ص115-116.

[5] أنظر: بكار، مصدر متقدم، ص66-75.

[6] نفس المصدر، ص32.

[7] محمود، د. إبراهيم وجيه. المراهقة خصائصها ومشكلاتها. د.م: دار المعارف، 1981، ص73.

[8] أنظر: عاقل، فاخر، مصدر متقدم، ص268-269.

[9] أنظر: كانط، مصدر متقدم، ص91.

[10] أنظر: كانط، مصدر متقدم، ص91.

[11] أنظر: الحفني، عبد المنعم. مصدر متقدم، ص210-212.

[12] كانط. مصدر متقدم، ص96-97.

[13] ناصر، إبراهيم، وطريف، عامر. مدخل الى التربية. عمان: دار الفكر، ط1، 2009، ص111.

[14] نفس المصدر، ص32.

[15] الأعراف-58.

 

كيف تتغلب على الشعور بالكآبة مع بداية أسبوع العمل؟

مقدمة تعريفيه: عندما تنتهي إجازة الأسبوع ويتهيأ الموظف للذهاب إلى عمله أو المتعلم إلى جامعته أو مدرسته، ينتابه شعور بالضيق النفسي والقلق والإحباط واليأس مع قبيل الانتهاء من العطلة الأسبوعية والعودة للعمل أو الدراسة، وهي حالة شائعة يطلق عليها اسم "متلازمة الأحد" أو "قلق يوم الأحد".، وقد عرفت "سوزان ألبرز" متخصصة في علم النفس، لموقع "كليفلاند كلينيك " (Clevelandclinic) متلازمة الأحد بأنها " مشاعر تتسلط على الشخص أين كان موقعه وعمله يصيبه بالشعور بالتوتر والقلق والخوف بشكل متكرر قبيل الذهاب للعمل بليلة، وقد تستمر للمساء وربما تبدأ صباح اليوم الذي يستيقظ فيه للذهاب للعمل أو الدراسة. وهذه الحالات تتفاوت درجتها وشدتها وردود أفعالها والتأثير بها من شخص لآخر، ويعود ذلك لنمط شخصيته وقدرته على تخطي هذه التحديات، الشعور بالراحة والاستمتاع في الإجازة والعودة بعدها للعمل، مما يشغل ذهنه وتفكيره في المهام والأعمال والمسؤوليات المتراكمة والمؤجلة[1].

تعتبر متلازمة الأحد شكل من أشكال القلق الاستباقي. يحدث ذلك عندما نواجه مستويات متراكمة ومتزايدة من القلق بسبب التفكير الزائد في حدث أو موقف وتعظيمه والإنشغال في تأثيراته غير الواقعية عند حدوثه أو توقع حدوث تحديات مستقلبية، وتعتبر العودة بعد الإجازة أمراً مزعجاً ومريباً وضاغطاً ومثيراً.[2] . إن توقع المواقف الضاغطة والعصيبة. يجعلنا نتوجه للعمل مبكراً أو نتأخر عنه، فهذا القلق الذهني يصبح مرهقاً لنا أسبوعياً إن لم نواجهه ونضع لها الخطط العملية التي تقلل منه وتخفي آثاره.[3]

يبدو أن الأمر غير مريح عندما نعمل ما يقارب 40 ساعة أسبوعياً، نكد ونتعب ونتعرض للتحديات وتراكم الأعباء والمهمات في العمل وما يتخللها من صعوبات وإشكاليات في العمل الوظيفي على المستوى الشخصي والاجتماعي والمهني، أو يدرس أبناؤنا لمدة خمسة أيام، يبذلون جهوداً مضنية وكبيرة في مواصلة الدراسة والمراجعة والأستذكار اليومي ومتابعة الواجبات ويتعرضون لقلق الامتحانات وما يتمخض عنها من ضغوط وإحباطات بسببها، وما يتبعه من وجود تحديات للعلاقة بين الطلبة أنفسهم ما يواجهونه من تنمر ومشكلات قد تبدو معضلة، تهدد الكيان النفسي ويصابون بالرهاب الاجتماعي، مما تجعلهم يعتبرون العودة للدراسة وما يتبعها من علاقات مسمومة ومزعجة أمر مرهق لهم ومهدد، وتعتبر العودة لممارسة ذلك بعد راحة لمدة يومين من الإجازة الأسبوعية أو الإجازات السنوية شيء ثقيل ويحتاج إلى تعديل لهذا الفهم والوعي لطبيعة التعامل الإيجابي في العودة للعمل والدراسة بنفسية وشغف وروح متوهجة.

مشاعر مزعجة ومربكة

هناك أعراض يتعرض لها من يصاب بهذه المتلازمة، حيث تظهر على الشخص قلة النشاط وضعف في التحفيز، والصعوبة في بداية يوم العمل بروح وشغف، انخفاض الطاقة والحركة وشعوره بالإرهاق البدني والذهني والنفسي، قلة التركيز والمعاناة من التشتت وقلة الرغبة في الذهاب للعمل وكأنه مرغم عليه دون وجود دافعية للذهاب إليه، الغياب بعذر التمارض أو السهر نتيجة الأرق الذي عانى منه ليلته أو التأخير عن الدوام وصعوبة التبكير والذهاب في الموعد المحدد، الشعور العصبية والنرفزة وضعف التكيف والتوافق مع زملاء العمل والموظفين، والأرق وقلة النوم وذلك يعود للإنزعاج من الهم والقلق والتوترالذي يصيبه.[4]

مسببات وأسباب غياب التكيف

إن الدوافع والأسباب التي تحدث متلازمة الأحد أو قبيل نهاية أسبوع العمل ناتجة عن التفكير الزائد في العودة للعمل أو الدراسة، مما يتسبب في القلق والتوتر عند العديد من الموظفين والطلبة، فالتحول من إجازة وراحة واستجمام ونوم إلى الذهاب للعمل، مما يجعل الشخص يعاني من صعوبة في التكيف النفسي مع هذه الحالة وضعف في التوافق مع متطلبات العودة وأداء المهمات في العمل أو التعليم، الترهل والشعور بالإجهاد وقلة الطاقة الإيجابية التي تتسببها الراحة والإجازة، ضغوط العمل التي تراكم الكثير من الواجبات والمهمات من مشاريع وتعدد المسؤوليات وتراكمها، مما تحدث حالة وجدانية وانفعالية سلبية، ضعف التخطيط والأستعداد وغياب تنظيم وإدارة الوقت بشكل فعال يؤدي إلى تخبط وعشوائية ورهبة من المهمات القادمة، ضعف الشعور بالرضا عن الوظيفة أو التعلم، يجعل الذهاب للعمل بروح ضعيفة ونفس غير مطمئنة، وغياب التوافق الاجتماعي وضعف التواصل مع الزملاء وغياب العلاقات القوية والمتينة معهم يشعر الموظف بالوحدة والإنعزال عن محيطه.[5]

فعندما ترتبط الأعراض بالمسببات من السهولة ، وتبيان أثر ذلك على متلازمة الأحد التي تظهر أعراضها جلياً في حياة الأفراد والعاملين والطلبة، فهذه الأمور تتعلق بمشكلات شخصية للفرد من ضعف في القدرات والمؤهلات والمهارات التي يفتقدها، ستكون سبباً وجيهاً لمعاناته من القلق والتوتر وضعف القدرة على تحمل الضغوط الواقعة عليه، ناهيك عن غياب التخطيط وتنظيم الأوقات بشكل يجعله في فوضى وعشوائية وتراكم للأعباء والمهمات وعدم القدرة على إنهاء عمله في نهاية الأسبوع ستكون على حساب إجازاته وراحته، فتجعله أمام خيارين إما أن يستغني من الترفيه والاستمتاع بالإجازة وينهي عمله، وإما أن يترك كل شيء لبداية الأسبوع فتراه في حالة من التشويش والتفكير الزائد في الأعمال التي تنظره، فلا راحة لمن أشغل نفسه، ولا صفاء نفسي لمن ترك شغله، يتحول فيما بعد إلى شبح يهدد منامه وينغص عليه أوقاته ونومه واستقراره. بالإضافة إلى وجود مشكلات تتعلق بفقدان المهارات الشخصية في إدارة الذات وضعف بناء علاقات اجتماعية سوية تجعل العمل بالنسبة إليه مريح ويشعر به بالمتعة والتواصل الفعال مع أقرانه ونظرائه، وهذا بحد ذاته يهدد الكيان ويجعله في توتر وإحباط وياس. وأن ضعف الانتماء للمهنة وقلة الإنسجام واقعاً مؤلماً على شخصية الموظف في مهنته والطالب في تعليمه وتحصيله. كل هذه المعضلات تجعل الأسباب تتمخض عنها أعراض تظهر على طبيعة الفرد وتحتم على الفرد والقائمين في منظمته او مؤسسته أن يبحثوا عن الطرق والأساليب تعالج الأسباب وتببد هذه الأعراض وتنمي القدرة على التعامل مع هذه المتلازمة بوعي وادارك وبناء للمهارات والتوجهات الإيجابية.

مهمات وأدوار فاعلة

من السهولة بمكان أن نتعامل مع الممارسات التي تعالج هذه المتلازمة وتخفي آثارها ووجودها من خلال التخطيط الأسبوعي وتنظيم عادات إيجابية في التحضير للعمل والأستعداد المهني والدراسي واستكمال كل المهمات والأدوار التي يشغلها الموظف في عمله والطالب في دراسته وتعليمه، التفكير في قضاء الإجازات مع العائلة والأسرة والأصدقاء والترفيه والاستجمام والاستمتاع بالأوقات بأشياء مفيدة ونافعة وممتعة، تشيكل عادات إيجابية للنوم بشكل منظم وهادىء والشعور بالراحة وإعطاء قيمة للطاقة الإيجابي والنشاط المفعم بالقوة والروح النفسية الداعمة للتفكير المثمر والمفيد، من خلال تطوير ممارسات الإنشغال بالأفكار الداعمة والتي تدعم الروح الإيجابية والانتفاع بما هو مفيد والشعور بالرضا والاطمئنان والمزاج الهادىء واللطيف. الاستعداد ليوم الوظيفة أو الدراسة والترتيب والتنظيم المسبق من الليل للملابس والحذاء ومتطلبات وأدوات العمل والاحتياجات التي تتطلبها الأدوار والمسؤوليات التي يكلف بها الشخص. القيام بتمرينات خفيفة في العمل مع الزملاء أو بصورة منفردة في مكتبه قبل بداية الدوام أو صباحاً في بيته وهو مليء بالنشاط والطاقة، إضافة طقوس وعادات إيجابية يوم الدوام لجعلها متعة وتسلية من خلال مشاهدة فيديو تحفيزي، كتابة خاطرة أو بوست على مواقع التواصل الاجتماعي أو لوحة العمل، التواصل والتفاعل الاجتماعي مع زملاء المهنة أو الدراسة والتحدث والدردشة معهم وشرب القهوة واسترجاع الذكريات الجميلة من الإجازة الاسبوعية.[6]

ممارسة الاسترخاء والتأمل من خلال التنفس العميق، بحيث يجلس الشخص على كرسي أو سرير مريح ويغمض عينيه ويبدأ بالتنفس العميق ببطء، يستخدم الشهيق لمدة 4 ثوان، حبس الهواء ثانيتين، الزفير 8 ثوان أو عدات، ويكرر التمرين من 5- 7 مرات، ممارسة الأسترخاء العضلي وهو مغمض العينين من أعلى الرأس إلى أخمص القدمين ببطء، ومن ثم من أسفل إلى أعلى، بحيث يضغط على الجبهة ثم يرخها، العينين، الحاجبين، الفم، الحنك، رويداً رويداً إلى القدين وهكذا. ومن السهل بعد إغماض العينين وممارسة الاسترخاء التنفسي، ثم يبدأ يمارس الاسترخاء الـتأملي بحيث يتخيل نفسه وهو في جولة في الطبيعة أو البحر، يستمتع بهذ المناظر الخلابة لمدة 7-10 دقائق، ويحدث نفسه على إنتقاء وتفعيل الأفكار والمشاعر التي انتابته أثناء الاسترخاء وتفعيلها أثناء يومه وشغله، واسترجاع أفكار ومشاعر مريحة حدثت وربما سوف تحدث معه في عمله أو دراسته، يستطع أن يشعر بالراحة والاستقرار البدني والنفسي.[7]

التخطيط لعمل نشاطات وفعاليات لكسر الرتابة والشعور بالملل، وبناء الثقة بالنفس والشعور بالراحة والأطمئنان من خلال أشياء مسلية ومريحة تعطي روح ودفعة قوية للنفسية وتنشيط الجسم والذهنية العقلية، قضاء أوقات مع العائلية في متعة ونشاطات تتحدث عن أفضل الممارسات لشخصياتهم ومواقفهم في الحياة، والتذكير بأجمل وأفضل النتائج التي حصل عليها الشخص في عمله ودراسته، ممارسة رياضة المشي أو الجري برفقة أحد أفراد العائلة أو الأصدقاء، ولعب أشياء مسلية وممتعة تجلب المسرة والمتعة، الاستماع للقرآن الكريم او الأناشيد أو الموسيقى الهادفة المريحة، التخطيط لعمل عائلي قبيل إنتهاء الإجازة لمدة ساعة من المرح والفكاهة والتسلية، تناول الأفطار بنفس مرتاحة لديها الرغبة والشغف للذهاب للعمل في أجواء مريحة وإيجابية مع الأسرة، الخلود للنوم براحة دون الإنشغال بالتفكير السلبي، وطرد القلق والتوتر من خلال عدم مواصلة التفكير في الأفكار والمشاعر السلبية ، بل تبديلها بأفكار إيجابية ومشاعر لطيفة تجاه العمل والحياة التي نحياها.[8]

نافلة الأمر تحتاج منا إلى وعي بطبيعة المراحل والفترات التي نعيشها، ولا نجعل الهم يتسلل لنا مهما كانت ظروفنا ودرجتها وقوتها، بالتبصر والصبر والتحمل وعدم إشغال الفكر والتوجه نحو الهموم، نتمكن من الستفادة من الأجواء الروحانية الداعمة لنا سواء في قراءة الأدعية والأذكار والقرآن الكريم وأن الله عز وجل لطيف بنا يسدد خطانا ويبدد أوهامنا والظلام الذي يحيط بنا، بالإضافة إلى استخدام العد العكسي من 100- 0 قبيل النوم حتى لا نوسع دائرة القلق، بل نركز اهتمامنا على مهمات وأعمال تريحنا وتدخل البهجة والسرور لنا، مما يشغل الذهن والتركيز بهدوء دون الإنشغال بالقلق والتوتر في الذهاب للعمل. تأكيد الرغبة في الذهاب للعمل بنشاط وشغف وروح وثابة مفعمة بالإيجابية. " ويلاحظ أن النوم الهادىء المريح وتناول الطعام برفقة من ننسجم معهم ونودهم يحسن من الحالة المزاجية ومتلازمة الأحد التي ربما نعاني منها، ويخفف من القل والتوتر المصاحب لتلك الحالة التي تشغلنا وتثقل كاهلنا. والتركيز على بناء المهارات الشخصية والاجتماعية التي تبدد الضغوط في العمل وتمكن الشخص من مواجهة حياته وظروف عمله بصورة إيجابية، والقدرة على حل المشكلات، وتلق بالدعم والمساندة من القريبين والمحيطين والتعبير عن الرأي والمشاعر المزعجة والمهددة والضاغطة بوعي وتفهم.

أخيراً قد يسهم العلاج المتخصص المتعلق بالصدمات وقضايا التعلق وانعدام القيمة الذاتية التي تكمن وراء أمراض الصحة العقلية مثل اضطرابات القلق والقلق الاجتماعي والاكتئاب. باستخدام طرائق العلاج المعرفي والسلوكي، للمساهمة في التعرف على أنماط التفكير والشخصيات والمساهمة في المساعدة لتخطي المتلازمة والضغوط التي تصاحبها، وخلق بيئة تفكير ملائمة ومنظمة وصحة عقلية ونفسية تجعل الموظف في عمله والطالب في تعليمه قادراً على التأقلم والتكيف مع العمل والتهيء له بطريقة منظمة وملائمة ونفسية قادرة على التمتع بالطاقة الإيجابية والصحة العقلية في إثبات الذات وتحقيق النجاح في العمل والدراسة والشعور الرضا والسعادة.[9]

الخلاصة المفيدة

إن مواجهة متلازمة الأحد تتطلب وعياً وبناء لنمط الحياة وإيجابية التفاعل مع البيئة المحيطة والتفكير التخطيط المنظم، استثمار الإجازة بحكمة وفائدة، بناء عادات إيجابية، وتعزيز العلاقات وتعزيز طاقة التفاؤل والتحفيز للعمل والدراسة والنمو والتطور المستمر والمستدام...

***

د. أكرم عثمان - مستشار ومدرب دولي في التنمية البشرية

2025

..............................

[1] https://elhadeth.mr/node/24922

[2] https://www.lucidity.org.uk/calling-sunday-syndrome-sufferers

[3] https://www.headspace.com/articles/sunday-anxiety

[4] https://npistanbul.com/ar

[5] https://npistanbul.com/ar

[6] https://www.psychologytoday.com/intl/blog/lifetime-connections/201510/sunday-syndrome-mourning-the-weekend-that-got-away

[7] https://npistanbul.com/ar

[8] https://www.lucidity.org.uk/calling-sunday-syndrome-sufferers

[9] https://www.newportinstitute.com/resources/co-occurring-disorders/sunday-scaries

 

من أجل ترجمة نص من لغة إلى أخرى بدقة؛ يجب أن نأخذ بعين الاعتبار، السياق اللغوي؛ لأنه يجسد الدلالة الفعلية للغة، فإن الكلمة قد يكون لها أكثر من معنٍ، باختلاف بعض السياقات اللفظية التي تقع فيها أو باختلاف الظروف الخارجية المحيطة، وللعرب سبق في دراسة السياق ، لكن للغربيين الفضل في تحويل السياق إلى نظرية قابلة للتطبيق  على جميع انواع المعنى ووضعوا لها من المعايير والاجراءات مما جعلها تقف مع بقية النظريات التي عالجت المعنى بالتحليل والتفسير،  فمن المهم ان يكون المترجم على دراية بالسياق عند الترجمة حتى يتمكن من شرحها أو العثور على ما يعادلها الذي يكون له معنى في الثقافة المستهدفة، لان الترجمة تتجاوز الحدود اللسانية لتنفتح على أفق عالم معرفي عميق الغور، متشعب الابعاد متداخل الاختصاصات بحيث لا غنى في إطارها اللغوي وإذا لم يقم بذلك فإنه يخاطر بإنتاج ترجمة غير دقيقة. لان الترجمة أمر غاية في الحساسية، نظراً لصعوبة تحصيل المعنى الدقيق في خضم ورود نفس اللفظ  ضمن سياقات مختلفة وبمعاني مختلفة، ومن ثم احتمال الوقوع في مشكل تعدد الفهم، والانتقاء الخاطئ للمكافئ في اللغة الهدف أو المقابل الفضفاض غير الدقيق، وهو ما قد يوصل إلى ذهن المتلقي في اللغة الهدف معنى غير الذي ورد في النص الاصل، فضلا عن ذلك، فإن السياق الثقافي للغة الهدف قد يضفي على اللفظ  مجموعة من الدلالات والايحاءات ، وهذا ما قد لا يحمله اللفظ الاصل في اللغة المصدر،   مثال على ذلك في اللغة العربية الفعل( أَكَلَ) من خلال الدلالات القرآنية التي أوردها زكي حسام، في كتابه أصول تراثية في علم اللغة(ص72ـ73):

1ـ قال تعالى: (قالوا ما لهذا الرسول يأكلُ الطعامَ ويمشي في الأسواق) سورة الفرقان آية (7). أكل هنا بمعنى التغذية للإنسان.

2ـ وفي قوله تعالى: (أخاف أن يأكلهُ الذئبُ وأنتم عنه غافلون) سورة يوسف آية (13). بمعنى الافتراس للحيوان.

3ـ وفي قوله تعالى: (يا قوم هذه ناقةُ الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله) سورة هود آية(64). بمعنى الرعي للحيوان.

4ـ  وفي قوله تعالى: (ما دلهم على موته إلاّ دابةٌ تأكلُ من منسأته) سورة سبأ(آية14). بمعنى القرض للحيوان.

5ـ وفي قوله تعالى (أيحبُ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه)) سورة الحجرات(آية 112). بمعنى الغيبة للإنسان.

6ـ وفي قوله تعالى (إنّ الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً) سورة النساء(آية10). بمعنى الاختلاس للإنسان.

7ـ وفي قوله تعالى: (حينَ يأتينا بقربان تأكله النارُ) سورة آل عمران (آية 183). بمعنى الاحتراق للجماد.

وسنأخذ مثال آخر في اللغة الاسبانية؛ إذا ترجمنا نص من الاسبانية إلى العربية، فإنّ كلمة، لها معانٍ عديدة في بعض الاحيان تأتي بمعنى (دار او بيت)، مثال:(casa)

وتعني (الدار البيضاء)( casa Blanca)

وفي أحيان أُخرى تأتي بمعنى (الوطن)، مثال: وتعني (العراق وطني) Casa Iraq

لذلك على المترجم دراسة اللغة، انطلاقاً من دراسة علاقتها بالقضايا الاجتماعية؛ لأنّ دلالات اللغة تُحددّ من خلال استعمالها في المجتمع.

***

اعداد الاستاذ: ليلى مناتي محمود

جامعة بغداد ـ كلية اللغات 

تهزّ أوروبا أزمات دورية في علاقتها بمهاجريها العرب، متنقّلة من بلد إلى آخر ومتحوّلة من قضية إلى أخرى. وهي في الواقع أزمات نابعة من طغيان الخواء الثقافي، وتدنّي حضور المثقّفين العاملين وسط هذه الجموع المستوطنة، أو لنقل إشراكهم في تقييم الأمور وطرح حلول عملية لها. إذ ينبغي أن نقرَّ أنّ العنصر الثقافي وسط ملايين العرب المقيمين والمستوطنين في دول القارة، والبالغ عددهم زهاء العشرين مليونا، ضئيل وباهت، بفعل فتور التعويل على ذلك الجانب الرمزي أو الاستثمار فيه. فهناك دول قاحلة، بالمعنى الثقافي، في ما له صلة بالثقافة العربية، وهو ما انعكس ضبابية، وأحكاما مسبقة، وخوفا، وريبة، ونفورا، بين المكوَّنات الاجتماعية "الدخيلة" و"الأصيلة".

والسؤال كيف الخروج من أسْرِ التوتر الدوريّ في علاقة عرب أوروبا مع واقعهم الغربي؟ بادئ ذي بدء يبقى حلّ المشكلة بأيدي عرب أوروبا، أي هؤلاء المستوطنين والمقيمين في أحضان القارة، أكانوا ممن اندمجوا في سياق مجتمعاتها أو ممن هم في طور الاندماج. إذ ثمة مراجعات وتساؤلات حول هوية العرب الأوروبيين، ولا نقول العرب في أوروبا لأن الغلبة ستؤول للشقّ الأول، ينبغي تناولها بهدوء وواقعية. فالوعي الديناميكي بمفهوم العروبة، وحده القادر على مراعاة الغيرية، وطمأنة الآخر، وبثّ الثقة لديه. وهو الرهان الفاعل والحاسم، حتى لا تبقى الجموع المستوطنة في أوروبا عائمة. ولِيُحاصَر ذلك التنافر لصالح تآلف وتآنس حقيقيين. فليست أوروبا وحدها أمام هذا الاختبار الحضاري الإشكالي، في استيعاب "الدخيل" وهضمه، بل الجموع العربية أيضا هي طرفٌ رئيس في هذا التحدّي، لذلك كلاهما فاعل ومفعول به.

فما من شك أنّ هناك هشاشة ثقافية طاغية في أوساط الوافدين من العالم العربي نَحو أوروبا، جعلت التفاهم مع الغرب يوكَل أمره إلى الصمت والوجوم في معظم الأحيان، دون أخذ زمام المبادرة. وأخشى ما أخشاه على هؤلاء الوافدين من العالم العربي أن يتحوّلوا إلى كتلٍ صمّاء صامتة، بدون أثر، وبدون صخب، في مجتمعات تعجّ بالحركة.

إذ هناك ملايين متروكة سائبة وعرضة للنهش، من هنا وهناك، ولذلك نحن في أوروبا، عرب وغير عرب، ندفع ضريبة هذا الفراغ الثقافي الهائل والصمت المطبق في مجال الثقافة ذات الصلة بالمسلمين عامة. وما دام ليس هناك استثمار دائم في تلك الرساميل الرمزية والمعنوية، أو تعويل على أثرها، فيستمرّ تناقض تلك الملايين مع واقعها الأوروبي، وستبقى عرضة للتوترات الدورية والمتكررة. فالشراكة الثقافية التي يُفتَرض أن تقوم عليها العلاقات بين دول العالم العربي وأوروبا، عوّضتها خلافات سياسية، سرعان ما تُحوَّل إلى خلافات حضارية تُستدرَج إليها الجاليات العربية تغريرًا، فيغدو كيان العربي الأوروبي مسرحا لتصفيتها. إذ ثمة قابلية لدى عرب أوروبا للتوظيف الخارجي، جرّاء فقدان الاستقلالية مع بلدان المأتى، على مستوى المخيال السياسي وعلى مستوى المرجعية الدينية. وفي ظرفنا الراهن نعيش فتورا في الرهان على الإيلاف الثقافي والتآنس الحضاري بين المجتمعات الأوروبية وجملة من دول العالم العربي. وما من استراتيجية لبناء إيلاف ثقافيّ يستوعب هذا التوتر الحاصل والمتفجر بشكل دوريّ.

فأحيانا قضايا محدودة تُهوَّل وتُحوَّل إلى قضايا رأي عام، بعيدا عن حقيقتها الفعلية. وما نعيشه من قلاقل وتجاذب بين دول أوروبية ودول عربية هو أحد أوجه تلك التوترات الدورية. فليس هناك ازدراء عموميّ يستهدف العرب ولا مسّ من مخزونهم الروحي والقداسي على مستوى رسميّ؛ ولكن الناس هنا يتصرّفون على نحو مغاير لما دأب عليه المسلمون في البلدان العربية والإسلامية. فحتى المقدّس، في الغرب، قابل للنقد والدحض وحتى الطعن والنقض، وربما استغلاله ضمن الدراما والكوميديا أيضا، فالقوم لا يعرفون التنويه الدائم ولا الثناء الغامر. إنها صيرورة الحداثة الغربية التي لا تعرف الولاء اللامشروط، وهو ما لم يدرك كنهه كثير من العرب السذّج.

وتأكيدا للخواء الثقافي الذي صنّفناه عنصرا رئيسا في التوتر الحاصل نقول: أحيانا يجري الاستهلاك في البلاد العربية، وإلى درجة الابتذال، لأسماء ثقافية وعلمية عربية تقِيم في الغرب، وتُنسَج الروايات والأساطير عن قصص نجاحها بعد احتضانها وحسن وفادتها، ولا يُعار اهتمام لملايين سائبة لا تُعرف وقائعها ولا مصائرها. تغيب بالفعل من الأبحاث السوسيولوجية والسياسية ومن دراسات الهجرة ومن أحاديث الساسة، وهو ما يدعو للتساؤل: أين الاستغراب العربي؟ والحال أن ما يريده العرب في الغرب هو حديث صادق عن فشلهم وعن نجاحهم، عن حقوقهم وعن واجباتهم، بدون تهويل أو تبسيط، أو تقديس أو تدنيس. فمن يعرف أنّ ما يناهز مليوني عربي يقيمون على التراب الإيطالي، لا يصدر منهم ديوان شعر، ولا رواية، ولا كتاب، ولا قصيدة، ولا فيلم، ولا مسرحية إلا ما ندر؟ ولا يمتلكون صحيفة، ولا مجلة، ولا إذاعة، أو حتى موقع في الشبكة العنكبوتية، يلتفون حوله. مع أن هؤلاء يغدون ويروحون في بلد ديمقراطي مفتوح على الثقافة، ولا يعرف سلطة الرقيب، أو بيروقراطية التراخيص.

ولأنّنا نؤمن أن هناك أفُقا ثقافيا رحبا تلتقي فيه الثقافة الوافدة من البلدان العربية والثقافة الأوروبية، يحاول الطهريون من الجانبين تضييقه وزرع ألغام التوتر والصراعات فيه، فنحن مع أوروبا من أجل تعزيز مناعتها وترسيخ خياراتها على جميع الأصعدة، لأنّ قدرنا في هذه القارة وليس خارجها. وليس باسم جذور هوياتية واهية ينبغي أن نصنع تناقضا مع فضاء احتضننا، وبالتالي نحن أمام مشروع هائل في إعادة صنع هويتنا المهاجرة من جديد لتتلاءم مع واقع تعدديّ كوسموبوليتي. المشكلة أننا ما زلنا نستورد رموزنا ونماذجنا من وراء البحار، ونحاول استزراعها في تربة غير تربتها، وقد أضحت معايير أخرى تحكم واقعنا الغربي الذي بات يحتضننا.

***

د. عزالدّين عناية

أستاذ تونسي إيطالي بجامعة روما

 

تقول طبيبة إنها كانت تقرأ كتبًا تتحدث عن مشاهد عذاب القبر، تزعم هذه الكتب بأن القبر مملوء بالأفاعي والعقارب والعفاريت والنيران المتقدة، وأن الميت في الليلة الأولى لدفنه يجد نفسه مقيمًا بمعية هذه الكائنات المريعة المتوطنة في قبره إلى ساعة البعث والنشور، وهو لا يقوى على حماية روحه من عذابها المهول. حدثتني هذه السيدة عن حالات روع واضطراب وكوابيس سوداء تطاردها في نومها كلَّ ليلة، فهي بعد مدة قليلة من النوم تفرّ فزعة مرتعشة، ولو كانت متعبة جدًا. تلبث في فراشها ترتجف، وكأنها تشاهد جسدها ممددًا في القبر وتنهشه الأفاعي والعقارب، وهو منبوذ ذليل في قعر هذه الأهوال والنيران.

سألتها: كيف تمكنتِ من الخلاص؟ وكيف أضحت حالتك النفسية اليوم؟ أجابت: أنقذتُ نفسي حين تركت قراءةَ تلك الكتب، وانتقلت إلى قراءة كتب أرى صورةَ الله فيها بوصفه إلهًا للرحمة، كما يصف ذاته: "وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ"، الأعراف 156، وإلهًا للمحبة، كما يصرح لنا: "يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ"، المائدة، 54، وإلهًا هو: "نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ"، و"نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ"، النور، 35. قراءةُ هذا النوع من الكتب النورانية دعتني لإعادة قراءة القرآن الكريم بعينين مضيئتين، وجدت نفسي كأني أقرأه لأول مرة في حياتي، رأيت في هذه القراءة صورة كانت محجوبة عني، حجبتها كتبٌ رسمت في ذهني صورة كئيبة لله. حيت قرأت كتابه المجيد بعينين مضيئتين اكتشفت الحضور المبهج لأنواره الأبدية، وكثافة رحمته واتساعها وشمولها لكلِّ شيء. شهود الأنوار الإلهية حرّر قلبي من الهلع، ومكّنني من أن أرى تجليات جماله واشراقاته في الوجود، وشُفيت بهذه الرؤية للوجود من التشاؤم والفزع، وامتلأت روحي سكينة وقلبي طمأنينة، وتخلصت من الكوابيس المريعة في منامي، وصرت أنام لحظة أضع رأسي على الوسادة. أدركت أن صورة الله بوصفه إلهًا للرحمة والمحبة منبع سلام الذات وسكينتها، خلافًا لصورة الله المظلمة التي تثير الوجل والقلق والفزع في نفس الإنسان، وتنفّره من الله. صورة الله النورانية مبهجة، تتلهف القلوب إلى جمالها كتلهَّف المحبّ لرؤية محبوبه. الجميل لا يفزع منه أيُّ إنسان، الجميل لا يصدر عنه إلا ما هو جميل.

الخوف هو الأداة الشائعة لاستعباد الإنسان وإذلاله، الخوف يطفئ كلَّ ضوء في داخل الإنسان. بالتخويف والاكراه والقهر تستعبد السلطة السياسية الإنسان، ويخضع الإنسان طوعًا للسلطة الروحية. تفشّت القراءة التي تثير الخوف والهلع لبعض النصوص الدينية، وتضخمت صور ومشاهد العذاب والرعب في المتخيّل الديني بمرور الزمان، وغرقت المكتبة بكثير من الكتب المملؤة بمشاهد مريعة للعذاب. لم يخلق الله الإنسان ليجعله عدوه، ولم يخلقه ليخوض معركة معه، ولا بهدف التلذذ بأذاه والتنكيل به وتعذيبه. الإنسان كائن رفعه الله لمقام لا يرقى إليه موجود غيره، خلق الله الإنسانَ مكرمًا منذ ولادته، وأنزله بمقام وجودي لا يرقى إليه أي مخلوق آخر في الأرض وفي أي كوكب في الكون، ومقتضى التكريم الإلهي أن تنبثق صلة الله بالإنسان من المحبّة لا غير. كلمات الحُبّ الصادقة تداوي جروح الروح، جربت الحُبّ فرأيته أنجع دواء للقلوب والأرواح. صناعة الحُبّ أسمى غاية في حياة الإنسان، المعنى الذي يضفيه الحُبّ لا يضفيه أيُّ شيء في الحياة. حاجة الإنسان للحُبّ من أعذب هبات الله إليه، الحُبّ هو الحالة المبهجة الوحيدة التي لا بديل يكافؤها أبدًا، حتى الإيمان عندما يفتقر للحُبّ يصير حالة منطفئة بلا شعلة حيّة.

إن كانت "الطرقُ إلى الله بعدد أنفاس الخلائق"، كما هو مأثورٌ عند العرفاء، فإن أعذبَ هذه الطرق وأقصرها وأيسرها هو الطريقُ الذي ينبض فيه قلبُ الإنسان بحب الله. الحُبّ الإلهي ينقذ الإنسان أولًا والدين ثانيًا من الخوف والرعب والهلع، ويوقد النور ويبعث السلام في داخل الإنسان. محيي الدين بن عربي يجعل مقام المحبّة شريفًا، ويراها أصل الوجود، إذ يقول: "المحبّة مقامها شريف، وهي أصل الوجود"1. المحبّة هي الطاقة المحركة للموجودات، والجسر الوجودي الرابط بين الله وعباده. كلُّ موجود يسعى عبر الحُبّ للعودة إلى أصله، وأصل المخلوقات هو الله، كلما ازداد الإنسان حُبًّا ازداد من الله قربًا. يقول ابن عربي: "عَيْن محبّته لعباده عَيْن مبدأ كونهم، متقدميهم ومتأخريهم إلى ما لا نهاية له، ونسبة حُبّ الله لهم نسبة كينونته معهم أينما كانوا... فكما أنه لا أول لوجوده سبحانه، فلا أول لمحبّته عباده سبحانه، وذكر المحبّة يحدث عند المحبوب عند التعريف الإلهي لا نفس المحبّة، ومن وجه آخر إذا قلنا: إنّ للحُبّ الإلهي بدءًا، فبدؤه النفس الإلهيّ عن رؤية المحبوب، فصِف الحُبّ بما شئتَ من حادث وغيره، ليس الحُبّ سوى عين المحبّ، فما في الوجود إلا محبّ ومحبوب"2.‏

الايمان الناتج عن البرهان العقلي متخشب، لا تنبض الحياة بالإيمان إلا أن يكون صلة متدفقة تغذيها المحبّة. معرفة الله غير حُبّ الله، معرفة الله أعني بها الادراك العقلي وليس الشهود القلبي. حُبّ الله سير القلب وسفره إلى الله، في رحلة يسعى فيها القلب أن يصير مرآة تنعكس عليها الأنوار الإلهية. معرفة الله هي تدبر العقل وتأمله وتفكيره في خلق الله وآياته واعتقاده بوجوده. الفلاسفة واللاهوتيون المتكلمون يعرفوننا على أدلة وجود الله وصفاته، لكن لا يوصلنا إلى الله إلا البصيرة الروحية، ولا تتكشف البصيرة وتنجلي من دون حُبّ الله. لا يرتوي الظمأ الأنطولوجي بمعرفة الله، بل يرتوي هذا الظمأ بحُبّ الله ووصاله. مثلما لا يتكرّس الإيمان بمعرفة الله، بل يتكرس بحُبّ الله. سفينة السفر إلى الله هي حُبّ الله، لا معرفة الله بمعناها العقلي. حُبّ الله يجعل الدين دواء وشفاء للروح والقلب، بل لا يكون الدين دواء وشفاء إلا بحُبّ الله، ولا تكفي لذلك معرفة الله. القلب الذي خطت عليه أسرار الحُبّ الإلهي قلبٌ لا يكفّ عن إنشاد ترانيم حُبّ الله والإنسان والعالم.

خلق الله الإنسانَ وجعله محتاجًا لصلة وجودية به، وجود الإنسان هشّ فقير، لا يثري وجوده ويحرّره من اغترابه إلا الصلة الوجودية بالله المكتفي بذاته الغني عن العالمين. لا أظن هناك انسان يستغني عن الله، وإن تنكّر لذلك يحاول الارتباط بمطلق موهوم سواه. الجيل الجديد يريد أن يرى صورة بهيجة مضيئة لله، يفرح ويبتهج عندما يشهد أنوارها. لا جيل الآباء ولا الجيل الجديد ضدّ الله بوصفه نورًا، وإلهًا للرحمة والمحبة. تفشي اللادينية لدى الجيل الجديد نشأ من تسلط الصورة المظلمة الكئيبة لله التي رسمتها تفسيرات عنيفة، حجبت أنواره المشرقة في آيات القرآن عن هؤلاء الذي يقرأونه بعيون بعض المفسّرين، وحجبتها مواقفُ وممارسات رجال سلطة ينطقون باسم الله في أحاديثهم زورًا، وهم أبعد العباد عن الله. رجال ينفّرون العباد من الله في مواقفهم وسلوكهم، ويقطعون الطرق إليه.

الحُبّ والرحمة والحقّ والعدالة والسلام ضمانة أساسية لحضور الدين المؤثر الفاعل في الحياة الفردية والمجتمعية. كلُّ ديانة تحرص على إنتاج الحُبّ والرحمة وتسعى لتحقيق الحقّ والعدالة والسلام، وتعلنها بوصفها الهدفَ الذي تسعى لتحقيقه في الحياة، ويجسّده أتباعها في سلوكهم، تتلهّف القلوب للانتماء إليها، ويتأبّد حضورها في الحياة، وكلُّ ديانة تحرص على إنتاج الحرب والانشغال بصراعات السلطة والثروة، تنفر القلوبُ منها ومن أتباعها. ما يربحه كلُّ دين رسالتُه الحُبّ والرحمة والعدالة والسلام يخسره كلُّ دين رسالته الحرب والغلبة على السلطة، واكتناز المال والاستيلاء على الثروة، واستعباد الإنسان.

بعد نصف قرن من تعلّم وتعليم علوم الدين كثّفت كتاباتي على رسم صورة نورانية لله، في ضوء ما رسمها الله لذاته في آيات القرآن الصريحة. حاولت أن تكون كتاباتي رسائلَ إيمانٍ ومحبّة وتراحم ومعرفة، باقتباس صورته النورانية، والكتابة عنها بتنويعات يتكشف فيها شيءٌ من أبعادها في كتابه المجيد، والإشارة إلى تجلياتها الساطعة في الوجود. رأيت هذا النوع من الكتابات يوقظ صوت الله في الأرواح الكئيبة، ويسعف الضائعين في وديان التيه ليدلهم على الله، ويريهم إشراقاته الأبدية، ويمكّنهم من تذوق محبته وشهود أنواره. لا أعرف هدية أقدمها لأحد أثمن من المحبّة، ولا أتقن مهنة في الحياة أفضل من صناعة المحبّة. المحبّة دواء لكلِّ داء أخلاقي، المحُبّة بلسم يسعف القلوب الجريحة بأوجاع الحياة المريرة، ذلك ما انتهيت إليه بعد مخاضات مضنية وتجارب مؤذية بتجرع ما تضج به الحياة من شرور تنهش الأرواح.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

........................

محمود محمود الغراب "جمع وتأليف"، الحُبّ والمحبّة الإلهية: من كلام الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي، دمشق، مطبعة نضر، ط2، 1992، ص 13.

المرجع السابق، ص 17.

تاريخ الأدب السوفييتي مليء بالحوادث المأساوية والمحاولات المدهشة لتجاوز الحواجز الأيديولوجية. الرقابة المتزمتة أجبرت الكتاب على التفنن في استخدام الرموز والمعاني المبطنة. وأدى حظر نشر عدد كبير من الأعمال الأدبية الرائعة لأسباب أيديولوجية، إلى البحث عن طرق بديلة لنشر النصوص الأدبية سراً، على يد الكتّاب والمثقفين الروس المنشقين. هكذا ظهرت ساميزدات (النشر الذاتي السري) – إحدى أكبر وأهم الظواهر في الثقافة الروسية في القرن العشرين. كانت تلك النصوص مكتوبة بخط اليد، أو مطبوعة على الآلة الكاتبة وغير خاضعة للرقابة، ثمًّ تستنسخ وتوزع وتنتقل من يد إلى يد خارج سيطرة المؤلف، وقد حاول المواطنون السوفييت صنع آلآلات الكاتبة بأنفسهم تجنبا للمخاطر الأمنية، فقد كان على أصحاب الآلات الكاتبة تسجيلها لدى جهاز الأمن السري، وترك عينة مطبوعة لديه. عندما يعثر رجال الأمن على منشورات أو أدبيات مناهضة للسلطة، يمكنهم تحديد الآلة الكاتبة التي طُبعت عليها تلك المواد. مع تطور التكنولوجيا، بدأ استخدام آلات الاستنساخ من التصاميم المبكرة، وأجهزة التسجيل وغيرها، وخلال سنوات البريسترويكا، تم استخدام أجهزة الكمبيوتر أيضاً.

عشية انهيار النظام السوفييتي، عندما تم تخفيف القمع والاضطهاد والرقابة الرسمية على المطبوعات تدريجياً، أصبحت ساميزدات وسيلة بديلة تعمل بالتوازي مع المجلات الأدبية ودور النشر الحكومية.

يُعرّف الكاتب الروسي المنشق فلاديمير بوكوفسكي (1942-2019) هذا المصطلح باختصار في مذكراته: « أنا أقوم بتأليف نصوصي، وتحريرها، ورقابتها، ونشرها، وتوزيعها بنفسي، وأسجن بسبب ذلك». ويرى بوكوفسكي أن ساميزدات ظاهرة ثقافية ترتبط بدايتها بقصائد الشعراء المحظورين والمنسيين والمقموعين، التي لم تسمح الرقابة بنشرها في المجلات الأدبية ـ التي كانت كلها خاضعة لسيطرة الدولة. يثمن هذا الكاتب المنشق دور الآلة الكاتبة، التي حلت محل مكائن الطباعة، وأدت إلى شكل جديد من أشكال نشر النصوص، حتى إنه اقترح إقامة نصب تذكاري لها. فقد كانت «ساميزدات» الشكل الوحيد الممكن للتغلب على احتكار النظام السوفييتي لوسائل الإعلام ودور النشر والمطابع.

لم يكن الهدف الرئيسي لحركة الانشقاق هو محاربة النظام بقدر ما كان تجاهل أوامره وتعليماته. الانشقاق نموذج لسلوك شخص حر داخلياً، يعيش في مجتمع غير حر. أصبحت ساميزدات آلية لتحقيق واحدة من أهم الحريات المعترف بها من قبل المجتمع الدولي – حرية التعبير. لذلك، يسميها ناشطو حقوق الإنسان الأداة الرئيسية لحركة الانشقاق.

ثقافة مضادة

كانت ساميزدات لعدة عقود من التاريخ السوفييتي ثقافة مضادة، أي ظاهرة ثقافية ترفض قيم الثقافة الرسمية السائدة في البلاد. كما كانت أحد العناصر الأساسية في حياة المجتمع الذي لم يقبل الواقع السوفييتي. وبفضل ساميزدات أصبح من الممكن كتابة أفكار وآراء ووجهات نظر مستقلة حول قضايا الساعة، فضلاً عن النقد الاجتماعي والسياسي للنظام السوفييتي، ونشر الأدب الإيروتيكي، والدعاية الدينية، والتجارب الإبداعية لما بعد الحداثة. وكانت كل هذه تابوهات لدى الرقابة الرسمية المتزمتة، وفي الوقت نفسه كانت تقييداً لحرية الإبداع بهدف فرض الأساليب المقبولة للكتابة الفنية، وحظر كل ما يتعارض مع الأيديولوجية الرسمية.

لم تكن الأعمال الأدبية المنشورة في» ساميزدات» تعود إلى الكتاب الممنوعين من النشر فحسب، بل كذلك لأولئك الكتاب المعروفين الذين نشروا أعمالهم الأدبية من خلال المنابر الرسمية، ثم سحبت من المكتبات ومنعت من التداول مثل قصائد أوسيب ماندلشتام. وآنّا أخماتوفا، ومارينا تسفيتاييفا، وبوريس باسترناك، وجوزيف برودسكي، وروايات ميخائيل بولغاكوف وألكسندر سولجينيتسن.

نشر من خلال ساميزدات الكثير من الأعمال الأدبية للعديد من الكتاب المحظورين، الذين يعدّهم النقّاد اليوم من كبار الأدباء الكلاسيكيين في الأدب الروسي، ومن ذوي الشهرة العالمية.

دوريات ساميزدات

كانت لساميزدات دورياتها الخاصة. الأكثر شهرة في هذا المجال مجلة «سينتاكسيس» التي نشرها ألكسندر غينزبرغ بين عامي 1959-1960. غيرت «سينتاكسيس» الوضع الأدبي في روسيا بشكل جذري، وفتحت إمكانيات لم يكن من الممكن تصورها من قبل. أصدر غينزبرغ ثلاثة أعداد من مجلته التي أثارت ضجة داخل روسيا وخارجها، ما أدى إلى اعتقاله والحكم عليه بالسجن والنفي.

بحلول بداية الثمانينيات، كان هناك حوالي عشر مجلات ساميزداتية أدبية في لينينغراد من بينها مجلة «البريد الشمالي» المكرسة حصرياً للمشاكل النظرية والتطبيقية للغة الشعرية. وقد نشرت المجلة مواد عن تاريخ ونظرية الشعر الروسي في القرن العشرين، ومراجعات لمجموعات شعرية وقصائد الشعراء الشباب و»أيتام أخماتوفا» (وهم أربعة شعراء مقربون من الشاعرة آنا أخماتوفا في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات، وهم: جوزيف برودسكي، الذي فاز لاحقا بجائزة نوبل في الآداب عام 1987 وديمتري بوبيشيف وأناتولي نيمان وإيفجيني راين). وكانت أخماتوفا تقدر بشدة إبداعهم. صدرت ثمانية أعداد من هذه المجلة السرية الرائدة، ثمّ توقفت بعد ذلك بسبب الهجرة القسرية لرئيس تحريرها سيرغي ديديولين. في الوقت نفسه، ظهرت مجلة «ميتين» المؤيدة للغرب (تحرير دميتري فولتشيك)، وركزت على ثقافة ما بعد الحداثة. استمرت «ميتين» في الصدور حتى حقبة البريسترويكا. وتوجد اليوم مجلة علنية تحمل الاسم نفسه.

لم تقتصر ساميزدات على نشر الأدب المحظور، بل شملت أيضاً التوزيع الذاتي لموسيقى الجاز والروك المحظورة رسميا، والتي تم تسجيلها وتوزيعها سراً أيضا. وهكذا فإن ساميزدات ظاهرة متعددة الجوانب للغاية. كان النشر أو التوزيع عن طريق «ساميزدات» محفوفاً بالمخاطر، ويمكن أن يؤدي إلى الاعتقال وشتى أشكال الكبت والقمع. بالطبع، لم تكن المخابرات السوفييتية « كي جي بي» تتجاهل مثل هذه الأحداث، فقد تعرض العديد من الأدباء وأصحاب الدوريات السرية للاضطهاد، منهم من نفي إلى سيبيريا، أو أُودع المصحات العقلية، أو اسقطت عنه الجنسية السوفييتية.

ساميزدات كظاهرة شفهية

بدأ تقليد الأمسيات الشعرية بالقرب من النصب التذكاري للشاعر فلاديمير ماياكوفسكي في موسكو عام 1958. في يوم الأحد الأخير من كل شهر، يجتمع شعراء المدينة المعروفين وغير المعروفين والمحظورين معاً، ويلقون قصائدهم على الجمهور. وشاركت في القراءات شخصيات أدبية بارزة مثل يفغيني يفتوشينكو وأندريه فوزنيسينسكي. وفي وقت لاحق، من عام 1965، منعت السلطات السوفييتية إلقاء القصائد في ساحة ماياكوفسكي، ووصفت الحدث بأنه «أرض خصبة للمنشقين» واتهمت الحاضرين بـ»السلوك المعادي للمجتمع».

وفي الوقت نفسه، افتتح في لينينغراد العديد من المقاهي الأدبية، التي تحولت إلى مراكز فكرية تتم فيها قراءة الشعر ومناقشته باستمرار، لعل أشهرها «مقهى الشعراء»، خاصة أن الثقافة المحلية للمقاهي الأدبية تعود إلى أيام مقهى «الكلب الضال» الشهير في بطرسبورغ في العصر الفضي للأدب الروسي. في البداية كان الشعراء، ومنهم «أيتام أخماتوفا» يلقون قصائدهم على الجمهور في «مقهى الشعراء» دون أي رقابة. هنا قرأ جوزيف برودسكي عام 1962 قصيدتيه «رومانسية عيد الميلاد» و»التلال» علناً لأول مرة. ظل «مقهى الشعراء» قائما لمدة عامين، ثم فرضت عليه رقابة صارمة، وسرعان ما تم إغلاقه نهائياً.

ساميزدات اليوم

في عام 1986، وقع ميخائيل غورباتشوف مرسوماً يلغي الرقابة على المطبوعات، ومنذ ذلك الحين، أضحت دور النشر حرة في نشر ما يحلو لها، دون مراعاة رغبات الحزب والحكومة. وترتب على ذلك تدفق سيل هائل من الأعمال الأدبية التي كانت محظورة في السابق. بدأ التراجع عن حرية التعبير عام 2007، عندما نشرت وزارة العدل الروسية قائمة بالمواد المتطرفة المحظورة. كانت الكتب المدرجة فيها، في الغالب، بعيدة عن الأدب، لذا فإن الحظر لم يؤثر بشكل كبير في حرية النشر وسوق الكتب الأدبية. زادت الرقابة على المطبوعات تدريجياً في السنوات اللاحقة، وصدرت قوانين تحظر الدعاية للمثليين والمخدرات. على الرغم من أن هذا الحظر يبدو بسيطاً ومنطقياً، إلا أنه في الواقع لا يمكن التأكد أبداً من الكتاب الذي لن يعجب السلطات غداً. بعد التدخل الروسي في أوكرانيا في 24 فبراير/شباط 2022. اشتد التضييق على حرية النشر وتوزيع الكتب وتداولها. ولم يكن الهدف الأول للاضطهاد الكتب نفسها، بل مؤلفيها، الذين أعلنوا صراحة موقفهم المناهض للحرب ووصمتهم السلطة بـ»العملاء الأجانب»، الذين بلغ عددهم أكثر من أربعين كاتباً وصحافياً ومفكراً، بينهم عدد من كبار الأدباء، وفي مقدمتهم: لودميلا أوليتسكايا، ودميتري بيكوف، وبوريس أكونين، وفلاديمير سوروكين، وميخائيل فيلر، ودميتري جلوغوفسكي.

كما جرى حظر عدد كبير من الأعمال الأدبية الأجنبية وسحبها من متاجر الكتب والمكتبات العامة وحظر تداولها ومصادرتها من القراء عند عبور الحدود الروسية. ومن هذه الأعمال على سبيل التمثيل لا الحصر: «أورلاندو» لفرجينيا وولف، و»غرفة جيوفاني» لجيمس بالدوين، و»سبوتنيك الحبيبة» لهاروكي موراكامي. لذا لم تكن عودة ظاهرة ساميزدات مفاجئة في هذه الظروف التي تذكرنا بالعهد السوفييتي، وإن اتخذت أشكالا أخرى أكثر تأثيراً، ويرجع ذلك في المقام الأول إلى تطور تكنولوجيا المعلومات والإنترنت.

أحد الأشكال الرئيسية لمنشورات ساميزدات في روسيا اليوم هو إنشاء وتوزيع النصوص عبر شبكات الإنترنت (الكتب والمجلات الإلكترونية والمدونات ومواقع التواصل الاجتماعي وأشرطة الفيديو وغيرها)، حيث يمكن للمؤلفين التعبير عن آرائهم ومشاركة تجاربهم من خلال المواد الصوتية والمرئية، بالإضافة إلى ذلك، هناك نتاجات ساميزدات المطبوعة، التي تتضمن أعمالا لا يمكن نشرها عن طريق دور النشر داخل البلاد، بل يتم نشرها من خلال دور النشر الروسية في الدول الغربية. ومع ذلك، على الرغم من الحرية التي يوفرها النشر عن طريق قنوات الساميزدات الحديثة، إلا أنه يمكن أن يواجه أيضا مشاكل تتعلق بالرقابة والقيود المتزايدة التي تفرضها السلطات على حرية النشر بجميع أشكاله، ومنها النشر عبر ساميزدات الورقية والإلكترونية، حيث تخضع هذه المواد أيضا للتشريعات المتعلقة بالتطرف والدعاية للانتحار والمثليين ومزدوجي الميل الجنسي ومغايري الهوية الجنسانية وتشويه سمعة الجيش الروسي.

***

د. جودت هوشيار

في زمن تتسارع فيه الابتكارات العلمية والتكنولوجية بشكل غير مسبوق، نجد ان الدول العربية لا تزال تواجه تحديات كبيرة في هذا المجال، مما يؤثر سلبا على واقعها ومستقبلها. فالدول العربية ليس لها تأثير ملحوظ في الانتاج العلمي والابتكار التقني على المستوى العالمي، وتواجه العديد من التحديات والتغيرات العالمية التي تتطلب مزيداً من العلم والتكنولوجيا. تعود أسباب هذا التخلف الى مجموعة متنوعة من العوامل التي تمتد عبر مختلف المجالات، بدءا من الاقتصاد والمجتمع وصولا الى السياسة والثقافة والدين والتعليم. دعونا نستعرض معا ابرز هذه الاسباب والتحديات التي تواجه الدول العربية  ونبحث في كيفية التغلب عليها لتحقيق مستقبل أفضل.

قلة الاستثمار في البحث العلمي:

من الأسباب الاقتصادية قلة الاستثمار في البحث العلمي، حيث تخصص الدول العربية نسبة ضئيلة من ناتجها المحلي الإجمالي للبحث العلمي مقارنة بالدول المتقدمة، وهذا ينعكس على نقص الموارد المالية والبشرية المخصصة للبحث العلمي، وضعف البنية التحتية للبحث العلمي. ففي حين تخصص الدول المتقدمة ما بين 2% إلى 3% من ناتجها المحلي الإجمالي للبحث العلمي، فأن الدول العربية لا تخصص سوى 0.5% أو أقل من ذلك بكثير. كما تلعب ضعف البنية التحتية للبحث العلمي دورا في تخلفه حيث تعاني معضمها من نقص في المختبرات المجهزة بأحدث التقنيات، وقلة عدد الباحثين المؤهلين، وضعف الإمكانيات المتاحة لإجراء التجارب والدراسات العلمية. بالاضافة الى غياب الاستراتيجيات الاقتصادية الواضحة لدعم البحث العلمي . ففي كثير من الأحيان، تخصص الميزانيات للبحث العلمي دون تخطيطٍ مسبق أو تحديد للأهداف المرجوة من ذلك.

يؤدي هذا الأمر إلى هجرة العقول العربية إلى الدول المتقدمة بحثا عن فرص أفضل.  فمع توفر الموارد المالية والإمكانيات اللازمة، يفضل العديد من الباحثين العرب العمل في الدول المتقدمة، مما يفقد الدول العربية كفاءات علمية هامّة ويعيق مسيرتها نحو التقدم.

عدم تمكين المرأة:

من الأسباب الاجتماعية عدم تمكين المرأة والمشاركة في المجالات العلمية والتكنولوجية، حيث تواجه المرأة العربية العديد من العوائق الاجتماعية والثقافية والتعليمية التي تعيق تقدمها وتفوقها في هذه المجالات، مثل بعض العادات والتقاليد التي تقيد حريتها وطموحها. كما أن هناك نقصاً في الوعي بأهمية العلوم والتكنولوجيا للمراة في المجتمع العربي، وعدم تقدير العلماء والمبتكرين والمخترعين.

عدم الاستقرار السياسي:

من الأسباب السياسية عدم الاستقرار السياسي في بعض الدول العربية، حيث تشهد هذه الدول حروباً وصراعات وانقلابات وثورات تعيق التنمية العلمية والتكنولوجية، وتهدر الكثير من الموارد والطاقات. كما أن الدول العربية تفتقر إلى الديمقراطية والمشاركة السياسية، وتعاني من الفساد المالي والإداري، وهذا ينعكس على ضعف الحوكمة والمساءلة والشفافية في إدارة الشؤون العامة.

عدم تشجيع الابتكار والإبداع:

ترجع أسباب ضعف تشجيع الابتكار والإبداع في العالم العربي الى مجموعة من العوامل المتداخلة، منها ثقافة التقليد والخوف من الجديد والتركيز على الشهادات الأكاديمية، بالاضافة إلى نظام تعليمي تقليدي وغير مشجع للإبداع. على الصعيد الاقتصادي والسياسي، يعاني العالم العربي من اقتصاد ريعي وبيروقراطية معقدة وفساد، مما يثبط روح المبادرة والابتكار. كما ان غياب سياسات علمية واضحة وعدم كفاية التمويل المخصص للبحث العلمي يزيدان من حدة المشكلة. على المستوى النفسي، يعاني الأفراد من نقص الثقة بالنفس والخوف من الفشل، مما يجعلهم يترددون في طرح افكار جديدة. ولكن يمكن التغلب على هذه التحديات من خلال اتخاذ مجموعة من الإجراءات الشاملة والمتكاملة. يجب على الحكومات والمؤسسات التعليمية والقطاع الخاص والمجتمع المدني العمل معًا لخلق بيئة محفزة للابداع والابتكار. وهذا يتطلب اتخاذ مجموعة من الاجراءات، منها اصلاح النظام التعليمي ليشجع على التفكير النقدي والابداع وتشجيع التعاون العلمي العربي المشترك ودعم رواد الأعمال وتوفير بيئة محفزة لهم وزيادة الاستثمار في البحث العلمي وبناء ثقافة الابتكار في المجتمع والاستفادة من التكنولوجيا الرقمية. كما يجب تمكين المرأة وتشجيع مشاركتها في مجال العلوم والتكنولوجيا وتطوير اللغة العربية لتصبح لغة علمية وتشجيع القطاع الخاص على الاستثمار في البحث والتطوير.

ضعف التفكير النقدي:

ضعف التفكير النقدي في العالم العربي هو احد العوائق الأساسية التي تحول دون تحقيق التقدم والازدهار. جذور هذا الضعف متشابكة في النظام التعليمي الذي يركز على الحفظ والتلقين بدلا من تشجيع الطلاب على طرح الأسئلة والتفكير النقدي، وفي الثقافة المجتمعية التي تتسم بتقديس السلطة وتجنب الاختلاف. ان غياب التفكير النقدي يترجم الى قبول الأفكار دون تمحيص، والاعتماد على الحفظ الببغائي بدلاً من الفهم العميق والتحليل، مما يحد من القدرة على الابداع والابتكار. علاوة على ذلك، فأن ضعف التفكير النقدي يعيق القدرة على مواجهة التحديات المعقدة التي تواجه المجتمعات العربية، ويؤدي الى الاعتماد على الخبرات الأجنبية في حل المشكلات. ان الحلول المقترحة تتطلب إصلاحاً شاملاً للنظام التعليمي وبناء ثقافة تحفز على التفكير النقدي والابداع وتوفير بيئة محفزة للبحث العلمي والابتكار. فمن خلال تعزيز التفكير النقدي، يمكن للمجتمعات العربية ان تساهم بشكل فعال في بناء مستقبل افضل.

ضعف أنظمة التعليم:

ضعف انظمة التعليم في الدول العربية هو تحد متعدد الأوجه. فبالإضافة إلى التركيز على الحفظ والتلقين بدلا من التفكير النقدي والابداع، تعاني هذه الأنظمة من نقص حاد في الكوادر التعليمية المؤهلة، ومناهج دراسية تقليدية عتيقة لا تواكب متطلبات العصر. تتجلى هذه المشكلة بوضوح في غياب المختبرات العلمية المجهزة والأدوات التعليمية الحديثة، مما يحرم الطلاب من فرص التعلم العملي واكتشاف قدراتهم. كما ان الاعتماد الكبير على الامتحانات النمطية التي تقيس قدرة الطلاب على الحفظ يؤدي إلى تقييد التفكير الإبداعي لديهم، ويجعلهم يركزون على حفظ المعلومات بدلا من فهمها وتطبيقها.

بالاضافة الى ذلك، تعاني انظمة التعليم العربية من افتقار الى التنوع في المناهج الدراسية، حيث تفتقر هذه المناهج الى المواد التي تشجع على التعلم الذاتي والبحث المستقل. كما ان البنية التحتية للمدارس في العديد من الدول العربية متردية، مع وجود مباني متهالكة ونقص في المرافق الصحية والمكتبات المجهزة. هذا يؤثر سلبًا على بيئة التعلم ويقلل من حماس الطلاب.

ومن المشاكل الأخرى التي تواجه انظمة التعليم العربية غياب التقييم المستمر للطلاب والمعلمين، والاعتماد الكبير على الامتحانات النهائية كأداة وحيدة للتقييم. هذا النظام التقليدي لا يسمح بتحديد نقاط الضعف لدى الطلاب وتقديم الدعم اللازم لهم في الوقت المناسب. كما انه لا يشجع المعلمين على تطوير ادائهم وتحسين طرق تدريسهم.

اضف الى ذلك ضعف الاهتمام بالتعليم المهني والتقني في العديد من الدول العربية، حيث يركز التعليم بشكل أكبر على الشهادات الأكاديمية النظرية، مما يؤدي إلى ارتفاع معدلات البطالة بين الخريجين وعدم قدرتهم على تلبية احتياجات سوق العمل. كما ان تأثير التوجهات السياسية والاجتماعية على المناهج الدراسية يؤدي إلى تسييس التعليم وتضمينه بأفكار وأيديولوجيات معينة، مما يبعده عن هدفه الأساسي وهو تنمية قدرات الطلاب ومهاراتهم.

كل هذه العوامل مجتمعة تساهم في انتاج أجيال من الخريجين غير مؤهلين لسوق العمل، وهو ما يعيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الدول العربية.

الفساد المالي والاداري:

من بين هذه الأسباب المهمة للتخلف التكنولوجي، يبرز الفساد المالي والإداري كعامل مؤثر. يشمل الفساد المالي والاداري استغلال السلطة العامة لتحقيق مكاسب شخصية ويؤدي إلى نقص الموارد المخصصة للبحث والتطوير و يؤثر على توجيه الاستثمارات والخدمات في البنية التحتية ويؤدي إلى تحويل الأهداف العامة للمؤسسات إلى أهداف شخصية. 

الاقدمية في الانظمة البيروقراطية:

ان تكريس مبدأ الأقدمية في المؤسسات الجامعية والتقنية، التي تتطلب حيوية ومرونة، هو مسألة كارثية. بينما يحلم الشباب ذوي الافكار الابداعية بأن يساهموا في بناء مستقبل أفضل لوطنهم، وأن يستغلوا طاقاتهم وإبداعاتهم في خدمة مجتمعهم نجد نظام الأقدمية الجامد يحرمهم من هذه الفرصة، ويجعلهم يشعرون بالاحباط واليأس. فكيف يمكن لشاب مبدع وطموح أن يحقق أحلامه في ظل نظام بيروقراطي يفضل الخبرة الموروثة على الكفاءة الحقيقية؟ هذا الظلم يهدد مستقبل الاجيال القادمة، ويحرم البلاد من الاستفادة من عقول الشباب المبدعة.

استراتيجيات مكافحة التخلف العلمي والتكنولوجي:

للتغلب على التخلف العلمي والتكنولوجي في الدول العربية وتحقيق نهضة علمية حقيقية، لابد من اتخاذ الخطوات الجدية التالية:

1. زيادة الاستثمار في البحث العلمي، وتخصيص نسبة معقولة من الناتج المحلي الإجمالي للبحث العلمي، وتوفير الموارد المالية والبشرية والبنية التحتية اللازمة للبحث العلمي، وتشجيع التعاون العلمي بين الدول العربية والدول المتقدمة.

2. إصلاح أنظمة التعليم، وتطوير المناهج الدراسية، وتحديث الأساليب التعليمية، وتأهيل الكوادر التعليمية، وتعزيز التفكير النقدي والإبداع لدى الطلاب، وتوفير فرص التعليم المستمر والتعليم عن بعد.

3. اصلاح الانظمة السياسية، وضمان الحريات والحقوق لخلق مجتمعات حرة وديمقراطية، وتحقيق الاستقرار السياسي في الدول العربية، والقضاء على الفساد والمحسوبية، وتعزيز الحوكمة والمساءلة والشفافية في إدارة الشؤون العامة.

4. تشجيع الابتكار والإبداع، وخلق بيئة ثقافية داعمة للعلوم خلق بيئة ثقافية داعمة للعلوم والتكنولوجيا، وتعزيز الثقة بالذات والطموح لدى الشباب العربي، والاستفادة من التراث العلمي العربي والإسلامي، والفصل بين الدين والعلم، وتنمية روح الحوار والنقد البناء واحترام الرأي الآخر.

5. تمكين المرأة لغرض مشاركتها في المجالات العلمية والتكنولوجية، والقضاء على العوائق الاجتماعية والثقافية والتعليمية التي تعيق تقدمها وتفوقها في هذه المجالات، وتوفير فرص التعليم والتدريب والتوظيف للمرأة العربية.

6. نشر الوعي بأهمية العلوم والتكنولوجيا في المجتمع العربي، وتقدير العلماء والمبتكرين والمخترعين، وتشجيع المواهب والمهارات العلمية والتكنولوجية، وتكريم الإنجازات العلمية والتكنولوجية العربية.

ختاماً، يعد التغلب على التخلف العلمي والتكنولوجي في الدول العربية هدفا استراتيجيا يتطلب مسؤولية الجميع، من حكومات ومؤسسات تعليمية ومجتمع مدني. ولا بد من العمل الجاد وتضافر الجهود من أجل تحقيق التقدم العلمي والتكنولوجي في الدول العربية، والارتقاء بمكانتها على الساحة العالمية. وهذا لا يتحقق الا بالايمان وبالالتزام بالعلم والتكنولوجيا كمنهج حياة وأسلوب تفكير ومصدر قوة واعتزاز.

***

ا. د. محمد الربيعي

بروفسور متمرس ومستشار مهتم بالتعليم والعلوم والتكنولوجيا، جامعة دبلن

السينما تعبير اجتماعي: تعتبر السينما من الفنون المؤثرة والمتنوعة، فهي الفن السابع من حيث تاريخ ظهورها بعد الفنون الستة الكبرى، وهي العمارة والنحت والرسم، الأدب والموسيقى والأداء، لكنها قد تكون الأولى من خلال استحواذها على اهتمام العالم (1).

حيث أنها مرت من عدة مراحل مما زاد من نضجها، بداية بالأخوين لوميير من خلال صنعهما لأول كاميرا وأول جهاز عرض سينمائي، ومرورا بالسينما الصامتة ثم أفلام الأبيض والأسود ثم الأفلام الملونة والأفلام ثلاثية الابعاد فالتصوير الرقمي (2).

السينما إضافة الى كونها مجموعة من التقنيات، والعمليات الفنية التي تتوزع بين الخدع التقنية والصور وأجهزة التصوير والإضاءة والمونتاج والصوت الخ، فهي أيضا انتاج ثقافي واجتماعي، يتداخل فيه ما هو اقتصادي، أيديولوجي، سياسي، ديني وأخلاقي...

فلا يمكن ابدا فهم السينما بمعزل عن المجتمع، لأنها انعكاس لجميع تفاعلاته والتغيرات التي تمسه، وقد استأثرت باهتمام الباحثين السوسيولوجيين والأنثروبولوجيين، حيث تمكنت السينما من الجمع بين ما هو تقني وأدبي/ فني، ونجحت في استعمال الصورة كوسيلة للتعبير على مجموعة من التمثلات وتسليط الضوء على بعض المواضيع ومناقشتها في فنيا، باعتبارها مجالا للتوثيق السوسيوثقافي.

وقد أصاب من وصف السينما بأنها وثيقة اجتماعية، لأنها توثق الاحداث والشخوص، وهناك أوجه تشابه بين السينما والسوسيولوجيا، كعلم يحاول تفسير الظواهر وتحليلها من خلال دراسة أسبابها ونتائجها، السوسيولوجيا عند دوركهايم، هي العلم الذي يهتم بدراسة البناء الاجتماعي وما به من مؤسسات من حيث مقوماتها ووظائفها، ويقصد بالبنية الاجتماعية هنا هو الاطار التنظيمي العام، الذي يندرج تحته كافة أوجه السلوك الإنساني في مجتمع ما، ويتضمن مجموعة النظم الاجتماعية ذات القواعد السلوكية المستقرة التي تحكم الأنشطة الإنسانية المتعددة في مجتمع ما. وهو نفس الشيء بالنسبة للفلم السينمائي، من خلال رصده للظواهر الإجتماعية ومناقشتها، في إطار فني ودرامي.

الواقعية قد ساهمت في إنماء السوسيولوجيا كعلم يبحث في الواقع ويتخذ منه مختبرا لفرضياته واستخراج نظرياته وتطوير مناهجه... ان السينما تتطرق لمواضيع ذات صبغة كونية، ونفس الشيء بالنسبة لعلم الاجتماع(3).

بهذا المعنى يمكن اعتبار السينما مرآة الشعوب والمجتمعات لأن الهدف الأساسي منها كفن هو ترجمة نبض المجتمع بمختلف أطيافه فمن خلال تجسيد الحدث، والاعتماد على آلية التوثيق فهي تلامس الواقع الاجتماعي، وبالتالي فالفعل السينمائي يتأثر بالمجتمع ويؤثر فيه أي انهما على علاقة وثيقة.

فهل السينما نجحت في ترجمة أفكار مجتمعاتها، وهمومها وظواهرها؟ أم أنه يصعب فعلا نقل الحقيقة والواقع عبر الفلم كما قال محمد المعنوني: "في دول العالم الثالث نخاف ان نظهر صورتنا الحقيقية ونعرضها امام الناس".

حضور الجنس والجسد في السينما المغربية

يعتبر موضوع الجنس من الطابوهات في مجتمعنا، يتجنب البعض نقاشه أو الخوض فيه علنا، بالرغم من كونه مرافقا للحياة اليومية وحاضرا فيها، مع ما كل ما يحيط بالموضوع من حواجز.

و بالحديث عن السينما المغربية في بداياتها، لم يكن للجنس حضور إلا كمحور ثانوي، ضمن مواضيع مختلفة بين ما هو اجتماعي وسياسي الخ، لكن الامر يختلف الآن فقد اصبح من المواضيع والتيمات الرئيسية في الفلم السينمائي، حيث لم يقتصر على التلميح والإشارة اللبيبة، بل وصل الى تعاط مباشر وصريح من خلال جرأة الموضوع، والتقمص والتشخيص بالإضافة إلى المشاهد الجريئة وما يتخللها من إشارات.

ولعل فترة التسعينات كانت بداية لتشكل رؤية سينمائية جديدة في المغرب، وموجة مختلفة عما سبقها، غلب عليها طابع الجرأة في الطرح الذي رافق موضوع الجنس وكان الافتتاح مع فلم "حب في الدار البيضاء" لمخرجه عبد القادر لقطع، لتتوالى بعدها الاعمال السينمائية. فجرأة تناول الموضوع على الشاشة الكبيرة كان بمثابة صيحة حديثة بالنسبة للمشاهد المغربي، حيث لاقت انتقادات وغضب في البداية، لكن سرعان ما اصبح الاقبال على مشاهدة هاته الأفلام المحظورة اجتماعيا، كنوع من الفضول او المتعة والانفتاح على هاته النوعية من الأفلام على غرار السينما الغربية، لانها تمس جزءا مهما من حياة الافراد، ليبرز مع هذا كله الجسد وكيفية تناوله من قبل المخرجين في هاته الأفلام، خصوصا جسد المرأة، الذي يعتبر المادة الأهم في المشهد السينمائي وذلك لاستحواذه على قوة الجذب والاثارة والتعبير.

دعونا نتفق على كون الجسد له لغة تعبيرية خاصة، قادرة على ترسيخ الرؤية الجمالية والفنية وقد تعطي بسخاء واحترافية، إذا تم توظيفها بشكل صحيح لخدمة القصة او المشهد، من اجل ترجمة الفكرة المراد ايصالها في الفلم، وهنا نتحدث عن التوظيف الدرامي والفني للجسد.

لكن ما الذي يحدث حين نرى ان حضور الجسد الانثوي في المشاهد السينمائية، لا يسير دائما في الاتجاه الفني المحض، وانما قد ينحو نحو جذب الجمهور الذي يقوده فضوله وشهوته للبحث عن المتعة والتمعن في الأجساد لا غير، مما يجعلنا نكتشف ان الامر تجاري وعملية تسليع للجسد الانثوي، تعزف على الاوثار الغريزية والمواضيع المحظورة نوعا ما، من اجل جذب المشاهد ورفع نسبة المشاهدة والإيرادات في لمحة ذكية من بعض المخرجين، من خلال تقديم ما هو مطلوب ومرغوب فيه، وكل ما يمكن ان يشكل موضوعه ضجة لدى المشاهد، وهو ما تم استغلاله لصالحهم مما يجعل من الجسد يظهر بشكل سطحي، في أي مناسبة دون رؤية فنية عميقة او جمالية للمشهد وقد يختلف التعامل مع جسد المرأة بالنسبة للمخرجين في نظري من خلال هذا التقسيم بين من:

- يوظف جسد المرأة في الجانب التعبيري والفني المحض.

- من ينحو نحو التسليع والمتاجرة، من اجل الرفع من نسب الإيرادات والمشاهدة ونفاذ التذاكر.

- من يحاول جعله مادة أساسية لمناقشة قضايا تلامس المجتمع، أخلاقية كانت او أيديولوجية وأيضا من أجل توظيفه كرمز للتحرر او الالتزام.

- فئة أخرى حاولت وضعه في سياق المرأة المنتهكة حقوقيا واجتماعيا وعاطفيا، من خلال تصوير حياة المرأة : المغتصبة، بائعة الهوى، المعنفة، المتحرش بها، المكرهة على الزواج، الحامل خارج إطار الزواج، في علاقة غير شرعية، أو ضحية العادات والطقوس التقليدية ...إلخ.

لن يختلف اثنان في كون جرأة الطرح أمر مطلوب ومحبب، لكن هذه الجرأة التي تؤثث المشهد السينمائي المغربي أو العربي عامة، هل غدت مطلوبة فقط فيما يتعلق بتيمات الجنس وإبراز جسد المرأة والمشاهد الساخنة، ام أن جرأة الطرح يجب ان تخدم مواضيع متعددة ومعقدة ملغية من طاولات النقاش؟ ألا يجذر بها أن تقدم طرحا يعالج قضايا مجتمعية مهمة أيضا؟ في صلب الصراع المجتمعي على كافة المستويات وبهذا نكون أمام نوع من الموازنة في الطرح السينمائي.

أم أن الجرأة ...تتمثل في ابراز مفاتن امرأة عارية.. الجرأة في الحقيقة هي ان تأخذ موقفا وتدافع عنه على حد تعبير المخرج المغربي عزيز السالمي.

هل تستطيع السينما إحداث التغيير في المجتمع؟

من المعلوم جيدا ان الفن يعمل على تقديم رسائل متعددة، تختلف باختلاف المقبلين عليها، لانها تعتبر أداة لنشر الثقافة والمعرفة وتساهم في تشكيل قيم المجتمع.

حيث لها القدرة على إضاءة دائرة العتمة المحيطة بمجموعة من القضايا، ووضعها في قالب فني يرتقي بالعمل المقدم وبالمشاهد أيضا، ويبقى لها الأثر الكبير في إحداث التغيير على مستويات عدة، وكمثال نجد الدراما أو السينما المصرية، حيث كان لهذه الأخيرة دور كبير وراسخ، في تغيير مجموعة من القوانين والتشريعات، ورصد الظواهر والمشاكل المؤرقة، وهناك بعض الأعمال الفنية التي نجحت فعلا في الوصول الى هذا المستوى.

من بين هذه الاعمال نجد فلم "جعلتني مجرما" حيث ناقش مشكلة السوابق العدلية، وعدم تمكن أصحابها من الاقبال على الحياة، والاندماج في فرص عمل جديدة، ليصدر بعدها قانون الاعفاء من السابقة الأولى في الصحيفة الجنائية بمصر.

يليها فلم "اريد حلا" حيث ناقش ازمة امرأة لا تستطيع الاستمرار في العيش مع زوجها، ويرفض طلبها المتعلق بالطلاق، مما جعلها تعيش سلسلة من المشاكل والعراقيل داخل رداهات المحاكم، بعدها تم احداث تغيير في قانون الأحوال الشخصية، ليعطي للمرأة الحق في الخلع.

ننتقل الى السينما الغربية هذه المرة "فلم قصير عن القتل"، لمخرجه كريستوف كيسلوفسكي، عندما كانت بولندا لا تزال تصدر عقوبة الإعدام، حيث اثار عرضه في مهرجان السينما سنة 1988، نقاشا حادا حول الموضوع، وبعد بعد العرض الأول للفلم تم حذف عقوبة الإعدام من قانون العقوبات في بولندا.

ثم الفلم الفرنسي الألماني" روزيتا" الذي صدر عام 1999، حيث يحكي قصة البطلة القاصر التي تبحث عن عمل، بعيدا عن والدتها مدمنة الكحول، لكنها تلاقي استغلالا من طرف أرباب العمل، من خلال عملها بأجور زهيدة ...حيث حاز الفلم على السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي، مباشرة بعدها أصدرت الهيئة التشريعية البلجيكية قانون يحظر تشغيل المراهقين بأقل من الحد الأدنى للأجور.

من خلال هاته النماذج وغيرها، نستشف أن للسينما سحر خاص وصوت مدوي ومسموع، يصل لكل الجهات والشرائح إذا تم تسخيرها للأهداف النبيلة والرسائل السامية التي أتى من أجلها الفن بشكل عام، وقد يقول قائل أن السينما ليست بمربي الأجيال أو مصلح إجتماعي، ودورها ليس هو ممارسة الأبوية على المشاهد كما أن المشاهد من يقصد السينما وليست هي من تقتحم منزله إلخ.

لكن بالنسبة لي فهي تنطلق من المجتمع وإلى المجتمع وعلاقة التأثير واضحة، وكفن فهي مطالبة وملزمة بخدمته من موقعها وإمكانياتها، لأنها تستطيع الهدم والبناء، والجمع بين الفرجة والإصلاح الاجتماعي والأخلاقي والكثير غيره، وإحداث التغيير على مستوى مجموعة من المفاهيم والممارسات، بل تعدت كونها مجرد فن وإنما قوة تحيي القضايا وتلهم، وتضيء الزوايا المعتمة في المجتمع، في إطار فني يجب أن يكون محبوك، نعم السينما تسطيع ...

***

أحيزون سميرة - أخصائية اجتماعية ومدونة

......................

الهوامش

1- إبراهيم العريس وفريق مجلة القافلة، "السينما هي الفن السابع".

2- علياء طلعت، عن الجزيرة 360 "تاريخ الفن السابع" (بتصرف).

3- محمد شويكة، السينما والسوسيولوجيا أية علاقة.

 

للدكتور عبد العظيم السلطاني

ان القارئ لمقال الأستاذ (عبد العظيم السلطاني) المذكور في أعلاه، لا يملك إلاّ أن يشاطره الآراء والتصورات التي أثارها حول هذا الموضوع الشائك، لاسيما وأنه – كما قال – على اطلاع كاف ودراية وافية بكل ما شاب الموضوع من سلبيات علمية وانتكاسات أدبية، ما كان ينبغي لها أن تشيع في مثل هذا الوسط العلمي / المعرفي. ولعل ما أعطى لمقال الأستاذ (السلطاني) أهمية خاصة، ليس فقط كونه يتناول قضية خطيرة باتت تشغل بال الأوساط الثقافية والعلمية والأكاديمية، دون أن يصار الى وضع الحلول والمعالجات المناسبة لها فحسب، وإنما لكون المقال كتب بيراع أستاذ (جامعي) ينتمي لذات الوسط الأكاديمي الذي يعيب عليه أخطائه وهفواته وانحرافاته !.

وبادئ ذي بدء نقول؛ أنه من حيث المبدأ ليس هناك ما يعيب صاحب الأطروحة الأكاديمية (الطالب) أن تتضمن رسالته بعض الأخطاء والهفوات والهنات، التي هي حاصل تحصيل (قصور المعرفة) لدى كل إنسان هو في طور التعليم، طالما كان ما يقدمه بين دفتي الأطروحة هو من نتاج جهده الخاص واجتهاده الذاتي. هذا من جهة، أما من جهة ثانية، لا تثريب على (الأستاذ) في عضوية لجان مناقشة الأطاريح من الإشارة الى أخطاء الطلبة المتقدمين لنيل شهادتي الماجستير والدكتوراه، مثلما لا ضير من تقديم النصائح والإرشادات التي تستهدف تصويب الأخطاء وتقويم الخلل فيما ذهبوا إليه، سواء ما يتعلق بالمعلومات أو الأفكار أو التصورات ذات الصلة، فتلك هي من واجبات (الأساتذة) تجاه (الطلبة) لاسيما ضمن المستوى التعليمي الجامعي. هذا مع الأخذ بنظر الاعتبار ضرورة تضمين تلك الإضافات (العلمية والمعرفية) التي يدلي بها (الأستاذ) على هامش الأطروحة، الى متن رسالة (الطالب) باعتبار كونها مصدر من مصادر البحث أو الدراسة قيد المناقشة، وذلك لضمان حق الأستاذ المناقش في أرشفة رصيده العلمي والمعرفي لاستخدامه عند إجراءات الترقية، وهو ما استحسن حصوله الأستاذ (السلطاني) في مقاله.

وفي إطار خشية الأستاذ (السلطاني) من تأثيرات الوسط الاجتماعي وما ينطوي عليه من قيم وأعراف وتقاليد قبلية وطائفية، قد تسيء الى هيبة المؤسسات الأكاديمية / الجامعية من جانب، وتقلل من جانب ثان، من رصانة المحتوى العلمي والمعرفي للأطاريح قيد المناقشة. لاسيما بالاعتماد على ما أسماه بثقافة (الخطية) و(الفزعة) الشائعتا التعاطي بين الكيانات والجماعات العراقية، سواء على مستوى العلاقات الاجتماعية أو التواضعات العرفية. حيث سبق الأستاذ (السلطاني) العديد من الكتاب والباحثين والأكاديميين (ومنهم كاتب هذه السطور) في الإفاضة بتبعات تلك التأثيرات السلبية، ليس فقط على سمعة الجامعات والأساتذة المنسوبين إليها، فضلا "عن المستوى العلمي والقيمة المعرفية لأطاريح الطلبة فحسب، بل وكذلك الى مصير العملية التعليمية والتربوية بمختلف مراحلها ومستوياته. والحقيقة ان الأستاذ (السلطاني) يتواضع جدا "حين يوصم ما يجري داخل قاعات المناقشة بين (طالب) الدراسات العليا، وبين (اللجنة) المسؤولة عن منح هذه الدرجة العلمية بثقافة (الخطية) و(الفزعة)، اللتان تندرجان ضمن مصفوفة القيم والأعراف (القبلية – العشائرية) السائدة في المجتمع العراقي حاليا"، حيث أن هناك الكثير من العيوب والمثالب مما لم يقله أو يتطرق إليه.

 والغريب في الأمر حقا "ان الذي أثار حفيظة الأستاذ (السلطاني) قضية جانبية تكاد تكون (ثانوية) أو (هامشية)، ضمن مسار (التراجع) العلمي و(الانحطاط) المعرفي المستشري في جامعاتنا العراقية بصورة تثير الفزع، في حين تجنب الإشارة الى قضية هي أسّ المصائب والنوائب في هذا المجال، ألا وهي (البازار الأكاديمي) الذي أضحى سوقه رائجا "ويدر الملايين من الدنانير على تجاره ورواده، حيث (تباع) و(تشترى) الأطروحات الجامعية مثلما تباع وتشترى البضائع والسلع من الأسواق التجارية، وان قيمة هذه البضاعة / السلعة تتحدد بنوع تخصصها (العلمي) و(الإنساني). وهنا يغدو الحديث عن دور المسائل (القانونية) و(الأخلاقية) ضربا"من سفسطة خطابية لا معنى لها.

وأخيرا"فان دعوة الأستاذ (السلطاني) الى (إزاحة) القيم والأعراف والتقاليد ذات المنزع العصبوي عن (حرمة) هذا المجال، وعدم زجه في أتون التأثيرات (العاطفية) والمساومات (السياسية) والتوافقات (المصلحية)، هي دعوى أقرب الى اليوتوبيا منها الى الواقع. إذ كيف يتسنى لمؤسسة، هي جزء من منظومة اجتماعية وسياسية عامة نخر بنيتها الفساد وعمّت أرجائها الفوضى، ان تتغلب على أمراض وعوارض دولة كسيحة الإرادة ومستباحة القدرة فقدت زمام أمورها وأضحت أسم على غير مسمى، حيث تقاسمت مؤسساتها العصبيات القبلية والأصوليات الطائفية.  

***

ثامر عباس

في مأثورنا العربي، كثيرة هي الحكم والأمثال التي ذهب أصحابها، وبقي فحوى تلك الحكم والأمثال يرنُّ في الأذهان ما بقي الزمن، وليس قول الإمام علي ع لكميل بن زياد، إلا واحدًا من تلك الشواخص الحية في الذاكرة العربية، ولا أريد استرجاع هذا القول بتفصيلٍ يعرفه الكثيرون، بقدر ما أريد الوقوف على هذا القسم الثالث من الناس، ممّن شبّه سلوكياتهم بنوعٍ من الذباب أو البعوض لصغر حجمه، يسقط على وجوه الغنم المهزولة والحمير وأعيُنِها، يُزعج الدواب بحركته العشوائية السريعة حول الوجه، ولعل وصفه بالهمج، جاء اشتقاقًا من الفعل "هجم"  فهو لا يفتر عن هذه الصفة، ولكن هجومه يتصف بالعشوائية أو الفوضوية، ومنه جاءت الصفة "الهمجيّة" لتُدلل على هذا السلوك العدواني الفوضوي الذي يؤذي الآخرين حتى في التصدّي له؛ لأن من يتصدّى له لا يعرف الخطة التي يسير عليها مثل هذا العدوّ..!

وهنالك من اللغويين من رأى أنّ كلمة الهمج، تدل على الحمقى، فـ(الهَمْجَة من النَّاس: الأحمق الَّذِي لَا يتماسك، والهَمَج جمعُ الهَمجَة)، أو الجوع، وكلُّ هذه المعاني لا تتقاطع مع المعنى الأول الذي عرضناه آنفًا، إذ يجمع هذه المعاني دلالة الفراغ، والعبَثيّة، والاضطراب، وعدم الاتّزان في القول أو الفعل. ومن المؤكَّد بل اليقين، أنَّ فراغ الإنسان من عقلهِ، أو عدم الاحتكام إليه، يُفضي به إلى العَبَثيّة في السلوك، وكلُّ من يتّصف بهذا الوصف، فهو أحمق لا يملك قياد نفسه؛ لأنه مفتقرٌ إلى عقلٍ يُرشِدُهُ إلى الصواب.

والملفت أن الإمام علي لم يكتف بوصف هذه الفئة من الناس بالهمج، بل أردفها بصفةٍ أخرى لم تكن بأفضل دلالةً منها، إن لم نقل إنها جاءت مُفسِّرةً للوصف السابق، فوصفهم بالرِّعاع، ودلالة هذه الكلمة، تعني فيما تعنيه: "السفلة من الناس" . وقد جاء في حديث عمر بن الخطاب، ذكرًا لهؤلاء، وذلك في قوله: "إن المَوسم يَجمع رَعاع الناس". أي غَوْغاءهم وسُقّاطَهم وأَخلاطَهم، وغيرها من الشواهد التاريخية التي تُدلِّل على هذا المعنى الذي أوضحناه آنفًا..

وإذا تمّ لنا هذا المعنى، فمن الطبيعي أن لا أحد يرضى أن يكون مصداقًا لهذه الفئة من المجتمع، فهي فئة لا يتشرف أحدٌ بالانتماء إليها. ولكن هل نتمثّل – لا شعوريا – سلوكيّات هذه الفئة...؟ ونكون في أعمالنا ضمن هؤلاء الذين نالوا استهجان الإمام علي الذي لا يختلف عليه اثنان في صلاحه ورجاحة عقله وحنكته وبُعد نظره وتدبيره، فقال عنهم: "أتباعُ كلِّ ناعقٍ، يميلونَ مع كلِّ ريحٍ، لم يستضيئوا بنورِ العلمِ، ولم يَلْجؤوا إلى ركنٍ وثيقٍ"، ومن الواضح أن تفصيله بيان حال هذه الفئة من المجتمع دون الفئتين السابقتين – العالم الربّاني والمتعلم على سبيل نجاة – لدليلٌ واضحٌ على التحذير من أن يكون سامعو هذا الخطاب العابر للزمن، مصداقا لهذه الفئة، بما جعله يُفصّل في أحوالهم؛ ليُلقي البيّنة لمن تورّطَ باتخاذ مسلك هؤلاء.

ولنا أنْ نتخيّلَ مقدار استشعار هذا الإمام الهمام، خوفه من خطر هؤلاء؛ لما أوقعوه من فتن في حياته قبل تسنمه الخلافة وبعدها، ولما سيكون حال المجتمع، حين يطغى أمر هؤلاء، ويكون لهم الغلبة والحول والطول، من اضطرابٍ في مقاييسه، وفوضى في شؤونه، وتفشٍّ لرذائل الأخلاق، وانتهاك لقيم الإنسانية النبيلة، وضياعٍ للمُثُل العليا التي ينبغي أن تكون الربّان القائد لسفينة كل مجتمع ينحو إلى الخير والصلاح.

وقد يقول القائل معترضًا: وما شأنُنا نحن بهذه الفئة التي لم يكن لها تأثير سلبي في المجتمع، ما لم يكن الجهل سيّد الموقف في تلكم العصور، فبحضوره "الوبيل" تنتعش بفضله طبقة "الهمج الرعاع" وتعشو في دياجيره آخذةً في التمدُّد والانتشار، ولكن لا يختلف اثنان أننا الآن نعيش عصر العلم، عصر التكنولوجيا، عصر التوثيق الرقمي، عصر الذكاء الاصطناعي، عصر العولمة والحواضر العلمية، والمؤتمرات، والمختبرات، والبراءات العلمية في مختلف مجالات المعرفة، فلماذا الخوف والحذر من "الهمج الرعاع" وهم إنما يطفون على السطح الاجتماعي، في غياب كل ما ذكرناه من معالم الازدهار العلمي...؟! ويمكن لهذا السائل، أن يرى – وفقًا لقناعته – انتهاء صلاحية ذلك القول، وانحسار تأثيره في عصورٍ خلت، عشعش الجهل فيها، وباض في صدور أتباعه وأفرخَ، ما جعلهم لا يفرقون بين الناقة والجمل بحسب وصف معاوية داهية عصره، فلا حاجة لنا أن نستعيد هذا القول، أو نتخوّف أصلاً من مضاعفات تفشي هذه الفئة..!

وإذا أردنا الجواب عن سؤال هذا القائل، فإننا لا نملك إلا إجابتين لا ثالثَ لهما: إحداهما بالإيجاب، والأخرى بالسلب، وواحدةٌ من هاتين الإجابتين، لا تتطلّب من صاحبها بذل الأدلة والبراهين على إثبات مصداقيتها، والأخرى بعكسها تماما؛ إذ ستعتمد الأولى على ما طرحه سؤال هذا القائل، من أدلة، وتكتفي بها لتوكيد فكرته برهانا على صحته، فما على المجيب بذل الجهد إلا في دفع قناعة هذا القائل بالضدِّ منها؛ ليترجّحَ لديه سيرورة فحوى قول الإمام علي عن هذه الفئة، واستمرار تمثُّلاتها إلى يوم الناس هذا، وليكن بعدها على حذرٍ أن يكون جزءًا منهم، وهنا يبقى المعيار في ترجيح إجابة على أخرى، لا ينطلق إلا من الواقع المعيش، وليس الخيال الذي نفترض عليه ما ينبغي أن نكونَ عليه، فمن الواقع كانت المشكلة، ومن الواقع ينبغي أن يكون الحل لتلك المشكلة، ولا يصحُّ بحال، أن تتعالى على الواقع، ونُؤسِّسَ إجاباتنا على "ما ينبغي"، وفي مقام التوضيح، نجد هؤلاء الذين ينطبق عليهم هذا الوصف مختلفين لا عن بصيرة ووعيٍ، بل عن هوىً قاد كل فرقةٍ منهم إلى مسلكٍ دون آخر، وإلى جهةٍ لا تغني ولا تُسمن من جوع عن الأخرى، وأعني هنا بالجوع لا المستوى الماديِّ منه، بل المعنويّ، وهو الفكر، هذا الذي عبّر عنه الوائليُّ في إحدى أروع قصائده، بالقول:

فانهَد له بالفكرِ يخضُدُ جذرَهُ

فالفكرُ ليس بغير فكرٍ يُقرَعُ

*

وأغِثْ جياعَ عقيدةٍ فهُمُ إلى

فكرٍ يُسدَّدُ من طعامٍ أجوعُ

نعم، تجاذبَ الكثيرَ منّا الأهواء والميول، ولم يكن العقل دليلا لهم في ما اتخذوه من مذاهب واتجاهات، فما كان أسرعهم إلى الباطل، بوقوعهم أسرى في شباك العاطفة، وانهماكهم في إشباع غرائزهم، باتّخاذهم الهوى إلهًا يُعبَد من دون الله، وما العبادةُ سوى الطاعة والانقياد، وكأن القرآن الكريم تحدّث عن هؤلاء "الهمج الرعاع" في قوله الحكيم: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّـهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [القصص: من الآية ٥٠] ولا يخفى على المتأمِّل، ما تصفه الآية عن هؤلاء أنه لا يوجد أكثرَ ضلالةٍ منهم، وكأنَّ اتِّباع الهوى قرينُ الضلالةِ ومُؤدٍّ لها، والضلالة ليست إلا الضياع والتخبُّط بما يُنسي الإنسانَ قيمتَه العظيمة في هذا الوجود، ويجعله يسيء لهذا النظام الحكيم الذي سخّره الله لخدمته، شرطَ أن يكون سَوِيّ التفكير، سَوِيّ الوعي، سَوِيّ الفطرة، يبحث عن كل ما يرفع قيمته الإنسانية، ويربأ عن كل ما يشوِّهها أو يخدِّرَها أو يمسخها، ولعل من أوضح الأمثلة المؤلمة في واقعنا المعيش، أنَّ الكثير لا يأبه لأولي الفضل، من أهل العلم، فلا تجد لهم توقيرًا بين هؤلاء، ولا تعظيمًا لشأنهم، بعكس ذلك نجد الجهلة – أو الذين يلبسون مسوح العلماء وهم من الجهلاء – يلتفُّ حولهم الناس، ويتقاطرون عليهم، ويروّجون بضاعتهم، ويتهافتون لاقتناء ما يصدر عنهم، يتأثرون بهذا أو بذاك، من دون أنْ يكون لهم خيارٌ نابعٌ من دراية ومعرفة، فيتشبّثون بالآخرين، ويتّكلون على خياراتهم، فكانوا فعلاً كما وصفهم الإمام أنهم "همج رعاع أتباع كل ناعق"، ويُعقّب ابن أبي الحديد توضيحًا لهذه الفقرة بقوله: "ألا تراهم ينتقلون من التقليد لشخصٍ إلى تقليد الآخر لأدنى خيالٍ وأضعفِ وهمٍ..؟" .

وإذا نظرنا في واقعنا، وجدنا على سبيل المثال، ما يخص الجانب الثقافي، ففي المحالِّ المخصّصة لبيع الكتب، لا ترى الكتب المهمة تلقى اهتماما من الزبائن مثل كتب قراءة الكف أو تفسير الأحلام أو التي تتحدث عن أسرار الأبراج، أو كتب التنمية البشرية لمن هبّ ودبّ من أدعياء هذا المجال، أو الروايات والقصص المغمور أصحابها، والتي لا تحمل المضامين العميقة في مختلف جوانب الحياة، ولنُلقِ نظرةً أخرى في المجال السياسي، فهنا أيضا لا يختلف الحال عن سابقه، إذ الجمهور يميل إلى القائد الأكثر بذلاً للأموال والمغريات في سبيل الفوز في حملته الانتخابية، وهؤلاء الذين انقادوا لمغريات هذا المرشّح، لم يضعوا في حسبانهم أن صوتهم الانتخابيَّ أمانةٌ عليهم أن يُحسنوا الاختيار؛ ليكون مستقبلُهم ومستقبلُ أولادهم أفضل مما هم عليه الآن من بؤس وحرمان، فلم يُفكِّروا إلا في قضاء يومهم، وحالُهم بهذا الفعل المُتدنّي، "كَالْبَهِيمَةِ اَلْمَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا أَوِ اَلْمُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا تَكْتَرِشُ مِنْ أَعْلاَفِهَا وَ تَلْهُو عَمَّا يُرَادُ بِهَا"،  بحسب وصف علي بن أبي طالب في رسالته لعثمان بن حنيف عامله على البصرة. وهكذا الحال نفسه تجدهم في أغلب المجالات، إذا لم نقل جميعها، يغيب العقل والوعي وانعدام الثقافة والذوق في أكثر سلوكياتهم ومواقفهم، ويسيطر الجهل بما يُقدمون عليه من فعل لا يكترثون أن يعود وبالاً عليهم فيما بعد..! ولعل من الأوصاف التي تنطبق عليهم، ما ذكره المسعوديُّ في وصف أخلاق هذه الفئة "أن يُسوِّدوا غير السيّد، ويُفضِّلوا غير الفاضل، ويُقوِّلوا بعلمٍ غير العالم، وهم أتباعُ مَن سبق إليهم من غير تمييز بين الفاضل والمفضول، والفضل والنقصان، ولا معرفة للحق من الباطل عندهم، ثم انظر هل ترى إذا اعتبرت ما ذكرنا ونظرت في مجالس العلماء هل تشاهدها إلا مشحونة بالخاصة من أولي التمييز والمروءة والحِجى، وتفقُّد العامّة في احتشادها وجموعها، فلا تراهم الدهر إلا مُرْقِلين إلى، قائد دبٍّ، وضارب بدف على سياسة قرد، أو متشوقين إلى اللهو واللعب، أو مختلفين إلى مشَعبذ متنمِّسٍ مُخرِّق، أو مستمعين إلى قاصٍّ كذاب، أو مجتمعين حول مضروب، أو وقوفاً عند مصلوب؟ يُنْعَق بهم فيتبعون؟ ويصاح بهم فلا يرتدعون، لا ينكرون منكراً، ولا يعرفون معرفاً، ولا يُبالون أن يلحقوا البرَّ بالفاجر، والمؤمن بالكافر". وهذه الصفات والأحوال لا نستغرب من وجود بعضها ماثلةُ في سلوكيات من يعيشون في عصرنا الحالي، مع بعض الزيادات التي تتطلّبها متغيّرات العصر، فلكلِّ عصرٍ أدعياؤه من الزعماء والرموز، ومن الهمج الرعاع.

ولو تصفّحنا العالمَ الافتراضيَّ – بوصفه العالَمَ المُوازي الواقعي ويعكس صدى شخصياتهم فيه – لما وجدنا كبيرَ فرقٍ عن الواقع الذي يعيشه من ينطبق عليهم وصفُ "الهمج الرعاع"، فمن يُروِّجُ للمحتوى الهابط غير هؤلاء...؟ ومن يتهالك تملُّقًا لصفحات أهل الدنيا من سياسيّين كذبة، أو أثرياء تنامت ثروتهم من الحرام والشُبُهات، ومن منافقين يدّعون – كذبًا وزورًا – أنهم يُمثِّلون الوطنية أو الإنسانية أو التديُّن أو الفن أو الثقافة أو غيرها من الدعوات العريضة، وليس لها وجودٌ حقيقي يتجسّد في الواقع، إلا في الكلام، أو لغرض الإشهار والصعود بتلك المُشاهدات على رؤوس هؤلاء المخدوعين فيهم، أو قد تجد من يتمسُّك بالإشاعات الكاذبة ليرضي هواه، فيشارك خبرًا كاذبًا، أو صورةً مفبركةً، لا أساس لهما من الصحة، ولا نصيب لهما من الوثاقة، فيلهث وراء بريق الإعلام الزائف، وتنطلي عليه الأكاذيب، ويبثُّها على صفحته منساقًا وراء رعيلٍ من الموهوبين أمثاله بتلك الأخبار أو تلك الصور، مسرورًا بها، وهو لا يعلم أنه بهذا النشر، أو بذلك التعليق، يُسهم - من حيث يشعر أو لا يشعر - في تخريب المجتمع، وزيادة الطين بلةً في مسخ قيم الإنسانية النبيلة فيه، مُشاركًا في ترسيخ الرذائل وتطبيعها في المجتمع، بما يُضاعف حجم الداء، ويقطع الطريق أو يكاد لمن يسعى إلى النهوض بواقع لما هو أفضل، وهذا كلُّهُ لا يصدر إلا من "الهمج الرعاع" أيًّا كان شكلهم أو مراتبهم الاجتماعية، بما يُوحِّدهم في هذه الفئة، عبر هذه السلوكيات التي تُترجم مصداق هذا الوصف عليهم سواء أكانوا من فئات متدنّية معيشيًّا لم تُتِح لهم الظروف إكمال شوطهم في الدراسة، أم كانوا من المتعلِّمين، ولكن لم يعملوا بما علموا، ولم يكن علمهم وسيلةً يرتقون بها في حياتهم اليومية لما فيه كمالهم العقلي والأخلاقي والنفسي، وهؤلاء الذين وصفهم القرآن الكريم (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّـهِ وَاللَّـهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)  [الجمعة:٥]  والحكمة من هذه الآية الكريمة أنها لا تقتصر في دلالتها حصرًا على من لم يعمل بآيات التوراة، بل تنطبق على كل من يحمل علمًا ولا ينتفع به، ولا يقوده إلى الخير والصلاح والإصلاح، إلى النور بعد أن كان في الظلام، وهذا ما يؤكده قول علي بن أبي طالب في حواره مع كميل عن هؤلاء، (لم يستضيئوا بنورِ العلمِ، ولم يَلْجؤوا إلى ركنٍ وثيقٍ) فهم جهلة فارغون من العلم، يلوذون بهذا أو بذلك من المُدّعين، يميلون مع كل ريح هوجاء – وهي رمز لكلِّ تيار أو اتّجاه أو رمز لا يمثِّل الخير والصلاح في مضمونه - لضعف معارفهم، ورخاوة وعيهم الذي بانعدامه يتعرضون لمثل هذه الاهتزازات في اختياراتهم، ولا يملكون الصمود إزاءها، أو لديهم من العلم ولكن لم يعرفوا كيفية الاستفادة منه، أو توظيفه ليضفي عليهم حصانةً فكريةً تقيهم شرّ الوقوع في شِراك الجهل أو من يقودون المجتمع لهاوية الجهل والتجهيل عبر تسطيح الوعي الجمعي وتخديره بأفكار تمحو شخصيته، وتمسخ هويته، وتزيُّن المنكر بشعارات جوفاء، بما آل حالهم إلى ما وصفهم الإمام علي .

***

د. وسام حسين العبيدي

يعد الأمام علي.. الأنموذج الذي جسّد جوهر الأسلام في صفات الحاكم وفي علاقة الحاكم بالمحكوم في نص وثيقة عهد علي للاشتر النخعي حين ولاّه على مصر. ولكي يكون التحليل علميا لهذه الوثيقة، فأن طريقة (تحليل المحتوى) تعد احدى الطرق العلمية المعتمدة لتحليل (المضمون).. فاستعنت بمن كان طالبي الراحل الدكتورشوقي يوسف بهنام (الذي كانت رسالته للماجستير عن تحليل المحتوى)، وحددنا اهداف تحليل نص (وثيقة العهد) بثلاثة:

- معرفة القيم السيكولوجية الخاصة بشخصية الحاكم،

- الكشف عن القيم الخاصة بعلاقة (سلوك) الحاكم بالرعية،

- ومقارنة القيم في عهد الأمام علي وما عليها في عهد حكّام أحزاب الآسلام السياسي في العراق.

لماذا القيم؟

كان اختيارنا (للقيم Values) مقصودا، لدورها الرئيس في صناعة الانسان وتحديد سلوكه وتوجيهه، ولأنها نظام متكامل من الاحكام والقواعد الاخلاقية والمعايير يخلقه النظام السياسي والمجتمع في نسق مميز ويعمل على اعطائه اساسا عقليا يستقر في اذهان افراده، ويزودهم بمعنى الحياة والهدف الذي يجمعهم من أجل البقاء.

دلالات العهد

يتضمن عهد الإمام (ع) لمالك الأشتر النخعي حين ولاّه مصر مجموعة قيم هدف منها تحقيق ما توصل اليه علماء النفس المعاصرون في ثلاث قضايا اساسية،

الأولى: ان يتمثل الحاكم القيم الايجابية في شخصيته بوصفه القدوة التي تتماهى به الرعية وتقلده.

والثانية: ان القيم هي التي تحدد سلوك الحاكم مع الرعية، وهي التي تحدد موقف الرعية منه،

والثالثة: ان القيم هي الرابط الذي يوحّد افراد المجتمع، وبدونها يتهرأ النسيج الاجتماعي وتشيع الكراهية والعنف والعدوان.

فضلا عن ان الأمام اراد لهذا العهد ان يكون وثيقة تستقى منها المباديء التي ينبغي على الحكّام ان يهتدوا بها في كل زمان ومكان.

تحليل النتائج

اجرينا تحليلا احصائيا (للعهد) بجدولين تضمن الأول القيم الخاصة بشخصية الحاكم وكانت (16) قيمة، بينها (تقوى الله واتباع ما أمر به، اختيار أفضل الرعية للحكم، الأستعانة بأهل الخبرة في طلب المشورة، اكرام العلماء ومجالستهم.. وانتهاء بسعة الصدر وعدم التسرع في اتخاذ القرارات).

وتضمن الثاني القيم الخاصة بسلوك الحاكم مع الرعية وكانت (15) قيمة، بينها: (العدل والانصاف في التعامل، عمارة الأرض، اعتماد مبدأ التدرج الوظيفي، عدم اشعار الرعية بالمنّية، مراقبة دور الحاشية والمتملقين والمنافقين، الأصغاء للعامة من الناس، وانتهاء بالأبتعاد عن الغضب المؤذي والقسوة).

ولدى المقارنة بين مواصفات الحاكم وسلوكه مع الرعية في عهد الامام علي وبين عهد حكّام احزاب الأسلام السياسي، تبين ان واقع الحال هو بالضد من تلك القيم، وسنكتفي بواحدة تخص الضمير تحديدا، بوصفه الرقيب على افعال الانسان، أو القاضي الذي يحكم بالعدل، أو صوت الله في الانسان.. وفص العقيق في الخاتم الذي اذا نزعته منه صار لا يساوي شيئا.

أقبح الضمائر

مع بشاعة الضمائر الميتة، فأن أقبحها هو خيانة الأمانة التي تخص الناس حين تكون بذمّة حاكم مسؤول عن الرعية، وأوحشها حين يكون هذا الحاكم قياديا في حزب اسلامي، وافجعها حين يعلن هذا الحزب انه يقتدي بالأمام علي.

وللتاريخ فان السيد نوري المالكي يعدّ هو المسؤول الأول عن خيانة الذمة بشهادته الصريحة عبر الفضائيات: (لديّ ملفات للفساد لو كشفتها لانقلب عاليها سافلها) لأنه كان على يقين بأنه ان كشف الفاسدين من الخصوم فأنهم سيفضحون حيتان فساد من حزبه.

ولم يصغي هو ومن بعده للرعية كما أمر الأمام، ولم يستجيبوا لمطالب المتظاهرين بالأصلاح التي استمرت تظاهراتهم من شباط 2011 الى انتفاضة تشرين/اكتوبر 2019، ولم يكترثوا بما نشرته الصحف من كاريكاتورات ساخرة بمرارة عن وزير هرب بأموال الناس المساكين بما يعادل ميزانية موريتانيا، وموظف كبير يستحرم أخذ الرشوة في الدائرة لأنه صائم، ويطلب من الراشي ان يأتيه بالدبس الى بيته بعد الافطار!

الحاكم.. سيكولوجيا:

يقدّم العهد مآثر في فلسفة الحكم وسيكولوجية الحاكم. ففي قوله (لا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم اكلهم..)، فانه يطرح مقياسا كاملا للعدالة فيه بعد سيكولوجي هو ان يضع الحاكم نفسه موضع المحكوم، فيكره له ما يكرهه لنفسه. والتقط حقيقة سيكولوجية بثلاث مفردات في قوله (اجتنب ماتنكر أمثاله).. اي عدم فعل ما لا تحب ان يفعله الآخرون بك. ويذكّر الذين جاءوا الى السلطة من داخل الشعب انهم كانوا قبل ذلك يثيرون النقد ضد سيئات الحاكم السابق، فيدعوهم الى ان لا ينسوا مواقعهم النقدية السابقة فيصغوا الى النقد الآتي من القاعدة الشعبية.. وتلك اثمن نصيحة لم يأخذ بها من جاء بهم الشعب الى السلطة بعد التغيير، مع اننا كنّا اطلقناها في (2004) وموثقة في كتابنا (الشخصية العراقية بين المظهر والجوهر)لأنهم كانوا لا يستعينون بأهل الخبرة في طلب المشورة ولا يجالسون العلماء، بل انهم احاطوا انفسهم بالذين يقولون لهم ما يحبون ان يسمعوه.. ولهذا كانوا هم الأفشل والأفسد في تاريخ العراق الذي اعتبروه غنيمة لهم فتقاسموه.

***

أ.د. قاسم حسين صالح

في المثقف اليوم