قراءة في كتاب

شعرية بكر تشفع لها متاهات التجريب..

ahmad alshekhawiقراءة في كتاب د. احمد المعداوي: أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث

في البداية، تجدر الإشارة إلى أن ثمة كتب من الأهمية والقيمة العلمية بمكان، ليُنفض عنها غبار النسيان، ينبغي تحكيمها في تعديل وتقويم مسار المشهد الإبداعي العربي، الشعري منه على وجه التحديد. نظرا لصمودها و استعصائها على عوامل التعرية وتبوءها لرقعة شموخ وأنفة ضمن أرشيف خلود الأسماء ذات الثقل في هذا المجال، ومن ثمّ تنفّسها أبدية الإشراق والحضور وإن في الزوايا الأشد عتمة على رفوف المكتبات في زمن استفحال ظاهرة العزوف عن القراءة وهجرة المطبوع بشكل كارثي لافت.

ولسنا هاهنا نسجل انحيازا إلى صفّ أصحابها تعصّبا أو انبهارا أو تلبية لهوى يغلي بين الحنايا، بقدر ما الحافز في ذلك بدرجة أولى، كامن فيما اتسمت به تلك الاجتهادات المضنية من مصداقية وموضوعية راعت إبرازا كاملا وجليّا لحقائق راوحت ما بين محطات الطّمس والتعمية من جهات معيّنة، لها مصلحة في ذلك، عن حسن أو سوء نية، لا يهم.

لعلّ الباحث المغربي الدكتور احمد المعداوي، إذ ذيّل أطروحته القيمة هذه والتي نحن بصدد تقديم عصارتها للقارئ اليوم، ووشمها بقوله: "منذ البداية، كنت أعرف أنّ أذى كبيرا سينالني، من قبل أولئك الذين اعتادوا أن يتاجروا بالترويج لهذه الحركة والنفخ في رموزها.كنت أعرف مثلا أن أقلّ ما سأرمى به هو السقوط في السلفية، وأن فشلي على صعيد الإبداع الشعري، من حيث نجح غيري نجاحا باهرا، هو السبب في توجهي هذه الوجهة الهدّامة.

ومع ذلك فقد وجدت في مواقف وآراء بعض الشعراء والنقاد الشّرفاء من أمثال محمود درويش، وجبرا إبراهيم جبرا، وإحسان عبد القدوس، ونزار قباني، وصلاح عبد الصبور، وعبد المعطي الحجازي، وأمل دنقل، ومحمد الفيتوري، وشفيق الكمالي، وغيرهم، ما ساعدني على الاستمرار في البحث، من أجل تحويل انطباعاتهم، بخصوص أزمة الحداثة في الشعر العربي المعاصر، إلى حقيقة موضوعية، يقف خلفها منهج تاريخي يتسقّط الأخطاء وينبّه إلى ما خلفها من مصالح وأهواء، ومعرفة كافية بتاريخ هذه الحركة و ما لابسه من صراعات إيديولوجية وفكرية وفنية. و أدوات إجرائية حديثة يسّرت تحليل المتن، والوقوف على مستغلقاته، على نحو ما فصلنا القول فيه في الفصول الثلاثة التي استغرقت جسد الأطروحة.وكل ما نرجوه أن تكون خدمة الحقيقة من وراء ما قصدنا إليه."

 انتهى كلام الدكتور، ولعله كان يتطلع وقتها، إلى ما يمكن أن يثير الزوابع وردود الأفعال الحاقدة والتي قد تقتصر من حيت الفاعلية ومدى الاستفزاز على طرف بحدّ ذاته دون سواه، جراء المساس الجريء بقدسية صروح شعرية ونقدية شيّدها أصحابها وأقاموا حولها من المتاريس والعسس ما يكفي لقمع أي بادرة تتساءل عن مدى صلابة أو هشاشة الأرضية التي شيدت عليها كتلك الصروح، مثلما هو مذكور في غلاف الأطروحة، و بما الإشكالية في جوهرها، بحث قيم رام إلى تفجير واقع أزمة الحداثة فيما يلامس لبّ الشعر العربي، آنذاك، أي لما يختزل ثلاثة أجيال، ما قبل صدور الطبعة الأولى لهذا الكتاب، سنة1993، منشورات دار الآفاق الجديدة، الرباط، المغرب.

الأطروحة تنطلق من أوج حقبة التحامل السياسي على الثقافة العربية عموما، من اليمين إلى اليسار، منذ تأسيس منابر للحركة الشعرية في تياراتها الثلاثة وتباعا، الآداب البيروتية، و شعر، والثقافة الوطنية.

وهي تثبت بالبراهين والأدلة القاطعة، كيف أن الحركة اصطدمت بنفق مسدود في النهاية، برغم الفخفخة الإعلامية التي حضي بها رموز الحركة وقتذاك.

وتتناول بالدرس والتمحيص فصولا ثلاثة هامة للتدليل على أزمة الحداثة الشعرية، عبر تسليط الضوء على تجارب إبداعية عدّة، وتدحض بالحجة والمنطق ادعاءات أصحابها ومن وراءهم من نقاد ومؤيدين، وتنفي زعمهم القائل بتطوير الشعرية العربية، على مستويات ثلاث كما سنتطرّق إليها تباعا في ورقتنا هذه.

وتبطل تلك الاجتهادات المزعومة وتنسب الفضل إلى رواد سابقين ضلعوا فيما تزعمه رموز تلك الحركة من تطوير وابتكار وخلق لمشهدية شعرية بكر تشفع لها تباشير البياض، مثلما جرى على لسان الدارس أحمد المعداوي، من كون تلك البصمات إنما تعود جذورها إلى قرون خلت من الشعر العربي وعلى أيادي الأوائل الذين يعود عهدهم إلى بدايات القرن الحادي عشر للهجرة، وأن ما توهمه رموز الحركة ومن حذا حذوهم، إنما هو من سبيل جهل النقاد وسوء تقديرهم في مقاربات تجارب الرموز، وهي صرامة وقسوة مبنية على تعارض وتناقض مواقف الرموز أنفسهم، وصفعة نقدية تلقّتها أسماء بارزة من قبيل أدونيس والبياتي وجبران خليل جبران ونازك الملائكة وغيرهم. ولم تنتصف إلاّ لثلّة من عيار الشابي و شوقي والعقاد و السياب في تجاربهم المختمرة الواعية.

عالجت الأطروحة ابتداء، البنية الإيقاعية، وجدلية الكم والنبر، إبان أولى ملامح القطيعة مع البيت المقفى، وهجرة العمود إلى رحاب التفعيليّ، وكشفت مغالطات كبيرة وخطيرة جدا، أضرّت من حيث لا تدري بديوان العرب وجرّت إلى مستنقع السطحيات والتلاعب بالذائقة وإقصاء المتلقي وتشويه النظم الجمالية للقصيدة أو النص الشعري.

وانتقلت إلى البنية اللغوية، لتخلص إلى أنها هي الأخرى طالتها تحريفات واحتكاكات تجارية أجهضت فحوى الأدبيات المستوردة والدخيلة، ما أفقدها مصداقيتها و أبان عن عدم أهليتها ومطابقتها لمعطيات ومسلّمات البيئة العربية، وبالتالي شلل في المعنى الممكن أن يحقق القفزة المرجوة بالشعرية، خارج العوالم العروضية كما هي من منظور خليلي بحث، والتي لم يشهد مثيل لجماليتها وعذوبة تعبيريتها، برغم نقر حيز أفسح، ربما لحراك وصولة المخيلة الشعرية، داخل أفلاك الحركة الجديدة.

وقس على ذلك مثالب لا حصر لها، انتهكت خصوصيات الرسالة الشعرية، اللهم إذا استثنينا نصوصا قيمة نادرة جدا وتكاد تعد على رؤوس الأصابع.

وحسب الأطروحة دائما، تعزى أسباب السقوط في مشهدية بلا حداثة شعرية، لتلك الحركة، إلى عنصرين أساسين، الانبهار الأعمى والترجمات التجارية الصرفة، بحيث أنه مثلما تطبّع كل من عبد الله راجع و محمد بنيس بجاك كوهين، تأثر آخرون على امتداد الربوع العربية أيضا، بالتجربة الغيرية في هذا المضمار، حدّ الاجترار والإسفاف والتبعية العمياء.

فتغلغلت في روح تجارب الحركة، هويات أخرى متناقضة ومتضاربة تماما، لا علاقة للعقل العربي بها على الإطلاق، ما أنتج شعرا فجّا سرعان ما لاقى خفوتا وزال بريقه، على موسوعية انتشاره، أولّ الأمر.

بحيث كثر الحديث عن تجارب الغربة وجدلية الحياة والموت ومتلازمة الأضداد وما إلى ذلك من النظريات المستوردة.

كما خلخلت الأطروحة قناعات كثيرة لبسها الزيف لفترات متقطّعة، وأدلت كيف أن شاعرا من طراز بدر شاكر السياب، اعتمد وإلى حد بعيد، على النفس التقليدي في بناء متون شعريته، بحيث اتضح تشربها التكرّر لرواسب المدرسة الرومانسية كما هو معلوم.

والحاصل أيضا، مع كل من أمل دنقل وسعدي يوسف، في اعتقادهما حدّ اليقين، بضرورة تقريب اللغة من حديث اليومي، حدّ إذابة المسافة والفواصل بينهما، بغية تحقيق القفزة النوعية المرتجاة.

فيما قوربت الظاهرة النّزارية، نسبة إلى نزار قباني، وحوصرت بنعوت الظاهرة الهجائية، والتي كان خنجر سمّها الزعاف، في صدر الشعوب العربية المغلوبة على أمرها، أعمق وأبلغ أثرا منه، في صدور الحكام وذوى الزعامة، بعد قضاء ربع قرن، من قبل هذا الشاعر في شتى مناحي تأليه جسد الأنثى، والعسكرة خدور النساء المخملية،  يداعبهن ويتغزلّ بكل نواة فيهن، ويُشْطِط في وصف التضاريس الجسمانية للنوع الناعم،  حدّ الخلاعة والتّهتك والمجون، قبل أن يحدث و تصفع صاحبنا، نكسة حزيران، والتي اتخذها كغطاء، لربما، في الانزياح بشعريته عن اللذة والجنس والمطاردات الإيروتكية، إلى جغرافية الحرف المتمرد والناري داخل حدود أسلوبية، ترخي بثقل المعنى وجبروته، ألوانا وظلالا من الهجاء المنصب على الحكام والجماهير على حد سواء، وكقناع لغضب لم يتمالك معه النفس، فجّره فيه اغتيال بلقيس.وأتباعه فيما بعد ممن استباحوا معجم الجنسانية، إلى حدود اصطدامهم بالنفق المسدود أخيرا ودون سابق تخطيط.

وتفضح الأطروحة مواضع عدة من رداءة الشعرية العربية، على يد الحركة المذكورة، والتي توهّم روادها، وعلى سبيل التضليل، حيازة خصيصة الخلق وابتكار أسلوبية لم يكن لها أصل ولا جذور في تاريخية القصيدة على هيأتها وقوالبها الأولى، بما هو نسف لأمجاد جاهلية ما حادت عن السباحة الطوباوية في مثل تلك الأفلاك الوارفة بنضارة وعمق الابداع.

على رأس قائمة هؤلاء، رموز معيارية من حجم أدونيس، والكوكبة المعاضدة له، من شعراء ونقاد، من حجم خالدة سعيد وبنيس ومن حذا حذوهما.

هي بالفعل مرحلة كبوة عرفتها القصيدة العربية وبشكل قياسي، ومرد ذلك مثلما صرح به الباحث احمد المعداوي، إلى الوهم الذي تباهت باستيراده تلك الفئة الضالة، على عبثيته وعدم مطابقته للثقافة والبيئة العربيتين.

ومن حيث الأزمة، نفاذ إلى روح الشعرية الأولى وتجميد مكوناتها العضوية، بالاتكاء على أقنعة واهية تمثلت بالأساس فيما يصطلح عليه منعطف تحول إيقاعي، وتسجيل لتباريح حقبة الانتقال من البيت العروضي الصافي، إلى أفق تعبيرية وإن زعمت اتساع وشساعة منحة حرية القول الشعري، فقد ضاقت وعلى نحو مخز جدا، بالمعنى والجماليات التي رصّعت على مدى أجيال متعاقبة، تواز مبهر مابين جمالية و عرفانية ديوان العرب.

إنها روح ما أحوجنا إلى العودة إليها، بغرض الاغتراف من نبعها السلسبيل الرقراق، وانثيالها في حقبتها المثالية، التي ازدهرت وأثمرت ما أشفى الغليل، قبل أن يلحق بها عار اغتصاب من توقيع فيروس قاتل، من إلهام المسماة قصيدة تفعيلية، تعتمد عروضا جديدة، هي إذا ما أمعنا النظر في حيثياتها، مجرد لعبة مراوغة ومنتهجة لهوية دخيلة ومصطنعة، مشبعة بخصوصية الغيرية وضلوع ثقافتها وأدبياتها، و داحضة ومفنّدة لنظريات السبق ونفي إنجازات واجتهادات روح الشعرية العربية الأولى.

وهو ما صعق الحداثة في الصميم، وكرّس لوهم تمّ تداوله على نحو مُنحت معه القداسة والشرعية الزائفة لبعض رموز الحركة.

تذهب الأطروحة إلى ما يؤيد هذا في مواضع مكثفة بعلمية البحث وحياديته بناء على شهادات وآراء متضاربة صادرة عن نخبة من المنتمين للحركة بعينهم، وإن لونتها نبرة السياقات المختلفة ذات المضمون الواحد المكرور، والمفضي بالنهاية إلى التشكيك القاسي في حداثة الشعرية، ووضع آل الزعم بها، في قفص اتهام فوّت على القصيدة الشيء الكثير وهبط بها إلى أبشع صور الانحطاط، وانحدر بها إلى مزالق الأنفاق المسدودة، إلاّ في من ندر.

وإبرازا لحساسية الورطة التي صادت خيوط سمّها رواد الحركة، وفق موجبات أفتت بلحظة دقّ ناقوس الخطر والخروج عن الصمت وترجيح كفة المنطق والعقل والجرأة وخدمة الحقيقة، جاء هذا البحث الموسوعي القيم، لا ليفجّر إشكالية بنكهة درامية فحسب، إنّما ليزكي سائر ما يساير التحولات المتناغمة و روح الشعرية الأولى بما هي ترجمة حقيقية وغير تجارية لواقع وحياة وتكوينية هوية وشخصية الإنسان العربي حيثما حلّ وارتحل.

ومن حيث أنها لا أوجه للجدة تذكر في تاريخ هذه الحركة التي طالما تغنّت وأشادت بالبيت الحر في بداية تجلياته وبوادره الأولى، وكيف أنه إذا ما استثنينا النزر القليل من تلك الأعمال الأدبية بالطبع، جاز لنا الإقرار بالفشل الذر يع الذي تجرّعته الحركة في تجريبية انزياحها عن أصول العروض ومحاولة تجاوزه إلى عروض جديد وغيار لم يُصب حظا سوى الخروج علينا بإسراف في التنويع على المعاناة و القافية وتركيبها وإرسالها، و اشتغالهم على آلية التدوير والمزج ما بين البحور الخليلية، وهو فعل أو ممارسة ضاربة بنواتها في عمق الشعرية العربية، كما هو معروف ومعهود في شعراء البند، على سبيل المثال لا الحصر، الحاصل مع صالح الجعفري في مثيل قوله: تجلّى أمسُ للعشّاق فاجتاح قلوبا شفّها الوجدُ/ وزادتها التّباريحُ شجونا/ فما رقَّ ولا لانْ/ولا جازى بإِحسانْ .

وتعميما للفائدة، نختم بالدمغة البحثية التالية:الواقع أننا لم نكن بحاجة إلى هذه التساؤلات كلها، لو لم نجد النقاد والباحثين في الشعر العربي الحديث، بمن فيهم الشعراء أنفسهم، يلحون كل ذلك الإلحاح، على أن البنية الإيقاعية الجديدة إنما قامت على أنقاد البنية الإيقاعية التقليدية، وأن ثورتهم الإيقاعية العظيمة كانت الخطوة الأولى في سبيل دخول صوت الحداثة من بابه الواسع، وما ذاك إلا لإيماننا العميق بأن عظمة الشعر في كل زمان ومكان لا تتحقق بمجرد ثورة الشعراء على القوانين العروضية، قديمة كانت أو حديثة. وإنما تتحقق تلك العظمة بما تزخر به إبداعاتهم من شعرية، لأن الشعرية لا تتوقف على الإيقاع وحده، مهما حاولنا تثوير قوانين هذا الإيقاع لتتجاوز أو تتخطّى أو تفتت ما كان معروفا قبلها من ضوابط وقوانين.ولعل أكبر خطأ وقع فيه النقاد والباحثون وحتى الشعراء المحدثون، هو أنهم برغم الشعارات التي أكدوا من خلالها على عدم الفصل بين الشكل والمضمون حينا، وبين الدال والمدلول حينا آخر، قد تعاملوا مع البنية الإيقاعية الجديدة كما لون أنها جزيرة معزولة في بحر الحداثة، فكأن هاجسهم الخفي وهم يكتبون عن بنيتهم الإيقاعية الجديدة إنما كان نسف عروض قديم وإقامة عروض جديد، بحيث يمكن القول بأن وراء كل واحد منهم يكمن خليل صغير، يدل على ذلك بالوضوح الكافي، العناوين الفرعية لأبحاثهم فمن " نحو بديل جذري لعروض الخليل" إلى " الأسس اللغوية لموسيقى الشعر" إلى " الشعر الحر ظاهرة لغوية" إلى غير ذلك مما يؤكد أن المهمة لم تكن هي القيام بعمل نقدي هدفه الكشف عن شعرية الإيقاع.".

وما ينطبق بهذا الخصوص على بينية الإيقاع ينطبق كذلك على كل من البنية اللغوية والرسالة الشعرية أيضا.

ومما يمكن مؤاخذة الأطروحة عليه برغم قيمتها العلمية وثرائها البحثي، النبوءة التي خانت صاحب الكتاب فيما يتعلق بمستقبل قصيدة النثر، باعتبارها الأوسع شعبية وانتشارا حاليا فيما يشبه تخلّ شبه مطلق لها، من لدن الغريمتين السالفتين،  في ترع المشهد و الاستحواذ على الساحة، بصرف النظر عن هاجس التعاطي الجاد وتقديم النوعي فيما يخصّ شعرية قصيدة النثر حاليا من عدمها.

يقول الدكتور:"لقد انتبه بعض الشعراء والدارسين إلى هذه الأزمة، بالشكل الذي وصفناه أو بأي شكل آخر، وحاولوا تجاوزها، بأحد اختيارين، أولهما الاعتماد على البصري بدل السمعي، أي بإقحام لعبة السواد والبياض، وتسخير النقط والفواصل وعلامات الترقيم لتوزيع الدلالة بصريا على جسد القصيدة. وبالطبع فإن هؤلاء لم يضيفوا شيئا إلى جوهر البنية الإيقاعية سوى أنهم استبدلوا بالتغطية البنيوية تغطية سريالية دادائية، تعطي أهمية كبرى لمتعة البصر على حساب متعة السمع.ومعلوم أن ما هو مطلوب من النص الشعري إنما هو إمتاع الروح بالشعرية لا بالزخرفة، إذ لو صحّ العكس لكان الرسامون والخطاطون من أعظم الشعراء في العالم، ولما كان لكل من أحببنا من شعراء قديما وحديثا مكان في هذه العظمة."

ويضيف: "أما الاختيار الثاني فيتعلق بالعودة إلى قصيدة النثر، وهي عودة يرفضها منطق التاريخ الذي يعيد نفسه، ومنطق الواقع الذي حكم عليها بالموت بعد أن استبدل بها كبار كتابها فنونا أدبية أخرى، كالمسرح على يد محمد الماغوط والرواية على يد جبرا ابراهيم جبرا."

وكأن قصيدة النثر عانت وكابدت ظرفية هجرتها وانقراضها الفعلي، كي تنال قسطها من البعث والإحياء، ولتنقر الحظوة ببشرف عودها الجديد المغاير، وهو ما يشي بمجرّد بث انطباع شخصي نشاز، ولبوس من تخمين غير صائب، وتوقعات في غير محلها وقول مردود على صاحبه، وإن كان هذا بكل تأكيد، لا ينتقص أو يقلّل أو يحطّ من شأن الأطروحة في شتى أبعادها العلمية والفنية الفكرية، كاجتهاد واع ومضن وقائم على البراهين الدامغة في تفجير ملفّ طوّق طويلا بجملة طابوهات أمكنها، ردحا من الزمن، طمر الحقيقة المرة المشدودة إلى عوالم أزمة ملمّة بروح الشعرية العربية تحت أقنعة متنوعة وادعاءات واصطناع حداثة لا تتفق وهوية وذاكرة وخصوصية الوجود العربي أصلا.

 

احمد الشيخاوي/ كاتب مغربي

............

إحالة:

أنظر كتاب: (أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث) للمغربي د. أحمد المعداوي، الطبعة الأولى منشورات دار الآفاق الجديدة الرباط سنة 1993.

    

 

في المثقف اليوم