قراءة في كتاب

ما الذي قصده فرويد؟.. اجابة من منظور سوزان شوكرمان.. كتاب نظرية العقل من منظور زمني إنموذجاً

بدءاً أود القول بأني لست مختصاً بالدراسات النفسية، انما تعاملت مع هذا الكتاب بوصفه نصاً ثقافياً، وفرويد بحد ذاته خطاب ثقافي يعبر عن الثقافة الغربية، مع تأكيد القول إن التحليل النفسي شكل من اشكال التفسير الثقافي.

ينتمي هذا الكتاب الى تلك الدراسات التي تؤمن بوجود زيف يتشكل حين دراسة فكرة ما، ولعل فكر فرويد ليس بعيداً عن ذلك الزيف الذي شكلته بعض الدراسات حوله، لذا يمكن تصنيف كتاب نظرية العقل من منظور زمني لـ سوزان شوكرمان من النصوص التي تسعى للدفاع عن فرويد، وهنا سيتم الحديث عن ذلك، فضلاً عن المنهجية التي اعتمدتها الكاتبة في دفاعها .

منهجية شوكرمان

اشتغلت الكاتبة على دراسة نصوص فرويد تزامنياً لمعرفة فكره وبيان تطوره. وهنا لابد من القول إن هذا الكتاب يمكن عده مدخلاً أو دليلاً لفكر فرويد لمن لم يقرأ فرويد، وثانياً السعي لتشكيل صورة جديدة عن فرويد لمن قرأ فرويد. ويمكن مقاربة ذلك مع سؤال كيف نقرأ فرويد؟

الاجابة الأولى: قراءة المنشقين الخصوم عن فرويد (يونغ ادلر).

الاجابة الثانية: قراءة التلاميذ الذين انشقوا (ايريك فروم).

الاجابة الثالثة: قراءة فرويد وفق من تحاور معه (جان لاكان)

الاجابة الرابعة: قراءة فرويد فلسفيا (ريكور، دريدا).

لقد لفت انتباهي دراسة الكاتبة لـ فرويد ضمن سياق نصوصه. رغم أن البعض من القراء من يبحث عن دراسة تكون امتداداً للقراءة الآثمة، وهناك نوع آخر من القراء يبحث عن التلخيص، وهذا العمل قريب من ذائقة النوع الأخير. وهنا اعادتني الذاكرة الى اشتغالات الفلاسفة المسلمين حين عملوا على تلخيص كتابات افلاطون وارسطو، فالتلخيص احيانا ينفع كمدخل للفهم والمساهمة بتشكيل فهم المتلقي من خلال تحفيزه للتفكير بالنص .

عملت شوكرمان على دراسة فرويد بشكل عمودي من خلال التسلسل الزمني لنصوصه وليس بشكل افقي، من خلال مفاهيم تضعها لتشكل مدخلاً لدراسة فرويد، ودراسة فرويد من خلال المفاهيم مهمة خطيرة لأن فرويد نفسه لا يسيطر سيطرة كاملة على المفاهيم التي يسعى لتوضيحها مثل (الحياة، الموت، اللذة، الانا، وغيرها)، ولأن هذه المفاهيم بحد ذاتها غالباً ما تكون غير ثابته. والطريقة العمودية احيانا تكون مهمة في الدراسات التي تكون مدخلاً لدراسات أخرى. وهنا ملاحظة مهمة لابد من ذكرها، احيانا تكون هناك اهمية للاشتغال وفق الطريقة العمودية حين يكون هناك تزييف حول فكرة ما، أو تأويل آثم ينتج عنه احياناً القول بأن المفكر لا يقتنع بقراءة من قرأ فكرته، ولسان حاله يقول (هل انا كتبت هذا؟) .

اشتغلت الباحثة على كل ما هو جزئي لتشكل رؤيتها حول الكلي المتمثل هنا بـ نظرية العقل. وينتمي هذا الكتاب الى سلسلة الدراسات التي تسعى الى اعادة بناء التفكير في دراسات فرويد وكذلك حول ما قُدم عن فرويد من دراسات ولو بشكل ضمني. ومن الواجب القول إن عملية التجزئة التي اعتمدتها الكاتبة لا تعني الفصل بين الموضوعات أو بتعبير آخر قراءة الموضوع دون سياقه .

إن الطريقة السابقة التي قدمتها شوكرمان ربما تختلف مع ذائقة بعض القراء العرب الباحثين عن النتائج أولاً ومن ثم الدخول في جزئيات الفكرة وتفصيلاتها، أما التفكير الغربي المعاصر أو البعض منه يريد أن يجعل من القارئ مساهماً ومفكراً في الموضوع من خلال تتبع الجزئيات ومن ثم اعطاء حكم عام على العكس من القارئ العربي الباحث عن النتيجة (الذي لسان حاله يقول اعطني النتيجة اولا ومن ثم (احياناً) يبحث في الجزئيات) .

شوكرمان ودفاعها عن فرويد

لم يسعى فرويد الى البحث عن الاصول والدوافع انما سعى الى بناء نظرية خاصة بالعقل البشري ومبادئه، إذ إن فرويد تتبع الحياة العقلية وارجعها الى مكوناتها الأولية واعلن إن من اهم القواعد الاساسية لحياتنا العقلية هو تجنب الالم ورعاية اللذة بل إنه رد مبدا اللذة الى أكثر التصرفات بدائية وهو رد الفعل الانعكاسي الذي ارجعه الى النظام العصبي، كما إنه وحد بين الجنس وحب البقاء في كتاباته الأولى كغريزة تعتمد عليها كل الغرائز الاخرى، والقول بأن الموت هدف للحياة فيه تماهي مع رأي شوبنهور، ولكنه بعد عشر سنوات وبشكل خاص في كتابه الحضارة ومنغصاتها انتقل من الموت الى العدوانية وهنا رد على من يدعي بأنه يسعى الى ارجاع حياتنا العقلية الى الاصول والجذور الاولى كدوافع بل كان محركه بناء نظرية خاصة بالعقل البشري .

لقد بدأ التزييف لرؤية فرويد من العلماء الممارسين للتحليل النفسي الذين جاؤوا بعده، إذ إنهم على وفق معالجاتهم لجمهور عريض من المرضى، شذبوا وصقلوا وقدموا ما اعتقدوه هم على حساب تشويه المبادئ الحقيقية للنظرية وكل المناقشات التي اعقبت ذلك تعاملت مع رؤية هؤلاء العلماء على إنها حقيقة وتعبير عن رؤية فرويد .

إن الذين جاؤوا بعد فرويد من مفكري التحليل النفسي، ذكروا عدم امكانية ارجاع اغراض الانسان واهدافه الى اللذة، ولعل من تلك الاهداف التفاعل الاجتماعي. مثلا الطفل بدلا من القول إنه يبحث عن اللذة يمكن القول انه يسعى لاقامة علاقة مع الاخرين . اما عن رد سوزان شوكرمان فيمكن تلخيص بعض منه بما يأتي:

1- لم يكن فرويد غريبا عن الرأي القائل بأن الشخص يسعى احيانا الى تجارب تبدو للبعض بأنها تسبب الم وهذه الفكرة تناولها في مقالته عن المازوكية فضلا عن الدراسات الاخرى.

2- ان مبدأ اللذة هو ثاني اثنين في نظرية العقل عند فرويد، اذ يرى فرويد إن اللذة والالم من اكثر الغرائز في علم النفس، بدائية واولية مقارنة بصفات حسية خاصة.

3- كل ما حاوله فرويد وبعيدا عن القول بالاصل الحيواني للانسان، هو تماهي بنية العقل الانساني مع سلفه الحيواني مع اشتراط القول بأن النظام العصبي يسعى في المقام الاول الى افراغ التوترات التي تنبثق منه.

4- حاول فرويد من خلال تأكيده على الغرائز من اجل تمييز بنية ذلك النظام، ولم يصرح ما المهم في الحياة، بل عن الغرائز وما تؤول اليه هدفها في عمل النظام .

5- لقد كرس فرويد حياته الطبية من اجل اماطة اللثام عن دوافع المرضى التي بالكاد يستطيعون السيطرة عليها ويكبتونها مما يكلفهم ثمنا غاليا.

6- رغم ما قيل انه ادعى وجود طابع أو لمحة جنسية في كل ما نجده جميلا، إلا إنه يبقى من العلماء القلائل الذين اشتغلوا على اصل الذائقة الجمالية .

7- إن من جاء بعد فرويد من علماء التحليل النفسي، قد كرسوا جهودهم لمعرفة اسباب المرض، أما فرويد فقد سار وراء البنية التي تسمح للاسباب بانتاج المؤثرات التي تحركها .

8- لقد اخطأ الرأي العام والرأي الاكاديمي في فهم طروحات فرويد فيما يخص الغرائز وهويتها فيما اعتبره الاساس في نظريته، بل إن الغرائز فهمت خطأ بأنها تدل على الجنس والعدوانية ولاسيما مع ميتشيل وبلاك، في حين إن فرويد اعتبر بشكل مبدئي الغرائز الجنسية او غرائز الانا او غرائز حفظ الذات لها الاولوية ثم انه تحت عنوان كبير هو غرائز الحياة او الايروس التي تؤدي عملها بالتعارض مع غرائز الموت، اذ ان اعتبار الجنس والعدوانية الفئتان مرتكز الغرائز يفقد نصف ما طرحه فرويد بخصوص الحياة والموت.

9- وفيما يتعلق بالقول بأن فرويد قد اشتغل على الاصول او اسس لذلك، فإن نظريته بمجملها تتناول كيفية تحركنا لبلوغ اهدافنا متجاوزين ادنى البدايات الممكنة لأن المصطلح الاصلي هو التطور، ولا سيما في كتابه ماوراء مبدأ اللذة .

10- لقد أُنتقد فرويد على تقسيمه للعمليات العقلية في كتاباته الاولى، وهذه التقسيمات كما هو معلوم هي (الهو، الانا، والانا العليا)، كمخطط بسيط للوعي واللاوعي. ووفق رأيهم أي النقاد عن هذا التقسيم يجرد الانسان من هويته، وبالنتيجة انتزاع فاعليته، وهذا هو لب المشكلة وفق ما يدعون، بينما مشروع فرويد، هو على النقيض تماما مما ذكر لأنه يعكس اشارات تقع ضمن الفاعلية التي سعى هو الى جعل المريض يتبناها من أجل تطبيقها، أما عن التقسيمات فقد اسيء فهمه التي هي تخطيطات تسمح لفرويد تفسير نشأة سلوك الانسان مابعد السنين الاولى وطريقة ظهوره وصولا لاتخاذه طابعا فرديا مميزا .

ختاماً، يمكن القول إن الذي يلفت انتباه القارئ العربي هنا عملية مراجعة الذات بشكل مستمر في الفكر الغربي، وبيان الاختلاف بين الاصول (الحقيقة) والقراءات (الصور) التي تبنت تلك الاصول، وهذا اولا، وثانيا محاولة جعل الدرس الاكاديمي -الذي يعد كتاب نظرية العقل من منظور زمني من نتاجاته- يلتزم الحيادية ولو محاولة ذلك في زمن تطغى عليه الذاتية اكثر من الموضوعية، فضلا عن سلطة القارئ في المقابل من سلطة النص. اذن من الواجب القول إن كتاب شوكرمان يمثل دعوة الى قراءة فرويد من خلال نصوصه وليس من خلال اتباعه ومنتقديه .

 

د. قيس ناصر راهي

................

ملاحظة: د. سوزان شوكرمان، هي استاذ علم النفس التطوري في جامعة برنستون، ولها كتابات اخرى عن فرويد وليس هذا الكتاب فحسب، وقد بدأت مسيرتها في دراسة فرويد منذ ثمانينيات القرن العشرين، وجاء هذا الكتاب (نظرية العقل من منظور زمني- فرويد بين الحقيقة والصورة-) تتويجاً لتلك المسيرة، ولابد من الاشارة هنا الى أن هذا الكتاب قد ترجمه الى العربية د. عبد الستار الاسدي، وطبع في دار الرافدين، سنة 2017.

 

 

في المثقف اليوم