قراءة في كتاب

الثورة الجزائريَّة في الشعر العراقيّ للدكتور عثمان سعد

علي القاسميحنين وآلام بسبب كتاب: عندما أهدى إليّ الدكتور عثمان سعدي نسخة من كتابه الباذخ "الثورة الجزائرية في الشعر العراقي"، لم يخطر بباله أنَّه سيسبّب لي أرقاً وسهداً لثلاث ليالٍ، ويثير في نفسي شجوناً وأوجاعاً وآلاماً مبرحة أحاول الآن التخلُّص منها بإفراغها على الورق. وتعود هذه الانفعالات الأليمة والمشاعر الموجعة إلى أمورٍ ثلاثة: الأوَّل، يتعلّق بي، والثاني، يرتبط بجيلي، والثالث، ذي صلة بالثورة الجزائرية.

وقبل أن أبيّن هذه الأمور الثلاثة بإيجاز، ينبغي أن أقدّم الكتاب للقارئ الكريم بإيجاز كذلك.

المؤلِّف:

مؤلِّف الكتاب، الدكتور عثمان سعدي، جزائريٌّ أمازيغيٌّ عربيٌّ أصيل. فهو ينتمي إلى قبيلة "الشاوية" الأمازيغية (البربرية) الشهيرة. ومعروف أنَّ هذه قبيلة من العرب العاربة الذين كانوا يتكلّمون إحدى لهجات الجزيرة العربية قبل الإسلام. وقبائل الشاوية موجودة هذه الأيام في شمالي العراق، وفي شرقي الجزائر، وفي وسط المغرب. وقد تعرّبت هذه القبيلة تماماً في العراق والمغرب (أي تبنّت العربية المستعربة بدلاً من لهجتها العربية العاربة القديمة، كما فعلت قبلها القبائل الآشورية والسريانية والفينيقية وغيرها).

ولد عثمان سعدي في ولاية تبسة في الجزائر عام 1930، وكان المستعمِر الفرنسي في تلك السنة يحتفل بمرور مائة عام كاملة على احتلاله الجزائر ونهبِ ثرواتها والتمتُّع بخيراتها، على الرغم من أنَّ الشعب الجزائري لم يتوقَّف يوماً عن المقاومة منذ أول يوم دخلت فيه القوات الفرنسية أرض الجزائر حيث قاد الأمير عبد القادر الجزائري الكفاح البطولي. وتكرَّرت ثورات الشعب الجزائري بين عامي 1830 و 1916، ثمَّ اتَّخذ كفاحه أشكالا متعدِّدة من المقاومة حتى توّج بالثورة الجزائرية التي اندلعت في نوفمبر1954.

ولهذا، فإنَّ عثمان سعدي ناضل وهو فتىً في صفوف حزب الشعب الجزائري، وهو ما زال يواصل دراسته في معهد عبد الحميد بن باديس (رئيس جمعية العلماء الجزائريِّين) في قسنطينة. وتخرّج في هذا المعهد سنة 1951. وحالما تأسَّست جبهة التحرير الجزائرية، انخرط في صفوفها، وعمل في ممثِّلياتها في المشرق العربي، وعُهِد إليه بمنصب الأمين الدائم لمكتب جيش التحرير بالقاهرة. والتحق أثناء عمله هناك في جامعة القاهرة ونال الإجازة في اللغة العربية وآدابها.

وبعد انتزاع الجزائر استقلالها بتاريخ 5/7/1962، بفضل الثورة الجزائرية التي استعرت مدّةَ سبع سنوات ونصف واستشهد فيها مليون ونصف المليون من الجزائريِّين والجزائريات، راح عثمان سعدي يناضل في مواقعَ فكريةٍ ووظيفية. وكانت إحدى القضايا الفكرية التي تشغله قضية التعريب في الجزائر في مواجهة المفرنسين وهيمنة الفرانكوفونيّين الذين أرادوا طمس هُوية الجزائر الوطنية والإبقاء على مواقع اللغة الفرنسية ومواقعهم في البلاد. فأصدر كتابه " قضية التعريب في الجزائر" (بيروت 1967، والقاهرة 1968)، كما نشر كتابه " عروبة الجزائر عبر التاريخ " ( الجزائر 1981، 1985)، وكتابه " التعريب في الجزائر: كفاح شعب ضد الهيمنة الفرنكفونية" (الجزائر: 1993)، وكتابه " الأمازيغ عرب عاربة " (الجزائر: 1996، وطرابلس الغرب: 1999).

وعُيِّن عثمان سعدي سفيراً للجزائر في بغداد في منتصف عام 1971، وأمضى أربعين شهراً هناك، فاغتنم فرصة وجوده في العراق ليلتحق بجامعة بغداد للحصول على الماجستير في الأدب العربي، واختار " الثورة الجزائرية في الشعر العراقي " موضوعاً لأطروحته. وقام ببحث ميداني لإنجازه تكلَّل بالحصول على درجة الماجستير. وعندما نُقِل عثمان سعدي سفيراً لبلاده في دمشق عمل على جمع تراث الثورة الجزائرية في الشعر السوري.

وعند انتهاء مهمة عثمان سعدي في دمشق وعودته إلى الجزائر، واصل دراساته العليا حتّى نال شهادة دكتوراه الدولة في الأدب العربي من جامعة الجزائر. وهذا مؤشِّرٌ آخر على نضال الدكتور عثمان سعدي، فهو دائماً يجمع بين نضال التحرير ونضال التعلُّم، وبين العمل والدراسة، وينظر إلى اكتساب المعرفة في إطار مقولة اليونسكو " التعلُّم مدى الحياة " أو كما قال الإمام أحمد ابن حنبل: " مع المحبرة إلى المقبرة" .

وإضافةً إلى دراساته الأكاديمية العلمية، فإنَّ للدكتور عثمان سعدي كتاباتٍ إبداعيةً منها مجموعته القصصية بعنوان " تحت الجسر المعلَّق " (بغداد 1974، والجزائر 1980)، وروايته الموسومة بـ " دمعة على أُم البنين " (الجزائر 2001)، بالإضافة إلى مقالاته الكثيرة التي يتناول فيها القضايا الفكرية والوطنية والقومية. وهو فوق هذا وذاك، مثقَّف عميق الثقافة، واسع الاطلاع على المدارس الفكرية والفلسفية، وله دراية بالتاريخ العربي والعالمي. ويرأس حالياً " جمعية الدفاع عن اللغة العربية " في الجزائر.

إهداء الكتاب:

يهدي الدكتور عثمان سعدي كتابه إلى شقيقه سليمان الشهيد، الذي جُرِح في أحد المعارك مع جيش الاستعمار الفرنسي، وعولج في تونس، وقبل أن يتماثل للشفاء تماماً عاد إلى أرض المعركة. وذات يوم قاد معركة غير متكافئة مع جيش العدو الفرنسي على الحدود التونسية الجزائرية، وتمكَّن العدو من أَسره بعد أن استعملوا قنابل الغاز المُفقِد للوعي. وتوافرت للعدو معلومات استخباراتية تفيد أن سليمان من (دشرة ذراع البقرات)، فأنكر سليمان مدّعياً أنَّه مجاهد تونسي متطوِّع في جيش التحرير الجزائري. فساقوه إلى الدشرة للتأكُّد من صحَّة ادعائه. وكان خيط من الدماء نازلاً من رأسه، فغسل بالدم وجهه لئلا يتعرّف عليه أطفال الأسرة، وأجرى العدو مواجهة بين سليمان وأُمِّه، فأنكرت الأُمُّ معرفتها به إنقاذاً للقرية من انتقام العدو والدمار، إذ كان الجيش الفرنسي يفعل في الجزائر ما فعله الجيش الأمريكي بعده في فيتنام والعراق: يدمّر القرية أو الأُسرة التي يثبت انتماء مقاومٍ إليها.

وسواء أكانت قصة سليمان البطولية هذه حقيقة أم أسطورة يتناقلها أهل قريته (فبعض البطولات الخارقة الحقيقية تبدو أسطورة)، فإنَّ استشهاد سليمان وأكثر من مليون ونصف المليون جزائري من أجل الوطن هي أسطورة ملحمية حقيقية. ويختم الدكتور عثمان سعدي إهدائه بهذه الكلمات المؤثِّرة:

" عزيزي سليمان

لم تخلّف وراءك قبراً أضع عليه باقات الزهور، فعملتُ على جمع هذه الباقة من الشعر فيك وفي رفاقك الشهداء من أقصى قطر في وطننا العربي الكبير، فاقبل مني يا أغلى إنسان على قلبي، وقُل لرفاقك أن يقبلوا مني هذاالعمل. أخوك: عثمان"

منهجيَّة الكتاب:

رُتِّبت أسماء الشعراء ترتيباً ألفبائياً في الكتاب. وقبل أن يثبت المؤلِّف قصيدةَ الشاعر أو قصائده، يُدرج نبذة مختصرة في حدودِ صفحةٍ واحدة عن حياته، يذكر فيها مكان مولد الشاعر وتاريخه، ودراسته، ومهنته، ومؤلَّفاته، وما إذا كان الشاعر قد زار الجزائر أم لا، وبضعة سطور كتبها الشاعر نفسه حول انطباعاته عن الثورة الجزائرية. ثم يذكر المؤلِّف عدد القصائد المدرجة لذلك الشاعر، وكثيراً ما يضيف عبارة تفيد أن هذه القصيدة أو القصائد من أجمل أو أجود ما تضمنته الموسوعة من شعر. وهذا يدلُّ على أن المؤلّف كان يتذوّق تلك القصائد أجمعها، وينفعل بها، ويهتز لها، ويقدّرها، ويُكبِرها.

وقد ذيَّل المؤلِّف القصائد بأكثر من 1800 هامش، شرح فيها كلماتها الصعبة، وعرّف بالأعلام والأماكن الواردة فيها. وبالإضافة إلى الفهرس العام في آخر الكتاب، يجد القارئ فهرساً آخر للأعلام، ومراجع البحث، وصورة من الإعلان الذي نشره المؤلِّف في الصحف العراقية يدعو فيه الشعراء العراقيِّين الذين ساهموا بشعرهم في الثورة الجزائرية بموافاته بقصائدهم، ونماذج من الإجابات التي تلقّاها.

محتوى الكتاب:

بين يديَّ الطبعة الثالثة من كتاب " الثورة الجزائرية في الشعر العراقي " التي صدرت عن مطبعة الميزان للطباعة والنشر في الجزائر سنة 2001. وكانت طبعته الأولى قد صدرت في بغداد عام 1981، والثانية في الجزائر عام 1985.

تقع الطبعة الثالثة في مجلَّدٍ واحد يضمُّ جزأيْن ويقع في 803 صفحات من الحجم الكبير. وكان المؤلِّف قد أعدّ هذا الكتاب بمثابة رسالته لاستكمال متطلَّبات شهادة الماجستير في جامعة بغداد، كما مرّ بنا.

اعتمد المؤلِّف مراجع متنوعة مثل " معجم المؤلِّفين العراقيين" و " شعراء الغري"، ودوواين الشعراء العراقيِّين المعاصرين للثورة الجزائرية. وقد بلغت قائمة مراجعه 78 مرجعاً، منها 38 ديواناً و 16 كتاباً، و26 دورية، و 8 من أعداد مجلَّة "الآداب" البيروتية التي كانت تستقطب كثيراً من الشعراء والأدباء العراقيين في تلك الفترة.

وبالإضافة إلى ذلك، فإنَّه نشر إعلاناً في الصحف العراقية، كما ذكرتُ، موجهاً " إلى كلِّ الشعراء الذين ساهموا بشعرهم في الثورة الجزائرية" يرجوهم فيه إرسال قصائدهم إليه. وقد تجمّع لديه (255) قصيدة أبدعها (107) من شعراء العراق، يقيمون في أكثر من (20) مدينة وبلدة. وقد وصلت هذه القصائد إلى المؤلِّف، إمّا من الشعراء أنفسهم (حوالي نصف القصائد)، أو من أبنائهم، أو من قرّائهم. وفي جميع الأحوال كان المؤلِّف يقابل النصوص التي يحصل عليها مع ما هو مثبت في ديوان الشاعر إنْ كان له ديوانٌ مطبوع، أو المراجع الأُخرى التي نُشرت فيها تلك القصائد.

وفي تقديري الشخصي أنَّ هؤلاء الشعراء الـ 107 لا يمثّلون إلا نسبة صغيرة من شعراء العراق آنذاك. فالشعر سمة العراقيِّين منذ عهد السومريِّين، وأنا أعرف مدينةَ في العراق غالبية أهلها شعراء. كما أنَّ هذه القصائد الـ 255 التي حصل عليها الدكتور عثمان سعدي لا تمثل جميع القصائد التي قيلت في الثورة الجزائرية. فكل شاعر عراقي كتب عن الثورة الجزائرية قصيدة أو أكثر، ومن الشعراء مَن كتب مجموعة شعرية كاملة عن الثورة أو أحد أبطالها، فللشاعر الكبير علي الحلي مجموعتان شعريّتان كاملتان عن الثورة الجزائرية.

وفي ظنّي أنّ كثيراً من الشعراء العراقيِّين الذين انفعلوا بالثورة الجزائرية وتفاعلوا معها إحساساً صاغوه شعراً، لم يستجيبوا إلى دعوة السيد السفير، فلم يوافوه بأشعارهم لأسبابٍ شتى. فكثيرٌ منهم كانت المنيَّة قد وافتهم، أو كانوا يرزحون آنذاك في السجون والمعتقلات، أو يعانون الغربة والضياع في المنافي البعيدة في تلك الفترة، أو ببساطة لم يطّلعوا على الإعلان لإقامتهم في قريةٍ نائيةٍ لا تصلها الصحف، أو لأيِّ سبب آخر. وقد يكون بعض أولئك الشعراء قد اطّلع على إعلان السيد السفير ولكنّه لم يبعث بقصائده، لأنّه كتبها بدافعٍ وطني نبيل وإحساسٍ إنساني صادق، ويأنف من أن يمنّ بها على سفير أو وزير. وهذا الأمر ذو علاقة بأنفة الفرد العراقي ونفسيّته. ويحمل الكتاب دليلاً على ما أقول، إذ بعث أحدهم برسالة إلى السيد السفير يقول فيها:

" قرأتُ إعلانكم... لقد أثار شجوني هذا الإعلان وأعاد بي الذكرى إلى ماضٍ عشناه ليس ببعيد. عادت بي الذكرى فنهضت انفض الغبار عن مكتبتي وعدتُ إلى كتبي لأفتش بين طياتها عن بعض القصائد التي تتناول مختلف قضايانا القومية والمصيرية، ولكن للأسف لم أعثر سوى على هذه القصيدة. أما البقية فلم أجدها، لقد أضاعتها الأيام فيما أضاعت. لقد بحثتُ عن قصيدة لا أزال أتذكر منها البيتين الأولين، وهي:

ضجَّ الرصاصُ وزمجرَ الإعصارُ         وعلا النشـيدُ وقهقه الجزّارُ

ضجّ الرصاصُ فيا دماءُ تفجّري         غضباً، وزمجِر هادراً يا ثارُ

إنها قيلت في الثورة الجزائرية..

وختاماً أرجو أن أكون قد وفِّقتُ في تلبية طلبكم متمنياً لكم الصحة والسعادة ولأمتنا العربية وحدتها وحرِّيتها تحت رايةٍ واحدة. عربي" (ص 170)

ثم يُرفق هذا العربي قصيدةً بعنوان (جميلة) تتألف من 22 بيتاً ومطلعها:

جميلة لفَّ الليلُ قلباً معذَّبا       يناديكِ إذ لم يلقَ إلّاكِ كوكبا

ولم يذكر هذا الشاعر اسمه أبداً.

ويبدو أنَّ المؤلِّف كان يدرك ذلك النقص في كتابه، فقال في مقدِّمته:

" إنني أشعر أن الموسوعة ـ رغم هذا العدد الكبير الذي ضمّته من الشعراء ـ غير كاملة." (ص 21)

وبإنعام النظر في محتويات الكتاب، يمكن استخلاص بعض الحقائق أهمها ما يأتي:

1) إنَّ الشعر يظلُّ حيّاً نابضاً في أرض الرافديْن، وهو بحق " ديوان العرب ". فالشاعر العراقي هو الناطق باسم أُمته، المعبِّر عن مشاعرها وآلامها وآمالها. وقد بقي الشعر في العراق أدباً ملتزماً لصيقاً بالقضايا الوطنية والقومية والإنسانية. وهذا ما أدركه المؤلِّف، فقال في مقدمته:

" فقد كان لكل انتفاضة عراقية شعراؤها. ففي الوقت الذي نجد فيه لثورة (1920ـ1921) العراقية شعراؤها من أمثال الراضي، والرصافي، والبصير، وغيرهم، الذين وقفوا في الشارع يحرّضون الجماهير على الثورة قبل قيامها، وعلى دعمها والوقوف معها بعد اندلاعها، نشاهد ثورةً بمصر كثورة عرابي في عام 1919، ـ وهي نفس الفترة الزمنية لثورة العراق ـ يكاد لا يوجد لها أثر بالشعر المصريّ." (ص 12)

2) إنَّ الشعراء العراقيّين الذين نظموا قصائدهم في الجزائر ذو انتماءاتٍ سياسيةٍ متباينة، من أقصى اليسار إلى أدنى اليمين، وينتسبون إلى مختلف الشرائح الاجتماعية، والمناطق الجغرافية، والأصول القومية، والمعتقدات الدينية والمذهبية، ويزاولون مهناً مختلفة. فنحن نجد في هذا الكتاب قصائد لعددٍ من العلماء العراقيِّين الذين قلّما عُرِف عنهم نظم الشعر مثل الباحث المرحوم محمد بهجت الأثري، وصديقي اللغوي الدكتور أحمد مطلوب (رئيس المجمع العلمي العراقي حالياً)، والفقيه السيد هادي كمال الدين، وأستاذي التربوي الدكتور أحمد حسن الرحيم، بحيث يمكن القول إنَّ الثورة الجزائرية بلغت أبعد أغوار الوجدان العربي فتعاطف معها الناس من الأعماق، وألهمت بعض الشعراء العراقيِّين أروع قصائدهم على الإطلاق. فالنقّاد، مثلاً، يرون أن قصيدة " الشمس تُشرِق على المغرب " هي أفضل ما قاله الشاعر كاظم جواد، وهو من روّاد الشعر الحرّ في العراق وكان معاصراً لفرسان الشعر الحرِّ الثلاثة، السياب والملائكة والبياتي، في جامعة بغداد، إلا أنَّهم تخرَّجوا في دار المعلمين العالية وتخرَّج هو في كلِّية الحقوق. تقول هذه القصيدة التي تقع في عشر صفحات كاملة وكنا نحفظها عن ظهر قلب في صغرنا لطلاوة موسيقاها، وحلاوة كلماتها، ورومانسية معانيها:

ألم تسمعْ صياحي الصارخَ الصاخبَ في الوادي يناديكَ يناديكْ؟

ألم تلمحْ شُحوبي اللافحَ، السابحَ في الريحِ، يناغيكَ يناغيكْ؟

ألم ينشرْ شروقُ القمرِ المسحورِ أشذاءَ أمانيكْ؟

على الأشجارِ عبرَ السهلِ، يَمَسُّ أغانيكْ

إلى الزيتونِ، حيث الغابةُ الشجراءُ تستهوي لياليكْ

ـ ليالينا ـ إزاءَ الطلعِ المنثورِ تذروهُ أياديكْ

لتُثري الأرضَ، كي يخصُبَ وادينا فيجزيكْ

سلالَ الرطبِ الحلوِ، وإذْ يستروحُ الدربُ

عبيرَ الكلأْ المبتلِّ، أما يورقُ الجدبُ

ويشدو عبرَ صدرِ الليلِ في ألوانهِ الحبُّ...

3) تناول الشعراء العراقيّون في قصائدهم عن الثورة الجزائرية موضوعاتٍ متعددةً مثل وصف بطولات الثوار وأمجادهم في معاركهم، وفرنسا وحلفائها وطبيعة الاستعمار، وجميلة ونضال المرأة الجزائرية. وقد أصبحت جميلة ومدينة وهران وجبال الأوراس، في كثير من القصائد رمزاً للجزائر الثائرة. ومعروفٌ أنَّ هناك عدّة مناضلات جزائريات يحملن اسم جميلة ومعظمهن كنّ طالبات في العشرين من عمرهن عندما انخرطن في جيش التحرير ونفَّذن مهمّات قتالية، وقد اعتُقلت وعُذِّبت كثيراتٌ منهن وأشهرهن: جميلة بوحيرد، وجميلة بوباشا، وجميلة بوعزة، اللواتي أمضين سنوات في السجن حتى إطلاق سراحهن بعد وقف القتال عام 1962.

4) تكمن قيمة الكتاب في أنَّه يضمُّ مجموعةً من قصائد كبار الشعراء العراقيّين في الثورة الجزائرية، مثل محمد مهدي الجواهري، وبدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتي، وكاظم جواد، وسعدي يوسف، وشفيق الكمالي، وغيرهم وغيرهم كثير. إضافة إلى أنَّه لم يقتصر على الشعراء الرجال فحسب، بل شاركت كذلك الشواعر بنصيبٍ كبير. فالشاعرة العراقية شاركت في التعبير عن هموم مجتمعها منذ زمن الأميرة السومرية انخدوانا (حوالي 2300 ق.م.)، وهي أقدم مؤلِّفة معروفة في الأدب العالمي، وكانت كاهنةً وشاعرةً مرموقة وعُرِفت بترتيلاتها لإلاهة الجمال عنانا (=عشتار)، ونُفيت مدَّةً قصيرة. ونحن في هذا الكتاب نجد قصائد رائعة لنازك الملائكة، وعاتكة وهبي الخزرجي، ولميعة عباس عمارة، وحياة النهر، وآمال الزهاوي، وصبرية الحسو، وأميرة نور الدين، وغيرهن.

5) إنَّ فترة الثورة الجزائرية (1954ـ1961) هي فترةُ ثورةٍ، كذلك، في الشعر العربي. ففي أواخر الأربعينيّات، ظهرت حركة الشعر الحرّ في العراق الذي أحدثت تحوُّلاً في هذا النوع الأدبي. ولهذا فإنَّ الكتاب يشتمل على قصائد من جميع الأنواع التقليدية والتجريبية، من حيث الشكل والمضمون، فهناك القصيدة العمودية، والشعر الحرّ، وشعر التفعيلة، والشعر الملحمي، والمسرحية الشعرية، والموشَّحات، والقصيدة التي تمزج بين نوعيْن أو أكثر من تلك الأنواع الشعرية، وغيرها.

6) إنَّ معالجة الثورة الجزائرية في الشعر العراقي تتَّخذ أشكالاً متعدِّدة أهمُّها: إمّا التأكيد على أحقِّيَّة الشعب الجزائري في الاستقلال والحرِّية وتشجيع الثوار على المضي في ثورتهم حتّى النصر، وإمّا نقدٌ لاذعٌ لا مباشر للحكومات العربية، لأنّها لم تفعل شيئاً لنصرة الجزائر سوى الكلام. ففي قصيدة " الجزائر" لشاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري نجد ذلك التشجيع والتحميس، يقول الجواهري في مطلعها:

رِدِي علقَمَ الموتِ لا تجزعي ولا ترهبي جمرةَ المصرَعِ

فما سَعُرَتْ جمراتُ الكفاحِ لغـيرِ خلـيقٍ بـها أروعِ

دعي شفراتِ سيوفِ الطغاةِ تُطبِّقُ منكِ على المقطـعِ

فأنشودةُ المجدِ ما وقِّعـتْ على غير أوردةٍ قُطَّــعِ

أما قصيدة أستاذتنا الراحلة نازك الملائكة (نحن وجميلة 1960)، ففيها الشعور المرّ والسخريَّة المرّة لأنّنا لم نفعل شيئاً لنصرة الجزائر سوى الكلام:

جميلةُ. تبكينَ خلف المسافات، خلفَ البلادْ

وتُرخين شَعرَك، كفَّكِ، دمعَكِ فوق الوسادْ

أتبكينَ أنتِ؟ أتبكي جميلة؟

أما منحوكِ اللحونَ السخيّاتِ، والأُغنياتْ؟

أما أطعموكِ حروفاً؟ أما بذلوا الكلماتْ؟

ففيم الدموعُ إذن يا جميلة؟

ونحن منحنا لوصف جراحكِ كلَّ شفَةْ

وجرّحنا الوصف خدَّشَ أسماعنا المرهفةْ ...

وفي قصيدة الصديق الراحل عبد الوهاب البياتي (المسيح الذي أُعيد صلبه) التي ظهرت في ديوانه " كلمات لا تموت 1960" المهداة (إلى جميلة)، نجد ذلك النقد اللاذع أيضاً:

كلُّ ما قالوهُ كذبٌ وهُراءْ

اللصوصُ، الشعراءْ

الحواةُ الأغبياءْ

إنني أحسستُ بالعارِ لدى كلِّ قصيدةْ

نظموها فيكِ

يا أُختي الشهيدةْ

وأنا لستُ بصعلوكٍ منافقْ

ينظم الأشعارَ مزهواً

وأعوادُ المشانقْ

لأخي الإنسان، بالمرصاد

أعوادُ المشانقْ

وأنا لستُ سياسيّاً

خطيباً...

(وللأمانة التاريخية، ينبغي الإشارة إلى أنَّ البلدان العربية، ومنها العراق قبل " ثورة" 14 تموز 1958 وبعدها، دعمت الثورة الجزائرية. ففي محاكمة الراحل الدكتور محمد فاضل الجمالي رئيس وزراء العراق الأسبق في العهد الملكي، اتهمه رئيس (محكمة الشعب) العسكرية، العقيد فاضل المهداوي بأنه كان يبعث بالأسلحة إلى رجلٍ في دمشق اسمه "عبد الحميد المصري" لتخريب الوحدة السورية المصرية. فأنكر الجمالي ذلك، فقال المهداوي إنّ لديه عدّة وثائق بخطِّ يد الجمالي يأمر فيها بإرسال تلك الأسلحة، فرجاه الجمالي أن يُطلعه على الوثائق. وعندما نظر فيها الجمالي: قال :" نعم، سيدي، إنَّ هذا الرجل هو "عبد الحميد المهري" ممثِّل جبهة التحرير الجزائرية في دمشق". وكان المهري يرتّب شحن الأسلحة عن طريق البحر من سوريا أو مصر إلى تونس أو المغرب لإيصالها للثوار الجزائريين. ولقد التقيتُ الأستاذ عبد الحميد المهري في الجزائر خلال ندوة علمية سنة 2007، وسألتُه عن تلك الواقعة فأخبرني بأنها صحيحة وأنَّه قابل في بغداد الراحل نوري السعيد الذي قال له إنّ أسلحة الجيش العراقي على نوعيْن: الأوَّل من النوع الذي يستخدمه الثوار الجزائريون، والآخر لا يستعملونه، والعراق يقدّم لهم الأسلحة من النوع الأوَّل ويقدّم لهم المال لشراء ما ينقصهم من الأسلحة الأُخرى). وعلى ذِكر الدكتور فاضل الجمالي، أذكر أنّه كان يرأس لجنة جمع التبرعات الأهلية للثورة الجزائرية قبل 14 تموز 1958، وأعرف من ولده صديقي الدكتور عباس فاضل الجمالي أنّه كان يمضي معظم وقته بعد العمل في طرق أبواب الأثرياء لجمع التبرعات. وعندما أُطلِق سراح الدكتور فاضل الجمالي، كان مضطراً للعمل لكسب عيشه أستاذاً في التعليم العالي في تونس حتّى تجاوز سنه 97 عاماً ، بسبب عدم قبوله راتب لاجئ ولعدم توافر أيّة مدخرات لديه، ولا حتّى سيّارة شخصية. وعلى ذكر ولده الدكتور عباس، ينبغي أن أشير إلى أنَّه بعد أن حاز على شهادة الدكتوراه في العلوم من إحدى أرقى الجامعات الأمريكية، كان بإمكانه بكلِّ بساطة أن يحصل على عمل في أمريكا، ولكنّه فضَّل خدمةَ بلاده العربية؛ ولما لم يكُن بإمكانه العودة إلى العراق، عمل في التعليم العالي في الجزائر أكثر من ربع قرن، وتزوج من طبيبةٍ جزائريةٍ فاضلة ولهما عدة أولاد.)

7) إنَّ التعبير عن انفعال المثقَّف العراقي بالثورة الجزائرية، وتفاعله معها، ودعمه لها، لم يقتصر على الشعر فحسب، بل شمل كذلك جميع أشكال الإبداع الأدبي والفني، فهناك عشرات المسرحيات والروايات والقصص القصيرة واللوحات التشكيلية والمعزوفات الموسيقية عن الثورة الجزائرية. وعندما كنتُ طالباً في بغداد أهداني صديقي إسماعيل الترك الذي كان يدرس النحت في معهد الفنون الجميلة آنذاك والذي أصبح فيما بعد من كبار النحّاتين العراقيين، صورةً فوتوغرافية لتمثالٍ للمجاهدة الجزائرية جميلة بوحيرد في سجنها، نحته بنفسه. ومن أمثلة الإبداع الأدبي والفني، "النشيد القومي العربي" الذي نظمه الشاعر صفاء الحيدري ولحّنه الموسيقار علاء كامل لدار الإذاعة العراقية:

هذا النجيعُ الأسودُ المتخثِّرُ القاني الطهورْ

هو من دمائك يا جزائرُ مشعلٌ حيٌّ ونورْ

من ضوئه القُدسيِّ تستهدي الشعوبُ وتستنيرْ

في كلِّ وقتٍ أو زمانْ، في كلِّ آنْ

في القدس أو في حضرموت وفي الجزائر أو عُمانْ...

كما لم يقتصر تأييد الشعب العراقي (وبقية الشعوب العربية طبعاً) للثورة الجزائرية على التعبير عن هذا الدعم بالأشكال الأدبية والفنية، بل تمظهر هذا التأييد بمختلف ألوان العمل السياسي من مظاهراتٍ وإضراباتٍ وكتابة الاحتجاجات إلى الأمم المتّحدة والحكومة الفرنسية. فعندما أقدمت السلطات الفرنسية على عملها الإرهابي المتمثل في اختطاف القادة الجزائريين الخمسة سنة 1956، أعلن الشعب العراقي إضراباً في البلاد من أقصاها إلى أدناها وسجل هذا الإضراب عددٌ من قصائد الكتاب.

8) إنَّ غالبية الشعراء الذين يضمُّهم الكتاب لم يسعدوا بزيارة الجزائر قبل الثورة ولا بعدها. الاستثناءات قليلة جداً لعل أبرزها سعدي يوسف الذي لجأ إلى الجزائر فيما بين 1964و1971، وعمل مدرساً في مدرسةٍ في مدينة سيدي بلعباس، ثمَّ عاد إلى العراق. وكان سعدي قد كتب قصيدته " الطريق إلى قسنطينة " بعد اندلاع الثورة الجزائرية:

أنا لستُ أملك بندقيَّه

لكنَّهم لو يسمحون هنا لأسرعنا إليك

ولبعتُ أوراقي ومكتبتي وجئتُ ببندقيّه

ولكنتُ جندياً لديك

أمضي أُقاتلُ في المدينه

من أجلِ أطفالِ المدينه

ولنسمةٍ من برشلونه

ولوجهكِ العربيِّ، يا ضوءَ الشمال...

فقد كان سعدي يرى في الثورة الجزائرية تجسيداً لجوهر الحريّة، أسوة بغيره من الشعراء العراقيِّين الذين تعاطفوا مع الثورة بدافع وطني وإنساني، للتعبير عن غضبتهم على المستعمِرين والمغتصبين والمعتدين في الجزائر وفلسطين وفي كلِّ مكان.

ومن الشعراء العراقيين القلائل جداً الذين زاروا الجزائر أستاذتي الفاضلة الدكتورة عاتكة وهبي الخزرجي التي زارت الجزائر سنة 1971، وكتبت، وهي في الطائرة راجعة إلى بغداد، قصيدة طويلة تمتح من رقّة الشاعرة وبهائها:

إنّي ـ وحقِّكَ ـ إذْ أشـدُّ الرحـلَ تمتلئ المحاجرْ

كيفَ السبيلُ إلى الرجوعِ، وذا فؤادي في الجزائرْ؟

قسماً بمن عقد القلوبَ على الصفا عقدَ الخناصرْ

فتألَّفتْ رغم الشتات أواصرٌ تدعو أواصــرْ...

وخلاصة القول إنّ كتاب الدكتور عثمان سعدي سِفرٌ أدبيّ رفيع النوعية، له أهمّيةٌ كبيرةٌ على مستوى التوثيق. فهو يجمع بين الأدب والتاريخ، إذ يضمُّ بين دفَّتيْه شيئاً من تاريخ الأدب، وأدب التاريخ. كما أنَّه اتّبع مناهج البحث الموضوعي الأكاديمي. ولو كنتُ رئيساً للجنة مناقشة هذه الأطروحة، لما ترددتُ في منحها درجة الدكتوراه وليس الماجستير.

الخاتمة:

إذا كان الكتاب رائعاً، فلماذا سبَّبَ لي هذا الأرق وذاك الألم، إذن؟

يكمن الجواب في أنَّ الكتاب أشعل نيران الحنين في نفسي وأثار ريح الذكريات التي أجَّجت تلك النيران وزادتها لهيباً. فقد صادفت فترة الثورة الجزائرية ( 1954 ــ 1962) أيام فتوتي وشبابي التي أمضيتها في المدرسة الثانوية في الديوانية وجامعة بغداد. وقراءة الكتاب نكأت جروحاً غائرة في وجداني لعدَّة أسباب أهمُّها:

أوَّلاً، إنَّني كنتُ على صِلة بجميع الشعراء الـ 107 الذين ساق الكتاب قصائدهم في الثورة الجزائرية. فبعضهم كانوا من زملائي على مقاعد الدراسة، أو من أصدقائي، أو من أساتذتي، أو من آباء أصدقائي، أو من أقاربي، أو كنتُ قارئاً متذوِّقاً لأشعارهم. ولي ذكرياتٌ شجية، مع كثيرٍ من هؤلاء، خاصَّةً الصديق الراحل عبد الوهاب البياتي وأُستاذتي الأثيرة الدكتورة عاتكة وهبي الخزرجي، رحمهما الله. أمّا صديق العمر الذي انبجس الدمع في عينيَّ عندما وقعتا على اسمه في الكتاب، هو المرحوم حميد فرج الله، الذي كان صديقي في المدرسة الثانوية وفي الجامعة، وكنا نحسب أنفسنا أخويْن لا صديقيْن، وتعاهدنا في صبانا أن نبقى متّحدين حتّى الموت دون أن نعرف ما يخبّئُه لنا القدر. وقد اختطفت يد المنون هذا الصديق وهو في ريعان الشباب وخلّف صبيةً صغارا. وبلغني نبأ مرضه المفاجئ القصير وأنا في ديار الغربة فلم أستطع أن أفي بعهدي وأكون إلى جانبه وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، ولم أتمكَّن حتّى من حضور جنازته. وعندما وقع نظري على قصائده الثلاث في الكتاب، هجمت عليّ الذكريات دفعةً واحدة وسهّدتني تلك الليلة.

يقول الدكتور عثمان سعدي عن قصيدة المرحوم حميد فرج الله الثالثة " في عيد استقلال الجزائر 1962" إنها " من أجمل ما نُظِم في هذه المناسبة ". وتقع هذه القصيدة في 33 بيتاً وألقاها الفقيد في مهرجان عُقد في مدينته احتفاءً باستقلال الجزائر:

بُشراكِ وهران حيّا اللهُ وهــرانَ     هيا احصُدي ثمرات النصرِ ألوانا

يجني الثمارَ، ثمارَ المـجدِ، يانعةً       مَن يزرعُ الأرضَ أبطالاً ونيرانا

نحن الذين غمرنا الأرضَ من دمنا     فأثمرَ النصرُ من أشلاء قتـلانا

للّهِ طلّابُ مجــدٍ لن يضيعً لهم حقٌّ     وما عرفوا في الحقِّ خِذلانا

للهِ درّكَ من شـعبٍ تثور بـهِ             حميّةُ العُربِ ما لانت وما لانـا

يستبسـلُ الصيدُ من أبطالهِ أبداً         لا يرتضون له ذُلاً وإذعـانـا

بوركتِ يا قلعـةً للعُربِ صامدةً           وبارك اللهُ من وهرانَ شُبّانـا

ثانياً، إنّ قراءتي هذا الكتاب أعادت إلي نفسي بشكلٍ غريب جميع تلك المعاناة النفسية المبرحة والمشاعر الحزينة، وحتى بعض الكوابيس التي كانت تنتابني وجميع الشباب العراقيّين أيام الثورة الجزائرية، بسبب ما نسمعه من إجراءات وحشية يقترفها الجيش الفرنسي ضدَّ المواطنين الجزائريّين كالقتل الجماعي، والاعتقال التعسفي، وسجن العشرات والمئات من المواطنين الأبرياء، وتعذيبهم، وتجويعهم، وضرب الحصار على مناطقَ كبيرةٍ من البلاد، وهي إجراءاتٌ نسمع بقيام الجيش الإسرائيلي بمثلها اليوم في غزة والضفة الغربية. يقول صديقي المرحوم حميد فرج الله في فقرة انطباعه عن الثورة الجزائرية في هذا الكتاب:

" لقد كنا نتتبع أخبار الثورة الجزائرية وثورات الوطن العربي الكبير أوَّلاً بأوَّل، وذلك عن طريق مختلف وسائل الإعلام: إذاعات ومجلات وصحف . وكنا نهتزّ لكلِّ نبأ وننفعل بكلِّ خبر. كنا ونحن هنا بالعراق نعيش أحداث الثورة في الجزائر: نهتف لكلِّ حادث انتصارٍ للثورة، ونتميّز غيظاً لكلِّ نبأ استشهاد أو أسرٍ أو سجنٍ للثوّار والمواطنين. وكنا نجسّد مشاعرنا في احتفالاتنا بثورةٍ الجزائر بتصفيقٍ وهتافٍ وخطبٍ وقصائدَ تنفجر في أعماقنا فتنساب على أفواهنا شعراً ونثراً نساهم به في الثورة ولو من بعيد، حيث لم نستطِع المساهمة بحمل السلاح في ساحات الجهاد والمعارك..."

ثالثاً، إنَّ أحد أسباب الألم والأسى لديَّ عندما قرأتُ الكتاب، هو الخيبة التي أصابت جيلي الذي يمكن تسميته بجيل الثورة الجزائرية. كنا نحلم آنذاك أن تكون الجزائر وفلسطين آخر بلديْن عربيَّيْن ينالا استقلالهما، ومن ثمَّ تتَّجه البلدان العربية إلى تحقيق وحدتها وديمقراطيتها وتنميتها. فقد كان حلم الاستقلال والوحدة يراود آباءنا منذ بداية القرن العشرين، في وقت كانت الدول الأوربية تتقاتل في حروب عالمية أولى وثانية. أمّا اليوم فنجد أنّ الدول الأوربية تحقِّق وحدتها ورفاهيتها في حين تُمسي فكرة الوحدة العربية فكرةً خياليةً رجعيةً يسخر منها حتى أولئك الذين يُشيدون بالوحدة الأوربية ويتلهفون إلى الالتحاق بها بشكل ما. ونرى اليوم ـ بمرارة الخيبة ـ أنَّ بلداناً عربية قد أُعيد استعمارها أو احتلالها أو تقسيمها، كما هو الحال في بلدي العراق. وفوق كلِّ ذلك نجد بلداننا العربية اليوم أبعد ما تكون عن الديمقراطية والتنمية البشرية وأقرب ما تكون إلى الشموليّة والتخلّف. كانت معظم البلدان العربية أيام الثورة الجزائرية أكثر تنمية من بلدانٍ آسيوية كثيرة كماليزيا وكوريا والصين وسنغافورة وتركيا. أما اليوم فقد حققت تلك الدول الآسيوية وغيرها تنميةً بشريةً ملحوظة وأصبحت في عداد الدول المتقدِّمة المصنَّعة، على حين أنَّ معظم بلداننا العربية ما زالت تحتل الرتبة ما بعد 121 في تقارير التنمية البشرية التي يصدرها البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة. إنَّ الإحساس المرّ بالفشل والخيبة يدهمني ويسحقني، وأنا أتذكَّر أيام الثورة الجزائرية وأحلامها.

 

بقلم : الدكتور علي القاسمي    

 

 

في المثقف اليوم