تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قراءة في كتاب

قراءة واقتباسات في كتاب: وجهة العالم الإسلامي

السعيد بوشلالقللمفكر الحضاري مالك بن نبي – ترجمة عبد الصّبور شاهين*

هذا الكتاب ألفه المفكر مالك بن نبي في عام 1954 ضمن سلسلة مشكلات الحضارة، وصدرتْ الطبعة الأولى له عام 1959.

أستهلُ هذه القراءة بهذا التوصيف الدقيق لحالة العالم الإسلامي الذي شخصه المفكر الحضاري مالك بن نبي رحمه الله في كتابه هذا «وجهة العالم الإسلامي» في الصفحة 121: (تُشعِرُنا حالة العالم الإسلامي بأنّه يقف في منطقة (حرام) في التّاريخ، ما بين فوضى ما بعد الموحدين والنِّظام الغربي.). يقول الأستاذ محمد المبارك في تقديم هذا الكتاب: (إنّك حين تقرأ هذا الكتاب تشعر أنك لست تقرأ كتاباً، ولكنك تعيش مأساة أمة، وتعيش معها خلال عشرة قرون أو أكثر، وتمر بعقد قصتها خلال هذه القرون..) ص 10. وهذا ما يشعر به قارئ هذا الكتاب القيم فعلاً. (إن طريقة المؤلف في كتابه هذا لا تقوم على سرد التفاصيل والحوادث، بل على تحليل عميق لمراحل التّاريخ، وسير المدنية وتطورها، وهو يُقسم تاريخ المجتمع الإسلامي إلى ثلاث مراحل: أولاها: مرحلة الإسلام الأولى، في دفعته الإيمانية الحيّة، وتنتهي في معركة صفين. وثانيتها: مرحلة المدنية الإسلامية، وهي مرحلة التّفكير والازدهار الحضاري، وتنتهي بسقوط دولة الموحدين. وثالثتها: مرحلة الجمود والانحطاط. ويصف كل مرحلة وصفاً تحليلياً عميقاً، ويخصُ المرحلة الأخيرة بالعناية لأنها المرحلة التي لا نزال نعيش في رواسبها وآثارها، ولأنها تمثل في نظره مرحلة القابلية للاستعمار..) ص 11.

الكتاب يتجزأ إلى: مدخل الدِّراسة، وستة فصول، وخاتمة.

الفصل الأول: مجتمع ما بعد الموحدين. الفصل الثاني: النّهضة. الفصل الثالث: فوضى العالم الإسلامي الحديث. الفصل الرابع: فوضى العالم الغربي. الفصل الخامس: الطُّرُق الجديدة. الفصل السادس: بواكير العالم الإسلامي. والخاتمة: المآل الروحي لعالم الإسلام.

- في الفصل الأول: مجتمع ما بعد الموحدين: يحلل مالك بن نبي الظاهرة الدّورية للحضارة، قائلاً: (والحضارة تتمثل أمامنا كأنها مجموعة عددية تتابع في وحدات متشابهة، ولكنها غير متماثلة.وهكذا تتجلى لإفهامنا حقيقة جوهرية في التّاريخ هي: (دور الحضارة)، وكل دورة محددة بشروط نفسية وزمنية خاصّة، بمجتمع معين، فهي (حضارة بهذه الشُّروط). ثُمّ إنها تُهاجر وتنتقل بقيمها إلى بُقعةٍ أخرى، وهكذا تستمر في هجرة لا نهاية لها، تستحيل خلالها شيئاً آخر، لِتُعِد كُل استحالة تركيباً خاصاً للإنسان والتُّراب والوقت). ص 27.

ويذكر؛ أن ابن خلدون وحده كان هو أول من استنبط فكرة (الدّورة) في نظريته عن (الأجيال الثلاثة). ويخلص إلى أن (العالم الإسلامي في أمس الحاجة إلى أن يتأمل الأسباب البعيدة التي حتمت تقهقره وانحطاطه فلقد عرف هذا العالم أول انفصال في تاريخه في معركة صفين عام 38 هـ، إذ كان يحمل بين جنبيه بعد قليل من سنوات ميلاده تعارضاً داخلياً، فكانت (حمية الجاهلية) تصطرع مع (الرُّوح القرآني).. ومنذ ذلك الانفصال الأول فقد العالم الإسلامي توازنه الأولي، على الرغم من بقاء الفرد المسلم متمسكاً في قرارة نفسه بعقيدته.) ص 29. و(لقد بلغت عوامل التّعارض الدّاخلية قِمّتها وانتهت إلى وعدها المحتوم، وهو تمزق عالم واهن، وظهور مجتمع جديد ذي معالم وخصائص واتجاهات جديدة، فكانت تلك مرحلة الانحطاط، إذ لم يعدْ الإنسان والتُّراب والوقت عوامل حضارة، بل أضحت عناصر خاصة ليس لها فيما بينها صلة مبدعة.) ص 31. مرحلة الانحطاط التي عبّر عنها المفكر مالك بن نبي بإنسان ما بعد الموحدين والتي كان فيها (الفرد في المجتمع الإسلامي عاجز عن التّقدم والتّخلي عمّا تعارف عليه النّاس، عاجز عن اجتياز مراحل تاريخية جديدة، عاجز عن ابتكار المعاني والأشياء الجديدة وتمثلها، فالميل إلى المُحافظة هُنا ليس إرادياً، بل هو حقيقة افتقار ونقص.) ص 34.

وهُنا يبدو المفكر مالك بن نبي مؤمن جداً بنظرية الفراشة وقوتها المؤثرة زمانياً حتى عبر أحداث التّاريخ البعيدة، ومكانياً حتى في المناطق النائية من العالم الإسلامي وتأثيرها في بقية المناطق الأخرى، فخلف الأسباب القريبة أسباب بعيدة، تخلع على تفسير التّاريخ طابعاً ميتافيزيقياً، أو كونياً، أيّاً كان ذلك، والشّاهد أن مرحلة إنسان ما بعد الموحدين، في مرحلة الانحطاط (لم يكن الانقلاب فُجائياً، إذ هو النِّهاية البعيدة للانفصال الذي حدث في (صفين)، فأحلّ السُّلطة العصبية محل الحكومة الدِّيمقراطية الخليفية، فخلق بذلك هوة بين الدّولة وبين الضّمير الشّعبي، وكان ذلك الانفصال يحتوي في داخله جميع أنواع التّمزق، والمناقضات السِّياسية المُقْبِلة في قلب العالم الإسلامي.) ص 36. و(يؤرخ لتلك الظّاهرة في التّاريخ الإسلامي بسقوط دولة الموحدين، الذي كان في حقيقته سقوط حضارة لفظتْ آخر أنفاسها، ثم يبدأ تاريخ الاِنحطاط بإنسان ما بعد الموحدين... وهنا لا نواجه تغيراً في النِّظام السّياسي، بل إن التّغيير يُصيب الإنسان ذاته، الإنسان المتحضر الذي فقد هِمّته المُحَضّرة، فأعجزه فُقْدها عن التّمثل والإبداع.) ص 36. إنّ الأعراض التي ظهرت في السّياسة أو العمران لم تكن إلاّ تعبيراً عن الحالة المرضية التي يُعانيها إنسان ما بعد الموحدين غير القادر على التّمثل والإبداع نتيجة الموروثات الاجتماعية والطرائق التقليدية التي جرينا عليها في نشاطنا الاجتماعي. (وطالما ظلّ مجتمعنا عاجزاً عن تصفية هذه الوراثة السّلبية التي أسقطته منذ ستة قرون، وما دام مُتقاعِساً عن تجديد كيان الإنسان طِبقاً للتعاليم الإسلامية الحقّة، ومناهج العِلم الحديثة، فإن سعيه إلى توازن جديد لحياته، وتركيب جديد لتاريخه، سيكون باطِلاً عديم الجدوى.) ص 38.

ثُمّ يتطرق الأستاذ مالك بن نبي إلى الاتصال الأول بين أوربا والعالم الإسلامي عبر الحروب الصّليبية حيث وجدنا الحضارة الأوربية تخرج عن حدودها لتجني حصاداً طيباً من الحضارة الإسلامية، حيث اِلّتقى عالمان مختلفان عالم إسلامي مِيزته التِّرحال، وعالم أوربي مِيزته الاستقرار، هذا التّحرك الدّائب هو الذي يُفسر لنا السُّرعة الخارقة التي امتاز بها الزّحف الإسلامي. (وعلى هذا المِنوال جاء الإسلام لينسج حضارته العظيمة حين وهب للعالم تماسُكاً وروحاً جماعياً، خطّ له اتجاهه التّاريخي بعد أن كانت تسوده الأهواء الفردية؛ لقد خلق القُرآنُ من الإنسانِ البدوي إنساناً مُتحضراً، يشهد بحضارته ما خلّفه لنا من عِلم زراعي ناضج في اسبانيا.) ص 42. كما كان (لاستقرار الإنسان على الأرض نتيجته السّريعة، فنشأ العِلم والفن، وترعرعا في مجتمع منظم لم يعد الفرد يخضع فيه لمزاجه المتقلب، بل لنظم وقوانين.) ص 42. (حتّى إذا كان القرن الثامن عشر، كان العالم قد أتمّ منذ بعيد دورة حضارته، فإذا الفرد قد انتكس مرة أخرى إلى حياة يُسيّرها له مجتمع متحلل مشلول النّشاط، فيما عدا بعض البلدان التي ظلت محتفظة برمق الحضارة، كفاس والقيروان ودمشق. وهي بقايا مهيبة تعد الشّاهد الوحيد على ماضٍ ضائع، لأنّ إنسان ما بعد الموحدين قد آثر العودة إلى حياة أسلافه البدو، على أن يركن إلى حياة متحضرة.) ص 42.

- وفي الفصل الثاني: النّهضة: قسمه الكاتب إلى جزئين هما حركة الإصلاح، والحركة الحديثة. ففي حركة الإصلاح يقدم لنا مالك بن نبي تحليلاً رائعاً لواقعنا ولحركتنا الحديثة في الإصلاح والتجديد، كاشفاً عن سطحية بعض هذه الحركات والمظاهر التجديدية، مشيراً إلى نواحي الأصالة والعمق في الحركات الإصلاحية والثورات الحقيقية. ويكشف عن اختلاف نظرة كل من الشيخ محمد عبده وجمال الدين الأفغاني لمشكلة الإصلاح فيقول: (أن الشيخ محمد عبده بعد أن أدرك حقيقة المأساة الإسلامية وجد من الضروري أن ينظر إليها بوصفها مشكلة اجتماعية، على حين أن أستاذه جمال الدين ذا العقل القبلي العفوي قد تناولها من الزّاوية السِّياسية..) ص 53. ويُرجع الفضل في نشأة الحركة الإصلاحية إلى الشّيخ محمد عبده الذي يتجه إلى أنه من الضّروري إصلاح (علم الكلام) بوضع فلسفة جديدة جيدة حتى يُمكن تغيير النّفس، غير أن علم الكلام لا يتصل في الواقع بمشكلة النّفس إلاّ في ميدان العقيدة والمبدأ، هذا الاتجاه حاد بالحركة الإصلاحية جُزئياً عن الطّريق، فالمشكلة - كما يرى ابن نبي - ليست في أن نُعلم المسلم عقيدته فهو يملكها أصلاً، بل المُهم أن نرُدّ إليه فاعلية وقوة هذه العقيدة. فـ (المسلم حتى مسلم ما بعد الموحدين، لم يتخل مُطلقاً عن عقيدته، فلقد ظلّ مؤمناً مُتديّناً. ولكن عقيدته تجردت من فاعليتها، لأنها فقدت إشعاعها الاجتماعي فأصبحت جذبية فردية، وصار الإيمان إيمان فرد متحلل من صِلاته بوسطه الاجتماعي، وعليه فليست المشكلة أن نُعلِم المسلم عقيدة هو يملكها، وإنما المهم أن نرد إلى هذه العقيدة فاعليتها وقوتها الإيجابية، وتأثيرها الاجتماعي، وفي كلمة واحدة: إن مشكلتنا ليست في أن نبرهن للمسلم على وجود الله، بقدر ما هي في أن نُشعره بوجوده ونملأ به نفسه باعتباره مصدراً للطاقة.) ص 54. وينتقد مالك بن نبي حركة الإصلاح بسبب سقوطه في (عقدة علم الكلام) و(عقدة التّسامي)، فيقول إنّ: (تغيير النّفس معناه إقدارها على أن تتجاوز وضعها المألوف، وليس هذا من شأن (علم الكلام) بل هو من شأن منهاج (التّصوف)، وبعبارة أدق هو من شأن علم يمكن أنم نسميه (تجيد الصِّلة بالله).) ص 54.

ويحلل مالك بن نبي مساوئ ونقائص ثقافة إنسان ما بعد الموحدين التي نوجزها فيما يلي:

- التّزمت والنُّزوع إلى المديح، - الجدل والحرفية والتّشبث بأذيال الماضي والتحليق في الخيال، - تأليه اللغة العربية وعدم تطويرها، - الإصلاحات السّطحية في التّعليم، - الجُمُود وانعدام الفاعلية...

(يبدو أن المثل الأعلى قد ظلّ، كما كان منذ عصر الانحطاط؛ أن يُصبح المرء (بحر علوم)، يزدرد العلم ويفقد معنى دوره الاجتماعي. وأي درس في التّفسير يتيح لنا ملاحظة تفاهة ثقافتنا الرّاهنة، التي استعبدتها الألفاظ، فلم تعد تعبر عن اهتمام العمل، بل عن مجرد الشّهوة إلى الكلام.) ص 60. ( وهكذا ظلت مشكلة بقايا ما بعد الموحدين ساكنة برمتها في الضّمير المسلم.) ص 61.

أما عن الحركة الحديثة، فيذهب مالك بن نبي إلى (أن أوربا حين اكتشفت العالم الإسلامي لم تؤته روحها، أي إنها لم تؤته حضارتها كلها، وإنما اقتصرت فيما اصطحبت من الأدوات على ما يسهل للمستعمر الحصول على رفاهيته العاجلة، وقد جلبت إلى أبناء المستعمرات (مدرسة) تتفق ونظرتها إليهم. وعن هذه المدرسة صدرت الحركة الحديثة في العالم الإسلامي.) ص 63. وينتقد مالك بن نبي واقع الفكر الإسلامي لإنسان ما بعد الموحدين، فيقول: (منذ قرون مضت، كان الفكر الإسلامي عاجزاً عن إدراك الظواهر، فلم يكن يرى منها سوى قشرتها، وأصبح عاجزاً عن فهم القرآن، فاكتفى باستظهاره..) ص 65. وفي نقده للحالة الاستهلاكية في العالم الإسلامي، يذكر أنه (حتى إذا انهالت منتجات الحضارة الأوربية على بلاده اكتفى بمعرفة فائدتها إجمالاً، دون أن يفكر في نقدها، وإذا كانت الأشياء قابلة للاستعمال، فإن قيم هذه الأشياء قابلة للمناقشة، ومن ثمّ وجدنا المسلم لا يكترث بمعرفة كيف تم إبداع هذه الأشياء، بل قنع بمعرفة طُرُق الحصول عليها، وهكذا كانت المرحلة الأولى من مراحل تجديد العالم الإسلامي، مرحلة تقتني أشكالاً دون أن تلم بروحها؛ فأدى هذا الوضع إلى تطور في الكم، زاد في كمية الحاجات دون أن يعمل على زيادة وسائل إشباعها، فانتشر الغرام بكل ما هو (مستحدث) في جميع طبقات المجتمع.) ص 65. وهذا كله خلل وفشل، وهو يدل على أنهم أغرموا بالنّظر إلى الأوربي في مظهره فحسب. (ولا شكّ أنّ هذا النّوع من التّطور الظّاهري، هو دليل على أن أصحابه قد اكتفوا بأن خلعوا على الشّكل القديم لمضمون ما بعد الموحدين شكلاً جديداً.. وكلما زادت الفئة المتخرجة من مدارس الغرب عدداً نمت هذه السّطحية في المجتمع الإسلامي.) ص 66. إذ (ليست الحضارة تكديساً للمنتجات، بل هي بناء وهندسة.) ص 69. ويحدد أن (الخطأ الّذي وقع فيه المحدثون ودُعاة الإصلاح، ناتج عن أن كليهما لم يتجه إلى مصدر إلّهامه الحق، فالإصلاحيون لم يتجهوا حقيقة إلى أصول الفكر الإسلامي، كما أن المحدثين لم يعمدوا إلى أصول الفكر الغربي.) ص 70.

- وفي الفصل الثالث: الذي جاء بعنوان لافت هو، فوضى العالم الإسلامي الحديث: حيث يتطرق الأستاذ مالك بن نبي إلى العوامل الدّاخلية والتي سماها (القابلية للاستعمار) والعوامل الخارجية التي دعاها بـ (الاستعمار).

إذ يرى أن (شكل النّهضة الإسلامية الرّاهنة هو خليط من الأذواق ومن المحاولات ومن التّذبذب، ومن مواقف التّدين أيضاً، فهي قد اختارت الطّريق الّذي يقضي لها ما تُريد من (أشياء) و(حاجات). دون أن تبحث عن (الأفكار) و(الوسائل).) ص 78.

وعن فوضى العالم الإسلامي الحديث يرى أن (في كل مجتمع ناشئ مُتهيئ عناصر تقليدية إلى جانب العناصر الحديثة، وهي عموماً مستعارة من مجتمعات سابقة في مضمار الحضارة، فيبذل المجتمع الناشىء في استعارتها جهداً في التّحليل والتّكييف، يقتضي منه في الواقع جهداً في الإبداع والتّركيب.) ص 79.

ولاحَظ أن (العالم الإسلامي قد وقف منذ قرون يواجه مشكلة الاقتباس مدفوعاً بحركة نهضته إلى الأخذِ بكل جديدٍ أو مقتبس، على حين تشده إلى الوراء أشكال من التّقاليد البالية.) ص 80.

ويُرجع الأستاذ مالك بن نبي عوامل هذا القلق والعجز في العالم الإسلامي الحديث إلى عوامل تتصل بمسألة الاقتباس من الحضارة الحديثة، وعوامل أخرى تتصل بموقف المسلم إزاء مشكلات الحياة الرّاهنة.

ففي المشكلة الأولى يرى في شروط الاقتباس من الثقافات الأخرى أن (العناصر الاجتماعية الّتي تسم الثّقافات المختلفة ليست كلها قابلة للتداول.. وعليه فإن المجتمع الناشئ لا يمكنه تمثل العناصر الاجتماعية الجديدة التي يقتبسها إلا بشروط معينة، فإمّا حاجة مُلحة، وإمّا أمر علوي. والواقع أن المجتمع الإسلامي لم يُقدر هذه الشروط حق قدرها، فقبس من (أشياء) الغرب دون أي مقياس أو نقد، يحمله على ذلك أحياناً نوع من الإكراه، وغالباً كثير من النّفخ وفراغ العقل. وكل ما يسوده من اختلاط وفوضى في الميادين الفكرية والخلقية أو في ميادين السِّياسة، إنّما هو نتيجة ذلك الخليط من الأفكار الميتة؛ تلك البقايا غير المصفاة، ومن الأفكار المستعارة؛ تلك التي يتعاظم خطرها كلما انفصلت عن إطارها التّاريخي والعقلي في أوربا.) ص 81. وعليه (فإن تصفية الأفكار الميتة، وتنقية الأفكار المميتة يُعدان الأساس الأول لأيةِ نهضة حقّة.) ص 83.

أما في المشكلة الثانية المتصلة بموقف المسلم من المشكلات الرّاهنة، فيرى أن (العجز عن التّفكير وعن العمل، هو في المجال النّفسي يدل على انعدام الرِّباط المنطقي (الجدلي) بين الفكر ونتيجته المادية، فالفكرة والعمل الذي تقتضيه لا يتمثلان كلاً لا يتجزأ.. فإمّا فكرة لا تتحقق، وإمّا عامل لا يتصل بجهد فكري، وليس في قائمة النّشاط الاجتماعي ما يصح أن يعد ضئيل القيمة، فلكل حركة في ذلك الاطراد أثرها في تقدم المجتمع.) ص 83.

ويُرجع الأستاذ مالك بن نبي مأساة إنسان ما بعد الموحدين إلى (عُقدة التّسامي) والكمال، وعقدة المثل الأعلى الإسلامي، فأمّا عن العُقدة الأولى، عُقدة التّسامي، فيرى أنه (مِن المُسَلّم به الذي لا يتنازع فيه اثنان أن (الإسلام دين كامل). بيد أن هذه القضية قد أدت في ضمير ما بعد الموحدين إلى قضية أخرى هي: (ونحن مسلمون)؛ فنتج: (إذن نحن كاملون).) ص 85. وأمّا عن العُقدة الثانية، عُقدة المثل الأعلى الإسلامي، يقول: (وهكذا غرق المثل الأعلى الإسلامي؛ المثل الأعلى للحياة والحركة، في فيضان من التّعالي والغرور، بل في ذلك القُنوع الّذي يتّصف به الرّجل المتدين، حين يعتقد أنّه بتأديته الصّلوات الخمس قد بلغ ذروة الكمال، دون أن يُحاول تعديل سلوكه وإصلاح نفسه، فهو كامل كمال العقم، أو كمال الموت أو العدم، وبذلك تختل حركة التّقدم النفسي في الفرد والمجتمع، فإذا بالذين اطمأنوا لفقرهم الرُّوحي، ولنقصهم النّفسي، يُصبحون قدوة في الخلق، في مجتمع تقود الحقيقة فيه إلى العدم.) ص 86.

1897 مالك بن نبيوهنا نوجز العناصر الحقّة للمشكلة في العالم الإسلامي كما أوردها المفكر مالك بن نبي رحمه الله في كتابه هذا «وجهة العالم الإسلامي» في الصفحتين 89 و 90 وهي:

أ - أسطورة الجهل، إذ (إن (العلم) في الأعم الأغلب لم يكن آلة للنهضة، بقدر ما كان زينة وأسلوباً وترفاً.) ص 88. كما (إن مُضاعفة العدم لا تُؤتي غير العدم، فإذا ما كان الرّجل المتعلم نفسه عديم التأثير، وإذا لم يكن لتعليمه أثر اجتماعي، فإنّ (أسطورة الجهل)، تصبح أسطورة خطرة، إذ هي تحجب خلف مشكلة الإنسان الأمي مشكلة أعمق لإنسان ما بعد الموحدين، جاهلاً كان أو متعلماً.) ص 89.

ب - أسطورة الفقر، وهي ليست بأقل خطراً إذ ينتقد مالك بن نبي سوء استغلال المال المتاح والإسراف والتّبذير والاهتمام بالتّوافه عند أثرياء المسلمين وحتى عند الفقراء. ويورد للتدليل على ذلك - في ص 91 - مقارنة عن كيفية تصرف واستغلال اليهود للمال عكس العرب. (فليست المشكلة - على هذا - مالية، ولكنها مشكلة نفسية وفنية؛ إنها مشكلة توجيه رأس المال.) ص 92.

ج - أسطورة القابلية للاستعمار والاستعمار. (والحق أن الاستعمار يسحق بصورة منهجية كل فكرة وكل جهد عقلي أو محاولة للبعث الأخلاقي أو الاقتصادي؛ وكل ما من شأنه أن يتيح لحياة أبناء المستعمرات مخرجاً أيّاً كان.. بيد أنه مع ذلك نجد الفرد عاطلاً خامداً في الميادين التي لا يمكن أن تخطر فيها شبهة الضّغط الاستعماري.. وعليه فإن الاستعمار يمارس عمله وتأثيره بوصفه حقيقة عندما يكف النّشاط كفاً فعلياً، وهو يمارسهما بوصفه أسطورة عندما لا يكون سوى تعلّة أو قناع للقابلية للاستعمار.) ص 92. وقد يستغرب القارئ باندهاش من النتيجة الحتمية التي يصل إليها الأستاذ مالك بن نبي في تحليله، عندما يعتبر أن الاستعمار يصبح ضرورة تاريخية بسبب القابلية للاستعمار. غير أن المتتبع لأفكار مالك بن نبي في كتابه هذا سيجد نفسه وقد زال عنه ذلك الاستغراب والاندهاش، إذ يرى (أن هناك حركة تاريخية، هذه الحركة لا تبدأ بالاستعمار، بل بالقابلية له، فهي التي تدعوه.) ص 93. (فالاستعمار إذن؛ ليس هو السّبب الأول الذي نحمل عليه عجز النّاس وخمولهم في مختلف بلاد الإسلام.) ص 94. (إنّ هناك نتيجة منطقية وعلمية تفرض نفسها، هي: أنه لكي نتحرر من (أثر) هو الاستعمار، يجب أن نتحرر أولاً من (سببه) وهو القابلية للاستعمار. فكون المسلم غير حائز جميع الوسائل التي يريدها لتنمية شخصيته، وتحقيق مواهبه: ذلك هو الاستعمار؛ وأما ألا يفكر المسلم في استخدام ما تحت يده من وسائل استخداماً مؤثراً، وفي بذل أقصى الجهد ليرفع من مستوى حياته، حتى بالوسائل العارضة، وأما ألا يستخدم وقته في هذه السّبيل، فيستسلم - على العكس - لحظة إفقاره وتحويله كمّاً مهملاً، يكفل نجاح الفنية الاستعمارية: فتلك هي القابلية للاستعمار.) ص 96. وهكذا (وجدنا أن الأسباب الداخلية التي تنتج عن القابلية للاستعمار هي الأسباب ذات الشّوكة والغلب.) ص 96.

ويعود الأستاذ مالك بن نبي إلى تشريح ظاهرة الاستعمار كعوامل خارجية أدت إلى فوضى العالم الإسلامي فيقول أن الاستعمار (يحول بين الشّعب وبين إصلاح نفسه، فهو يضع نظاماً للإفساد والإذلال والتّخريب، يمحو به كل كرامة أو شرف أو حياء.) 110. (إنّ الاستعمار هو أفضع تخريب أصاب التّاريخ.) ص 112. فبسبب الاستعمار (استوى على قمة المجتمع الإسلامي الحديث رعاع النّاس، بينما هبط إلى القاع خيارهم وصفوتهم.) ص 114. ذلك أن (الاستعمار يهدم مقومات البلاد المستعمرة ويحول بينها وبين إعادة بنائها.) ص 115. بيد أن الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله يعطينا بارقة أمل عندما يعقد (مقابلة مباشرة بين القابلية للاستعمار والاستعمار باعتبارهما عوامل شلل وتعجيز، وسندرك من هذه المقابلة، أن المستعمَر يمكنه أن يتحرر من قابليته في الوقت الذي يستخدم فيه ذكاءه وجهده لتذليل العقبات وتخطي العوائق وتحطيم القيود.) ص 117.

- وفي الفصل الرّابع: فوضى العالم الغربي: (تُشعرنا حالة العالم الإسلامي بأنه يقف في منطقة (حرام) في التّاريخ، ما بين فوضى ما بعد الموحدين والنِّظام الغربي) ص 121، (إن الواقع الاستعماري إذا كان قد أضرّ بحياة المسلمين إضراراً بليغاً، فإنه قد أضرّ كذلك بالحياة الأوربية ذاتها، لأن الاستعمار الذي يُهْلِك المستعمَرين مادياً، يُهْلِك أصحابه أخلاقياً، وذلك ما يشهد به تاريخ اسبانيا منذ اكتشاف أمريكا.) ص 123. وهنا يكتشف الأستاذ مالك بن نبي علاقة فوضى العالم الغربي (أوربا) بمثيلتها في العالم الإسلامي (والواقع أن هناك تأثيراً متبادلاً بين فوضانا وفوضى أوربا، فكلتاهما ذات وجهين، وذلك أن لفوضى أوربا وجهاً يُعد نتيجة بسيطة، ولكنها محتومة للحركة التّاريخية، أعني للعوامل الدّاخلية التي حتمت هذه الحركة، ولها وجه آخر عارض نتج عن تأثير الواقع الاستعماري على الحياة، وعلى العادات، وعلى الأفكار، منذ أكثر من قرنٍ. هذان الوجهان يؤلفان في مجموعهما ظاهرة مشتركة في جميع الحضارات، هي ظاهرة تخلف الضّمير في نموه عن العِلم وعن حركة الفِكر. فما الضّمير إلاّ تلخيص نفسي للتّاريخ، وخُلاصةٌ لأحداث الماضي مُنعكسة على ذات الإنسان، فهو بلورة للعادات والاستعدادات والأذواق.) ص 124. (فكلما فقدنا اتصالنا بماضينا وتقاليدنا وعوائدنا فقدتْ ضمائرنا قدراً كبيراً من مكوناتها الأساسية، لأن هذه تظل بعيدة عن مخالطة الضّمير. تلكم هي مأساة الحضارة الحديثة في عمقها، فإن الضّمير الحديث لم يتمثل بعد أغلب ما حققه العِلم من مخترعات.) ص 124. وإن أوربا انزلقت إلى حمأة المادية بسبب تأثير النّزعة العِلمية والنّزعة الاستعمارية، (لقد مات معنى الفضيلة (المطلقة)، من الوجه الذي مات منه مفهوم (العدالة) في قول أحد الأوربيين: (إن تسوية جائرة خير من قضية عادلة)، وقد سارت الاقتصادية نفسها إلى مصيرها، يوم وجد بعض النّاس في أنفسهم قحة وجرأة ليؤكد أن (التِّجارة هي السّرقة الحلال).وهكذا نجد أن أوربا النّازعة إلى (الكم) وإلى (النِّسبية) قد قتلت عدداً كبيراً من المفاهيم الأخلاقية، حين جردتها من أرديتها النّبيلة، وأحالتها ضروباً من الصعلكة، وكلمات منبوذة في اللغة، طريدة من الاستعمال ومن الضّمير، كأنما صارت القواميس (أحياناً) مقابر لكلمات لا توحي بشيء، لأن مفهومها لا ينبض بالحياة. ولقد تعاظم خطر تلك النّزعة الكمية في أوربا، والذي تملكه صناعة غزت العالم، كأنها أخطبوط يُضاعف بصورة هائلة شهوة الإنسان إلى المادة، فهي تملي على الطّفل اتجاهه في الحياة، فلا يختار طريقة فيها إلاّ وقد وضع نصب عينيه ما يأخذ من المجتمع لا ما يُعطي، إنه عن حظه لا عن رسالته.) ص 128. لقد (كشفت هذه الأزمة عن السّرطان الأخلاقي الذي يلتهم الحضارة.. والعجز عن حلِّ المُشكلة الإنسانية.) ص 130. (أن النِّظام الذي خلق الفوضى في أوربا ذو صبغتين، فهو علمي واستعماري في آنٍ واحد، فإذا ما كان في أوربا فَكَرَ بمنطق العِلم، أما إذا اِنْسَاحَ في العالم فإنه يُفَكر بعقلية الاستعمار.) ص 131.

وفي ختام هذا الفصل يحدد الأستاذ مالك بن نبي وجهة العالم الإسلامي في هذه الفوضى قائلاً: (أية كانت وجهة الأمر، فإنّ العالم الإسلامي لا يستطيع في غمرة هذه الفوضى أن يجد هُداه خارج حدوده، بل لا يُمكنه في كلِّ حال أن يلتمسه في العالم الغربي الذي اقتربت قيامته، ولكن عليه أن يبحث عن طُرُقٍ جديدة ليكشف عن ينابيع إِلّهامه الخاصّة. ومهما يكن شأن الطُّرق الجديدة التي قد يقبسها، فإنّ العالم الإسلامي لا يُمكنه أن يعيش في عُزلة، بينما العالم يتجه في سعيِّه إلى التّوحد، فليس المُراد أن يقطع علاقاته بحضارة تمثل ولا شك إحدى التّجارب الإنسانية الكبرى، بل المُهم أن يُنظم هذه العلاقات معها.) ص 138.

- وفي الفصل الخامس: المعنون بـ الطُّرُق الجديدة: ففي بحثه عن طرق جديدة لوجهة العالم الإسلامي، يذكر الأستاذ مالك بن نبي أن (الحاجة لا تكون فعالة خلّاقة إلاّ حين يمنحها الضّمير مِن روحه ما يُحيلها عملاً ملزماً، وهذا العمل الملزم هو الذي يَسّر للمجتمع الإسلامي أن يُحِيل أفكاره وحاجاته إلى منتجات حضارة. أما منذ ظهور إنسان ما بعد الموحدين فقد صارت عملية الإنتاج مجرد عملية استهلاكية.) ص 141. (وليس يكفي مجتمعاً لكي يصنع تاريخه أن تكون له حاجات، بل ينبغي أن تكون له مبادئ ووسائل تُساعده على الخلق والإبداع.) ص 142.

وعن الواجب، يقول: (ينبغي أن لا يغيب عن نظرنا أن (الواجب) يجب أن يتفوق على (الحق) في كلِّ تطور صاعد، إذ يتحتم أن يكون لدينا دائماً محصولٌ وافر، أو بِلُغة الاقتصاد السياسي (فائض قيمة). هذا (الواجب الفائض) هو أمارة التّقدم الخلقي والمادي في كلِّ مجتمع يشُق طريقه إلى المجد.) ص 143.  وبناء على ذلك يُمكننا القول: (إنّ كلّ سياسة تقوم على طلب (الحقوق) ليست إلاّ ضرباً مِن الهرجِ والفوضى.) ص 143. (فالسياسة التي لا تحدث الشعب عن واجباته، وتكتفي بأن تضرب له نغمة الحقوق، ليست سياسة وإنّما هي (خُرافة).) ص 143. و(ليس الشّعب بحاجة إلى أن نتكلم له عن حقوقه وحريته، بل أن نُحدد له الوسائل التي يحصل بها عليها، وهذه الوسائل لا يُمكن إلاّ أن تكون تعبيراً عن واجباته.) ص 143. (سيكون على إنسان ما بعد الموحدين إذن، أن يُخفف مِن نزوعه إلى المُطالبة بالحقوق، لكي يفرغ لاستخدامِ الإنسان والتُّراب والوقت استخداماً فنياً لاستحداثِ تشكيلٍ اجتماعي، يُنتج مِن تلقاء ذاته (الحق)، وذلك بمُقتضى الاقتران الوثيق بينه وبين الواجب، فرسم سياسة معينة معناه إعداد الشُّروط النّفسية والمادية للتّاريخ، أعني إعداد الإنسان لِصُنع التّاريخ.) ص 144. وإن الفِكر والعمل (هما الأمرانِ اللذان يقوم عليهما كلّ تطور في مجتمعٍ يُفكر في عمله ويعمل بفكره.) ص 159.

- وفي الفصل السّادِس: بواكير العالم الإسلامي: يبدأ الأستاذ مالك بن نبي هذا الفصل، بتحديد دور العالم الإسلامي كممثل وكشاهد، إذ يرى أنّ (العالم الإسلامي يمثل دورين يقوم بهما في وقت واحد، دوره ممثلاً، ودوره شاهداً، هذا الاشتراك المزدوج يفرض عليه واجب التوفيق بين حياته المادية والرُّوحية وبين مصائر الإنسانية. فهو لكي يقوم بدور مؤثر فعال في حركة التّطور العالمي ينبغي أن يعرف العالم، وأن يعرف نفسه، وأن يُعَرِّفَ الآخرين بنفسه، فيشرع في تقويم قيمه الذّاتية، إلى جانب تقويمه لما تمتلكه البشرية من قيم.) ص 165. (فنهضة العالم الإسلامي إذن ليس في الفصل بين القيم، وإنّما هي في أن يجمع بين العِلم والضّمير، بين الخلق والفنّ، بين الطّبيعة وما وراء الطّبيعة، حتّى يتسنى له أن يشيد عالمه طبقاً لقانون أسبابه ووسائله، وطبقاً لمقتضيات غاياته.) ص 169.

ويختم الأستاذ مالك بن نبي هذا الفصل السّادس وفصول الكتاب ككلّ، ببارقة أمل إذ يقول: (إن الذي يَرُدُّ إلى العالم شبابه، لا بد أن يكون (إنساناً جديداً)، قادراً على حمل مسؤوليات وجوده ماديّاً وروحيّاً، ممثلاً وشاهداً، وإنسان ما بعد الموحدين إنسانٌ هَرِم، في طريقه إلى الفناء. ولكن العالم الإسلامي على الرّغم من ذلك لديه قدر كبير من هذا الشّباب الضّروري.) ص 169. ومنه فالسيرورة التّاريخية لتعاقب الدورة الحضارية تقوم على (دورة مِن دورات الحضارة تولد في بعض الظُّرُوف النّفسية الزّمنية، ثمّ تنمو وتطرد، فإذا ما سبقتها الحضارة الإنسانيّة توقفت تلك الدّورة لتبدأ أخرى في ظروفٍ جديدة تتحول بدورها إلى ظروف متخلفة. فهذا هو القانون الذي خُطّ على مرِّ السِّنين خلال التّاريخ ذلك (الطّريق الصّاعد)، الطّريق الّذي منحتهُ البشريّة في بطْءٍ وروية، وبِذَلِكَ تمتزج غاية التّاريخ بِغَاية الإنسان.) ص 178.

- وفي الخاتمة: المآل الرُّوحي لعالم الإسلام: يستشرف الأستاذ مالك بن نبي مستقبل العالم الإسلامي فيقول: (لقد ظلّ العالم الإسلامي، خلال قرونٍ طويلة، مُتجمِداً في أشكالٍ سبق الحديث عنها، وهي الّتي أدت إلى وجود القابلية للاستعمار في مُجتمع ما بعد الموحدين، الّذي أدى إلى وجود الاستعمار. واليوم يتحرك العالم الإسلامي نحو الغدِ المأمول، أو بِعِبارةٍ أخرى: إن تاريخه قد استعاد حركته، ودبتْ فيه الحياة إذ أصبح في وضعٍ مُتحرك، وتكشفتْ له بعض الآفاق منذ قريب.) ص 181.  و(إنّه مهما يكن أمر الفوضى الرّاهِنة في العالم الإسلامي، فمِن المُمكن أن نتلمس فيه اتجاهين ليسا في طبيعة واحدة:

أما أولهما: فهو ذو طابع تاريخي، وهو ناتج عن تأثير القوى الدّاخليّة الّتي تظهر في صورة فعلٍ وردّ فعل للاستعمار ولقابليته.. وعناصر هذا الاتجاه تتمثل في: حركة الإصلاح، والحركة الحديثة، وهما اللّتان تخلعان على العالم الإسلامي صورته الحديثة.

وأما ثانيهما: فلا يمكن فصله عن التّطور التّاريخي، المتمثل في الظّواهر الكُبرى لانتقال الحضارة في مُستواها العالمي: بمعنى انتقال مركز الجاذبية من حوض البحر الأبيض المتوسط إلى آسيا.) ص 182. 

ختاماً؛ أقول أن الأستاذ المفكر الحضاري مالك بن نبي – رحمه الله - في كتابه هذا الذي الموسوم بـ ( وجهة العالم الإسلامي) والذي ألفه في عام 1954م، نجده يُحلل واقع العالم الإسلامي وما جاوره من عوالم أخرى أثرت فيه، ومن ثم يستشرف مستقبل وجهة عالمنا الإسلامي وفق ما توفر له من معطيات حينها..

إنه لكتاب قيم يستحق أكثر من قراءة وتحليل.

اقتباسات من كتاب: «وجهة العالم الإسلامي» تأليف المفكر الحضاري مالك بن نبي رحمه الله

- (إن حديثنا عن إنسانية أوربا لا يكون إلاّ حديثاً عن نزعة إنسانية (جذبية) دون إشعاع، وفي هذه الحالة نراها تعني (إنسانية أوربية) في الدّاخل، و(إنسانية استعمارية) في الخارج، وهذه الأخيرة قائمة على أقبح المعادلات السِّياسيّة وأبشعها: (فالإنسان) في عُرفها مضروباً في (المعامل الاستعماري) يساوي مستعمراً.) ص 20.

- (الرُّوح، الرُّوح وحده، هو الّذي يُتيح للإنسانية أن تنهض وتتقدم، فحيثما فقد الرُّوح سقطتْ الحضارة وانحطتْ، لأن من يفقد القُدرة على الصُّعود لا يملك أن يهوى بتأثير جاذبية الأرض.) ص 31.

- (التّاريخ يبدأ بالإنسان المُتكامل الّذي يُطابق دائماً بين جهده وبين مثله الأعلى وحاجاته الأساسيّة، والّذي يُؤدي في المجتمع رسالته المزدوجة، بوصفه ممثلاً وشاهداً. وينتهي التّاريخ بالإنسان المُتحلل؛ بالجُزيء المحروم من قوة الجاذبية، بالفرد الّذي يعيش في مُجتمع منحل، لم يعُدْ يُقدم لوجوده أساساً روحيّاً، أو أساساً ماديّاً.) ص 32.

- (إن العلوم الأخلاقيّة والاجتماعية والنّفسية تعدُ اليوم أكثر ضرورة من العلوم المادية، فهذه تُعدُ خطراً في مُجتمعٍ ما زال النّاسُ يجهلون فيه حقيقة أنفسهم، ومعرفة إنسان الحضارة وإعداده أشق كثيراً من صُنع مُحركٍ.) ص 38.

- (إن الثّورات تخلق قيماً اجتماعية جديدة صالحة لتغيير الإنسان.) ص 52.

- (ما كان لثورة إسلامية أن تكون ذات أثرٍ خلّاق، إلّا إذا قامت على أساس (المؤاخاة) بين المسلمين، لا على أساس (الأخوة) الإسلامية، وفرق ما بين (المؤاخاة) و(الأخوة) : فإن الأولى تقوم على فعل ديناميكي، بينما الثانية عنوان على معنى مجرد، أو شعور تحجر في نطاق الأدبيات.) ص 52.

- (ليست المشكلة أن نُعلِم المسلم عقيدة هو يملكها، وإنما المهم أن نرد إلى هذه العقيدة فاعليتها وقوتها الإيجابية، وتأثيرها الاجتماعي، وفي كلمة واحدة: إن مشكلتنا ليست في أن نبرهن للمسلم على وجود الله، بقدر ما هي في أن نُشعره بوجوده ونملأ به نفسه باعتباره مصدراً للطاقة.) ص 54.

- (يبدو أن المثل الأعلى قد ظل، كما كان منذ عصر الانحطاط؛ أن يُصبح المرء (بحر علوم)، يزدرد العلم ويفقد معنى دوره الاجتماعي. وأي درس في التّفسير يتيح لنا ملاحظة تفاهة ثقافتنا الرّاهنة، التي استعبدتها الألفاظ، فلم تعد تعبر عن اهتمام العمل، بل عن مجرد الشّهوة إلى الكلام.) ص 60.

- (إن الثقافة تبدأ متى تجاوز الجهد العقلي الّذي يبذله الإنسان حدود الحاجة الفردية.) ص 67.

- (ليست الحضارة تكديساً للمنتجات، بل هي بناء وهندسة.) ص 69.

- (إن تصفية الأفكار الميتة، وتنقية الأفكار المميتة يُعدان الأساس الأول لأيةِ نهضة حقّة.) ص 83.

- (ليس في قائمة النّشاط الاجتماعي ما يصح أن يُعد ضئيل القيمة، فلكل حركة في ذلك الاطراد أثرها في تقدم المجتمع.) ص 83.

- (الذّكاء يتبع دائماً حال النّفس، فإذا ما فقدتْ النّفس صفاءها فَقَدَ الذّكاء عمقه.) ص 84.

- (الشّلل الأخلاقي هو بلا مِراء أخطر ما تخلف عن عصر ما بعد الموحدين، يُعْجِزُ المُجتمع الإسلامي فيجعله غير قادرٍ على زيادة جهده الضّروري لِنُهُوضِهِ، وما الشّللُ الفكري إلاّ نتيجة من نتائجه.) ص 86.

- (إن الفكر في البلاد الإسلامية التي تحررت من الوصاية الاستعمارية، لم تكتمل بعد شخصيته، ولم يظفر بعد، بحقه في السيطرة على وجوه الحياة، وبقيمته الاجتماعية، باعتباره وسيلة للعمل وأساساً جوهرياً للنشاط.) ص 87.

- (إن مُضاعفة العدم لا تُؤتي غير العدم، فإذا ما كان الرّجل المتعلم نفسه عديم التأثير، وإذا لم يكن لتعليمه أثر اجتماعي، فإنّ (أسطورة الجهل)، تصبح أسطورة خطرة، إذ هي تحجب خلف مشكلة الإنسان الأمي مشكلة أعمق لإنسان ما بعد الموحدين، جاهلاً كان أو متعلماً.) ص 89.

- (من الواجب عندما ندرس وضع بلد مستعمَر، ألا نغفل النّظر إلى هاتين الفكرتين المتلازمتين، وإن كانتا في الحقيقة متمايزتين: الاستعمار والقابلية للاستعمار.) ص 94.

- (هناك علاقة مباشرة بين السِّياسة والحياة: فالأولى تخطيط للثانية، وما السِّياسة في جوهرها إلاّ مشروع لتنظيم التّغيرات المتتابعة في ظروف الإنسان وأوضاع حياته، هذه العلاقة التي تحدد وضع الفرد باعتباره غاية كل سياسة، تعُد الفرد أيضاً عاملاً لتحقيق تلك الغاية. وهكذا يُعَدُ الإنسان عنصراً في المشروع السّياسي من وجهتين: أي باعتباره (ذاتاً) تحقق الغاية من السِّياسة و(موضوعاً) هو عينه الغاية المرجوة.) ص 96.

- (خطأ السّياسات التي اتبعها العالم الإسلامي؛ فقد اتجهت في كفاحها إلى المستعمِر، دون أن تلتفت إلى الفرد الذي تسخره للقضاء على الاستعمار.) ص 96.

- (عجيب أمر الأسير يطلب مفتاح سجنه من سجّانه.) ص 97.

- (بوسعنا أن ندرس درجة حضارة ما، بملاحظة الطّريقة التي يتبعها الإنسان ليتفاعل مع بيئته.) ص 97.

- (الانتقال من الحياة البدائية الرّاكدة إلى الحياة العاملة النّاشطة، هو الذي يسجل بداية حضارة ما أو نهضة معينة.) ص 98.

- (الاستعمارُ يَحُولُ بين الشّعب وبين إصلاحه نفسه، فيضع نظاماً للإفسادِ والإذلالِ والتّخريبِ، يَمحُو بِه كلّ كرامةٍ أو شرفٍ أو حياء.) ص 110.

- (إنّ الاستعمار هو أفضع تزييف أصاب التّاريخ.) ص 112.

- (بفضلِ الاستعمار استوى على قمة المجتمع الإسلامي الحديث رعاع النّاس، بينما هبط إلى القاع خيارهم وصفوتهم.) ص 114.

- (الاستعمار يهدم مقوِّمات البلاد المستعمَرة ويَحُول بينها وبين إعادة بِنائِها.) ص 115.

- (من الجميل حقاً أن يحصل المرء على (حقوقه) التي يُطالب بها، ولكن من المؤسف حقاً أن نقلب نظام القيم فنقدم (الحقوق) على (الواجبات)، فذلك يزيدُ نسبة التّخليط والقلق والفوضى في حياتنا، لأنه يُضاعف خطوات (البوليتيكا) الخاطئة.) ص 117.

- (ليس الشّعب بحاجة إلى أن نتكلم له عن حقوقه وحريته، بل أن نحدد له الوسائل التي يحصل بها عليها، وهذه الوسائل لا يمكن إلاّ أن تكون تعبيراً عن واجباته.) ص 143.

- (لم تعد تفصل بين الشُّعوب مسافات سوى مسافة ثقافاتها... فالعِلم قد ألغى المسافات الجُّغرافية بين النّاس، ولكن هُوىً سحيقة قد بقيت بين ضمائرهم.) ص 167.

- (ما كان لحضارة أن تقوم إلاّ على أساس من التّعادل بين الكم والكيف، بين الرُّوح والمادة، بين الغاية والسّبب، فأينما اختلّ هذا التّعادل في جانبٍ أو آخر كانت السّقطة رهيبة قاصمة.) ص 169.

 

أ. السعيد بوشلالق

...........................

1- الطبعة الخامسة 1986. صادرة عن دار الفكر الجزائر. عدد الصفحات 200 صفحة.

 

في المثقف اليوم