قراءة في كتاب

ثامر الحاج امين: القوانين الأساسية لغباء الانسان

قراءة في كتاب: الغباء البشري

تعددت الدراسات التي تناولت موضوع الغباء ومشكلاته الاجتماعية، واختلفت في اسبابه بين انه فطري ومكتسب ومفتعل، ولكن كلها أجمعت على ان الغباء مرض تتفاوت درجة خطورته من شخص الى آخر، كما تعددت اوصافه عند الدراسين، فهناك من وصفه بـ " المرض الوحيد الذي لا يُتعب المريض، بل يُتعب كل المحيطين به " كما ان الشعراء والكتاب أشاروا الى خطورة الغباء وصعوبة التخلص منه ومن بينهم الشاعر الالماني " شيلر " الذي كتب يقول " سيكون قتال الآلهة نفسها عديم الجدوى في مواجهة الغباء " وقارن الروائي الفرنسي أناتول فرانس بين الغباء والشر فوجد " الغباء أخطر بكثير من الشر، فالشر يأخذ إجازة من حين الى آخر، أما الغباء فيستمر "، ومن بين الكتب الجادة التي تناولت موضوع الغباء هو كتاب (الغباء البشري) لمؤلفه المؤرخ الايطالي " كارلو شيبولا 1922 ــ 2000 " الذي قرأته بمتعة، وقبل الشروع بقراءة هذا الكتاب كنت اظنه كتابا يتناول أحوال الأغبياء ومفارقاتهم، ولكن بعد ان طويت صفحات قليلة منه تيقنت من ان الكتاب يمثل دراسة جادة جعلت الغباء في معادلات رياضية معززة بأدوات القياس العلمي والبيانات الاحصائية واستصدرت له قوانين، كما انه مهم ودليل اهميته انه حين صدوره لاقى اقبالا عالميا واسعا فقد باع المؤلف منه أكثر من نصف مليون نسخة وتُرجم الى 16 لغة، وقد نشر الكتاب للمرة الأولى عام 1976 في طبعة خاصة وبنسخ محدودة ولكن في عام 1988 أي بعد ما يقارب ربع قرن اعيد طبعه واصبح متاحا بنسخته الأصلية.

 جاء في مقدمة المؤلف ان الدافع وراء اهتمامه بهذا الموضوع هو الشؤون الانسانية التي كانت على الدوام في حالة يرثى لها، فهو يرى ان العبء الثقيل من المتاعب وضروب البؤس التي تعيشها المجتمعات البشرية هو نتاج الطرق الغبية لتنظيم الحياة ويشير الى ان الانسان وباقي الكائنات تتشاطر في تحمل نصيبهما اليومي من المحن والشدائد الا ان البشر يتحمل جرعة اضافية من المصائب الناجمة يوميا عن مجموعة من الجنس البشري عينه والتي يصفها بأنها أشد نفوذا من المافيا ويقصد بها فئة الأغبياء، وتكمن خطورتها في انها (ليس لها زعيم ولا رئيس ولا لوائح تنظيمية، كما لو ان يدا خفية توجهها ص 16).

يضع المؤلف أربعة قوانين أساسية للغباء البشري، يؤكد في القانون الأول ان (الجميع يستهينون دائما وحكما بعدد الاغبياء الذين يحيطون بهم) مشيرا الى جامعو العهد القديم الذين اعادوا صياغة هذا القانون عندما أكدوا ان " الأغبياء لا حصر لهم " ويحاول اثبات حقيقة قانونه من صدمته بظهور غباء بعض الاشخاص الذين يقومون بتعطيل ومضايقة الأنشطة بعد ان كان يعتبرهم عقلانيين الأمر الذي يمنع المؤلف من اسناد قيمة عددية معينة الى الجزء الذي يمثله الاشخاص الأغبياء من اجمالي عدد السكان، أما القانون الاساسي الثاني ونصه (احتمالية ان يكون شخص ما غبيا مستقلة عن أي سمة اخرى يتصف بها هذا الشخص) فهو يعترض فيه على علماء الوراثة والاجتماع وكذلك على وجهة النظر العامة التي ترى ان البشر متساوون ويعتقد اعتقادا جازما هو نتاج سنوات من الملاحظة والتجربة ان البشر ليس متساوين وان بعضهم اغبياء وبعضهم الاخر ليسوا كذلك وينسب هذا الاختلاف الى الطبيعة التي يراها هي من يحدد الاختلاف وليس القوى او العوامل الثقافية، فالمرء ــ من وجهة نظره ــ يكون غبيا بالطريقة عينها التي يولد فيها شعره احمر اللون أي بفعل السمات الوراثية وكما يقول (يولد الغبي غبيا قضاء وقدرا ص26).

وفي الفصل الذي اسماه بــ (فاصل تقني) يتحدث فيه عن الاندماج الاجتماعي متماهياً في حديثه مع قول ارسطو الذي يرى ان (الانسان حيوان اجتماعي) ودليله على ذلك هو تحرك البشر في مجموعات اجتماعية فيها المتزوجون اكثر من عدد العزاب والعازبات وان كثيرا من الاموال والاوقات تنفق على حفلات الكوكتيل وحتى النساك يضطرون احيانا الى مقابلة الناس وكلها نزوع اجتماعي نقيض للوحدة.

في القانون الاساسي الثالث الذي أسماه بالذهبي يفترض المؤلف ان البشر يندرجون ضمن اربع فئات رئيسية وهم: المغلوبين على أمرهم، والأذكياء، وقطاع الطرق، والأغبياء، ويعتمد في هذا التقسيم على معيار المكسب والخسارة اللذان يعودان بهما تصرف هؤلاء عليهم وعلى الآخرين، فالمغلوبين على أمرهم هم الذين يتصرفون بطريقة تكبدهم خسارة وتحقق في الوقت عينه مكسبا للآخرين، أما الأذكياء فهم الذين ينصرفون بطريقة تحقق لهم مكسبا وتحقق كذلك في الوقت عينه مكسبا للأخرين والفئة الثالثة التي هي قطاع الطرق فيصفهم بالذين يتصرفون بطريقة تحقق لهم مكسبا ولكن تكبد الاخرين خسارة أما الفئة الرابعة التي يمثلها الشخص الغبي فهو الشخص الذي (يكبد شخصا آخر أو مجموعة من الأشخاص خسائر، وفي الوقت عينه لا يحقق لنفسه أي مكسب، بل لعله يتكبّد خسائر ايضا ص 42).

 وعن تقييم أثر الغباء في مصائرنا الشخصية وفي المجتمع برمته يشير المؤلف في فصل (الغباء والسلطة) الى التباين في قدرة الأغبياء على التأثير في اخوانهم من البشر حيث يذكر ان بعض الاغبياء يتسبب بخسائر محدودة، في حين ينجح اخرون في الحاق اضرار مروعة وواسعة النطاق ليس بشخص فحسب انما بجماعات ومجتمعات بأسرها وينسب قدرة هذا التأثير الى عاملين رئيسين هما: العامل الوراثي حيث يجد بعض الاشخاص يرثون جرعات استثنائية من مورثة الغباء، اما العامل الثاني فيتصل بموقع السلطة الذي يشغله والأهمية التي يتمتع بها في المجتمع، ولن يجد صعوبة في ذكر امثلة بين الجنرالات والسياسيين الاغبياء الذين عزز موقعهم الذي شغلوه قدرتهم على الحاق الأذى الكبير بمجتمعاتهم وتدمير بلدانهم والأمثلة كثيرة في تاريخنا القديم والمعاصر، أما السؤال الذي يدور في اذهان العقلاء عن كيفية وصول هؤلاء الاغبياء الى مواقع في السلطة والتمتع بالأهمية فينسب المؤلف ذلك الى النظام الطبقي والطائفي المغلق الذي يمثل انظمة اجتماعية تحبذ رفد مواقع السلطة بالأغبياء على نحو متواصل وهذا الأمر ليس محصورا في مجتمع بعينه انما هو قائم في معظم مجتمعات العالم ما قبل الثورة الصناعية اذا ان الأمر اختلف في العالم الصناعي الحديث حيث استبُعِد هذان النظامان وحلت محلهما الاحزاب السياسية وصارت بديلا عنهما والديمقراطية التي يرى فيها اداة فعالة لتمكين الاغبياء من المجتمع لأن الكثير من الناخبين اغبياء فينتخبون الاغبياء مثلهم، وما يشير اليه المؤلف من ملاحظة مهمة وواقعية هي ان الجزء الذي يمثله الاشخاص الاغبياء من اجمالي عدد السكان يبقى حاضرا حتى في الانتخابات العامة في النظام الديمقراطي وان الانتخابات (تقدم لهم جميعا في الوقت عينه فرصة ممتازة لإلحاق الضرر بالآخرين من دون ان يحقق لهم تصرفهم أي مكسب ص 57)، ويقارن المؤلف بين تصرف قاطع الطريق والغبي فيصف تصرف الأول بالعقلانية الشريرة فهو يهدف الى تحقيق الفائدة على حساب ضررك ومن خلال هذا الهدف تستطيع التنبؤ بتصرفاته ومطامحه البغيضة وبإمكانك في هذه الحالة بناء دفاعاتك والتخلص من أذاه، اما في حالة التعامل مع شخص غبي فيستحيل القيام بهذه الاحتياطات لأن الغبي (بقوم بإزعاجك من دون اي سبب، ومن دون أي فائدة وفي الأوقات والأمكنة الأبعد عن التوقع ص 62) وبالتالي لن تكون هناك قدرة ووقت على تنظيم دفاع عقلاني بسبب وجود عنصر المباغتة في الهجوم كما يشير الى تكبد الجنس البشري خسائر لا حصر لها بسبب عدم ادراكه خطورة التعامل مع الاغبياء حيث يرتكبون خطأ الاستغراق في مشاعر الرضا عن النفس والتهاون والاستخفاف بدلا من أخذ الاحتياطات اللازمة على اعتقاد بان الغبي لن يؤذي سوى نفسه.

وينتهي المؤلف من دراسته الى نتيجة يعتبرها منطقية هي ان " الشخص الغبي أشدّ خطراً من قاطع الطريق " مؤكدا على ان أسوأ المخاوف هي تمكن الأغبياء من حكم العالم ويشير الى ان كتابه ليس ضربا من التهكم بل هو كتاب في علم الاحياء الدقيقة، كما هو نتاج جهد بناء للكشف عن (احدى القوى الظلامية الأشد بأسا، التي تعوق ازدهار الانسان وسعادته) وبالتالي من الضرورة معرفتها ومن ثم العمل على امكانية تحييدها.

***

ثامر الحاج امين

في المثقف اليوم