قراءة في كتاب

صلاح الدين ياسين: قراءة في كتاب "النبوة والسياسة" لعبد الإله بلقزيز

كتاب عبارة عن دراسة علمية رصينة من إنجاز الباحث المغربي عبد الإله بلقزيز، صدرت طبعته الثانية عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت سنة 2011، يتضمن ثمانية فصول موزعة على ثلاثة أقسام رئيسية (222 صفحة). يذهب الكاتب إلى أن قلة من الباحثين – سواء العرب أو الغربيين – من ركز على البعد السياسي من المشروع النبوي، إذ استأثر الجانب الديني والدعوي بالقسط الأوفر من اهتمامهم، ذلك أن النبي (ص) كان أيضا قائدا سياسيا (ما يميزه عن مجموعة من الرسل) تَوَسل بوسائل السياسة والقوة المادية للتمكين لرسالة الإسلام، وكانت تصدر منه تقديرات واجتهادات سياسية لا تخلو من فطنة وبعد نظر. وهكذا يتحدد موضوع البحث في "تكوين المجال السياسي الإسلامي والموقع التأسيسي للمشروع النبوي فيه". وفي هذا الصدد، لا يخفي المؤلف إعجابه الشديد بالمشروع السياسي النبوي وعظمة قائده محمد (ص).

وعليه، فقد شغلت المسألة السياسية مكانة مركزية في الإسلام منذ صدره الأول لحاجة الرسالة الدينية إلى سلطان سياسي يرسخ دعائمها، ويوسع من رقعة انتشارها، ويضمن بذلك استمراراها ومنعتها. فما هي مظاهر وتجليات حضور مشروع سياسي نبوي؟

أولا: الوظيفة السياسية للحرب

رغم تشديد البعض على المضمون الديني الصرف للحرب، فإنها تنطوي أيضا على وظيفة سياسية تكتيكية ضرورية لخدمة الهدف الاستراتيجي الديني، مثل إضعاف شوكة العدو (قريش) اقتصاديا وتجاريا لحمله على الدخول في الإسلام، إذ ليس يخفى وجود اعتبارات "سياسية" و"اقتصادية" تفسر تعنت قريش ورفضهم لدعوة الإسلام، تتمثل في الخوف من تضرر مصالحها المادية والتجارية التي تدرها عليها الأصنام والأوثان (القوافل التجارية الكي كانت تفد إلى موسم الحج بمكة... إلخ)، فضلا عن حاجة المسلمين الماسة إلى خوض الحروب من أجل توفير الموارد الاقتصادية الضرورية عن طريق تحصيل الغنائم، باعتبار ضعف اقتصاد المدينة الفقير حينئذ مقارنة بمكة التي كانت تعد قوة تجارية كبرى. ولما كانت "الحرب خدعة" بتعبير النبي (ص)، جرى الحرص على نسف تحالفات العدو إبان الحرب عبر نشر الأخبار الكاذبة المضللة.

ثانيا: التحالفات والمعاهدات

من بين الأمثلة على المعاهدات التي عقدها النبي (ص) التحالف مع القبائل اليهودية بيثرب بعيد الهجرة والتعهد بالذود عن حمى المدينة في مواجهة العدو المشترك، وذلك قبل أن يحدث الصدام المسلح بينهما. هذا بالإضافة إلى ما عُرف ب "صلح الحديبية" مع قريش في السنة السادسة للهجرة. فبرغم معارضة فريق من الصحابة والتابعين لذلك الصلح، إذ رأوا فيه تنازلا دينيا غير مبرر، فإنه حقق مصلحة استراتيجية للمسلمين، الذين كانوا في حاجة إلى هدنة لإعادة تنظيم صفوفهم، وتجهيز جيشهم لتحقيق الغاية الكبرى (النصر النهائي ضد قريش)، بدليل أن النبي (ص) نقضه بعد حوالي سنتين من إبرامه بعد تغير ميزان القوى لصالح الجماعة الإسلامية على نحو لا يخلو من دهاء سياسي وبعد نظر.

ثالثا: وسائل بناء الجماعة السياسية الموحدة

وفي جملتها توحيد القبائل العربية في إطار رابطة دينية جامعة (الإسلام)، دون أن يعني ذلك إلغاء روابط الاجتماع الأهلي التقليدية بشكل مطلق، فقد وظفت الدعوة المحمدية البنى القبلية التقليدية في خدمة الرسالة الدينية (طمأنة سادة قريش على مكانتهم الاجتماعية ومصالحهم المادية في حال دخولهم الإسلام، المصاهرة كزواج النبي من بنت أبي سفيان رغم أنه كان مشركا قبل إسلامه... إلخ)، لأن دخول قريش الإسلام هو شرط ضروري لإسلام باقي قبائل العرب لما تملكه من نفوذ عليها، الشيء الذي تَأَكد بعد فتح مكة (السنة الثامنة للهجرة).

رابعا: التنظيم السياسي والإداري لدولة المدينة

انبثق نوع من التنظيم السياسي – الإداري "أتى يمثل مشهدا جديدا على عرب لم يألفوا معنى الدولة أو الانقياد لسلطة مركزية في تاريخهم"، بحيث اضطلع بجملة من الوظائف الحيوية للدولة بقيادة النبي (ص) تُسنده طبقة سياسية مثلها كبار الصحابة:

"إن قيادة الرسول لحروب المسلمين، وتكوين جيش مدرب، وإبرام الاتفاقات والمعاهدات، وإحداث المسؤوليات المدنية (قضاة، عمال على الأقاليم... إلخ)، والأمنية (جهاز تجسس غير نظامي)، والسياسية (مجلس الصحابة "المستشارين")... إلخ، مما يقطع بأن نواة نظام سياسي كانت تنشأ في تجربة الإسلام الأول بقيادة النبي"، بالإضافة إلى مظاهر سياسة خارجية مارسها الرسول محمد (ص)، ويستدل الكاتب على ذلك بمراسلات النبي للملوك والأباطرة النصارى والقبائل غير المسلمة.

خامسا: استنتاجات

لعل الكاتب - في تقديري الشخصي - من خلال بحثه المتميز هذا، الذي عززه بدراسة أخرى مكملة له (جزء ثان) سنخصص مراجعة لها لاحقا، يلتمس – ضمنيا – الشرعية للدولة المدنية، فيما يرفض، بالمقابل، نموذج الحكم القائم على الدولة الثيوقراطية التي تدعو إليها تيارات الإسلام السياسي. فالمؤلف ينطلق من حقيقة مفادها غياب تشريع قرآني ملزم بشأن المسألة السياسية، بحيث تُرك المجال للنبي (ص) وخلفائه من بعده للاجتهاد في المسائل السياسية التي تعرض لهم طبقا لما تمليه مصالح الأمة وأحوال العمران. وهكذا ينتهي الكاتب إلى طرح مؤداه أن "مجال السياسة في الإسلام نشأ بعيدا عن أية قداسة دينية مفترضة، لأنه بُني على اجتهاد"، كما يستدل الباحث على موقفه بما ذهب إليه الفقه السني حول الدولة: "الدولة التي أنتجها الإسلام ليست دولة دينية (ثيوقراطية) لأنها – عند أهل السنة "على الأقل" – تقوم على مواضعات مدنية. فالدولة من الفروع لا من الأصول، أي أنها ليست ركنا من أركان الدين".

***

بقلم: صلاح الدين ياسين

 

في المثقف اليوم