قراءة في كتاب

علاء اللامي: في الدين والتراث.. قراءة في كتاب نادر ومبكر لهادي العلوي

كان العلوي قد أصدر، عبر دار الطليعة اللبنانية سنة 1973، كتابا بعنوان "في الدين والتراث" وقد عثرت مصادفة قبل أيام على نسخة رقمية منه. هذه قراءة سريعة فيه نركز فيها على موضوع مهم هو كيف كان الراحل العلوي يتعامل نقدياً وبإنصاف مع الأبحاث والمؤلفات التي يقدمها مستشرقون وباحثون غربيون. إذْ لم يكن العلوي مسكوناً بهاجس تقديس وتصنيم المستشرقين والباحثين الغربيين، هذا الهاجس الذي يحمله كثيرون من الباحثين العراقيين والعرب، وخصوصا أولئك المؤلفين الذين يفبركون عشرات الكتب والأبحاث بطريقة الخمط (النسخ واللصق) من دون التَقَيُّد بطرق التوثيق والاقتباس الأكاديمية المعروفة، ليخرجوا في النهاية بكشاكيل سمينة لا يجد فيها القارئ شيئا غير ما قرأه المؤلفُ لكُتاب آخرين. أو كما يصف الباحث والمنقب الآثاري العراقي وعالم اللغات القديمة السومرية والأكدية نائل حنون هذا النوع من المؤلفين بأنهم (يكتبون ما يقرأون لكتاب آخرين) وفضيلتهم الوحيدة أنهم يجيدون لغة أجنبية أو أكثر فيترجمون عنها ما يعثرون عليه ويجترونه بشكل لا نقدي ودون تمحيص وتدقيق. لنعد إلى العلوي وكيف قرأ نقديا أحد مؤلفات المستشرق البريطاني هاملتون جِب:

يذكر العلوي أن جِب هو من كبار المستشرقين وقد ألف كتابه (المدخل إلى الأدب العربي) لتعريف القارئ الغربي بهذا الأدب. وقد ترجمه إلى العربية كاظم سعد الدين في بغداد في السبعينات. ولم أعثر على نسخة من طبعته البغدادية الأولى، ولكن هناك ترجمة أخرى للكتاب مصحوبة بقراءة نقدية قدمها د. إبراهيم عوض سنة 2008.

ويتوقف العلوي عند ما كتبه المستشرق جب عن الشاعر المتنبي فيقول: "يصف جب المتنبي بالقول إنه ليس له مَن يضاهيه لمهارته في النظم وسلامته في التعبير وتمكنه من العبارة المنمقة". وهذا الوصف - يضيف العلوي - يصح على شعراء الغزل والخمريات والوصفيات، أولئك الشعراء المولعين بالبديع. وليس المتنبي من هذه الطبقة لأن أخص ما يمتاز به شعره هو المتانة وقوة السبك. وأن تفوق المتنبي لا يرجع إلى الخصائص الأسلوبية بل إلى خصائص مضمونية. وقد أنصف العلوي هاملتون جب بقوله (أسلوب المستشرقين الغربيين يتسم عادة بالتعالي والأحكام الفوقية المتسرعة التي تصدر على شكل قرارات حاسمة مع كثير من سوء الفهم المرتبط بالعجز عن الفهم عن تشخيص المساهمات الفعلية في حياة الفكر الإنساني، مع أن جب أظهر في هذا الحديث شيئاً من الموضوعية يحمد عليها). ثم يعود العلوي لنقد بعض آراء وتعبيرات جب في كتابه سالف الذكر ومنها مقابلته بين فهم المسلمين للقرآن باعتباره كلام الله الموحى به الى النبي ورأي الغربيين المعتبر أنه من كلام النبي؛ فيقول العلوي إن هذه المقابلة بين العقلية الإسلامية والأخرى العلمانية للمؤلف فيها الكثير من الافتعال، فأن يكون المؤلف غربياً لا يعني بالضرورة أنه يفكر تفكيراً علمانياً. ثم أن هناك شطب وعدم تفريق بين المسلم المؤمن والمسلم الزنديق أو الفاسق ...إلخ، وهذا ما يجهله الغربيون لأنهم يعتبرون المسلمين والإسلام كلا وكيانا واحدا مندمجا ومنسجما وموحَّدا وحدة صماء، لأنهم يجهلون التفريق القرآني الذي نصت عليه الآية (قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ). ويضيف العلوي أن اللاهوت، عدا عن السحر والشعوذة والكهانة، قد لقي ويلقى في الفكر الغربي القديم والحديث عناية إنْ لم تزد على ما عند الشرقيين فهي تضاهيه. وقد أنتج الغرب من الخرافة قدر ما أنتج من العلم. ثم يقترح العلوي تصحيح عبارة جِب على النحو التالي (إن المسلمين المتمسكين بعقيدتهم الدينية يعتقدون المسألة الفلانية ولكن الباحث العلمي يرى خلاف ذلك).

وردا على ما كتبه جب عن ابن طفيل وفيه قال إن شهرة هذا الأخير تستند إلى تهذيب الرواية الفلسفية لابن سينا الموسومة "حي بن يقظان"، يكتب العلوي "ليس بين رواية ابن طفيل ورواية ابن سينا أي وجه شبه إذا استثنينا اسم البطل. ورواية ابن سينا تقع في 11 صفحة أما رواية ابن طفيل فتقع في 75 صفحة ومن المعروف أن حجم التهذيب يكون أصغر من الحجم الأصلي أو على الأقل أن يكون مساويا له. أضف إلى ذلك أن رواية ابن سينا ليست رواية لأنها لا تعدو ان تكون حديثا يديره المؤلف مع شيخ طاعن في السن يدعى حي بن يقظان. أما مؤلف ابن طفيل فهو قصة تجمع أكثر العناصر الضرورية للبناء القصصي ... ولعل المستشرق الفاضل لم يقرأ الكتابين بإمعان وإنما اعتمد على التشابه اسميهما.

وفي رده على ما كتبه هاملتون جب عن الجاحظ وقال فيه إنه درس الفقه على يد إبراهيم النظّام وإنه كان عبدا زنجيا، وإن الحيوان يشغل مكانا ثانويا في كتابه المعنون "الحيوان". يقول العلوي مدللا على جهل المستشرق البريطاني إن النظَّام لم يكن فقيها بل كان متكلما (عالِم في الكلام. والكلام في التراث العربي هو علم المنطق والنظر والاستدلال وهو بهذا فرع من الفلسفة وبعض الباحثين يعتبرونه الفلسفة ذات المنزع العقيدي ذاتها). والجاحظ لم يكن عبدا أسود بل كان عربيا من قبيلة كنانة وجده الأعلى فزارة ولكن بشرته كانت سمراء فقال عنه الرواة إنه أسود ولكن كلمة "أسود" لدى الغربيين تعني تلقائيا وبالضرورة العبد الزنجي نتيجة ثقافتهم العنصرية الموروثة من الرومان في حين أن هناك الكثير من العرب الأحرار ذوو بشرة سمراء أو سوداء.

وأخيرا، فكلام جب عن كتاب "الحيوان" غير صحيح كما يقول العلوي، فقد كتب الجاحظ في الكتاب عن 365 نوعاً من الحيوانات، وصف شكلها الخارجي وطرق عيشها وتكاثرها ومواطن عيشها وكل ما يتصل بها إلا تشريح أجسامها فلم يفصل فيه لأن علم التشريح لم يكن قد تطور كثيرا في عصره. وبهذا فكتاب الحيوان للجاحظ كما يصفه العلوي يبقى مصدرا ثميناً غنياً بالمعلومات يعكس الجهد الذي بذله مؤلفه فيه كما يعبر عن دقة ملاحظته وأمانته العلمية. ص 89 وما بعدها.

***

علاء اللامي

..........................

*يمكنكم تحميل نسخة رقمية مجانية من كتاب العلوي عن طريق هذا الرابط:

https://www.ktobati-pdf.com/download/%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%86-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AB-pdf

في المثقف اليوم