قراءة في كتاب

قاسم حسين صالح: فلسفة فن اللامبالاة.. لعيش حياة تخالف المألوف!

تعريف موجز

يدهشك هذا الكتاب بمفاجئتين، الأولى لأنه يتحدث بلغة سيكولوجية فلسفية جديدة وغريبة تخالف المألوف مع ان الكاتب ليس فيلسوفا ولا عالم نفس. والثانية ان المؤلف شاب من مواليد1984 فيما يتضمن الكتاب مفاهيما وافكارا عن الذات البشرية والآخر والحياة وكأنها لعالم نفس وصل مرحلة التنظير بعد عمر طويل.

ومع ان كتاب (فن اللامبالاة) هذا يعدّ من كتب التنمية البشرية فان مؤلفه يصف كتب التنمية البشرية بانها تبيع الوهم للناس، باستثناء كتابه هذا الذي يصدمك (مثلما تصدمك صفعة تأتيك من افضل صديق) بوصف ستيف كامب (..لكنه يحرّك التفكير الى حد هائل ولا تقرأه الا اذا كنت على استعداد لتنحية الاعذار كلها).

والكتاب بوصف ديريك سايفررز يخالف كل كتاب اخر..موجز لكنه عميق مدهش.وهو بوصف كير كوس كتاب كله افكار تخالف الحدس المعتاد.

وما يصدم علماء النفس العرب بشكل خاص هو قولهم ان التفكير الايجابي هو المفتاح الى حياة سعيدة ثرية فيما يسخر مارك من هذه الايجابية ويقول:

فلنكن صادقين..السيء سيء وعلينا ان نتعايش معه، ولا نتهرب من الحقائق ولا نغلّفها بالسكّر، بل نقولها كما هي جرعة من الحقيقة الفجّة الصادقة المنعشة التي تنقصنا في هذا الزمان.والمثير للجدل فيه ان الكتاب يتحدث عن أن الانسان لا يجب بالضرورة أن يكون إيجابياً طوال الوقت!..وقول مانسون:" سيُعلمك الكتاب كيف تخسر دون أن تُشكل الخسارة مصدر قلق عليك!".

والشاب مانسون (بكلوريوس من جامعة بوسطن)، هو واحد من أشهر صناّع المحتوى على المدونات وشبكات التواصل الاجتماعي، وقد تصدّر كتابه «فن اللامبالاة" قوائم المبيعات في العديد من دول العالم ومن بينها دول عربية، ونال بسببه شهرة كبيرة.

يتضمن الكتاب تسعة فصول تبدأ بفصل لا تحاول! وتنتهي بفصل..وبعد ذلك تموت!.. يقع في 270 صفحة بالترجمة العربية لـ(الحارث النبهان ) و269 صفحة باللغة الأنجليزية.

سيكولوجست ..بلغة جديدة

حين بدأت اقرأ (فن اللامبالاة) عادت بي الذاكرة الى ستينيات القرن الماضي يوم قرأت كتابين لسارتر (الغثيان ، و فلسفة الوجود والعدم)، وكتاب الأديب البريطاني كولن ولسون (اللامنتمي) الذي عالج فيه موضوع نفسية الأنسان  غير المنتمي لحزب او مبدأ او عقيدة او دين و يعيش عزلة وقلقا واغترابا.

وما احدثته تلك الكتب انها قصفت افكارا في رأسي كنت اعتبرها ثوابت أبدية، و وجهت لي تساؤلات محرجة: هل انا اعرف نفسي حقا؟ وهل انا مثقف فعلا؟ وهل ان الذين يرتادون مقهى البرازيلية بشارع الرشيد ..مثقفون ، وانهم يشكلون موجة جديدة في الثقافة العراقية كما يدّعون؟.

وما احدثه (فن اللامبالاة) أنه قصف افكارا سيكولوجية لدى أكاديميين بعلم النفس ما زالوا يعلمونها لطلبتهم بوصفها ثوابت، تأتي من شاب ليس متخصصا بعلم النفس!.2154 فن اللامبالاة

التقدير العالي للذات

يقول مانسون: (في سنوات الستينيات صار تطوير " التقدير العالي للذات ، توجها واسع الانتشار في علم النفس. وقد توصلت الابحاث الى ان الاشخاص الذين يقيّمون انفسهم عاليا يكونون عادة اصحاب اداء افضل ويسببون نسبة اقل من المشاكل. ثم نشات قناعة لدى كثير من الباحثين وصانعي السياسيات في ذلك الوقت مفادها ان تحسّن تقدير الجمهور لنفسه يمكن ان يؤدي الى منافع اجتماعية ملموسة: نسبة جريمة اقل، واداء اكاديمي افضل، ونسبة بطالة اقل، وعجز اقل في الموازنة العامة. ونتيجة ذلك بدأت ممارسات "تقدير الذات" اعتبارا من عقد السبعينيات ليست موضوعا يتعلمه الاهل ويشدد عليه المعالجون النفسيون والسياسيون والمدّرسون فقط بل صار جزءا من السياسية التعليمية ايضا). ( ص 63).

ويضيف: بعد جيل اظهرت البيانات اننا لسنا استثنائيين كلنا، واتضح ان مجرد احساسك الجيد تجاه نفسك لا يعني اي شيء في حقيقة الامر، وتبين ان المشاق والفشل امران مفيدان حقا! ، بل حتى انهما ضروريان حتى يكبر الطفل فيصير شخصا ناضجا ناجحا قوي العقل. واتضح ان تعليم الناس ان يعتقدوا انهم استثنائيون وان يكون لديهم احساس جيد تجاه انفسهم بصرف النظر عن اي شيء، لا يمكن ابدا ان ينتج مجتمعا مليئا بامثال بيل غيتس ومارت لوثر كينغ) .( ص 64)

ويخلص الى القول: (ان مشكلة حركة تقدير الذات هي انها كانت تقيسها من خلال مدى ايجابية احساس الناس تجاه انفسهم، لكن من شان المقياس الحقيقي الدقيق لتقدير المرء لذاته ان يكون معتمدا على شعور الناس تجاه الجوانب السلبية في انفسهم. (ص 64).

وللتوضيح فان تقدير الذات يعني في ادبيات علم النفس :تقييم الفرد لنفسه وشعوره بالاحترام والقيمة والكفاءة وقناعاته بخصوص نفسه، وتوكيدها على ان رؤية الفرد السلبية لنفسه هي سبب فشله في الحياة فيما رؤيته الأيجابية لها تدفعه دائما الى النجاح. وعنها تم تأليف عدد من الكتب اشهرها كتاب "ناثانيل براندن" (The Psychology of Self Esteem ).

تصنيف مارك للقيم

بخلاف الفلاسفة وعلماء النفس الذين يصنفون القيم الى ستة انواع واكثر :سياسية، اقتصادية، اجتماعية، اخلاقية، ثقافية، عائلية، انسانية، جمالية ، ترفيهية..فان مارك يصنفها الى نوعين:

قيم جيدة يحدد موصفاتها بثلاثة:مؤسسة على الواقع، بناءّة اجتماعيا ، وآنية قابلة للضبط .

وقيم سيئة يحدده بثلاثة ايضا: خرافية او خيالية ، هدامة اجتماعيا ، وليست آلية ولا يمكن ضبطها.

ويضرب مثلا بالصدق كقيمة جيدة، لأنه يمكن ضبطه والتحكم به، ولأنه يعكس الحقيقة، ومفيد للاخرين، فيما يضرب مثلا بالشعبية والشهرة كقيمة سيئة.

ويصف القيم الجيدة بأنها صحية كالصدق، التجديد، الدفاع عن النفس، الدفاع عن الاخرين، احترام الذات، حب المعرفة، الاحسان، التواضع، والابداع.. فيما يضرب امثلة عن القيم السيئة غير الصحية بـ :الهيمنة من خلال العنف او التلاعب، الرضا عن النفس طيلة الوقت ، الحرص على احتلال مركز الاهتمام على الدوام، السعي الى ارضاء الجميع، والثراء من اجل الثراء.

بصلة ادراك الذات!

يقدم مارك وصفا جميلا للذات..بالبصلة! فيقول ان ادراك الذات يشبه البصلة ، فهو له طبقات كثيرة وأنك كلما قشرت هذه الطبقات واحدة بعد اخرى كلما كان من المحتمل ان تذرف الدموع في اوقات غير مناسبة.ويحدد الطبقة الاولى من بصلة ادراك الذات بفهم الفرد الاولي البسيط لمشاعره وانفعالاته،  وان هنالك اشخاصا كثيرين يفشلون حتى على هذا المستوى الاولي من ادراك الذات. ( ص 95)

ويحدد الطبقة الثانية من بصلة ادراك الذات بقدرتنا على السؤال عن السبب الذي يجعلنا نحس هذه المشاعر والانفعالات بعينها، وتدفع كثيرين الى الذهاب لمعالج نفسي يشخّص لهم السبب الخفي فيصيرون قادرين على فعل شيء ما من اجل تغييره.

ويصل مارك الى المستوى الاكثر عمقا في ادراك الذات فيصفه بانه هو ما يسبب ذرف دموع اكثر من اي مستوى اخر، يحدده بمستوى قيمنا الشخصية   والمعيار الذي يحكم فيه الفردعلى نفسه ومن حوله، ويعترف بان الوصول لهذا المستوى صعب الى حد لا يصدّق!لأنه يتعلق بتشخيص مشكلات هي التي تحدد جودة الحياة.

الألم جزء من المسار

بعكس الفكرة الشائعة بأن التعرض لاحداث مؤلمة يشعرنا بالتعاسة والشكوى من الحياة ، فان مارك يورد لنا ما يناقض هذه الفكرة بادلة واقعية ، فيذكر انه في خمسينيات القرن العشرين، اجرى عالم النفس البولندي دابروفسكي دراسة على اشخاص ناجين من الحرب العالمية الثانية، وكيف تعايشوا مع التجارب الصادمه المؤذية التي مروا بها ، حيث الوضع في بولندا كان مروعا : هولوكوست وتعذيب سجناء، وقصف احال مدنا باسرها الى حطام، وحالات جوع جماعية، واغتصاب..

راقب دابروفسكي الناجين ولاحظ شيئا مفاجئا انه رأى نسبة غير قليلة منهم، جعلتهم معاناتهم للحرب اشخاصا افضل، واكثر مسؤولية، واكثر سعادة في الحياة رغم شدتها وألمها!

وقد وصف كثير منهم انهم كانوا قبل الحرب اشخاصا جاحدين تجاه من احبوهم، ولم يقدرّوهم حق قدرهم، وكانوا كسالى تستهلكهم مشكلات تافهة ، وكان لديهم شعور بانهم يستحقون كل ما ما كان يعطى لهم، وبأن لا فضل لاحد فيه. وانهم صاروا بعد الحرب اكثر ثقة، واكثر اعترافا بقضل الغير،  وصاروا اشخاصا لا تنغصّهم توافه الحياة وصغائرها المزعجة.

وينتهي باستنتاج لعالم النفس دابروفسكي ان الخوف والقلق والحزن ليست بالضرورة حالات عقلية غير مفيدة وغير مرغوب فيها على الدوام، بل غالبا ما تمثل الالم الذي لابد منه من اجل النمو النفسي الانفعالي، وليس انكار ذلك الالم الا انكارا لمقدراتنا نفسها..ومنها يخلص مارك الى القول بانه غالبا ما يجعلنا ألمنا اكثر قوة واكثر مرونة واكثر رسوخا!. واننا في حاجة الى نوع من الازمات الوجودية تجعلنا ننظر بموضوعية الى طريقة استخلاصنا مغزى حياتنا، وان علينا ان نتعلم (فن النحت في المشقات) ليمنحنا القدرة على تغيير مسارنا في الحياة.( 195ص).

وتبقى حقيقتان

الأولى:ان كتاب مانسون (فن اللامبالاة) جاء حصيلة معايشته لاشخاص متنوعين اجتماعيا بينهم اصدقاء بسطاء واخرون اصحاب شركات ورجال اعمال وفنانون وسيدات وبائعات هوى، وانه قرا الكثير مما كتب عن الحروب الكبيرة بما فيها الحربان العالميتان والحرب الامريكية اليابانية وضحايا القنابل النووية، بطريقة مغايرة تماما لما كتبه سياسيون وعلماء نفس.

الثانية: هناك علماء نفس سبقوا مارك بقصفهم افكارا ومفاهيم تعد ثوابت وكتبوا بلغة اكثر رصانة وحظوا بشهرة مستحقة بينهم عالم النفس (لينج) الذي الف في الستينيات كتابه (The Politics of Experience ) انتقد فيه الاسرة والمؤسسات السياسية، وبيع منه ملايين النسخ.

وعراقيا، اجرى كاتب هذا المقال دراسات ميدانية على سجناء في سجن ابو غريب بينهم قتلة محكومون بالاعدام ولواطيون وزناة بالمحارم، ودراسة تعد الاولى عراقيا وعربيا وعالميا شملت 270 بغيا وسمسيرة، واشرف على اطروحة دكتوراه شملت اكثر من 300 ارهابيا من جنسيات مختلفة في سجون العراق..ودراسة في مستشفى الشماعية شملت قتلة مصابون بالفصام (شيزوفرينيا).. وعايش سجناء سياسيين وعاديين، توصل فيها الى مفاهيم جديدة في علم النفس تضمنها كتابه (امراض النفس والعقل - تنظير جديد في الأسباب والمعالجات) اعتبرته شبكة العلوم التربوية والنفسية في تونس، افضل مرجع للصحة النفسية في العالم العربي.

***

أ.د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

في المثقف اليوم