قراءة في كتاب

علاء اللامي: إدوارد سعيد ونقده لعرفات وأوسلو والإسلام السياسي الفلسطيني (2)

أنا أحرض حتى ضد نفسي كمفكر فـ "أنا" معركتي الأولى لأنني لا أريد ان أتقوقع وأنغلق على نفسي/ إدوارد سعيد!

أذكِّر بأنني سأجعل مداخلات وأسئلة طارق علي مبدوء بنجمة (* ) ومداخلات وأجوبة سعيد مبدوء بشارحة (- ) أما تعقيباتي فوضعتها بين قوسين مع حرفي ع.ل:

* متى قابلت ياسر عرفات للمرة الأولى؟

- التقيته في عمان بالأردن عام 1970، أواخر شهر آب أغسطس. كان اللقاء شكليا، شددت على يده، هو ذا كل شيء. ولكنني رأيته بعد فترة حينما قدم إلى هنا إلى الأمم المتحدة، في تشرين الثاني نوفمبر من عام 1974. كان عليه أن يلقي خطابه أمام الجمعية العامة. ارتجل نصه وطالبني بترجمته إلى الإنجليزية. منذ ذلك الوقت، بدأت أقابله بواسطة من ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان وهو من أصدقائي المقربين.

* ماهو الانطباع الأول الذي خرجت به منه بعد لقائه كزعيم وكسياسي؟

- آه، كنتُ مأخوذا، وما زلت. إنه ذكي، ذكي للغاية. وأكثر ما أثر فيَّ دوما أنه ماكر عن كل المحيطين به. باستثناءات – شفيق الحوت إحداها، وهناك أيضا كمال ناصر الذي اغتيل في ربيع 1973. كنتُ مأخوذا بذكائه، سرعة بديهته، ذاكرته، جاذبيته التي لا يمكن مقاومتها. هو لا يعرف الكلام في المؤتمرات الجماهيرية ولكنه مثير للإعجاب حينما لا يتعدى عدد مستمعيه العشرين. كان يستطيع أن يدير سبعة حوارات وعمل عشرة أشياء في الوقت نفسه: الكلام، تناول الطعام، الحديث في الهاتف، الكتابة، متابعة التلفزيون. يقوم بعمل كل هذه الأشياء بسرعة طبيعية.

في ما يتعلق بي كنت في نظره من البداية أميركيا. والمعركة الكبرى التي قدتها ضده تتأتى من أنه ينظر إليَّ كممثل أميركا. بالمثل إنْ جرى وكنت فلسطينيا قدمت من سوريا فإنني لا يمكن أن أكون إلا ممثلا لسوريا. لم يفهم عرفات أن المرء يمكن أن يحيا مستقلا في أميركا، ويعبر عن قناعته بحرية على اعتبار أنني فلسطيني أعلنت تضامني مع الحركة الفلسطينية وعارضت السياسة الأميركية. لم يفهم أبدا هذا الشأن. مع رحيله إلى تونس، وقد رأيته هناك بعد نحو ثلاثة أشهر، لم يكن نفس الرجل، نتيجة ضياع بيروت... كان الصرح على وشك الانهيار. تعلق بالأوهام ومنذ نهاية الثمانينات اقتنعت بذلك.

* لم تكن مواقفك في ذلك الوقت حول فلسطين تحظى بقبول الإدارة الأميركية.

- في الواقع، حتى اليوم لا تحظى بقبول الإدارة الأميركية. بل وحتى صبيحة اتفاق السلام الإسرائيلي الفلسطيني. منذ فترة طويلة دافعت عن مبدأ المفاوضات وحل سلمي يتأتى من خلالها، إلا أنني لم أدافع في الأساس عن مبدأ الحل الذي تمليه الولايات المتحدة وإسرائيل على حساب تاريخنا. لنتذكر هذا الشأن. في الوقت الراهن ومنذ أيلول سبتمبر 1993 تم إقامة سلام مزعوم ومن الصعب صياغة شيء من النقد أيا كانت صورته صده وبالتالي أجد نفسي وحيدا قبل وبعد هذا السلام المزعوم.                                      

* ماهو البديل إن كان هناك بديل؟

-  هناك الكثير من البدائل. منذ نهاية السبعينات عكفتُ وكثيرون على تقديم البدائل، وكان بعضها أفضل من ذلك الاتفاق " اتفاق أوسلو". حتى اتفاقية كامب ديفيد كانت أفضل ما منح إلينا. اتفاق غزة وأريحا عرض على الفلسطينيين سنة 1977 قبل سفر السادات إلى القدس، وعرفات نفسه رفضه. (سعيد هنا - كما أفهم - لا يروج لكامب ديفيد أو يدافع عنه كما قد يزعم المدافعون عن كامب ديفيد بل هو يقارن بين السيء والأسوأ وعنده أن كامب ديفيد سيء ولكن أوسلو أسوأ منه. ع.ل). خيار آخر أفضل عام 1991 يتمثل في عدم قبول فكرة الحل الزمني مع التصريح منذ البداية بأن المفاوضات لا يمكن أن تبدأ من دون تحديد الشكل وإقرار الدولتين مسبقا، وصولا إلى الحل النهائي. (الترجمة هنا مضطربة وربما يون المقصود بكلام سعيد هو رفض فكرة السقف الزمني المتدرج نحو الدولة الفلسطينية والإصرار على انتزاع اعتراف من العدو الصهيوني والولايات المتحدة بتحديد شكل وحدود الدولة الفلسطينية. ع.ل).

- كان الإسرائيليون يحتفظون بحق الاعتراف بوجودهم، منحناهم هذا الحق، الأمن، السيادة، العيش بسلام، من دون عنف. ولكنهم لم يقدموا شيئاً في المقابل سوى الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل للشعب الفلسطيني. نحن الحركة التحريرية الوحيدة في التاريخ التي عقدت اتفاقاً مع المحتل. لم تفعل أي حركة تحرير شيئاً كهذا... ولكن القيادة الحالية للمنظمة منعزلة كثيراً، مشغولة ببقائها. لا تركز إلا على بقائها. ليس بهذه الطريقة يقاد الشعب. ولهذا أعارض. بيد أن نقدي الجوهري لا يتوجه فقط نحو القادة. نتوقع أن يكونوا فاسدين وضيعين ومستسلمين، يشعرون بضياعهم وتلك وسيلتهم للاعتراف. يثير موقف المثقفين ضيقي، عدد منهم متفق معي ولكن لا يسمع صوت فرد واحد. ولذلك نحن محاطون بأشخاص يقولون "أوه إدوارد يمارس التخويف" أو " من الضروري النظر إلى ما هو إيجابي"! لن نصل إلى نتيجة إذا لم نكن شجعانا في انتقاداتنا وقول الحقيقة. وتلك هي المشكلة الكبرى كما اعتقد.

* ولكنك تحرض ضد كل الأرثوذوكسيات (الأصوليات)، وليس ضد أرثوذوكسية الوضع القائم؟

- أنا أقوم بالتحريض حتى على نفسي! لأنني، بالنسبة لي، المعركة الأولى- بمعنى أنني كاتب مفكر ... إلخ- تتأسس على عدم ترك نفسي منغلقا في قوقعة، غير قابل للتوقع، ولا متأثرا مثلا بنتاجي السابق... نعم اعتبر نفسي منتميا لليسار ولكن الاستحواذ على الشعارات الانتماء أساسا عدم القدرة على الانتماء أيا كانت صورته هو سمة رئيسية في شخصيتي أو عيبي الكبير ولهذا أعجز عن الانخراط التنظيمي.

* هل أنت متشائم إزاء هذه المسيرة؟

- في الحقيقة، ليست كلمة متشائم هي الكلمة الصائبة. لأنه على المدى الطويل أعتقد أن شعبنا سوف يخرج منها. غير أنني منشغل للغاية بما ينتظرنا. أتمنى أن أكون على خطأ، على اعتبار أنني أعرف شيئا ما عن أنفسنا وعن قادتنا عن الوقائع الميدانية...إن أناسا مثل ياسر عرفات وضباطه المقربين لم يرجعوا إلى الأراضي المحتلة. لقد فاوضوا حول طوبوغرافيا يعرفونها بالكاد. الخرائط ليست كثيرة لدى الفلسطينيين وبالتالي خضعوا لمعلومات الإسرائيليين. الوقائع الميدانية التي قبلناها ومنحنا موافقتنا الرسمية لكل ما يضمن ممارسات الاحتلال الإسرائيلي في المستقبل المتوقع. كانت غزة، التي كان الإسرائيليون متعجلين للتخلص منها، خالية في جزء كبير منها من الجيش، وهذا ما أسعد الفلسطينيين وبالتأكيد يسعدنا. ولكن لنتذكر أن الإسرائيليين احتفظوا بخمسين بالمائة من شريط غزة.... أما أريحا صغيرة المساحة ومنفصلة عن غزة فمساحتها ستون كيلومترا مربعا وتسكنها من عشرة إلى اثني عشر ألف نسمة. النجاح في إقامة دولة على هذه الأراضي معجزة.

تعليق أخير: أعتقد أن المقتبس الأخير خير مثال تطبيقي للمقولة الشهيرة للمفكر الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي حول تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة... فسعيد هنا – بلغتنا المباشرة - متفائل بمستقبل شعبه وانتصار قضيته وخروجا منتصرا من هذا الصراع في نهاية المطاف على صعيد الإرادة والعاطفة والقلب، ولكنه حين يحسب تفاصيل الوضع الواقعي على الأرض بحسابات العقل البارد يكون هذا العقل متشائما أي متطلبا وقاسيا نظرا للخلل الهائل في موازين القوى بين فلسطين وشعبها وبين الكيان الصهيوني المدعوم والمتداخل إلى درجة الاندماج مع الولايات المتحدة بالدرجة الأولى والغرب الأوروبي بالدرجة الثانية، بمعنى أن الفلسطينيين يقاتلون اليوم الإمبريالية الأميركية نفسها ومباشرة وهم وحدهم بعد أن تخلى عنهم العرب والمسلمون بنسبة كارثية، ولكن لحسن حظهم تتصاعد مقاومتهم للاحتلال والعدوان والحرب الإبادية ضدهم مع تفاقم مرحلة غروب وأفول شمس الإمبريالية الغربية الإنكلوسكسونية بقيادة واشنطن.

* أسجل أيضاً أنني لم أقتبس شيئاً مما ورد على لسان الراحل سعيد بخصوص موقفه شديد النقدية من الحركة الإسلامية الفلسطينية (حماس والجهاد) في سنوات بداياتها- مع أن نقده لفتح ومنظمة التحرير لا يقل حدة وتشنجا، بل ربما فاق ذلك بدرجات - احتراما لتضحيات هذه الحركة وقيادتها للمعركة البطولية بل والأسطورية التي تخوضها هذه الأيام في مواجهة حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة. ولكني أسجل أيضا أن نقد سعيد لهذه الحركة الإسلامية كان وما يزال صحيحاً من حيث الجوهر، وخصوصا في نقده لافتقاد هذه الحركة إلى البرنامج الاقتصادي والاجتماعي والثقافي اللازم والذي - كما كتب - سألهم عنه في لقاءات مباشرة وشخصيا فتحججوا بأن الوقت ليس مناسبا للدخول في هذه التفاصيل! وبالمناسبة، فهذا المأخذ أو النقد وجهه الراحل هادي العلوي لحزب الله في لبنان، بل إنَّ العلوي اتهم الحزب المذكور رغم تأييده القوي له ولكفاحه التحريري ضد الاحتلال الصهيوني بأنه يختط برنامجا رأسماليا ضمنيا وليس منحازا لجماهير الفقراء اللبنانيين، والحزب متأثر في ذلك بالخط الاجتماعي الطبقي الإسلامي الإيراني "الخميني" المتأثر بدوره بخط حركة الإخوان المسلمين ذات الفكر الرأسمالي الصريح. ورأى العلوي أن الحل لمأزق الحزب والحركات الإسلامية كلها يكمن هنا، أي في إحداث قطيعة فعلية مع الفكر والسلوك الرأسمالي وتبني الموقف الاشتراكي الصريح والملبي لتطلعات الغالبية السكانية الفقيرة والمضطهدة من قبل الغرب ومن الرأسماليات الطفيلية العربية المحلية. وقد تبدو طموحات العلوي في حدوث هذه القطيعة شيء من الخيال الأقرب إلى المحال خصوصا وأن أهم الحركات الإسلامية وهي حركة الإخوان المسلمين تأسست أصلاً ومبتدأً لتكون فصيلاً متقدما في جبهة اليمين المحافظ المناهض لليسار والاشتراكية، أما بعض الحركات الإسلامية الشيعية في العراق فقد أصبحت حليفة لقوات الاحتلال الأميركية لا تناهض الاشتراكية ومبادئ المساواة فحسب بل وحتى الجمهورية وثورتها في 14 تموز 1958. ع.ل.

ترجم الكتاب إلى العربية أحمد عثمان وصدر عن دار الكتب خان للنشر والتوزيع.

* * *

علاء اللامي - كاتب عراقي

 

في المثقف اليوم