قراءات نقدية

يوميات امرأة شرقية للشاعرة نور طلال نصرة .. أيروسية البوح في فضح المكنون

ahmad alshekhawiلمفهوم الإيروسية أدبياته الضاربة بجذورها في عمق الأسطورة اليونانية حسب درجات انحدارها مما له صلة بالكتب المقدسة القديمة. لذا سيكون من الإجحاف والغبن أن نحصر نظرتنا إلى هذا المفهوم أو نحشرها في خندق الشهوانية الصرفة المسترخصة للجسد والمحوّلة إياه إلى بضاعة وسلعة منشّطة لأسواق البورنو والدعارة وما يفيد الإثارة الجنسية ويروّج لامتهان الأنثى عموما.

إذ المفهوم في شموليته محيل على خطاب نابض بالتعبير عن أحاسيس إنسانية نبيلة ومشاعر خاضعة لترجمة حقيقية منطلقة من الذات تعرّي المكنون أوتشفّ عنه ليصل إلى الآخر في صورة معينة مع حياد تام حائل دون التدّخل في خصوصيات التأويل من طرف المتلقي لأسرار كهذا خطاب يستدعي دون حرج منظومة مفردات يحصل اشتقاقها من ثيمة الحب.

وهو صلب ما تنتهجه موجة شبابية في الآونة الأخيرة ذات حساسية جديدة تجاه التابوهات والظواهر الأشد التصاقا بالأقنعة الدينية والأخلاقيات.

وهو بالضبط ما نستشف البضع من ملامحه لدى شاعرة سورية خفيفة الظل آثرت أن تخضّب تجربتها بتقنية العزف على الوتر الإيروسي لتقربنا من أجواء احتفائها بمن تهوى وترسم لنا عبر سردية مغرية حجم ومدى هيمنة التمثل الهلامي والرمزية الذكورية لشخصية فارس أحلامها وسلطة إقامته السرمدية في وعيها وذاكرتها هي.

 

اهتمامي بكَ يجعلني أنثى أخرى

أنثى من نوعٍ آخرَ

شرقيةً.. لا عصرية

لم تكن لتبالي يوماً

بحديثِ أمها أو جدتها

عن الحبلِ السريّ

بين القلبِ والمعدةِ

ولم تلجأ حينها

إلى وصفات الحبِّ الإيروسية

 

مثلما سيتكشف لا حقا ،الطقس العام للقصيدة بتنوع إيقاعاته وتلون وحداته، آخذ باتجاه ضرب من الإفصاح عما تحجبه كواليس مشهد رنين الجرس في ارتباط العملية ككل باعتقاد يبرهن على تقمص المعشوق لدور الهاجس الوجداني المستحوذ على الذات الشاعرة منذ البدء وعلى امتداد زمن البوح.

الملاحظ أن المطلع ينم عما يعزي فعل الحالة العاطفية لشاعرتنا إلى اهتمامها الخرافي بمجهول أقله من قبلنا ،فهي تتدفق وتنساب كلاميا دونما بخل علينا وتنخرط في مشاطرتنا ماهية وجوهر ما تحسّ به تجاه فتاها ذو المواصفات المثالية .

إبداعيا تمارس علينا ذلك وتبرع في استقطابنا إلى التعايش مع حالتها كوننا نتمثل تجاربنا سارية في ملكوتها ومتفاعلة معه.

                

أعِدُّ الطعامَ بشهيةٍ أكثر

أدخلُ المطبخَ لأولِ مرةٍ

هناكَ سكاكينٌ كثيرةٌ..

لم أعتد عليها بعد

ألمسُ نصلَها بخفة..

أتساءلُ بطيب نيةٍ

هل لجرحها ذاتُ الألمِ.. ألمك

إن شردَ ذهني بعيداً

أم تراني سأبتلعُ نصلَ السكين

على الحدين سواء

 

هذه العاشقة الشرقية المخلصة للتقاليد كما تمليها الهوية والإنتماء،تشرع ذائقتنا على جماليات بنكهة خاصة من توقيع مخيال داخل حدود مخيال فضفاض وشاسع جدا ولانهائي، بيسر نتصيد ونهتدي إلى خيوط معاني ذلك حين نُمنح انطباع توهّم الألم على أنه سعادة لحظة صدورها عمّن نكنّ لهم المودة والتتيم والوله.

 

أتذوقُ نكهةَ الطعامِ

ولا أُكثرُ من البهار.. لعلك لا تحبهُ

وأفكّرُ ببعض الفلفلِ الحار..

حاراً سيكونُ لقاؤنا

لا أريدُ لهذه التوابلَ

أن تأخذَ حيزاً من مذاق شفتيك ..

يضمر الشطر الشعري الثاني من هذا الوحدة ما يشي بافتعال حوار مجسّد لهيأة حضور رمزي للحبيب يفرضه فرط تعلقها به، حتى أنها وفي غضون غيابه تنتقي لنفسها من المواد الاستهلاكية ما يلتقيان بشأن الميول الفني ويتناغمان عنده ويتفقان على اصطفائه يحدوه التمهيد للقاء الحار ،فيما تستطيبه وتحصد لذاذته الشفة وقد تم إقحامها هنا بغرض تأدية وظيفة إيروسية على نحو ما يحاكي مناخ توجّهات النص في كليته.

أفكّرُ بصنف خفيفٍ على المعدة..

سهل الهضم

أجول مطابخَ العالم

مطابخنا الشرقية.. لم تعنيني يوماً

بات وقعها ثقيلاً.. ككلِّ شيءٍ لدينا

كأفكارِنا.. كعاداتِنا.. كحروبِنا..

قد ألجأ " للباييلا " الاسبانية

لأشبعَ غروركَ الشرقيّ..

لأقولَ لكَ إنّ هذا الطبقَ

يحملُ نكهةَ أجدادنا في الأندلس

 

تطغى على جسد النص فبركة صور محو ملامح و رشق زجاج تلكم النظرة الاستهلاكية المنبنية على الفهم التقليدي المتجاوز للحبل السري بين المعدة والقلب والمبالغ فيه إذا ما قيس بخطورة تحكمه في أسلوب تفكير وسلوكيات نماذج بشرية نمطية و ماضوية/الجدة والأم في محاولة استنساخ حياتي وطقوسي يرفضه بالقطع جيل الشاعرة من حيث هو استنساخ مارق عن روح حضارة الأجداد ومهجّن لنكهة الأمجاد.

 

أرتّبُ أتجوّلُ في أركان المنزل زواياه.. وأفكاري.. بنفس الأناقةِ

كي لا تكتشفَ حدّ الخمولِ الذي يصيبني

ظهري المسند إلى الحائطِ الباردِ

يرتعشُ من فرط الذكرياتِ المصدّعة

كشقوقِ كهفٍ مهجورٍ في الجرد العالي

             ***

ليس من عادتي أن أرتّبَ خزانتي

أتركها لفوضاها.. إنها تشبهني

خزانتي ممتلئة

فساتينٌ وأحذية وعطور..

علاقتي سيئة بالروائح..

وأكاد لا أميّزُ بين "الشانيل كوكو" و"الباريس هلتون"

أمتلكُ حاسةَ شمٍّ ضعيفةٍ

ولكنني كأفعى أزحفُ على بطني

عندما يتطلبُ الأمرُ أن أتلمّس

مكانك في الظلمة..

                 ***

فستاني الأحمرُ حزينٌ

منذ الفالنتاين الماضي

يُحزنني أمرهُ..

كأنثى يروقُها شغف الأحمرِ

يأكلُ العتُّ من بهجته..

ينادي عليَّ كي أنتشلهُ من هذا الضيقِ

وأنا كسولةٌ..

كان من المفترض أن يزيّن قامةَ جسدي

و أن لا يبقى كظلكَ المواربِ خلفَ البابِ

حين تصلّبت أمامي.. ولم تجرأ على لمس دموعي..

لمحتك يومها في أرجائي

بقامات الروح تتفيَ..

وعدتُ حافية.. من حفلتك تلك

كسندريلا بائسة

أميري يعرفُ مكاني...

                   ***

سيتداعى الآن إلى مخيلتي

أن أمسككَ بيدك.. وأقودك إلى حديقة المنزل

كي أتركَكَ مع ورود الحنين

الجوري الأصفر الذي أحبّه..

والنرجس الذي يروقك..

والحبق الذي يذكرك برائحة أمك...

ما هذا الصوت الذي أيقظ مخيلتي؟

إنه الجرسُ يرّن.. لعلهُ أنت

 

بذات الطاقة الإيجابية في تمحورها على ثيمة الحب، تستأنف شاعرتنا إفراغ حمولتها الوجدانية لتصدمنا في الختام بنهاية مفتوحة محتفية بقلق وشك الذات الإبداعية في امتزاجهما بملامسة عوالم أيروسية تخترق هالة المحضور وتفضح المكنون .

 

أحمد الشيخاوي / شاعر وناقد مغربي

 

في المثقف اليوم