قراءات نقدية

صورة الأنثى في "انكسار السراب" للقاصة زكية الحداد

mohamad shadadalharakتقتحم الشاعرة والقاصة المغربية زكية الحداد بكثير من الشجاعة الأدبية والعناد الفني كل الحواجز المنتصبة في طريق الإبداع، وتخترق بصبر أيوبي وتحدٍّ صارخ الحدود والسدود المنيعة التي توضع عادة في وجه المبدعين الشباب. يحركها في هذا المسار الإبداعي إيمانها العميق بحرية الإبداع وبقدرة القلم المشاكس على تكسير كل قيود الرتابة البائسة، وهتك عرض تمثال النمط وتجريده من قداسته المصطنعة. استسلمت لماردها الجمالي الزئبقي، وانساقت مع روحها الثائرة المتمردة، فتسلحت بعتادها الشاعري، وسكنت أغوار الكلمات، وتسلقت سفوح المعاني والصور والإشارات، وتمسكت بحبل خيالها المتدفق الذي يحلق بانسياب بين الأرض والسماء، والذي يتجاوز ضفاف الأزمنة وحدود الأمكنة، ويأبى الترويض والتوجيه والوصاية.

اختارت زكية الحداد الانحياز إلى طائفة المبدعين المتمردين المشاكسين الذين يعاكسون تيار المألوف ويرفضون الاكتفاء بالنمطي، ويأبون الانتظار طويلا في ردهات الفكر الأدبي التقليدي. أرادت أن تلتحق بالأقلام النسائية المتموقعة في الواجهة الأدبية الراهنة، لتسندها وتقوي شوكتها وتزيد من وهجها وتدفقها. وقد امتلكت ما يكفيها من تجربة في مضمار الكتابة الأدبية، وخبرت خفايا الممارسة الشعرية وقضاياها وإشكالاتها، بما نسجته أناملها الرشيقة من أعمال إبداعية راقية وأشعار أنيقة جميلة.استطاعت باقتدار تام تخطي الألغام المزروعة في ساحة الكتابة القصصية، وآثرت المنطقة الأكثر وعورة والأشد خطورة وترصدا ومراقبة، وهي منطقة مهيبة يقيم بها كائن فني جديد يسمى" القصة القصيرة جدا"؛ والذي تحول- مع تعدد التجارب- إلى جنس أدبي قائم الذات مكتمل الصفات، عنيد مقاوم لكل المواقف الرافضة في ميدان النقد القصصي2، ولكل التوجهات المعادية لتواجده في الحظيرة السردية. فقد عملت هذه التوجهات النقدية المعاصرة على تلقي جنس "القصة القصيرة جدا" بنوع من الاستهجان والرفض، وحرّضت القراء على ازدرائه واستبعاده ومحاصرته والتقليل من شأنه، وروّجت في أكثر من مناسبة لمسألة التشكيك في قدرته على الوجود والامتداد والاستمرار3. وكأن الكاتبة زكية الحداد أرادت أن تكون تجربتها الأولى في مجال التأليف والنشر صيحة مدوية صادمة للرتابة، ورسالة قوية ثائرة على الصورة النمطية المتداولة في سوق الإبداع السردي. ظلت متمترسة في خندق التجريب والتأصيل لهذا الجنس الأدبي، ومصرحة بانتمائها الحداثي في الكتابة القصصية، وهو انتماء لصيق بتجربتها الأدبية العامة، دلت عليه كتاباتها الشعرية الممتعة المتسلحة ببلاغة الغموض والغارقة في بحار الإيحاء والرمزية. وفي هذا الإصرار على ركوب هذا المركب دليل على التزام الكاتبة بقضية هذا الجنس الأدبي الناشئ وعلى رغبتها الكبيرة في لفت انتباه النقاد إلى ضرورة الاعتراف بهذا الوافد الجديد، وإلى الاقتناع بأن مواقف الرفض والإنكار والاستبعاد لن تزيد هذا الفن إلا مزيدا من الرسوخ ومزيدا من الأنصار.

جاءت أضمومة "انكسار السراب" كديوان قصصي متميز جديد، لينضاف إلى رصيد الكتابة القصصية النسائية المغربية، وليضع اسم مبدعته المتألقة زكية الحداد في موقعه المناسب ضمن سجل القاصات المغربيات الثائرات اللواتي استطعن مزاحمة التجربة الذكورية في إبداع هذا الجنس الأدبي، وناضلن كثيرا من أجل فرض وجوده كمكون إبداعي جديد يرسم طريقه نحو المستقبل، ويثبت ذاته كإضافة فنية نوعية تؤثث المشهد الثقافي المعاصر.

لقد جعلت الكاتبة من هذه التجربة الإبداعية القصصية ترجمة لصوتها النسوي الهادر الذي ينحت الصخر الصلد بانسيابه المتكرر، وصورة عاكسة لرؤيتها للعالم ولطبقات وعيها العميق بقضية الأنثى وما تفرضه عليها مناورات الواقع وإكراهاته، ومنصة فنية يطل من خلالها المتلقي على انتظاراتها ومواقفها، ويتحسس بها تصورها للمستقبل ونظرتها إلى الآتي. ولذلك تحضر الأنثى بشكل مكثف وملموس في ثنايا هذه المجموعة. وكأن الكاتبة تعمدت إعلان الجنس الأنثوي لهذا المولود منذ الصفحة/ الصيحة الأولى. ولذلك تستأثر قضية الأنثى بالقسط الأوفر من النصوص السردية والشذرات الشعرية، وتزداد أنوثة هذا المولود في البروز والانكشاف مع طغيان ضمير "الأنا المتكلمة" و"الهي الغائبة"،،، الضمير الذي يختزل الحضور الوجودي للأنثى في صراعها اليومي مع القدر القاسي الذي يطاردها في الحلم، ويتحرش بها في اليقظة، ويغتصب جمالها وسلامها وفطرتها. هو صراع دائم لا ينتهي مع الآخر، ذلك الآخر الذي يتشكل في أكثر من شكل ويتلون في أكثر من صورة.. تارة نجده رجلا نهما يعشق طقوس الرعي على الأجساد الناعمة، وتارة نجده يحمل هوية الداء الفتاك الذي يستلذ بتدمير تمثال الفرح في القلوب، ويعشق مشهد الموت وصور الألم والأحزان. وأحيانا نجد القدر مصيرا بائسا مترصدا للمرأة في تفاصيل حياتها، يلبس لبوس الفقر والحرمان والإحباط والوحدة القاتلة...وهكذا وضعت زكية الحداد أصابعها كلها على الجراح والكدمات التي تتلقاها المرأة في محيطها الاجتماعي. وكشفت همومها اليومية وكفاحها من أجل استرداد ما سلبتها الأيام. كما عبرت بكثير من المرارة عن أنماط العلاقات الإنسانية السائدة في مجتمع يُشيِّءُ المرأة ويعتبرها أرضا خصبة معدة للحرث والإخصاب ليس إلا.

   إلا أن الخطاب في هذه المجموعة لا يخلو من توجيه نقدٍ قاسٍ للذات/ للأنثى حينما يضعف عندها جهاز المناعة الذاتية، وتصير لديها القابلية للانسحاق تحت أقدام القدر المستبدة العنيفة. فهنا نجد الكاتبة لا تكف عن توجيه أصابع اللوم إلى كل أنثى اختزلت وجودها في جسد ناعم وقدّ بهيّ رشيق، وجعلت نفسها بساطا أحمر معدا للوطء مهيئا للابتزاز.

 

"ألقى عود كبريت على خشبها الجاف، تصاعد خيط دخان، برقت عيناه فرحا بوجبة شواء..

لملمت فحمها في كيس وعادت لتحتفل بانتصار أنوثتها المقبورة"4

......

"اختارت أجمل فستان لتلبسه في الموعد الأول.

عادت إلى بيتها بحفنة نقود لا تكفي لستر عورتها"5

..........

لكن الأنثى في هذه المجموعة القصصية ترفض أن تحمل هوية واحدة، أو أن تصنف في خانة المتعة العابرة والجسد الرخيص والحياة العبثية الصاخبة، وإنما تتشكل في صور أخرى تحمل سمات المرأة/الفاعلة وليست المنفعلة أو المفعول بها. فهذه الأنوثة على الرغم من قسوة اليد التي تعبث ببراءتها وتبتز جمالها، فإنها كثيرا ما ترفض الاستسلام وتتمنع عن مغناطيس الإغواء الذكوري. فهي لا تؤمن بخطاب التشكي ولا تكتفي بطقوس البكاء والنواح وعتاب الحظ، وإنما تنتفض أحيانا لتخترق سكون السواد بصوتها الرافض، ولتعلن ميلاد فجر جميل من رحم كل مأساة. وهي صور تعبر عنها مواقف تظهر فيها الأنثى وقد خبرت الحياة وجربت مرارتها، فتحركت بمكرها ودهائها الفطري لتعاكس التيار ولتكتب قصيدة التحدي على أشلاء زمن قاس قضى وطره منها ولكنه لم يرحم ضعفها.

 

د.محمد شداد الحراق

.....................

هوامش:

1- زكية الحداد، انكسار السراب، قصص قصيرة جدا، منشورات الراصد الوطني للنشر والقراءة ط1 نونبر 2015

2- تعددت المواقف النقدية من جنس القصة القصيرة جدا، وقد حددها أحد النقاد في خمسة مواقف:

- الصنف الأول: رفض وظل على رفضه إلى النهاية.

- الصنف الثاني: رفض بشدة، وأعلن عن رفضه، ثم قبل بها بعد أن استقرت وانتشرت.

- الصنف الثالث: تريث ولم يتخذ أي موقف، ولم يعلن أي شيء، حتى إذا ما استقرت أخذ بها وقبلها.

- الصنف الرابع: درس وتعرف إليها ثم أخذ بها وتقبلها.

- الصنف الخامس: تحمس لها وقبل بها فور ظهورها من غير دراسة.

- أنظر: نبهان حسون السعدون: شعرية المكان في القصة القصيرة جدا، قراءة تحليلية في المجموعات القصصية (1989-2008م)، ص:22 . وراجع مقال الدكتور جميل حمداوي: نبهان حسون السعدون وشعرية المكان.. مجلة الرافد الإلكترونية

3- منهم: الناقد السعودي د.معجب العدواني، الذي ذكر في ورقته النقدية بعنوان: القصة التويترية أن التقنيات الحديثة تشكل خطورة على أدب القصة، وأن عدد الحروف المحدود تسبب في غموض الرؤية عند المتلقي، مؤكدا أن الرواية سوف تبقي الأقوي في حقل الأجناس الأدبية، وأن انتشار القصة القصيرة جدا لا يعني أنها سوف تسود، لأنها عاجزة عن طرح فكرة أو استيعاب قضي.

ضمن المؤتمر الأول للسرديات دورة القصة القصيرة جدا بالإسكندريةمن‏3‏ إلي‏5‏ ديسمبر‏2013

- أنظر:جريدة الأهرام المصرية: الثلاثاء 7 صفر 1435 هـ 10 ديسمبر 2013 السنة 138 العدد 46390

4- انكسار السراب، ص:5

5- نفسه،ص:31

 

في المثقف اليوم